الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاهاتها المُعاصرة

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2024 / 5 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مؤلف المقال: ديميتري موديستوفيتش اوغرينوفيتش

ترجمة مالك أبوعليا

نشأ علم سوسيولوجيا الدين البرجوازي كمبحثٍ خاص في بداية القرن العشرين. ويُعتَبَر عالِم الاجتماع الفرنسي ايميل دروكهايم 1858-1917 والمؤرّخ والسوسيولوجي الألماني ماكس فيبر 1864-1920 من مؤسسيه. بعد الحرب العالمية الثانية، إنتَقَل مركز الفكر السوسيولوجي البرجوازي من أوروبا الى الولايات المُتحدة. بدأ يتم في العديد من الجامعات والكُليات في الولايات المُتحدة تدريس مُقررات سوسيولوجيا الدين في العديد من الجامعات والكُليات الأمريكية، وأُجرِيَت أبحاثٌ تجريبية حول التديّن. يواصل سوسيولوجيو الدين الأمريكيون اليوم مُمارسة التأثير السائد في مُعالجة المسائل النظرية من خلال سوسيولوحيا الدين البرجوازي وفي تطوير تقنيات واجراءات الدراسات التجريبية حول السلوك الديني.
ظلَّ سوسيولوجيا الدين في بريطانيا تقليداً لسوسيولوجيا الدين الأمريكي لزمنٍ طويل. فقط في أواخر الستينيات وأوائل السبيعينيات ظَهَرَ عدد من الدراسات النظرية والتجريبية البريطانية الأصيلة حول مسائل سوسيولوجيا الدين (برايان ويلسون Bryan Wilson وديفيد مارتن David Martin وآخرين).
هُناك تواصل وثيق بين السوسيولوجيين الانجليز والأمريكان الذين يدرسون مسائل الدين على المُستوى النظري (تبادل المصادر والمُناظرات وما الى ذلك)، وعلى المُستوى الشخصي، حيث يوجد تبادُل مُتكرر للمُحاضرين في الجامعات والكُليات. ولهذا السبب، من المُستحسن دراسة سوسيولوجيا الدين غير الماركسي الانجليزي (الأمريكي والبريطاني) كظاهرة مُوحدة.

1- البُنيوية الوظيفية
كانت الوظيفية (أو مدرسة التحليل البُنيوي الوظيفي) لزمنٍ طويل (بدءاً من الأربعينيات) هي التيار النظري السائد في السوسيولوجيا الأمريكية. كان يُنظَر الى تالكوت بارسونزوروبرت ميرتون، على أنهما كلاسيكيا السوسيولوجيا البُنيوية الوظيفية الأحياء. على الرغم من أن الوظيفية تعرَّضَت في أواخر الستينيات وخاصةً في السبعينيات لانتقاداتٍ حادةٍ من قِبَل اتجاهاتٍ مُختلفة، وتراجَعَ تأثيرها بشكلٍ كبير، الا أن أتباعها لا يزالون يتواجدون اليوم في مُختلف فروع السوسيولوجيا، وخاصةً سوسيولوجيا الدين.
غالباً ما تُعرَّف الوظيفية كتيارٍ مُتميّزٍ في السوسيولوجيا البرجوازية من خلال اتِّباعها تطبيق التحليل البُنيوي الوظيفي لدراسة الظواهر الاجتماعية. ومع ذلك، هذا التعريف غير صحيح. على الرغم من رأي ميرتون (1)، الا أن الوظيفية ليست منهجية "مُحايدة ايديولوجياً" يُمكن تطبيقها على فروعٍ مُختلفةٍ من السوسيولوجيا. إن مُحتوى التحليل البنيوي الوظيفي ومكانته في نظام المعرفة الاجتماعية لا يتحددان فقط من خلال الاعتراف بالحاجة الى دراسة بُنى ووظائف الظواهر الاجتماعية، ولكن أيضاً من خلال كيفية فِهم بُنية ووظيفة هذه الظاهرة الاجتماعية أو تلك.
لهذا السبب، من الضروري، برأينا،، التمييز بين المنهج البُنيوي الوظيفي-وهُو عُنصر ضروري في دراسة جميع الأنظمة الاجتماعية المُعقدة، بما في ذلك المُجتمع- عن "البُنيوية" و"الوظيفية"، والتي هي تيارات مُعينة في السوسيولوجيا، والتي دَمَجَت منهجية التحليلين الوظيفي والبُنيوي في السياق العام للنظريات المثالية في تفسير المُجتمع، وبالتالي شوهَت هذه المنهجية بطريقة ميتافيزيقية، وأضفَت عليها صفة الإطلاق، ووُضِعَت مُقابل المنهجيات الأُخرى-التاريخية، السببية، الخ(2)
ينطلق مُمثلو الوظيفية في سوسيولوجيا الدين بشكلٍ عام من المُقدمات المنهجية المُوضحة أعلاه، على الرُغم من أن هناك فروقٌ نظرية عند كُل واحدٍ مُنهم (من اولئك المُمثلين)، خاصةٌ به، قائمة على تنويعات مُختلفة للوظيفية "البارسونية" أو "الميرتونية". سنُحاول أدناه تقديم وصفٍ مُوجر للبُنى النظرية الرئيسية لمُمثلي الوظيفية في سوسيولوجيا الدين الأمريكية.
يشترك جميع الوظيفيين في اختزالهم المثالي للبُنية الاجتماعية الى التفاعل بين الناس داخل مؤسساتٍ مُعينة تُنظم السلوك الفردي عن طريق معايير السلوك الراسخة. وعلى هذا الأساس، يُعتَبَر الدين "جانباً مركزياً للثقافة، وأساسي في أهميته"(3). يخلق الدين نظام المُعتقدات والأعراف والقِيَم التي تربط أفراد المُجتمع ببعضهم وتضمن تكامل ذاك المُجتمع ووحدته. وهكذا، مُتبعين خُطى دوركهايم، يعتَبِر الوظيفيون الدين أهم عاملٍ تكاملي واندماجي يدعم وحدة المُجتمع.
ليس جميع الوظيفيين مُتفقين تماماً على فِهمهم للدين. يَطرَح لويس شنايدر Louis Schneider وتوماس اوديا Thomas O Dea تعريفاً أضيق (وأكثر صحةً) للدين، بما في ذلك الايمان بما هو خارق للطبيعة، باعتباره حلقة وصل مركزية. هذا الخارق للطبيعة، يصفونه بأنه شيء "خارق للتجريبي" ومُتعال ومُقدس. ولكن، يطرح جون ميلتون يينجر John Milton Yinger تعريفاً واسعاً جداً للدين. فهو يكتب: "يُمكن تعريف الدين بأنه نظامٌ من المُعتقدات والأفعال التي تستخدمها الناس لتُناضل من أجل الاجابة على مشاكل حياتهم المصيرية"(4). وهكذا، يُعتَبر الدين بأنه أي نظام من وجهات النظر والقناعات التي تسعى الى حل مشاكل الوجود الانساني المصيرية، أي تلك المُتعلقة بأساسيات النظرة الى العالَم. يُعلِن يينجر، أن جميع "أنظمة المُعتقدات غير الدينية وغير الإلهية"، في سعيها لحل هذه المُشكلات المصيرية، تؤدي وظائف الدين، ويجب تصنيفها معه. وبالتالي، فإن الدين، من وجهة نظره، هو عُنصرٌ ضروريٌ في أي مُجتمع. يكتب: "أنا أزعُم أنه يجب النظر الى كُل انسان على أنه مُتدين، تماماً كما نعتبر أن كُل شخصٍ يتحدث بعض اللغات"(5). لا يُخفي يينجر المعنى الاجتماعي لأفكاره هذه. قد يعتقد "اولئك الذين يُطابقون الدين بالآراء الخارقة للطبيعة" أن التحليل العلمي يُمكن أن يُضعِف الدين(6)، ولكن هذا الضعف، أي هذا الخطر، حسب قوله، لا يُهدد اولئك الذين ينطبق عليهم التفسير الواسع للدين.
تحتل مسألة وظائف الدين مكاناً رئيسياً في نظريات الوظيفيين الأمريكيين. إنهم يُحاولون تفسير الوظائف الاجتماعية للدين، بطريقةٍ تتجاهل تماماً المسألة الابستمولوجية المُتعلقة بصحته أو بخطأه. وهُم، على هذا المُستوى، يسيرون على خُطى دوركهايم وأتباع المدرسة الوظيفية في الانثروبولوجيا الانغلو أمريكية. يقتبس شنايدر باستحسان، ما كَتَبه الانثروبولوجي رادكليف براون: "إننا ننطلق من فرضيةٍ مفادها أن الوظيفة الاجتماعية للدين، لا تعتمد على ما اذا كان صحيحاً أم خاطئاً"(7). يقول أوديا: "إن سوسيولوجيا الدين لا تهتم ما اذا كانت المُعتقدات حول خوارق الطبيعة صحيحةً أم لا(8). في الحقيقة، من الواضح أن التحليل السوسيولوجي للدين يختلف عن التحليل الفلسفي والابستمولوجي. بعبارةٍ أُخرى، من الطبيعي أن يكون التحليل السوسيولوجي يتعلق بوظائف الدين الاجتماعية وليس بصحته أو بخطأه. ولو كان أوديا يعني ذلك، لكان على حق. ولكن، جوهر تأكيداته، مثل تأكيدات وظيفيين آخرين غيره، تكمُنُ في الفصل الكُلّي للتحليل السوسيولوجي لوظائف الدين عن مسألة تقييمه معرفياً، أي عن التوصل الى حُكمٍ فيما يتعلق بصحة أو عدم صحة مُحتواه. لكن لا يُمكن للمرء أن يفهم بشكلٍ صحيح الوظائف الاجتماعية للدين في الوقت الذي يتجاهل حقيقة أن الدين هو وعيٌ زائفٌ ووهمي، وأنه يُؤثر على معرفة العالَم، بالتالي يؤثر على تغييره. إن أهمَلَ المرء التقييم الابستمولوجي للدين، باعتباره وعياً زائفاً، فمن المُستحيل فهم وظيفته الاجتماعية الأساسية، التي وصفها ماركس بأنها ملئٌ وهمي للعلاقات المحدودة بين البشر والطبيعة، وبينهم وبين بعضهم البعض(9)، والتي لخصها في العبارة المُختصرة: "الدين هو أفيون الشعوب"(10).

