الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الامبريالي الغربي

جورج حداد

2024 / 5 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*


تمتلك روسيا اليوم قيادة وطنية صادقة، منفتحة، حكيمة، صلبة شجاعة ومقدامة، منتخبة دمقراطيا من قبل الشعب الروسي الباسل، المصهور تاريخيا في النضال المرير ضد العنصرية والاستعمار والامبريالية.
وفي المواجهة الشاملة، والمصيرية لجميع شعوب العالم، التي تخوضها اليوم ضد الكتلة الامبريالية الغربية، بقيادة الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية، ترتكز القيادة الوطنية الروسية الى نظام اقتصادي ــ اجتماعي، هو نظام "رأسمالية الدولة"، الذي تنبني عليه كل الجيوستراتيجيا العسكرية والجيوبوليتيكا السياسية والجيوايكونوميكا الاقتصادية، الوطنية والعالمية، لروسيا.

وجميع التطورات والمساريات والاحداث الكبرى، في العالم المعاصر، اصبحت ترتبط عضويا، مباشرة او غير مباشرة، بالجيوبوليتيكا العالمية لروسيا، ذات نظام "رأسمالية الدولة"، القريب جدا وشبه المتطابق اقتصاديا مع النظام "الرأسمالي الاحتكاري للدولة" حسب التعريف اللينيني. وهو ما ينبغي التوقف عنده ودراسته من قبل جميع الباحثبن العالميين الصادقين والقادة الوطنيين المخلصين والواعين، ايا كانت ايديولوجياتهم السياسية والفكرية والدينية.
000
وفي كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية"، الصادر في 1916، يقول فلاديمير لينين (زعيم الثورة الاشتراكية الروسية العظمى) ان "الرأسمالية الاحتكارية للدولة" هي "الغرفة المجاورة للاشتراكية"، من حيث جعل الارض ووسائل الانتاج وعملية الانتاج والتوزيع، "ملكا عاما"، اي ملكا للدولة، بصورة مباشرة، مؤسساتيا وحقوقيا، وبصورة غير مباشرة ملكا للمجتمع الذي "تمثله" وتسود فيه تلك الدولة.
000
ولكن من المهم الملاحظة والتأكيد ان ظاهرة "رأسمالية الدولة" في روسيا، لم تتشكل بفعل قوانين تطور النظام الرأسمالي ذاته، حسب التحليل اللينيني، بل تشكلت تاريخيا انطلاقا من "الصدمة النوعية" التي مثلتها ثورة اوكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917، والتي كانت تجسيدا للصراع بين الطبقات المالكة الاستغلالية، من جهة، والطبقات العاملة والشعبية (العمال والفلاحون والمثقفون، والشعوب المستعمرة)، من جهة ثانية، في اطار الدولة الروسية القيصرية القديمة.
والثورة الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917 لم تكن مجرد انقلاب فوقي في السلطة السياسية والدولة، بل عملية "تحول نوعي" او "قفزة نوعية" تاريخية، في مجمل البنية او التركيبة المجتمعية (الطبقية ــ الاقتصادية ـــ الانتاجية ــ السياسية ــ العسكرية ــ الاجتماعية ــ الثقافية ــ التعليمية الخ)، من جذورها الى كل فروعها، ومن ادناها الى اعلاها.
والخلاصة العامة لهذا "الانقلاب النوعي" او "التحول النوعي" والجذري الذي تم في الثورة الاشتراكية الروسية في 25 اكتوبر (بالتقويم الروزنامي القديم، الموافق 7 نوفمبر 1917، بالتقويم الروزنامي الجديد)، انه نزع السلطة في الدولة من ايدي الطبقات البورجوازية والاقطاعية، المالكة لوسائل الانتاج، وسلمها لحزب الطبقة العاملة والفلاحين والمنتجين المباشرين، وانه ارسى الاسس لتحويل ملكية الارض ووسائل الانتاج وقنوات التبادل والتوزيع والاستهلاك، اي: الصناعة (المنجمية والطاقوية والانتاجية والاستهلاكية والتسليحية) والزراعة والخدمات العامة والقطاعات العامة المجتمعية كالصحة والتعليم والفنون والاعلام والمؤسسات البحثية والنظام المالي والبنكي وشبكات التجارة الخارجية والداخلية الكبيرة والصغيرة الخ، ــ تم تحويلها من الملكية الخاصة، التنافسية منها (الصغيرة والمتوسطة والكبيرة)، والاحتكارية الكبرى، الى الملكية العامة للدولة المركزية ومتفرعاتها والهيئات المجتمعية ذات الصلة، بقيادة الطبقة العاملة. اي انه تم الانتقال الى "رأسمالية الدولة" لا بقيادة الرأسماليين الكبار الاحتكاريين، بل بقيادة البروليتاريا، ذات التوجه الاشتراكي. وهو ما سمي "النظام السوفياتي" اي "المجالسي" (مجالس العمال والفلاحين والجنود) (كلمة "سوفيات" وتلفظ "صافييت" في الروسية تعني: مجلس).