2- الاتجاه الظواهري
في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، أصبحَت ما تُسمى بالمدرسة الظواهرية مؤثرةً بشكلٍ مُتزايد في السوسيولوجيا النظرية الأمريكية. يُمارس السوسيولوجيين في هذه المدرسة حالياً تأثيراً كبيراً على سوسيولوجيا الدين الأمريكية وبدرجة أقل على سوسيولوجيا الدين الانجليزية. وأبرزهم الأمريكي بيتر بيرجر Peter Berger والألماني الغربي الذي يعمل معه والذي نُشِرَت أهم أعماله باللغة الانجليزية توماس لوكمان Thomas Luckmann.
يسعى الاتجاه الظواهري في السوسيولوجيا بشكلٍ عام، وفي سوسيولوجيا الدين بشكلٍ عام الى الاعتماد-في تحليله للعمليات والظواهر الاجتماعية- على بعض المُقدمات الفلسفية لادموند هوسرل. إن الفريد شوتز Alfred Schutz، وهو فيلسوف وسوسيولوجي ألماني هاجَرَ الى الولايات المُتحدة وأسسَ هُناك في سنوات ما بعد الحرب، مبادئ ما يُسمى علم الاجتماع الظواهري، وكان أول من حاوَلَ في الولايات المُتحدة تطبيق أفكار هوسرل الفلسفية على تحليل الظواهر الاجتماعية(11).
تم تطوير أفكار شوتز بشكلٍ أوسع، في كتابٍ من تأليف بيرجر ولوكمان: (البناء الاجتماعي للواقع)(12). إن ما يلي، هي المبادئ لفلسفية الرئيسية والمُقدمات المنهجية للسوسيولوجيا الظواهرية بشكلٍ موجزٍ للغاية.
على الرغم من أن هوسرل وأتباعه قد طرحوا اعترافاً شكلياً بوجود عالمٍ موضوعيٍ خارجيٍ بالنسبة لنا، ورفضوا الأناواحدية، الا أن تحليلهم، عملياً، كان يهدُفُ فقط الى دراسة ظواهر الوعي الانساني. في مجال السوسيولوجيا، كان موضوع بحث العلماء الظواهريين هو "الواقع الاجتماعي"، الذي، في رأيهم، يبنيه البشر في عملية التفاعل بمُساعدة اللغة وغيرها من الأنظمة الرمزية والاشارية. إن عملية النشاط البشري الانتاجي، ونظام العلاقات الموضوعية (المادية) الذي ينشأ فيها، تقع تماماً خارج نطاق السوسيولوجيا الظواهرية. يُنظَر الى المُجتمع والمؤسسات الاجتماعية، في التحليل النهائي، على أنها نِتاجٌ للعقل الجمعي المُتبادل. يتم افتراض تعددية "الوقائع الاجتماعية" Social Realities -والتي من أهمها "واقع الحياة اليومية"-والتي تُقام فوقها أنظمةٌ من "العوالِم الرمزية" في شكل العلم والفن والدين والفلسفة. وهكذا، فإن السوسيولوجيا الظواهرية تتجاهل عملياً الفرق بين الفكرة الابستمولوجية حول الواقع الموضوعي المُستقل عن الوعي الانساني (بما في ذلك الوعي الاجتماعي للبشر) من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى، "الواقع"، الذي يُفهَم على أنه ظاهرة للوعي الاجتماعي، كنظامٍ من المعاني تتجسد فيه المعارف والأفكار والمفاهيم الانسانية.
تستخدم السوسيولوجيا الظواهرية أيضاً على نطاقٍ واسعٍ مبدأ قصدية الوعي، الذي صاغه هوسرل. هذا المبدأ، يجعل بالامكان التملّص من الفرق الابستمولوجي بين موضوع وذات المعرفة. إن مسألة ما اذا كان موضوع تحصيل المعرفة حقيقياً أو وهمياً، يتم تنحيته بواسطة مبدأ القصدية: حيث يُزعَمُ أن كل فعلٍ واعٍ مُوجهٌ نحو موضوعٍ ما. تؤدي هذه المُقاربة، في سوسيولوجيا الدين، الى مسألة واقعية أو عدم واقعية المواضيع الخارقة للطبيعة والمُتعالية التي لم تُحَل. من الناحية العملية، تنطلق سوسيولوجيا الدين الظواهرية من افتراض أن "المُتعالي"، أي الانبثاق خارج حدود العالم الحقيقي الملموس حسياً-هو سمة ضرورية للطبيعة الانثروبولوجية للانسان.
إن الأساس الفلسفي الانثروبولوجي للدين مطروقٌ بالتفصيل بشكلٍ خاص في كتاب لوكمان (الدين الخَفي)(13). ينطلق لوكمان من المُقدمات الفلسفية والسوسيولوجية العامة التي بموجبها تنشأ "العوالم الرمزية" في عملية التفاعل بين الأفراد ونشاطهم الذاتي المُتبادل. وهذا يعني أنه تنشأ أنظمة المعاني المُجسدة، والتي تربط تجربة الحياة اليومية بذلك المجال من الواقع المُتعالي الفوق-تجريبي. برأي لوكمان، في عملية التنشئة الاجتماعية، "يتعالى" كُل فردٍ على طبيعته البيولوجية، ويستوعب أنظمة المعاني المُختلفة التي طورها المُجتمع. يُطلِقُ لوكمان على عملية "التعالي" على الطبيعة البيولوجية هذه، تسمية "العالَم الاجتماعي ذو الشكل الديني". والنتيجة هي أن الدين، والتنشئة الاجتماعية وجتمعة الانسان، أي ظهور صفاته الاجتماعية (التي تُختَزَلُ هُنا بشكلٍ مثاليّ الى استيعاب "أنظمة المعاني" الموجودة في المُجتمع من وجهات نظرٍ وأفكارٍ وقِيَمٍ ومفاهيم)، هُما نفس الشيء. هذا التفسير يُتيح للوكمان من أن يُعلِنَ بأن كُل فرد مُتدين، وأن العَلمَنة تؤثر فقط على الأشكال اللاهوتية للتدين، ولكن ليس على "الدين الخفي"، مثل العلم والفلسفة وغيرها.
وكما هُو واضحٌ مما سَبَق، فإن طروحات لوكمان النظرية ترتكز على تفسيرٍ تعسفيٍ وخاصٍ للغاية لمُصطلح "التعالي". يُستَخدَمُ هذا المُصطلح في الفلسفة للدلالة على الخروج عن نطاق العالَم التجريبي المُدرَك بالحواس. لكن لوكمان، يستخدم هذا المُصطلح للدلالة على شيءٍ آخر، أي على عملية التنشئة الاجتماعية للفرد، وجتمعته واستيعابه للمعاني والقِيَم والأعراف والأفكار الموجودة في المُجتمع. هذا النوع من الاستخدام الاعتباطي للمُصطلحات الراسخة في الفلسفة، لا يُمكن سوى أن يُقدم مظهراً زائفاً لحل المسألة ويُشوشها، ولا يَطرَحُ حلاً حقيقياً وأصيلاً لها.
إن ضعف مفهوم لوكمان كان سبباً دفَعَ حتى أقرب زمُلائه، السوسيولوجي بيرجر، الى الافتراق عن تفسير لوكمان لـ"الدين الخفي"، ولو بشكلٍ حذر. يُعلِن بيرجر في كتابه (الواقع الاجتماعي للدين) أنه يُشكك في صحة مُطابقة الدين مع الانثروبولوجيا الفيزيقية للانسان، مع ادراكه لأهمية دراسة المُقدمات الانثروبولوجية للتدين(14)
تجدُر الاشارة الى أنه لا يُمكن اختزال كتاب لوكمان (الدين الخفي)، الى مُجرد تصوراتٍ فلسفية وانثروبولوجية فيزيقية ضحلة. إنه يحتوي كذلك على أفكار مُثيرة للاهتمام في تاريخ سوسيولوحيا الدين الغربي، ونقد للتركيز السوسيولوجي التجريبي الصرف لأعمال سوسيولوجيا الدين وافتقارها الى مفهومٍ نظريٍ واضح المعالِم. يُمكن للمرء، الى حدٍّ ما، أن يتفق أيضاً مع جهود لوكمان لربط المُعتقدات الدينية بأشكالٍ مؤسسيةٍ مُعينة. يُمكن للمرء أن يُلاحظ ظهور أشكالٍ مُختلفة من المُعتقدات الدينية "الفردية"، والتي غالباً ما تُمثل انفصالاً تاماً للفرد عن المُنظمات الكُنسية التقليدية، ولكن التي لا تؤدي دائماً الى اختفاء المُعتقدات والمفاهيم الدينية الأساسية عنده.
كان لوكمان، من أوائل الذين عبّروا عن بعض الأفكار المُثيرة للاهتمام حول طبيعة عملية العلمنة في أوروبا والولايات المتحدة (يَقبَل لوكمان فكرة العلمنة فيما يتعلق بالدين المؤسسي، وليس فيما يتعلق بالدين "الخفي"). وبرأيه، لم يخضع الدين في أوروبا بتغيراتٍ داخليةٍ كبيرة وحسب، بل دُفِعَ كذلك الى هامش حياة المُجتمع. لكن في الولايات المتحدة، تمت علمنته وتغييره، لكنه حافَظَ على مواقعه الرئيسية في المُجتمع. لقد أدّت علمنة الكنائس الأمريكية الى انحراطها جميعاً بدرجةٍ أكبر في الأنشطة غير الدينية (الثقافية، الخيرية، السياسية)، في حين أصبَحَ نشاطها، من حيث أنشطتها الطقوسية، ذو أهمية ثانوية في حياة رعاياها(15).
لا يَسع المرء، سوى أن يتفق مع استنتاج لوكمان. وقد عبَّرَ عن هذا الاستنتاج بشكلٍ مُختلفٍ الى حدٍّ ما السوسيولوجي الأمريكي ويل هيربيرغ Will Herberg في بداية الخمسينيات(16). وطوَّرَ بيرجر هذا الاستنتاج أيضاً، الذي شارَكَ وجهات نَظَر لوكمان النظرية، والذي أعلَنَ أن المصالح وأشكال السلوك العلمانية غير الدينية أصبَحَت نموذجيةً لمُعظم المُنظمات الدينية في الولايات المُتحدة(17).
إن أهم كتاب خصصه بيرجر لمسائل سوسيولوجيا الدين، هو كتابه (الأجمة المُقدسة) The Sacred Canopy الذي نُشِرَ لأول مرة في الولايات المُتحدة الأمريكية عام 1967(18). يُحاول بيرجر في هذا الكتاب أن يُطبّق المبادئ النظرية الابستمولوجية الظواهرية العامَّة (التي صاغها هو ولوكمان في كتابهما آنف الذكر (البناء الاجتماعي للواقع)) على تحليل الدين. كان تفسير بيرجر للمُجتمع ككل وللدين بشكلٍ خاص، مثالياً بشكلٍ واضحٍ تماماً. يكتب، أن "المُجتمع ليس بالطبع سوى جزءٌ وعقدةٌ من الثقافة غير المادية. المُجتمع هو ذلك الجانب من الثقافة غير المادية والذي يبني العلاقات السلوكية بين الانسان والآخرين"(19). "إن المادة التي يتكون منها المُجتمع وكل تشكيلاته، هي المعاني الانسانية التي تتجسد في النشاط الانساني"(20).
إنه يُعرّف الدين على النحو التالي: "الدين هو مجال المشروع الانساني الذي يُشكّل العوالم المُقدسة. بعبارةٍ أُخرى، الدين إضفاء الطابع العالمي على المُقدّس. ونعني بالمُقدس صفة القوة الغامضة، ما عدا قوة الانسان. وهي قوة غامضة مُلهمة للتبجيل والعبادة، والتي، في الوقت نفسه، تُركّز عليه، والموجودة، حسب المُعتقدات، في أجزاء مُعينة من التجربة الانسانية"(21). لو حاولنا تلخيص هذا التعريف، وتنقيته من شوائب تعقيده الظاهراتي، فيُمكننا أن نقول التالي: الدين، أولاً، هو شكلٌ خاصٌّ من النشاط البشري. ثانياً، تنشأ علاقةٌ بين الانسان وقُوى غامضة مُعينة يقول عنها الانسان بأنها "مُقدسة". هُنا تتضح للعيان المُقدمات اللاهوتية لفهم بيرجر للدين، وخاصةً إن أخذنا بالاعتبار أن بيرجر لا يَكتُب كسوسيولوجي وحسب، بل بوصفه لاهوتيٌّ كذلك. وما هو مُثير للاهتمام أن كتاب بيرجر الأخير (الضرورة الهرطقية)(22)، مُكرَّس للكامل للبحث عن طريقةٍ للخروج من الأزمة التي يعيشها اللاهوت البروتستانتي الآن. وبينما يسعى بيرجر الى تجنّب القُبول المُباشر لواقع ما، خارقٌ للطبيعة في السوسيولوجيا، الا أنه لم ينجح الا جُزئياً.
الجزء الأكثر اثارةً للاهتمام في كتاب بيرجر (الأجمة المُقدسة) هو وصفه للدور الاجتماعي للدين. يُعرّف بيرجر الوظيفة الاجتماعية الرئيسية للدين بأنها "شرعنة" (أي تفسير وتبرير) النظام الاجتماعي القائم. الدين، في رأيه، فعّال للغاية في شرعنة النظام الاجتماعي وتقديسه، بقدر ما يربط المؤسسات والمبادئ الاجتماعية الدُنيوية بالعالَم الأعلى المُقدس. ويجب الاعتراف بأن فكرة بيرجر هذه منطقية بلا شك.
يُحاول بيرجر استخدام مفهوم "الاغتراب"-الذي استعاره كما يقول، من ماركس- لتفسير الدين. ومع ذلك، فإن تفسيره لهذا المفهوم ليس له أي جامع مُشترك مع التفسير الماركسي له.
أولاً، الاغتراب، حسب بيرجر، يُميّز وعي الناس فقط، وليس علاقاتهم الحقيقية الناشئة في عملية الانتاج المادي. ثانياً، يسير بيرجر على منهجية تجريدية غير تاريخية عند مُعالجة مسألة الاغتراب الاجتماعي. وهو لا يربط الاغتراب ببُنىً اجتماعية مُحددة عابرة تاريخياً، بل ببعض الصفات الأزلية لوعي الانسان، والتي تبقى جذورها الاجتماعية، حسب بيرجر، غير قابلة للتفسير(23).
في السبعينيات، تحوَّلَت اهتمامات بيرجر بشكلٍ ملحوظ في اتجاه مسائل المثالية الفلسفية واللاهوت، في حين، لم يُطوّر في مقالاته السوسيولوجية المنشورة(24)، أي أفكارٍ جديدة، ولكنه قام بتعديل طروحاته السابقة التي صيغَت في كتاب (الأجمة المُقدسة). ما يُثير الاهتمام في هذه المقالات هو مُحاولاته لرسم مسار تطور الدين في الولايات المُتحدة من الخمسينيات الى السبعينيات(25). يرى بيرجر، أنه في حين شَهِدَت الأشكال المؤسسية للدين "عصراً ذهبياً" في الخمسينيات، الا أنه كانت تحدث في تلك الفترة ما يُسميه "العلمنة الخفية"، بحيث صار المُحتوى الديني اللاهوتي، يحتل شيئاً فشيئاً مكانةً أقل في نشاط الكنائس والمؤسسات الدينية.
في منتصف الستينيات، صارت "العلمنة الخفية" للكنائس الأمريكية، مرئيةً للمرة الأُولى. انخفضَ عدد أعضاء المُنظمات الدينية، وتراجع حضور الصلاة في الكنيسة، وتغيَّرَ الموقف العام تجاه معايير وقِيَم الدين المؤسسي. يربط المؤلف بشكلٍ صحيح هذه التغيرات، بالأزمة الاجتماعية-السياسية التي هزَّت المُجتمع الأمريكي في نهاية الستينيات (تحركات عام 1968). في حين كان المواطن الأمريكي العادي في السابق مُقتنعاً أن "كُل شيء يسير على ما يُرام"، وأكَّدَ الدين اقتناعه هذا، فقد توَصَّلَ عددٌ أكبر من الأمريكيين الى استنتاج أن عالمهم كان بعيداً عن أن يكون "بِخير"، وبالتالي، فَقَدَ الدين مكانته السابقة في أذهانهم(26). كان هُناك "نزعٌ تدريجي لشرعية القِيَم والأعراف الدينية السابقة". ولكن، وبالنظر الى الوقت الراهن (1973)، يقول بيرجر، أنه قد بالَغَ الى حدٍّ ما بآثار العلمنة وبحتميتها، وتنبأ بعودة شعبية الدين، ولكن ليس بالضرورة في شكلٍ مؤسسي. بالاضافة الى ذلك، وخلافاً لعددٍ من الكُتّاب الآخرين، رأى أنه قد تنشأ حركات دينية جديدة ومؤثرة، ليس على أساس الديانات الشرقية والآسيوية (الهندوسية والبوذية)، بل على أساس التقاليد المسيحية-اليهودية التقليدية.
ويرى بيرجر، أن "النهضة الدينية" مُمكنة إن كَفَّ اللاهوتيون والشخصيات الدينية عن خلط المُحتوى الديني لمذاهبهم مع مُختلف المفاهيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وعادوا الى مُحتويات المُعتقدات المسيحية التقليدية، أي الى ما يُسمى "اللاهوت العامودي"، أي اللاهوت القائم على الايمان بالإله. إن استنتاجات بيرجر هذه، تُوضح تفوّق بيرجر اللاهوتي على بيرجر السوسيولوجي.

3- الارث النظري لدوركهايم وفيبر
لقد كان للتصور السوسيولوجي عند دوركهايم وفيبر، ولا سِيما تحليلهما السوسيولوجي للدين، تأثيراً هائلاً على سوسيولوجيا الدين البرجوازية المُعاصرة.
وهنا يجب أن نذكر أن تأثير دوركهايم لا يشمل فقط مُمثلي المدرسة البنيوية الوظيفية، بل مُمثلي المدارس الأُخرى في السوسيولوجيا الأمريكية والبريطانية أيضاً. ومن الجدير بالمُلاحظة أن غالبية السوسيولوجيين الغربيين يتجنبون تصنيف أنفسهم أو تصنيفهم من قِبَل آخرين في أي مدرسةٍ أو اتجاهٍ نظريٍ مُعين. إنهم يعتبرون أن من علامات "الاستقلال الفكري" أن يكونوا مُراقبين حياديين وانتقائيين في مجال المنهجية، مُعبرين عن احترامهم لكُلٍّ من ماركس (لكي يكونوا قادرين على معرفة "حدود تفكيره" ودوركهايم وفيبر وتونيز وباريتو وغيرهم من سوسيولوجيي القرنين التاسع عشر والعشرين.
بقدر ما يتعلق الأمر بدوركهايم، لا يكاد يُوجد كتاب واحد في مسائل سوسيولوجيا الدين نُشِرَ في الولايات المُتحدة أو انجلترا في العقدين الماضيين لم يؤكّد على أهمية فِهم دوركهايم للدين بالنسبة للسوسيولوجيا المُعاصرة. وهكذا، على سبيل المثال، في كتاب (الانسان المُتدين) Homo Religiosus الذي كَتَبَه السوسيولوجي البرجوازي روبر تاولر Robert Towler، تم تخصيص فصل كامل للحديث عن التقليد الدوركهايمي في سوسيولوجيا الدين(27). يرى تاولر أن دوركهايم واصَلَ الطريق الذي سار فيه ماركس، وكان هَدَفُهُ دراسة المصادر الاجتماعية للدين. ولكن يُفتَرَضُ هُنا، أن دوركهايم توصّلَ الى نتائج أشمَل وأبعد مما توصَّلَ اليه ماركس، بقدر ما أن دوركهايم قد رَفَضَ أن يُعامل الدين باعتباره مُجرد "ظاهرةٍ ثانوية"، وكانعكاس للمُجتمع ولكنه لا يؤثّر عليه(28). من الواضح أن تاولر يُشوه فهم ماركس للدين بطريقةٍ فظّة عندما ينسب اليه انكاره للدور الاجتماعي النَشِط للدين.
من الصعب أن يتفق المرء مع فِهمِ تاولر للتقاليد السوسيولوجية الدوركهايمية. يعتقد دوركهايم أن حياة المُجتمع تقوم على "أفكارٍ ومُعتقداتٍ ومشاعرَ جماعية". وهو يُطابق الدين بالوعي الاجتماعي ككل، بقدر ما ينظر الى أي وجهات نظر أو قِيَم تُساهم في اندماج المُجتمع، على أنها دينية بالأساس. لقد انطَلَقَ تقليد التعريفات الواسعة للدين منذ دوركهايم، وهو أمرٌ سائدٌ جداً بين سوسيولوجيي الدين البرجوازيين. وفيما يتعلق بتوضيح الوظائف الاجتماعية للدين، اعتَبَرَ دوركهايم أن الوظيفة الدمجية للدين، هي الوظيفة الأكثر أهميةً، مؤكداً على الحاجة للدين من أجل وجود النُظُم الاجتماعية وتأدية وظائفها(29).
وعلى النقيض من دوركهايم، تنطلق الماركسية من أن جذور الدين كامنةٌ في مجال النشاط الانساني المادي والعمَلي وعلاقات الانتاج الذي تنشأ في هذا السياق. إن علاقات الناس ببعضهم البعض وبالطبيعة، وعدم قُدرتهم على تطبيق قوانين التطور الاجتماعي بوعي، هذه هي الأسباب الرئيسية التي تؤدي الى تشويه الدين للوعي الانساني وتجعل من القُوى الحقيقية، قوىً خيالية خارقة للطبيعة في أذهانهم. هذا هو أساس الفهم الماركسي لوظائف الدين، المُختلف جذرياً عن فِهم دوركهايم. فالماركسية ترى أن الوظيفة "الأفيوينية-أي التعويضية الوهمية- هي الوظيفة الرئيسية للدين.
تهتم سوسيولوجيا الدين الانجلو-أمريكية كثيراً بالتراث النظري لماكس فيبر أيضاً. ومن عند فيبر، يستلهم السوسيولوجيين البرجوازيين أدواتهم المنهجية، ومنها رفض تحديد الجوانب الرئيسية لتطور المُجتمع. إنهم يعتبرون الدين إما "عاملاً مُستقلاً" أو "تابعاً"، وهذه المنهجية، حسب زعمهم، "تتغلب على النظرتين المادية والمثالية". تقتبس العديد من الكُتُب، تصريحات فيبر الشهيرة التي تتحديث عن منهجه في مُعالجة الدين. فمن ناحية، يُعلِن فيبر أنه "مهما كان تأثير الظواهر الاجتماعية قوياً... على الأخلاق الدينية في أي حالةٍ مُحددة، فإن الأخلاق تخضع قبل كُل شيء لمصادرها الدينية"، في حين يقول من ناحيةٍ أُخرى "أنه من السُخف التأكيد أن "الرأسمالية كنظامٍ اقتصادي هي نتاجٌ للاصلاح الديني"(30).
يتلخص الاستنتاج العام الذي يتوصل اليه فيبر، في فكرة أنه لا يُمكن قبول التفسيرات "المادية أُحادية الجانب" ولا التفسيرات "الروحية أُحادية الجانب" للعلاقات السببية في عالم الثقافة والتاريخ، فـ"كليهما يُقدمان القليل جداً من المُساعدة على الكشف عن الحقيقة التاريخية"(31).
لا ينبغي أن ننخدع بهذا الحياد الايديولوجي الزائف الذي يُقدمه لنا فيبر. مهما كان احتجاج السوسيولوجي الانجليزي مايكل هيل Michael Hill على من يُفسرون أفكار فيبر بأنها مُعادية للماركسية (وهو ما يعتبره هيل "تبسيط مُخِل" لآرائه)(32)، لا يسع المرء سوى أن يُشير الى الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أن نظرية فيبر التعددية مُوجهة في المقام الأول ضد أُحادية ماركس المادية، وأن هذه التعددية، تم تطبيقها عملياً في كتابات فيبر حول الدين في شكل فكرة مثالية تضع الدين بالأساس في مُواجهة المُجتمع، بدلاً من استنباطه منه.
لا تزال مسألة تأثير البروتستانتية على نشوء الرأسمالية وتطورها، والتي طرحها ماكس فيبر في سوسيولوجيا الدين مصدراً للمُناقشات في الأدبيات السوسيولوجية. وبما أننا سَبَقَ وأن تناولنا المناقشات حول هذه المسألة(33)، فلنقتصر هُنا ببساطة على تحديد الاتجاه الرئيسي لتأثير كتاب (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) على المنهجية المُعاصرة في الدراسة السوسيولوجية للدين في الغرب. أكَّدَ فيبر أن مسألة الدافع الديني للسلوك الاجتماعي للبشر، هي المسألة الأكثر أهميةً بالنسبة للسوسيولوجيا. ووفقاً لفيبر، من الضروري الانطلاق من الأفكار الدينية السائدة في فترة تاريخية مُعينة (لم يطرَح فيبر مسألة كيفية نشوء تلك الأفكار) للكشف عن مدى تأثيرها على سلوك الانسان في المُجتمع.
يطرح هذه المسألة، العديد من السوسيولوجيين الأمريكان والانجليز المُعاصرين المُلتزمين بالتقاليد الفيبرية. وهكذا، على سبيل المثال، يتوصل جون ويلسون John Wilson في كتابه، مسألة العلاقة بين الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية المُعاصرة الأمريكية(34)، على أساس الدراسات التجريبية التي أجراها شومان وسوسيولوجيين أمريكيين آخرين، يتوصل، الى استنتاج مفاده أن الاختلافات بين الكاثوليك والبروتستانت في الوقت الحاضر من حيث مواقفهم تجاه العمل، ومواقفهم الأخلاقية والاجتماعية، غير ذات أهمية على الإطلاق. إنه يؤكد، أن الأخلاق البروتستانتية تُواصل عملية تحفيز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، فقط عند المؤمنين بمذاهب دينية مُعينة (السبتيين، المورمون، ومن شابههم). ويرى ويلسون أن هُناك علمنةً تقدمية (ليبرالية) للحياة الاقتصادية في الولايات المُتحدة، أي وجود هيمنة للدوافع غير الدينية في مجال النشاط الاقتصادي للأمريكيين(35). يبدو أن هذا الاستنتاج يعكس الوضع الحقيقي للأُمور.
قام العديد من السوسيولوجيين الأمريكيين، من أنصار التقاليد الفيبرية، بدراسة تأثير الاسلام والهندوسية في عملية النمو الصناعي في البُلدان الآسيوية(باكستان والهند واليابان)(36).