ولكن هذا النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي الجديد (الذي هو اشبه بمرحلة انتقالية بين النظام الرأسمالي الكلاسيكي وبين النظام الاشتراكي الذي لم يولد بعد)، والذي ارست اسسه الاولىى الثورة الروسية تعرض لانتكاسات وتطورات تراجيدية، بدأت باغتيال زعيم الثورة ذاته: فلاديمير لينين، وذهب ضحيتها ملايين المناضلين الشيوعيين والعمال والفلاحين والانتليغينتسيا الشرفاء، على ايدي الطابور الخامس الموالي للغرب الامبريالي واليهودية العالمية، المندس في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي ذاته. وقاد هذا الطابور الخامس، لعشرات السنين، خائن الشيوعة الاكبر يوسف جوغاشفيلي (ستالين) بالاشتراك مع العناصر اليهودية المرتبطين واياه سرا مع اليهودية العالمية.
ولكن بالرغم من كل "الديماغوجية التضليلية الاوروبية" و"الاستبدادية الوحشية الاسيوية" للردة الستالينية المعادية للشيوعية، والمزيفة للفكر الاشتراكي العلمي، ومن ضمن النظام السوفياتي ذاته، فإن الردة لم تستطع تغيير الاسس الجذرية لنظام "رأسمالية الدولة"، التي ارستها الثورة الاشتراكية في اكتوبر 1917.
وكل ما امكن للردة الستالينية فعله هو اجراء انقلاب في القشرة السطحية او الشريحة الفوقية لقيادات الاجهزة الحزبية والدولوية والمجتمعية، واستيلاد البيروقراطية السوفياتية المنحرفة (الحزبية والدولوية). وكانت تلك الشريحة تتألف من فئتين، اطلقت عليهما جماهير الشعب تسميتين هما:
1ــ الـ"نومينكلاتورا" (لائحة المحاسيب او الطغمة العليا). وأطلقت هذه التسمية على الشريحة العليا للبيروقراطية الستالينية، اي القيادات العليا للحزب والدولة والاقتصاد ومختلف المؤسسات والادارات. وكان تعداد هذه الشريحة يبلغ عدة الوف، وقد شكلت فئة اجتماعة وشبه طبقة متميزة، لها امتيازاتها العليا ومستوى معيشة بورجوازي رفيع وعادات وتقاليد وعلاقات خاصة بها. وكانت الدولة تضع في تصرف شخصيات "النومينكلاتورا" وعائلاتهم افخم المنازل والفيلات، والفنادق والمسابح والمصحات والنوادي "الراقية"، الخاصة بهم في اغلب الحالات، وكانوا يحظون بافضل العناية الصحية، ويتم تنسيب اولادهم الى الفروع العلمية الاولى، وتخصص لهم افضل السيارات الفخمة، ويسافرون بالباصات والقطارات والطائرات دائما بالدرحة "الفيب" او الاولى، وغير ذلك من الامتيازات. وكان افراد هذه الفئة يسرقون ويختلسون من المؤسسات العامة للدولة، ومن المؤسسات التي يعملون فيها، بقدر ما يستطيعون السرقة، ويكدسون سريا رساميل خاصة بهم في داخل روسيا او خارجها. ولكن ايا منهم لم يكن يستطيع ان يتملك ظاهريا ورسميا اي وسيلة انتاج او عقارات او اي استملاكات خاصة اخرى ظاهرة وباهظة الثمن، مما يجعله "مكشوفا" وتحت طائلة القانون ذاته الذي كانت البيرقراطية الستالينية تدعي الوصاية عليه وتطبيقه.