4- مسألة العَلمَنة
نُوقِشَت مسألة العلمانية بنشاط في سوسيولوجيا الدين الانجلو-أمريكي على مدار 20 عاماً. تنوعَّت حلول هذه المسائل التي توصَّلَ اليها المؤلفون واختلفت عن بعضها كثيراً، خاصةً فيما يتغلق بمسألة الاعتراف بالعَلمنة كاتجاه موضوعي للتطور في الرأسمالية الحديثة. في حين اعتَبَرَ العديد من السوسيولوجيين الانجليز (برايان ويلسون Bryan Wilson) والأمريكيين (بيتر بيرجر Peter Berger وتشارلز غلوك Charles Glock) أن العلمنة هي اتجاه موضوعي يُميّز المُجتمع الصناعي الحديث، يميل آخرين (في انجلترا ديفيد مارتن David Martin وبيتر غلاسنر Peter Glasner، وفي الولايات المتحدة تالكوت بارسونز وروبرت بيلا Robert N. Bellah وأندرو غريلي Andrew Greeley)، يميلون الى استنتاج مفاده أن فكرة "العلمَنة" ضعيفة نظرياً، لأنها لا تعكس جوهر العمليات التي تحدث في الدين في المُجتمع الحديث. ولذلك، يجب التأكيد أن قبول أو عدم قبول العَلمنة، مُرتبط بفهم ماهية الدين. اذا فُهِمَ الدين على أنه الايمان بما هو خارق للطبيعة، مُقدّس، الخ، فيتبع ذلك اعترافاً بالعَلمنة عموماً. ولكن اذا فُهِمَ الدين بمعنىً واسع (على أنه نظرة عالمية، بحث عن اجابات للأسئلة الوجودية والمصيرية)، فإنه إما تُنكَر العلمَنة تماماً، أو أنه يُعتَرَفُ بها بمعنىً محدود كسمة لتغيّر الأشكال الدينية اللاهوتية فقط.
يربط تالكوت بارسونز، في عددٍ من مقالاته، التغيرات في مجال مواقف الناس تجاه الدين والمؤسسات الدينية، بعمليات تمايز المُجتمع البُنيوية(37). برأيه، تحدث، أثناء التمايز البُنيوي، عملية انفصال مُتزايد للمؤسسات الدينية، عن جميع المؤسسات الأُخرى. ويُفصَل الدين عن السياسة والقانون والأخلاق، ويُصبح شأناً فردياً. يرى بارسونز، أنه لا ينبغي أن يتحدث المرء عن عَلمنة بهذا المعنى، بل عن التغيّر في وظائف الدين على أساس التمايز البُنيوي في المُجتمع.
ويُوافق السوسيولوجي الكاثوليكي الأمريكي أندرو غريلي على أفكار بارسونز هذه، ويعتبرها هامة جداً لتحديد مُستقبل الدين، ويضعها في مُواجهة "النظريات الساذجة حول العَلمنة"(38). في كتابه (الدين عام 2000)، يخوض غريلي معركةً شرسة ضد "نظريات العَلمنة"، ساعياً الى دحض أًسسها النظرية والتجريبية. لا يُخفي غريلي هدفه الرئيسي، وهو إظهار أنه بحلول عام 2000 سيتوسّع صفوف أتباع الدين ويتزايد تأثيره على المُجتمع والأفراد. يُعتَبَر كتاب غريلي بمثابة دفاع لاهوتي، ذاتي، ويحوي على الكثير من الاستنتاجات والتأكيدات النظرية الاعتباطية. حتى أنه استُقبِلَ بشكلٍ نقدي من قِبَل غالبية السوسيولوجيين الأمريكيين.
أما كتابات السوسيولوجي الأمريكي روبرت بيلا، فهي أكثر جدّيةً وموضوعية. ينطلق نموذجه حول تطور الدين أيضاً من فكرة بارسونز في التمايز البُنيوي للمُجتمع والمؤسسات الاجتماعية. ويُحدد بيلا 5 مراحل رئيسية لتطور الدين، تختلف كُل مرحلةٍ عن التي تسبقها "بدرجة تمايز نظام الرموز الدينية": 1- الدين البدائي، وهو نموذجي للمُجتمع البدائي، مع غياب شبه كامل للتمايز البُنيوي داخل حُدود المُجتمع. يتميّز هذا الدين بوعي غير مُتمايز اسطورياً، حيث لا يتم بعد التمييز بين الطبيعي والمُقدَّس. 2- الدين القديم، يتميز بقدر أكبر من التنظيم والتمايز بين الوعي الديني والعبادة. 3- الأديان التاريخية، والتي تضع حداً فاصلاً بين المجالين العلماني (الدُنيوي) والمُقدس (الإلهي). يُدرج بيلا الأديان اليهودية والمسيحية والاسلام في هذه القائمة. 4- الدين الحديث المُبكر، والذي وَجَدَ تعبيره الأكثر وضوحاً في الاصلاح البروتستانتي "وهُو يُمثّل تحوّلاً واضحاً باتجاه العالَم الأرضي، باعتباره المجال الرئيسي للنشاط الديني. وهُنا ليس من الضروري البحث عن الخلاص في عالمٍ آخر. الخلاص يكمُنُ في خِضَم النشاط الدُنيوي"(39). 5- المرحلة المًعاصرة من تطور الدين، فهي تتميز حسب نظرية بيلا، بالتعددية الدينية في المقام الأول. لقد أصبَحَ التديّن فردياً أكثر فأكثر، وصار اختيار كُل فردٍ في المُجتمع، للأفكار والرموز الدينية، فعلاً اختيارياً حُراً(40). إن عملية تحوّل الدين- (والذي يُفسره بيلا بمعنىً واسع، على أنه مجموعة أشكال رمزية مُرتبطة بمصير وجود الانسان)- باتجاه الفرد، أي صيرورته ديناً فردياً، هي، في نظر بيلا، عملية تكمن في جوهر التغيرات التي يُطلِقُ عليها العديد من السوسيولوجيين، تسمية العَلمَنة.
نَشَرَ السوسيولوجي الانجليزي بيتر غلاسنر عام 1977 (الذي يعمل في استراليا) كتاباً بعنوان (سوسيولوجيا العَلمنة)، حاوَلَ فيه اثبات أن العلمنة هي مُجرّد أُسطورة ينشرها الايديولوجيون المُعادون للدين، وهي أُسطورة، برأيه، غير مدعومة بالبيانات التجريبية. وبالاعتماد على جورج زيميل George Simmel، طوَّرَ غلاسنر فكرة "الديني"، الذي يجب تمييزه عن "الدين". في تفسيره، يُعَد "الديني" عُنصراً ضرورياً في علاقات الشخصية السيكولوجية داخل المجموعة، القائمة على الايمان والتقديس والعبادة وما الى ذلك(42). وهكذا، بحسب غلاسنر، يُصبح "الديني" عُنصراً ضرورياً في العلاقات الانسانية في أي مُجتمع. بمعنى آخر، نتعامَلُ هُنا، مع احدى التنويعات التي لا حصر لها من التعريفات الواسعة للدين، التي تُعلِن رسمياً أن الدين هو عامِل ضروري لأي انسان، وفي الوقت ذاته، يُفقِرُ هذا التعريف مفهوم الدين، من أي معنىً ومضمونٍ حقيقي. أما فيما يتعلق بمُحاولات غلاسنر لدحض البيانات التجريبية التي تُبيّن الاتجاه نحو العلمنة في المُجتمع الرأسمالي الحديث، فإنه يكفي بالنسبة له النظر الى مُجمل الدراسات السوسيولوجية، مثل كتاب (الدين الغربي)(43)، للإقتناع بحقيقة العَلمنة في الدول الرأسمالية.
لقد مرَّت أفكار السوسيولوجي الانجليزي ديفيد مارتن حول العَلمنة، بتطورٍ مُعيّن. ففي حين رَفَضَ مارتن في كتابه (الديني والعلماني)(44)، صحة فكرة "العَلمَنة" جُملةً وتفصيلاً، فقد سعى في مُؤلَّفِهِ الأخير المُوسَّع(45)، الى تفسير ظاهرة "العَلمنة"، مُعترفاً بوجودها في عددٍ من الدُول الأُوروبية، وكذلك الدُول الاشتراكية. يستخدم مارتن ثلاثة معايير لتحديد وُجود أو غياب العَلمَنة. أو معاييره هي الدين السائد في البلد المعني. ويرى مارتن أن الكاثوليكية، وبدرجة أقل المسيحية الأرثذوكسية، تخلقان أرضية مُلائمة للعلمنة. في حين أن البروتسنتانتية، على العكس من ذلك، تُشكّل عَقبَة أمامها. ويتَّخذ مارتن معياراً ثانياً للعلمنة، وهو معيار مُرتبط بالأول بحسبه، وهو وجود أو عدم وُجود دين مُهيمن بقوة في هذا البلد أو ذاك. إن وجوده، برأيه، يُسهّل تطور الاتجاهات العلمانية المُعادية للدين، في حين أن التعددية الدينية تُعزز الحفاظ على المُعتقدات الدينية في بلدٍ ما. وأخيراً، المعيار الثالث، هو حدوث ثورات اجتماعية داخلية في بلدٍ ما (وهي عوامل هامّة للعلمنة)، أو صراعات اجتماعية خارجية، (مثل النضال من أجل الاستقلال)، تؤدي الى الوحدة الوطنية، في مُواجهة العدو، والعمل على تقوية الدين السائد في البلاد.
يمضي مارتن في دراسة العديد من "النماذج" بالتفصيل، والتي يُوضّح كُلٌ منها، المعايير العامة التي صيغَت أعلاه. وكما يرى، فإن الولايات المُتحدة هي الدولة التي حققت فيها العلمانية أقل قدرٍ من التقدم. وبالانتقال الى أوروبا، يُسميه مارتن بـ"النموذج اللاتيني" الذي تتقدم فيه العَلمَنة بفعالية كبيرة (فرنسا وإيطاليا)، وبُلدان "النموذج المُختلط" حيث تُوجد العَلمنة ولكن بشكلٍ أضعف (سوسيرا وألمانيا الغربية وهولندا)، والبُلدان "الانجليزية"، وهي "النموذج الساكسوني"، أي بريطانيا، الذي يقترب من النموذج الأمريكي. وهُناك النموذج "الروسي" الذي يُمثّل في نظره كُل الدول الاشتراكية في أوروبا، ما عدا بولندا، وهو نموذج تشق فيه العلمانية طريقها بقوّة.
لا يُمكن للمرء أن يُنكر أن المعايير الاجتماعية التي حددها مارتن، تؤثر بالفعل على موقف الجماهير تجاه الدين، ويُمكن أن تُسهّل أو تُعيق عَلمنة المُجتمع. ولكن، هذه العوامل-سمات هذا الدين أو ذاك، والعلاقات بين الدولة والكنيسة، وما الى ذلك- لا يُمكن بأي حال اعتبارها الأسباب الرئيسية التي تُحدد عملية العلمنة في البُلدان الرأسمالية الحديثة. وترتبط الأسباب الرئيسية للعَلمَنة بالأزمة العامة للأرسمالية، ولا سيما أزمة الأُسس الايديولوجية للنظام الرأسمالي، وخاصةً تفاقم الصراعات الطبقية الداخلية التي تهزّ، ليس فقط النظام السياسي الرأسمالي، بل نظام أساطيرها وقِيَمها الدينية التقليدية. لقد تطوَّرَت العَلمَنة بشكلٍ عميق، في تلك البُلدان التي تطوَّرَ فيها نضال الطبقة العاملة ضد الاحتكارات بشكلٍ أكثر نشاطاً، وحيث تجلَّى الوعي الطبقي بين العُمل بشكلٍ أكثر وضوحاً، وحيث الأحزاب الماركسية هُناك أكثر نفوذاً. إن مسألة أي شكلٍ من أشكال الدين المسيحي موجود في هذا البلد أو ذاك، هي ذات أهمية من الدرجة الثالثة، على الرغم من أنه لا ينبغي على المرء أن يتجاهل تأثير تقاليدٍ دينية مُعينة.
يُحاول مارتن بشكل افترائي، أن يُصوّر العَلمنة في البُلدان الاشتراكية على أنها، في المقام الأول نتيجةً للقوة السياسية والاجراءات الادارية التي تُطبقها "الدولة العلمانية". وهُو يتجاهل أهم مصدر من مصادر العَلمَنة في المُجتمع الاشتراكي، المُستمدة من جوهر التحولات الأساسية للنظام الاقتصادي-الاجتماعي. هذه المُقاربة الأبعد ما تكون عن العلمية، نموذجية أيضاً للعديد من السوسيولوجيين الغربيين الآخرين عندما يكتبون عن عمليات العلمنة التي تحدث في المُجتمع الاشتراكي.