2 ــ الـ"اباراتشيكي" (الاجهزتيين او رجال الاجهزة): وقد اطلقت هذه التسمية على الشريحة الوسطى والدنيا من البيروقراطية الستالينية، اي العناصر المتقدمة في "الصف الثاني" وما دون للبيروقراطية، في الادارات واجهزة الدولة العسكرية والامنية وهيئات الحزب الحاكم، وكان تعدادهم يبلغ عدة مئات الالوف او عدة ملايين. وبحكم وضعهم الوظيفي وصلاحياتهم كان هؤلاء يتمتعون بحد ادنى، اقل او اكثر، من الامتيازات المتوسطة والدنيا ومن الاستقرار المعيشي والرفاهية.
وكانت فئة "النومينكلاتورا" تمتلك سلطة القيادة والقرار، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا الخ. اما "الاباراتشيكي" فكانوا يمثلون "القبضة الحديدية" للقيادة، والاداة التنفيذية لقراراتها.
ولكن في الوقت ذاته الذي كانت فيه الدكتاتورية الستالينية، مع شركائها السريين اليهود، تحرّف الاشتراكية العلمية وتشوه النظام السوفياتي، فإنها كانت مضطرة لتوطيد وتقوية الدور المركزي لاجهزة الدولة السوفياتية، بما في ذلك بل وخصوصا ملكية الدولة لوسائل الانتاج ومركزية الاقتصاد الوطني، كطريق الزامي ووحيد من اجل توطيد دور الشريحة العليا للبيروقراطية، وهو الطريق الوحيد الذي بواسطته فقط كان بامكان الستالينية ان تسيطر على المجتمع السوفياتي.
وقد تأسست فئة "النومينكلاتورا" على الخيانة الوطنية الضمنية لروسيا والشعب الروسي، بوصفها تمثل تجسيدا واستمرارا للخيانة الوطنية المستورة من قبل ستالين والزمرة الستالينية الضيقة المحيطة به، التي كانت في تحالف سري وثيق مع اليهودية العالمية، جنبا الى جنب هتلر والزمرة القيادية الهتلرية في المانيا.
وفي اواخر المرحلة "السوفياتية" تمخضت فئة "النومينكلاتورا" الخائنة عن الزمرة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية، التي خانت النظام السوفياتي الستاليني المنحرف ذاته الذي قامت على كاهله. وتحت شعارات الـ"بيريستريكا" (اعادة البناء) والـ"غلاسنوست" ("الإشهارية" او "الإعلانية" او "الشفافية") و"الأوْربة" و"الدمقرطة الغربية" وتطبيق "الاقتصاد الحر"، قامت فئة "النومينكلاتورا" بالانقلاب المفضوح "المعادي للسوفيات"، واتجهت للتحالف المكشوف مع الغرب الامبريالي والطغمة المالية العليا لليهودية العالمية، وداست على النظام السوفياتي المنحرف ذاته الذي وُجدت بفضله، وباعت الاستقلال الوطني للدولة الروسية، وشرّعت الابواب للنهب الوحشي للقطاع العام (الاقتصاد الوطني الروسي) بمجمله، ولخصخصته بأبخس الاسعار لصالح الرأسمال الامبريالي واليهودي الروسي والعالمي، بالاشتراك مع عناصر (شخصيات) تلك الفئة التي اصبح بامكان رجالها استخدام الرساميل الخاصة بكل منهم التي كانوا يحتفظون بها سريا منذ العهد السوفياتي. وبين ليلة وضحاها تحول رجال تلك الفئة الخائنة لروسيا الى شريحة طبقة رأسمالية عليا تملك مئات مليارات الدولارات (ما سمي: الاوليغارخيا).
ولكن بالرغم من النجاحات الاولية التي حققها ذلك الانقلاب الخياني و"المعادي للسوفيات"، فإنه فشل فشلا ذريعا في ان يعيد التاريخ الروسي الى ما قبل الثورة الاشتراكية في 1917، ويعيد الى روسيا النظام الرأسمالي التقليدي، بطبعة جديدة "اورو ــ اميركية".