5- الأديان والعبادات غير التقليدية
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ظَهَرَت الى الوجود العديد من الحركات والطوائف الدينية غير التقليدية، في البداية في الولايات المتحدة، ثم في أوروبا. لقد جَذَبَت مظاهر التديّن الجديدة هذه اهتماماً كبيراً من قِبَل عدد كبير من السوسيولوجيين الأمريكيين والانجليز. وخُصِّصَ عدد كبير من الكُتُب والمقالات للحركات الدينية غير التقليدية. من المُحتمَل أن أكثر كتابين إثارةً للاهتمام والذَينِ جرى فيهما مُحاولة تقديم تحليل سوسيولوجي عام للأشكال غير التقليدية للدين، هُما كتاب مجموعة المقالات التي حررها غلوك وبيلا ونُشِرَت في نيويورك عام 1976 بعنوان (الوعي الديني الجديد)(46)، وكتاب من تأليف برايان ويلسون (التغيرات المُعاصرة المُصاحبة للأديان)(47).
تحتوي المجموعة التي حررها غلوك وبيلا على 16 مقالاً، مُعظمها عبارة عن خطوط عامة سوسيولوجية، تتناول كُلٌّ منها طائفةً أو حركة دينية مُعينة. قام مُحررو الكتاب بتجميع الحركات الدينية على أساس عقائدها، وعلى أساس مصادرها الدينية والفلسفية وأشكال عباداتها.
وهُم يخصّون المجموعة الاُولى، تلك الحركات الدينية التي تستخدم العديد من عناصر الديانات الشرقية، مثل الهندوسية والبوذية. وتشمل هذه الحركات، مثلاً مُنظمة الـH الثلاثة (الصحة، السعادة، المُقدّس healthy, happy, holy). وهي مزيج تلفيقي من أشكال مُختلفة من اليوغا والديانة السيخية. نشأت هذه المُنظمة في كاليفورنيا عام 1969 على يد يوغي باجان Yogi Bhajan، وهو واعظ وشخصية دينية هندية، انتقَلَ الى الولايات المُتحدة الأمريكية. تمتلك هذه المُنظمة حالياً، شبكة من المراكز (الأشرمَات ashrams) في أمريكا تَهدُفُ الى تأسيس "نمط حياة" مُميز لدى أتباع تلك الطائفة، عن طريق التمارين البدنية والفكرية، والتي من المُفترض أن تجعل المرء يعيش بصحةٍ وسعادةٍ وقداسة. وكما أشارَ السوسيولوجي الأمريكي أ. توبي، الذي أجرى دراسةً استقصائية حول أعضاء هذه الطائفة في كاليفورنيا، فإن مُعظمهم من الشباب الذين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً وأصابتهم خيبة الأمل من قِيَم "نمط الحياة الأمريكية"، والذين يسعون الى الحصول على "الانسجام الروحي". ينجذب الكثير منهم الى هذه المُنظمة بسبب حظرها للمُخدرات والكحول وفرضها لنظام تمارين بدنيةٍ مُستعارةٍ من اليوغا.
تُعتَبَرُ حركة هير كريشنا Hare Krishna التي تأسست أواخر الستينيات أولاً في نيويورك ثم في سان فرانسيسكو، تنويعةً خاصة للقاليد الدينية الهندوسية. ترتكز عقيدة هذه الطائفة على فكرة آخروية تُفيد أن العالَم اليوم هو في نهاية أحد عصور الزمان، وهو عصر خالي يوغا،Kali Yuga، الذي يتميّز بالصراعات الاجتماعية والحروب والانقلابات وقسوة البشر المُتزايدة تجاه بعضهم. يقول قادة هذه الحركة أن العالَم يَدخُلُ حالياً حُقبةً جديدةً من السلام والمحبة والاحترام بين البشر. ولا يُمكن بلوغ هذه الحقبة الا بتغيير وعي الملايين من الناس. ليس الحل في تغيير المؤسسات والعلاقات الاجتماعية، بل تغيير الوعي الفردي. ومن أجل تغيير وعي الناس و"الوصول الى الحقيقة"، قامت هذه الحركة بوضع نظام مُعقد من العادات والمعايير والطقوس التي تُنظّم حياة أتباعها. إن الدخول في عضوية "معبد"هم، يُشتَرطه التخلي عن جميع العادات والأعراف السابقة، بما في ذلك الملابس وتسريحات الشعر، وحتى الأسماء. المُخدرات محظورة بشكلٍ صارم. ويُركّز أتباع هذه الحركة اهتمامهم على "الوصول الى الحقيقة المُطلقة" بمساعدة التأمل والتمارين الذهنية.
إن أكبر حركة دينية ذات التقليد الآسيوي، من حيث عدد أعضاءها في الولايات المُتحدة، هي حركة "مهمة النور الآلهي" بزعامة الواعظ مِهراجي Maharaj-ji. وَصَلَ عدد أعضاء هذه الحركة عام 1971 الى حوالي 80 ألف عضو. هذه التنويعة الدينية هي النُسخة الأكثر "أمرَكَةً" لمزيجٍ انتقائيٍ من الهندوسية والمسيحية وأشكال مُختلفة من التصوّف. على سبيل المثال، تُعتَبَر التعاليم التالية لأحد واعظيها نموذجيةً لتعاليم "مهمة النور الإلهي": "الاله هو طاقة، والطاقة حسب عُلماء الفيزياء المُعاصرين لا تفنى ولا تُستَحدَث، لكن ما لا يُخبرنا به الفيزيائيين هو أن تلك الطاقة هي الوعي"(48). يرى مِهراجي أن الإله هو الجوهر الذي يُوحّد الكون، وأن الانسان قادرٌ على إدراك الإله بشكلٍ مُباشر. كُل الحقيقة موجودة في "المعرفة"، وتتمثل "مهمة النور الإلهي" في تزويد أتباعها بتلك "المعرفة". الطريقة الرئيسية لتحصيل تلك "المعرفة" هي التمارين الفكرية والتأمل. كُل امرئٍ ينال "المعرفة" يُصبح "كاملاً" وأكثر نجاحاً في عمله، وينال السعادة والنجاح والرفاهية والسلام في نفسه وعائلته.
لا يتناول الكتاب الذي حرره غلوك وبيلا الحركات الدينية ذات التقليد الآسيوي وحَسب، بل يتحدث أيضاً عن حركاتٍ دينية غير تقليدية ذات أصل مسيحي. على سبيل المثال، هُناك مقالات مُخصصة لـ"حركة اليسوع" (والتي تُركز على تنويعات تلك الحركة كما تتجلّى في جامعة كاليفورنيا، أي ما يُسمى الجبهة المسيحية لتحرير العالَم)، والحركة الخمسينية Pentecostal Movement عند الكاثوليك.
نشأت "حركة اليسوع" في نهاية الستينيات بين الشباب على ساحِل المُحيط الهادئ في الولايات المتحدة. إن مغزى هذه الحركة مُعقد ومتناقض. يتم فيها دمج الزركشات الدينية والاجتماعية معاً. اجتذبت "حركة اليسوع" اولئك الشباب الأمريكيين، وخاصةً الطلاب، الذين اصابتهم خيبة الأمل من طريقة الحياة الأمريكية والايديولوجيا الرسمية التي تُمجدها، والذين حاولوا مُواجهة مُعاداة الانسانية في المُجتمع من حولهم بالفكرة المسيحية حول الحُب الذي يُفتَرَض أنه قادرٌ على إعادة صياغة العالَم وأنسنته.
إن "حركة اليسوع"، مثل الثقافة الشبابية "المُضادة" بأكملها، يتم استيعابها بسرعة ويُسر من قِبَل المُجتمع الرأسمالي، مما يُحولها الى موضة، وماركة تجارية للرموز المسيحية (صور المسيح على القُمصان وربطات العُنق وما الى ذلك)، وخلق موسيقى ترويجية للروك الحديث حول موضوعات إنجيلية (اوبرا المسيح سوبرستار Jesus Christ Superstar)، وهكذا تتلاشى آثار الاحتجاج الاجتماعي التي كانت حاضرةً في هذه الحركة.
إن الميل نحو التديّن الذي يصل بالمرء الى النشوة الروحية، قد تجلّى منذ فترةٍ طويلة في الولايات المتحدة عند الطوائف الآخروية والطوائف البروتستانتية، مثل السبتيين Adventists، شهود يهوه Jehovah s Witnesses والخمسينيين. في الستينيات، لم يمتد تأثير هذه الحركة على البروتستانت فحسب، بل على الكاثوليك كذلك. بدءاً من النصف الأخير من الستينيات، تطوّرَت حركة "الخمسينية الجديدة" neo-Pentecostal أو الحركة الكاريزمية بين الكاثوليك الأمريكيين. بدون إحداث القطيعة مع المؤسسات الكاثوليكية الرسمية، يجتمع أنصار هذه الحركة في مجموعات ويُمارسون صلاة النشوة، التي ينزل "الروح القُدس" فيها عليهم.
يُحدد السوسيولوجي برايان ويلسون ثلاث أنواع من "المذاهب الخلاصية" في هذه الطوائف الجديدة. يتكوّن النوع الأول من حركات ومجموعات تؤكد أن الخَلاص لن يتحقق الا بمساعدة "معارف" صوفية سرية خاصة، لا يُمكن الحصول عليها الا من عند المُختارين. وكمثال على هذه الطوائف، يستشهد ويلسون بما يُسمى بـ"الحركة العُلموية" والتي لا تشترك بأي شيء مع العلم الحقيقي. قام مؤسسها رون هوبارد Ron Hubbard بصياغة المبادئ الأساسية لـ"العلمويين". إن عقيدتهم هي مزيج غريب من بعض تكنيكات العلاج النفسي الحقيقي، وعدد من تعاليم الطوائف الصوفية والسحرية الشرقية، والغنوصية المسيحية المُبكرة(49).
تُبشّر الطوائف من النوع الثاني بالخلاص، من خلال تحرير القُوى الداخلية لكُل فرد. ويؤكد أنصار هذه الطوائف أن الانسان وحده هو الذي يستطيع إنقاد نفسه. وتسعى العديد من هذه الجماعات الدينية الى مُواجهة الفرد بالمُجتمع، مُعلنةً أن جميع الثقافات والمُجتمعات مُعادية للفرد وحُريته.
النوع الثالث من الحركات الدينية الجديدة، في تصنيف ويلسون، يعتمد على المعيار المُتمثل في أن أنصار هذه الحركات مُطالَبون بأن يحملوا نفس الايمان المفروض، وهذه هي الوسيلة الوحيدة للخلاص. يُصنّف ويلسون من بين مُنظمات النوع الثالث مُنظمة الـH الثلاثة و"مهمة النور الإلهي" وبعض المجموعات الأُخرى. وهذه المُنظمات الدينية مُتماسكة بإحكام، فالطاعة المُطلَقة للزعيم وأقرب مُساعديه مطلوبة. يَقبَل الأشخاص الذين ينضمون الى (كريشنا)، على سبيل المثال، الانفصال التام عن عائلاتهم وظروف حياتهم السابقة، ويُسلّمون جزءاً كبيراً من مُمتلكاتهم ودخلهم الى الطائفة(50).
يسعى كُلٌّ من بيلا وغلوك وزميليهما الانجليزي ويلسون الى طرح توصيفٍ اجتماعيٍ عام للحركات الدينية غير التقليدية وتقييم آفاقها. إن العديد من أحكامهم تستحق الاهتمام بالتأكيد. انهم يُشيرون بحق الى أن هذه الحركات هي أحد مظاهر الأزمة الاجتماعية للمُجتمع الصناعي الحديث (الرأسمالي)، نتيجةً لخيبة الشباب في الولايات المتحدة والدول الأُخرى من نظام القِيَم الدينية التقليدي. ولهذا السبب بالتحديد يعزون التأثير الكبير للأنظمة الدينية الآسيوية على هذه الحركات.
وفيما يتعلق بتقييم الدور الاجتماعي لهذه الحركات والطوائف وآفاق تطورها، هُناك اختلافات كبيرة بين بيلا وويلسون. يميل بيلا الى الاعتقاد بأن الحركات والطوائف غير التقليدية يُمكن أن تخدم قضية تجديد روح المُجتمع الأمريكي ويُمكنها أن تُقدّم مساهمةً هامة في تشكيل الأخلاق الدينية الجديدة التي ستكون، برأيه، أساساً لولادةٍ جديدةٍ للمُجتمع الأمريكي(51).
ويلسون، مُتشككٌ للغاية فيما يتعلق بمُستقبل الحركات الدينية الجديدة. وهو يرى أن مثل هذه الطوائف، التي تضع نفسها في مُواجهة الثقافة الرسمية، لن تكون قادرةً على أن تُصبح قوةً قادرةً على توحيد المُجتمع البرجوازي على أساسٍ دينيٍّ جديد. هذه، برأيه، حركات لامُنتمين اجتماعياً وليست أجنّةً لدياناتٍ جماهيرية جديدة، ولا يُمكنها أن تكون قُوةً تقف ضد العَلمَنة، والتي يصفها ويلسون، أنها الأكثر أهميةً بين التغيرات الحالية في مجال الدين(52).
وبطبيعة الحال، لا يُمكننا أن نتفق مع أحلام بيلا الطوباوية فيما يتعلق بتجديد روح المُجتمع الأمريكي من خلال الدين ودور الأديان غير التقليدية. ولكن، ولا يُمكننا أيضاً أن نتفق مع آراء ويلسون بشكلٍ كامل، الذي، برأينا، يُقلل من إمكانات إعادة انتاج الدين بأشكالٍ مُتنوعة للغاية (بما في ذلك بأشكال غير تقليدية) في ظروف الرأسمالية المُعاصرة. على الرغم من أن الماركسيين يرغبون في تلاشي الدين بأسرع وقتٍ مُمكن، الا أنهم يُعارضون أي أوهامٍ طوباوية مؤادها أن الدين سيتلاشى بسرعة في المُجتمع البرجوازي المُعاصر. وطالما ظلَّت الرأسمالية موجودة، فإن الدين سوف يُوجد وسيُعاد انتاجه، لأن فُرَصَهُ المُتاحة للتكيّف والتطور، لا تزال بعيدةً عن أن تُستَنفَد.