فبالرغم من كل تطبيقات الخصخصة وما سمي "العلاج بالصدمة" و"اقتصاد السوق" وربط الاقتصاد الروسي بعجلة الاقتصاد العالمي القائم على هيمنة الامبريالية الاميركية والغربية واليهودية العالمية، فان الزمرة الخائنة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية لم تستطع هي الاخرى اجراء اي تغيير جذري في اسس نظام "رأسمالية الدولة" ذي التوجه الاجتماعي (بخلفيته الاشتراكية) في روسيا.
فحملة الخصخصة الرأسمالية ــ اليهودية، بالغطاء السياسي و"الفكري" للغورباتشوفية ــ اليلتسينية، لم تفشل فقط في تحقيق اي تقدم رأسمالي لروسيا، بل على العكس من ذلك، كانت بمثابة كارثة على الاقتصاد الوطني والمجتمع الروسيين، وأدت إلى أزمة اقتصادية كبيرة تميزت بانخفاض بنسبة 50% لكل من الناتج المحلي الإجمالي والإنتاج الصناعي بين عاميّ 1990 و1995. وقد حولت الخصخصة العديد من الشركات من أجهزة الدولة والملكية العامة إلى الملكية الخاصة بأيدي كبار اللصوص وزعماء المافيات ورجال الاوليغارخيا، ولا سيما من اليهود. وأدت حالة الكساد إلى انهيار الخدمات الاجتماعية وانخفاض معدل المواليد وارتفاع معدل الوفيات بنسب كبيرة. وهوى عشرات ملايين الناس في براثن الفقر من معدل فقر بنسبة 1.5% في اواخر الحقبة السوفياتية السابقة، إلى ما بين 39 و49% بحلول منتصف عام 1993. ويقول الكثير من الخبراء انه في تلك الظروف بدأ عمليا تنفيذ خطة الفرنكشتاين البولوني الكاثوليكي سبيغنيو بريجينسكي لتخفيض عدد سكان روسيا "الاورثوذوكسية" الى 50 مليون نسمة فقط، من اجل القدرة على السيطرة عليها.
وبنتيجة ذلك فشل الانقلاب الغورباتشوفي ــ اليلتسيني "المعادي للسوفيات" في اقتلاع تمسك جماهير الشعب الروسي، من العمال والفلاحين والمراتب المتوسطة والدنيا للجنود وقوات الامن والانتليغينتسيا، بالركائز الرئيسية للاقتصاد الوطني الروسي، ولا سيما المجمّع الصناعي الحربي وقطاع الطاقة والصناعة المنجمية، والاتصالات والمواصلات العامة، والصحة والتعليم والابحاث العلمية والملكية الرئيسية للارض، والسيطرة الكاملة للدولة على القطاع المصرفي والمالي والبورصوي، واخيرا لا آخر الشبكات الرئيسية للتجارة الداخلية واحتكار الدولة التام للتجارة الخارجية.
واقصى ما استطاعت انجازه زمر الخيانة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية واسيادها الاورو ــ اميركيون واليهود الكوسموبوليتيون الروس والاجانب، هو اجراء تغيير فوقي في السلطة السياسية، وخصخصة قطاع محدود نسبيا من الاقتصاد الوطني الروسي العام. وذلك في ظروف مقاومة شديدة من قبل جماهير الشعب الروسي، بمن فيها فلول "الاباراتشيكي"، اي عناصر الشريحة الوسطى والدنيا للبيروقراطية السوفياتية السابقة ذاتها، الذين تخلت عنهم "النومينكلاتورا" التي اندمجت بالرأسمال الاجنبي واليهودي الروسي والعالمي.
وانعكست تلك المقاومة في اربعة احداث بارزة جرت في العقد الاخير من القرن الماضي بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي في 1991، وهي:
1 ــ محاولة الانقلاب الفاشلة ضد غورباتشوف في اب 1991، التي قام بها كبار ضباط الجيش والاجهزة الامنية ذوو الميول الوطنية الروسية والنزعة "السوفياتية" المحافظة.
2 ــ تصدع صفوف النومينكلاتورا ذاتها، تحت ضغط معارضة القواعد الشعبية، وخصوصا الانقسام بين زمرتي كل من غورباتشوف ويلتسين، وعزل غورباتشوف، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، واستفراد يلتسين بالسلطة في روسيا.
3 ــ النزاع بين يلتسين والبرلمان الروسي الذي اعتصم فيه معارضو يلتسين وعلى رأسهم نائب الرئيس حينذاك الكسندر روتسكوي ورئيس البرلمان رسلان حسباللاتوف (الشيشاني الاصل)، وقيام يلتسين في تشرين الاول 1993 (تحت شعارات "الدمقراطية الغربية") بإعطاء الامر بقصف البرلمان بالمدفعية، بتوجيه مباشر من جورج بوش الاب الذي كان يلتسين يأتمر بأوامره وعلى اتصال مباشر معه على مدار الساعة. وقد نشرت جميع وسائل الاعلام العالمية صور يلتسين وهو يعتلي مزهوا ظهر احدى الدبابات التي قصفت "البرلمان الروسي" باسم "الدمقراطية الغربية".
4 ــ ولكن اكبر مظهر من مظاهر مقاومة الانقلاب الغورباتشوفي ــ اليلتسيني "المعادي للسوفيات" والموالي للغرب الامبريالي، تمثل في إجبار بوريس يلتسين في الساعة الاخيرة من العام 1999 على التنازل عن السلطة وتسليمها لرجل المخابرات فلاديمير بوتين، بصفة رئيس بالوكالة، والذي انتخب كرئيس اصيل في الانتخابات الرئاسية في ايار 2000.
ومثّل وصول بوتين الى الرئاسة انقلابا حقيقيا جديدا في روسيا، التي اتبعت منذ ذلك الحين نهجا سياسيا، داخليا وخارجيا، معاديا للامبريالية الاميركية والغربية واليهودية العالمية. (ويرى بعض المؤمنين بالغيبيات انه ليس من الصدفة ان التحولات الكبرى الثلاثة في تاريخ روسيا قادها ثلاثة رجال يحملون اسم فلاديمير وهي: تحول روسيا سنة 988 الى المسيحية الاورثوذوكسية، ضد روما الكاثوليكية ــ العدو الغربي التاريخي لروسيا، وذلك بقيادة الامير فلاديمير الاول؛ ثم الثورة الاشتراكية العظمى بقيادة فلاديمير أوليانوف (لينين) سنة 1917، واخيرا "الانقلاب القومي الروسي" بقيادة فلاديمير بوتين في نهاية سنة 1999. واسم فلاديمير هو روسي خالص وهو مركب من دمج كلمتين تعنيان معا: "المسيطر على العالم" او "فاتح العالم" او ما اشبه والله اعلم! ــ ويرى كثير من المحللين ان فلاديمير بوتين، كقائد سياسي، هو مزيج من الفلاديميرات الثلاثة إذ هو: وطني روسي ــ مسيحي شرقي: اورثوذوكسي ــ اشتراكي علمي اجتماعيا!).
واذا كانت محاولة الانقلاب ضد غورباتشوف في 1991، ثم ضد يلتسين في 1993، قد حصلتا داخل "الصفوف العليا" للبيروقراطية، بمبادرة، وبالاستناد الى قسم "وطني روسي ــ محافظ" من فئة "النومينكلاتورا" (الشريحة العليا للبيروقراطية السوفياتية السابقة)، فإن "الانقلاب البوتيني" قام على كاهل فئة "الأبراتشيكي" (الشريحة الوسطى والدنيا لتلك البيروقراطية)، ويشمل ذلك بالاخص الجيش والقوى الامنية والمخابراتية. وهذه الشريحة الواسعة جدا و"القوية" بحكم امتلاكها السلاح، وجدت نفسها في مهب الريح في الظروف الصعبة التي تسببت بها لروسيا الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا.