6- الدراسات التجريبية للتديّن
أُجرِيَت على نطاقٍ واسعٍ في الولايات المتحدة وانجلترا دراسات تجريبية حول الدين منذ الخمسينيات. بدأت المُناقشات النظرية في منهجية وتقنيات البحث التجريبي حول التديّن في تلك البُلدان في وقتٍ لاحقٍ، بدءاً من مُنتصف الستينيات. لقد كانت الولايات المتحدة مركزاً لتطوراتٍ نظرية متنوعة، وبحلول هذا الوقت كان هناك تراكم كبير في خبرة الدراسات التجريبية للدين. لا تزال المُناقشات حول المسائل المُتعلقة بتقنيات واجراءات دراسة التديّن مُستمرةً في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا، ولا سيما على صفحات مجلة (الدراسة العلمية للدين) الصادرة في شيكاغو. إنها صحيفة تابعة للجمعية الأمريكية العلمية للدين، التي تتكون عضويتها من سوسيولوجيين وسيكولوجيين يدرسون الدين من خلال التقنيات التجريبية.
يُمكن العثور على دراسات استقصائية للمسائل المنهجية والتقنية للدراسات السوسيولوجية للدين، في الأبحاث التي خطّها رونالد جونستون Ronad Johnstone وويليام ويلسون William Julius Wilson التي نُشِرَت في الولايات المتحدة في السبعينيات(53). اعتمدنا على هذه الأعمال في استعراضنا لهذه المسائل.
في الولايات المتحدة، يرتبط تطور دراسة التديّن دراسةً تجريبية باسم تشارلز غلوك Charles Glock، الذي يَشغَل حالياً منصب رئيس مركز دراسة الدين والمُجتمع في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهو مرجع معروف فيما يخص مسائل الدراسة التجريبية للمُعتقَد الديني. ظَهَرَ أول عمَل لغلوك حول هذه المسألة عام 1959، وحدَّدَ أربعة أبعاد للمُعتقَد الديني، والتي أسماها "التجربة، الطقوسية، الآيديولوجية، والتَبعية"(54). قام يوشوهيرو فرانسيس فوكوياما Yoshihiro Francis Fukuyama بالاستناد الى برنامج غلوك بإجراء دراسةً عام 1961 حول الأبرشانية Congregationalism الأمريكية ، وهي إحدى المُعتقدات المُشتقة من البروتستانتية. واتخذَ مُنطلَقاً له الفكرة القائلة أن التديّن يشمل النشاط التنظيمي ومعرفة العقيدة والايمان بالأساطير، وكذلك "درجة التقوى" التي يُظهرها المُصلّين خارج الكنيسة. يستند كتاب جيرهارد لينسكي Gerhard Lenski الشهير (العامل الديني)(55)على تعميم نتائج دراسة التديّن بين سُكّان ديترويت، ووضعَ في كتابه أربعة أبعاد للتديّن: 1- تكرار الحضور الى الكنيسة، 2- درجة تأثير التديّن على العلاقات العائلية والشخصية (اختيار الزوج والأصدقاء الخ)، 3- درجة ارثذوكسية الايمان، 4- درجة التقوى، أي مدى تكرارية الصلاة الفردية.
قدّمَ غلوك وستارك المُعالجة الأكثر تفصيلاً لمسألة التديّن في كتاباتهما في منتصف الستينيات(56)، حيث حددا خمسة أبعاد رئيسية للتديّن: التجربة الدينية، المُعتقد الديني، العبادة، درجة معرفة الدين، وعواقب التديّن في المجالات غير الدينية. يفهم غلوك "التجربة الدينية" بأنها الأشكال المُختلفة للنشوة والتصوف الدينيين التي يشعر بها الفرد بحضور الإله وتواصله معه. إن التأكيد على هذا البُعد باعتباره بُعداً مُستقلاً يُثير شكاً قوياً عندنا. أولاً، ليس كل المُتدينين يختبرون حالات صوفية ودينية، فهذا ينطبق على أقلية لا تُذكَر. ثانياً، "التجربة الدينية" كما يفهمها السوسيولوجيين الأمريكان هي أساساً أحدى تمظهرات العقيدة الدينية، ولا يُوجد أي أساس لفصل "التجربة" عن المُعتَقَد، بوصف الأُولى عائدةً للفرد، والثانية شيءٌ مُكتسبٌ اجتماعياً. إن الشعور بالنشوة والتصوف الدينيين، هما في التحليل النهائي، اجتماعية تماماً مثل التمظهرات الأُخرى للمُعتَقَد.
وفقاً لغلوك وستارك، فإن الاجابة على السؤال المُتعلق بماهية العقيدة التي يؤمن بها الفرد، والذي شَمِلَه الاستطلاع، يرجع الى المؤشر الذي يُقدمه لنا قياس المُعتَقَد. واحدى المؤشرات التجريبية عليه، يُحدد غلوك وستارك عدداً من العقائد الدينية النموذجية من التقليد المسيحي-اليهودي (أنا اؤمن بإله شخصي"، يسوع ليس فانياً، أنا أؤمن بالمُعجزات، "أنا أعتقد أن الايمان بيسوع هو شرطٌ ضروريٌ لخلاصي"، "الكتاب المُقدس يحتوي على الحقيقة الإلهية" وما الى ذلك). وبهذا الصدد، يُلاحظ ويلسون بحق، أن هذه المؤشرات لا تنطبقُ على عددٍ من الحالات خاصةً عندما يكون المؤمن بوذياً أو هندوسياً، أو من أتباع الطوائف الجديدة غير التقليدية(57).
الطُقوس، هي البُعد الثالث للتدين، حسب غلوك وستارك. وهي تَشمَل العديد من أشكال العبادة (حضور الخدمة الكُنسية، المُشاركة في الاعتراف والأفخارستيا Eucharist، والصلاة الفردية خارج الكنيسة). إن إدراج المؤلفين لعديد من أشكال السلوك الديني لهذا البُعد الطُقوسي، مثل فراءة الكتاب المُقدس وحتى الدعم المالي للمُنظمات الدينية، هو أمرٌ قابلٌ للنقاش. ففي ضوء إدراج هذه المعايير، فقد كان ينبغي تسمية هذا البُعد بـ"السلوكي" وليس الطُقوسي.
البُعد الرابع، هو قياس "المعرفة الدينية". يعتقد غلوك وستارك بحق أن معرفة العقائد والأساطير الدينية، لا يتطابق على الاطلاق مع الايمان بها. هُناك أُناسٌ على درايةٍ جيدة بأُمور اللاهوت وهم ليسوا مؤمنين بها، والعكس صحيح، فهُناك الكثيرون ممن يؤمنون بعُمق ولا يعرفون شيئاً في الكتاب المُقدّس.
وأخيراً، البُعد الأخير عند غلوك وستارك هو قياس "عواقب المُعتقد الديني" في مُختلف مجالات السلوك الاجتماعي والاقتصادية والسياسية والأُسرية والحياة اليومية، وما الى ذلك. ومن وجهة نظرنا، يُعد هذا مؤشراً في غاية الأهمية. التديّن هو الدرجة التي يُحفّز بها المُعتقد الديني السلوك الاجتماعي لهذا الفرد أو ذاك. ومع ذلك، واجهَ السوسيولوجيين الأمريكيين صعوباتٍ كبيرة في ايجاد الطرائق لمُعالجة هذا البُعد، ومن ثم تخلّوا عنه عام 1968. ولكن، يميل المرء الى الاعتقاد بأن الصعوبات التي تُواجه دراسة هذا البُعد، وهي صعوبات كبيرة، لا ينبغي أن تؤدي الى التخلي عنه. ومن الهام للغاية، البحث عن طُرُق لقياس درجة الدافع الديني في السلوك الفردي. وهُنا يُمكن للمرء أن يجد مُفتاح الحل العلمي لعدد من مسائل الدراسة الاجتماعية للتديّن.
أثارت مسألة العلاقة بين الأبعاد التي حددها غلوك وستارك نقاشاً فاعلاً لا يزال قائماً. أعرَب مؤلفا هذا النموذج عن رأي يقول أن البيانات التي تم الحصول عليها عن طريق هذه الأبعاد، مُستقلة عن بعضها البعض. أصبحَت العلاقة بين هذه الأبعاد، وخاصةً المعايير التجريبية لكُلٍّ منها، مواضيع دراسةٍ خاصة عند السوسيولوجيين الأمريكيين، الذين استخدموا تقنيات تحليل العوامل لتحقيق هذه الغاية. وهُنا، أُجرِيَت دراساتٌ مُماثلة من قِبَل السوسيولوجيَّيْن م. كينغ و ب. هَنْتْ. عند تحديدهما الارتباطات بين المعايير التجريبية المُختلفة للمُعتقَد الديني، وجَدَ كينغ وهَنْت ستة أبعاد مُستقلة للتديّن: الايمان، التقوى، المُشاركة في نشاط الجماعة الدينية، المعرفة الدينية و"التوجهات الدينية" (التي تنطوي إما على استخدام الدين للوصول الى أغراض دُنيوية أو فِهم الدين باعتباره هدفاً أسمى للحياة)، وأخيراً، "أهمية الدين في حياة الفرد" (طبيعة هذا البُعد غير واضحة تماماً)(59).وخلافاً لهما، توصّلَ السوسيولوجي أ. نودلمان A.E. Nudelman، الذي استَخدَم أيضاً تقنيات تحليل العوامل وربط المؤشرات التجريبية المُستعارة من غلوك وستارك، الى استنتاج أن مؤشرات التديّن يُمكن اختصارها في مجموعتين رئيسيتين (عوامل). أحدها، يُسميه نودلمان "الاخلاص"، يتضمن معاييراً مثل الصلاة الفردية والايمان والتجربة الدينية. وهُناك مجموعة أُخرى يُسميها "المُشاركة" تتضمن قياس درجة العبادة والمعرفة الدينية والمُشاركة في أنشطة الأبرشية(60).
ومن المُثير للاهتمام أن نُلاحظ أن الفرق بين هذين الشكلين من التديّن (الشكل الذي يُهيمن فيه "الاخلاص" والآخر الذي تسود فيه الأشكال الخارجية للنشاط الديني) قد حدده السوسيولوجيين الأمريكيين بدراسة مُختلف مظاهر التديّن عند مُختَلَف الشرائح والطبقات الاجتماعية للمُجتمع الأمريكي. وهكذا، خَلُصَ فوكوياما الى أن "الطبقة العُليا" تتميّز بمستوىً مُرتفعٍ من العبادة عند أعضاءها (53% من أعضاءها)، وهُناك مؤشر مُنخفض للتجربة الدينية عند نفس هذه الطبقة، وهو 16%. وفي الطبقة "الدُنيا"، النسبة مُعاكسة: مؤشرات عبادة أقل نسبياً، وفي الوقت نفسه، مؤشرات "إخلاص" أكبر(61). وهذا يميل الى دعم الاستنتاج القائل بأن مجموعة المؤشرات التجريبية التي أظهرها نودلمان رياضياً موجودة فعلاً.
في الختام، دعونا ننظر في بعض نتئج الدراسات السوسيولوجية للتديّن في الولايات المتحدة، والتي قد تحظى باهتمامٍ عام لدى القارئ السوفييتي. يجمع كتاب بعنوان (الدين في المنظور الاجتماعي)(62) عدداً من المقالات التي تُحلل الدراسات التجريبية للتديّن، أُجرِيَت أوخر الستينيات وبداية السبعينيات تحت اشراف مركز غلوك لدراسة الدين والمُجتمع في جامعة كاليفورنيا.
خُصِّصَت احدى المقالات لدراسة مسألة العلاقة بين العُمر والمُعتقد الديني. يقول مؤلف المقال، ستارك، ما يُعتَبَر من وجهة نظرنا صحيحاً، أن تديّن كبار السن في الولايات المتحدة عائد ليس الى الخصائص السيكولوجية لتلك الفئة العُمرية، بل بسبب ظروف التنشئة الاجتماعية الدينية التي كانت سائدةً في أمريكا قبل الحرب(63).
يُعتَبَر المقال الذي كَتَبه هـ.ماركس والذي يُحلل تأثير المُعتقدات الدينية على النشاط الاجتماعي للسكان السود ذو أهمية استثنائية. ويَخلُص المؤلف، نتيجةً لدراسته، الى وُجود علاقة عكسية بين التديّن بين الزُنوج ومُشاركتهم في النضال من أجل الحقوق المدنية: كلما زادَ تدينهم، انخفضَت مُشاركتهم في الحركة، والعكس صحيح. ومن بين الأشخاص الذين شَمِلَهم الاستطلاع والذين اعتبروا الدين ذو "أهمية كبيرة"، فإن 29% منهم فقط، يؤيدون حركة الحقوق المدنية، في حين كانت النسبة 62% من بين اولئك الذين رأوا أن الدين ليس هاماً(64). تُظهِر البيانات السوسيولوجية التي جَمَعها هـ. ماركس أيضاً أن النشاط الاجتماعي النضالي هو أقل بشكل حاد بين أعضاء الطوائف الاخروية، والتي تتميّز بالتدين الشديد. أجابَ أحد الأعضاء السود في إحدى هذه الطوائف، عندما سُئِلَ عما اذا كان ينبغي على المرء أن يُشارك في النضال من أجل الحقوق المدنية، قائلاً: "يجب على الناس أن يُصلّوا أكثر، لا أن يخرجوا الى التظاهرات!"(65).
توصّلَ ماركس الى نتيجة مُبرّرَة تماماً، مفادها، أن "التوجه الديني نحو عالَم الآخرة" يمنع النضال الاجتماعي عند الزنوج.
دعونا نُلاحظ، أن هذا الاستنتاج لا ينطبق على الزُنوج وحدهم. أجرى السوسيولوجي الأمريكي ايكهارد دراسةً مُشابهةً بين الطلاب الأمريكيين في نهاية الستينيات، وبوضعه قائمة لمجموعات من الطلاب حسب موقفهم تجاه الدين، وَجَدَ ايكهارد أن نسبة الطُلّاب المُشاركين بنشاطٍ في حركة الحقوق المدنية ارتفَعَت من 16% عند المُتدينين جداً، الى 67% عند الطلاب غير المُتدينين على الإطلاق"(66).
هُناك مسألة مُثيرة جداً للاهتمام درسها ت. هيرشي وستارك في مقالة (نار الجحيم وخَرّق القانون)(67). نحن نَعلَم مدى انتشار الرأي القائل بأن المُعتقد الديني يُقوّي النسيج الأخلاقي للفرد ويمنَع الجريمة. هُناك دراسة أجراها المؤلفان لطلاب كاليفورنيا عام 1964 تدحض بشكلٍ مُقنعٍ هذا الرأي الخاطئ. أتاحَت لهما البيانات التجريبية التي جمعاها وحللاها بالتوصل الى الاستنتاج التالي: "إن الطلاب الذين يؤمنون بوجود الشيطان والحياة بعد القَبر مُنخرطون في خَرق القانون تماماً كما هو الحال بالنسبة للطلاب الذين لا يؤمنون بعالَمٍ خارقٍ للطبيعة"(68). كما أن النشاط الديني (تكرار حضور الكنيسة) لا يؤثر على السلوك الاجتماعي والأخلاقي للطلاب(69).
وكما نَرى، فإن العديد من الدراسات التجريبية حول التديّن التي أُجرِيَت في الولايات المتحدة، تُوفّر مادةً مُثيرةً للاهتمام تكشفُ عن الدور الاجتماعي والسياسي الحقيقي للدين.