ومن الامثلة الصادمة للظروف التي وجدت فيها نفسها هذه الشريحة البيروقراطية الوسطى والدنيا، بفعل الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا، انه بعد هدم جدار برلين في 1989، وإعادة قوات الجيش الاحمر الى روسيا، فإن عشرات الوف الضباط الروس كانوا يقطنون مع عائلاتهم لسنوات طويلة في المانيا وغيرها، ولم يعد لديهم مساكن خاصة لهم في بلدهم، مما أخّر سحبهم الى روسيا. وقد قامت الغورباتشوفية بالشحاذة عليهم من الدول الغربية للحصول على مساعدات مالية لنقل اولئك الضباط والعسكريين واعادة اسكانهم في وطنهم الام؛ بكل ما انطوت عليه هذه العملية من تحقير لوطنية الشعب الروسي العظيم وإذلال للجيش الاحمر الذي قدم ملايين الشهداء لتحرير الانسانية من الافعى النازية (الاوروبية الغربية) وسحقها في عقر دارها بالذات.
وفي حين ان هذه الشريحة من البيروقراطية السوفياتية السابقة، الوسطى والدنيا، كانت في السابق تلتصق بالشريحة البيروقراطية السوفياتية العليا، وتلعب الدور الاساسي في التسلط على جماهير الشعب الروسي وقمعه وتضليله واستغلاله، فإنها ــ في ظروف الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا ــ وجدت نفسها في مهب الريح، وتعرضت لـ"الشرشحة" والعوز معنويا وماديا، ولم تعد تجد من خيار امامها للخلاص من العار والنفاذ بريشها من الفقر والعوًز، سوى بالالتصاق بالجماهير الشعبية الروسية ورفع راية الوطنية الروسية، في مواجهة الشريحة البيروقراطية العليا واسيادها من الرأسماليين الامبرياليين الغربيين والطغمة اليهودية العليا العالمية. وهذا هو بالتحديد الاساس الطبقي ــ الوطني (القومي الروسي ــ الاورثوذوكسي) لما جرت تسميته مجازا "البوتينية".
000
ونلخص ما تقدم في ما يلي:
ان ظاهرة "رأسمالية الدولة" في روسيا، لم تتشكل بفعل قوانين تطور النظام الرأسمالي ذاته، بل تشكلت تاريخيا انطلاقا من "الصدمة النوعية" التي مثلتها ثورة اوكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917، والتي كانت تجسيدا للصراع الطبقي، بين الطبقات المالكة الاستغلالية، البورجوازية والاقطاعية، من جهة، والطبقات العاملة والشعبية (العمال والفلاحون والمثقفون، والشعوب المستعمرة)، من الجهة المضادة، في اطار الدولة القيصرية الروسية القديمة، التي كانت الحلقة الاضعف في سلسلة دول النظام الرأسمالي والامبريالي العالمي.
وبعد استيلاء جماهير العمال والفلاحين والجنود والانتلغينتسيا الثورية على السلطة، قامت "راسمالية الدولة" الروسية على تأميم الارض ووسائل الانتاج الصناعية والاستخراجية والبنوك، والاحتكار التام للتجارة الخارجية والقنوات الرئيسية للتجارة الداخلية وجميع شبكات المواصلات والاتصالات والبنية التحتية للخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم الخ.
وبالرغم من كل التشوهات التي فرضتها على النظام السوفياتي الجديد الدكتاتورية والخيانة الوطنية للستالينية والنيوستالينية، المنبثقتان من الشريحة البيروقراطية السوفياتية العليا (النومينكلاتورا)، فإنها لم تستطع القضاء على نظام "رأسمالية الدولة" في روسيا، الذي انبثق عن الثورة الاشتراكية، واستمر لما بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي.
000
يقول عالم الاجتماع العظيم كارل ماركس "ان العنف هو قاطرة التاريخ". ويعلمنا التاريخ ان اي تحول تاريخي كبير، في اي بلد، انما يتم في الاغلب بقوة السلاح؛ لان القوى الاستعمارية والطبقات المالكة السائدة لا تتخلى بشكل سلمي عن امتيازاتها وسلطتها.