* ديميتري موديستوفيتش اوغرينوفيتش 1923-1990 فيلسوف ماركسي سوفييتي، مُتخصص في سوسيولوجيا وسيكولوجيا الدين. تخرّجَ اوغرينوفيتش من كُلية الفلسفة التابعة لجامعة موسكو عام 1950، ودافَعَ عام 1953 عن اطروحته لدرجة مُرشح الدكتوراة بعنوان (خصائص تشكّل القاعدة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي). صارَ منذ عام 1963 رئيساً لقسم المادية التاريخية في الكُليات الانسانية في جامعة موسكو الحكومية. دافَعَ عام 1965 عن اطروحته لدرجة الدكتوراة بعنوان (خصائص الدين ومكانته في وعي الناس)، ومنذ عام 1970 وحتى نهاية حياته كان بروفسوراً في قسم التاريخ ونظرية الالحاد العلمي في كلية الفلسفة التابعة لجامعة موسكو. كان اوغرينوفيتش مُهتماً بسوسيولجيا الدين وجذوره وظروف التفاعل بين الدين والفن، وأولى اهتماماً كبيراً للتطور النظري للمسائل العملية الدينية، وساهَمَ مُساهمةً كبيرةً في تطوير البحث الأكاديمي العلمي في الاتحاد السوفييتي. كَتَبَ مع السوسيولوجيين الألمان (ألمانيا الديمقراطية) دراسةً بعنوان (القضايا المُعاصرة للانسان) 1983.