ومسار الاحداث في روسيا منذ الانقلاب الغورباتشوفي الى اليوم يؤكد تماما المقولة ــ القانون لكارل ماركس، وهو ما يؤكده مسار الاحداث في روسيا:
ـــ فالتحول من "النظام البيروقراطي السوفياتي السابق" الموروث عن الستالينية، الى نظام الخيانة الوطنية لـ"اليلتسينية" قد خرج من فوهات مدافع الدبابات التي قصف بها يلتسين البرلمان الروسي كما اسلفنا، بأمر مباشر من سيده الاميركي جورج بوش الاب. وفي تلك الساعات العصيبة وقفت روسيا على حافة الحرب الاهلية. ولكن قادة الجناح "المحافظ"، المعارض ليلتسين، تصرفوا بوصفهم "ام الولد"، ومع انهم كانوا يملكون الاكثرية في البرلمان والحكومة، وفي قيادات القطاعات العسكرية والاجهزة الامنية، فقد قرروا تجنيب روسيا الحرب الاهلية، وخرجوا من البرلمان رافعين ايديهم وسلموا انفسهم لعصابات يلتسين ودخلوا السجن.
ـــ وفي الظاهر يبدو ان الانتقال من "اليلتسينية" الى "البوتينية" قد تم بصورة سلمية. والواقع هو غير ذلك تماما. فقد أعطي بوريس يلتسين شخصيا التعهد بعدم التعرض له ولافراد عائلته، مقابل تنازله "السلمي!" عن السلطة. ولكن هذا التعهد لم ينسحب على مجمل الشريحة الاوليغارخية واتباعها التي التحقت بالغرب. وبمراجعة التاريخ الروسي الجديد، وكيفية صعود وتركيب السلطة "البوتينية"، يمكن الاكتشاف انه في السنوات الاولى من رئاسة بوتين منذ مطلع سنة 2000 وما بعدها، وقعت سلسلة طويلة من الحوادث المميتة والاغتيالات الغامضة التي قيدت كلها ضد مجهول، والتي كانت ضحاياها العشرات او المئات من رؤوس الاوليغارخيا من المليارديرية من السياسيين الموالين للغرب ومن اصحاب الشركات والبنوك الكبرى ومن اصحاب ونجوم المؤسسات الإعلامية من كلاب الغرب واذنابه. وفي تلك الاجواء المشحونة فإن رجال الاوليغارخيا والنجوم الموالين للغرب، الذين حالفهم الحظ وبقوا على قيد الحياة، راجت في اوساطهم المخملية "موضة هاي لايف" جميلة هي التسابق لتشييد القبور الفخمة، حيث اخذ مختلف "النجوم" يوصون بأنفسهم على بناء قبورهم، وكان واحدهم يدعو اصدقاءه المقربين لـ"الفرجة" على قبره الفخم ويسكب الشمبانيا على بابه. (كم هي جميلة "ثقافة الحياة" المرادفة لـ"ثقافة الخيانة"!).
000
الرأسمالية في الكتلة الغربية في المرحلة الامبريالية
في مرحلته الاعلى: الامبريالية، يقوم النظام الرأسمالي الاحتكاري في جميع البلدان الرأسمالية الامبريالية والتابعة لها، على قاعدة ملكية الارض ووسائل الانتاج وميكانيزمات التوزيع والاستهلاك الشخصي والانتاجي، والاستيلاء على منتوجات عمل جميع المنتجين والمبدعين، ماديا وعلميا وفكريا، ونهب ثروات الشعوب المستعمرة والتابعة وإفقارها وتجويعها.
وفوق هذه القاعدة الأساسية والرئيسية للامبريالية تعمل ثلاثة مكونات ومحركات للنظام الرأسمالي الاحتكاري الامبريالي العالمي هي:
1 ــ السوق، بمعناها الواسع: "الوطنية" والاقليمية والدولية، المالية والتجارية، ومحفزات وكوابح الانتاجية والتنافسية والمزاحمة الخ.
ومن خلال السوق تعمل بشكل اعمى وفوضوي جميع القوانين الاقتصادية للرأسمالية، التي يضبطها في الاخير "قانون العرض والطلب"، المرتبط بدوره بشكل اعمى وفوضوي بجميع تمظهرات الصراع الطبقي والنزاعات السياسية والقومية والدينية وغيرها، والانقلابات والثورات والحروب، وجميع الظاهرات الناشئة عن التخريب الرأسمالي الوحشي للطبيعة، كتخريب وتلويث البيئة والاحتباس الحراري ونتائجه المدمرة، والظاهرات الطبيعية كالزلازل والفيضانات وانتشار الاوبئة بشكل طبيعي او "مفتعل".