1- R. K. Merton, On Theoretical Sociology, New York, 1967, pp. 91-100
2- For fuller detail see D. M. Ugrinovich, "Marksizm, strukturalizm, funktsionalizm," Metodologicheskie voprosy obshchestvennykh nauk, Moscow, 1971, pp. 5-25
3- T. O Dea,The Sociology of Religion ,NewJersey, 1966 , p113
4- J. M. Yinger, The Scientific Study of Religion, New York, 1970, p. 7
5- Ibid., p. 33
6- Ibid., p. 531
7- L. Schneider, Sociological Approach to Religion, New York, 1970, p. 47
8- T. O Dea, The Sociology of Religion, p. 117
9- See K. Marx and F. Engels, Soch., vol. 23, p. 89
10- إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل، كارل ماركس، ترجمة هيثم منّاع، دار الجمَل، ص3
11- A. Schutz, "Phenomenology and the Social Sciences," in Phenomenology and Sociology, New York, 1978, pp. 119-41
12- P. Berger and T. Luckmann, The Social Construction of Reality, New York, 1966
13- T. Luckmann, The Invisible Religion, New York, 1967
14- P. Berger, The Social Reality of Religion, London, 1969, pp. 177-78
15- T. Luckmann, The Invisible Religion, pp. 36-37
16- Herberg, Protestant - Catholic - Jew, New York, 1955
17- P. Berger, The Social Reality of Religion, p. 108
18- P. Berger, The Sacred Canopy, New York, 1967
19- P. Berger, The Social Reality of Religion, p. 6
20- Ibid., p. 8
21- Ibid., p. 26
22- P. Berger, The Heretical Imperative, New York, 1979
23- Ibid., pp. 83-101
24- P. Berger, Facing Up to Modernity, New York, 1977
25- Ibid., pp. 148-61
26- Ibid., p. 156
27- R. Towler, Homo Religiosus: Sociological Problems in the Study of Religion, New York, 1974
28- Ibid., p. 73
29- For fuller detail on Durkheim s views, see E. V. Osipova, Sotsiologiia E. Diurkgeima, Moscow, 1977
30- M. Hill, The Sociology of Religion, London, 1973, pp. 100, 105
31- Ibid., p. 100
32- Ibid., pp. 104-108
33- See D. M. Ugrinovich, Vvedenie v teoreticheskoe religiovedenie, Moscow, 1973, pp. 72-76
34- J. Wilson, Religion in American Society: The Effective Presence, Englewood Cliffs, New Jersey, 1978, pp. 299-304
35- Ibid., p. 304
36- R. Bellah, Beyond Belief, New York, 1970, pp. 51-166. 37
37- See, for example, T. Parsons, "Christianity and Modern Industrial Society," in Sociological Theories, Values, and Sociocultural Change, New York, 1963
38- A. Greeley, Religion in the Year 2000, New York, 1969, pp. 80-103
39- Robert N. Bellah, "Sotsiologiia religii," Amerikanskaia sotsiologiia, Moscow, 1972, p. 273
40- Ibid., pp. 278-80
41- Ibid., p. 268
42- P. E. Glasner, The Sociology of Secularization, London, 1977
43- Western Religion: A Country-by-Country Sociological Inquiry, The Hague and Paris, 1972. For a summary of sociological data on this question in the Soviet literature, see Religiia i tserkov v sovremennuiu epokhu, Moscow, 1976, pp. 68-91
44- D. Martin, The Religious and the Secular, New York, 1969
45- D. Martin, A General Theory of Secularization, New York and London, 1978
46- The New Religious Consciousness, Berkeley and Los Angeles, 1976
47- B. Wilson, Contemporary Transformations of Religion, London, Oxford, and New York, 1976
48- The New Religious Consciousness, p. 53
49- B. Wilson, Contemporary Transformations of Religion, pp. 63-66
50- Ibid., pp. 71-78
51- The New Religious Consciousness, pp. 351-52
52- B. Wilson, Contemporary Transformations of Religion, pp. 99-116
53- R. Johnstone, Religion and Society in Interaction, New Jersey, 1975, pp. 39-58 J. Wilson, Religion in American Society, pp. 440-53
54- See Ch. Glock, "Sotsiologiia religii," Sotsiologiia segodnia. Problemy i perspektivy, Moscow, 1965, pp. 184-93
55- G. Lenski, The Religious Factor, New York, 1963
56- C. Glock and R. Stark, Christian Beliefs and Anti- Semitism, New York, 1966 R. Stark and c. Glock, American Piety: The Nature of Religious Commitment, Berkeley, 1968.
57- J. Wilson, Religion in American Society, p. 444
58- R. Stark and C. Glock, American Piety: The Nature of Religious Commitment, Berkeley, 1968
59- M. King and P. Hung, Measuring Religious Dimensions: Studies in Congregational Involvement, Dallas, 1972
60- J. Wilson, Religion in American Society, p. 451
61- N. J. Demerath, Social Class in American Protestantism, Chicago, 1965, p. 22
62- Religion in Sociological Perspective, Belmont, California, 1973
63- Ibid., pp. 48-49
64- Ibid., p. 67
65- Ibid., p. 70
66- R. Johnstone, Religion and Society in Interaction, p. 66
67- Religion in Sociological Perspective, pp. 75-87
68- Ibid., p. 83
69- Ibid

ترجمة لمقالة:
D. M. Ugrinovich (1982) Contemporary Anglo-American Sociology of Religion (Basic Trends and Problems), Soviet Sociology, 21:1, 66-98








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنصار ترمب يشبهونه بنيسلون مانديلا أشهر سجين سياسي بالعالم


.. التوافق بين الإسلام السياسي واليسار.. لماذا وكيف؟ | #غرفة_ال




.. عصر النهضة الانجليزية:العلم والدين والعلمانية ويوتوبيا الوعي


.. ما الذي يجمع بين المرشد الإيراني وتنظيم القاعدة واليسار العا




.. شاهد: اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين يطالبون باستقالة رئيس وز