2 ــ هيمنة الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا، التي تتكون بفعل الديناميكية الجدلية لـ"المزاحمة الحرة" في النظام الرأسمالي في مراحله الادنى، والتي تفضي الى الاحتكار في المرحلة الاعلى، كنتيجة للقانونين الاعميين:
ــ أ ــ قانون تركيز (concentration) الرأسمال الذي يؤول الى التضخيم النسبي والمطلق للشريحة الاعلى من الرأسمال الكلي، الذي يصبح اشبه شيء بهرم مقلوب يقف على رأسه، اي ان "اسفل الهرم" يصبح هو الآضيق بالارقام النسبية والمطلقة، في حين ان "اعلى الهرم" يصبح هو الاضخم. ولكن هذا هو نصف الصورة. اما الصورة بكاملها فإن هذا "الهرم الرأسمالي المقلوب" انما يقف كله فوق العملية او المسارية الانتاجية، التي لا وجود له، اي للهرم الرأسمالي الكلي، بدونها. وبمقدار ما يقترب الرأسمال المالي من العملية او المسارية الانتاجية بمقدار ما بتضاءل نسبيا ومطلقا؛ وبمقدار ما يرتفع ويبتعد عنها بمقدار ما يكبر ويتضخم نسبيا ومطلقا.
وهذا يكشف تماما طفيلية ولاانسانية وقذارة ووحشية الرأسمال المالي والنظام الرأسمالي برمته، الذي تعمل قوانينه باتجاه انتاج الرأسمال المالي وتضخيمه ضد مصلحة الجماهير الشعبية المنتجة بأسرها. (النموذج الاميركي يبين بوضوح فاقع ان الاقتصاد الاميركي هو اقتصاد مالي في الاغلب، حيث ان حصة الانتاج في الاقتصاد الاميركي العام لا تتجاوز نسبة 18%).
ــ ب ــ قانون مركزة ((centralization الرأسمال الذي يؤول الى التقليص التدريجي البطيء او المتسارع لاعداد الرأسماليين الاحتكاريين الكبار، الى ان ينتهي الامر لان يملك عدد ضئيل من الافراد الطبيعيين او التكتلات المالية القسم الاعظم من الرأسمال الكلي، ويتحكمون بمسار ومصير الحياة الاقتصادية لبلدان ودول وشعوب واقاليم كاملة وحتى بمصير العالم بأسره.
وبفعل امتلاكها للحجم الاكبر من الكتلة الرأسمالية بكل اشكالها من الاموال المنقولة وغير المنقولة، فإن الشريحة الرأسمالية الاحتكارية تصبح هي التي تتحكم بالحياة السياسية والامنية والعسكرية والاجتماعية والمعيشية للدول الامبريالية والتابعة لها؛ وهي التي تسيطر على "المقدرات الوطنية" والنهج الجيوسياسي العام لتلك الدول.
وهذه الشريحة، بمحموعها وبكل "واحد" منها (شخصية طبيعية او شخصية اعتبارية ــ مؤسساتية ــ حقوقية) تمتلك هامش استقلالية نسبية عن السوق، ويمكن لبعض اطرافها من كبار الرأسماليين الاحتكاريين، كاشخاص طبيعيين، او كبنوك او كشركات او كتروستات، كبرى، او كتكتلات رأسمالية معينة (كالكتلة الرأسمالية الاحتكارية العليا لليهودية، او الاكليروسية الكاثوليكية، او البتروــ اسلامية ــ عربية) ان تمارس التأثيرات على حركة السوق بشكل مفتعل.
ولكن في نهاية المطاف فإن القوانين العمياء للسوق الرأسمالية هي التي تقرر مسار النهج الافتصادي في كل بلد وفي جميع البلدان الامبريالية والتابعة لها.
3 ــ مؤسسة "الدولة"، التي تمثل، مبدئيا ونظريا ودستوريا وحقوقيا وسياسيا، "الوطن" و"الشعب"، وتعتبر نظريا مؤتمنة عليهما، وتمثل "كل الشعب" تجاه "كل مواطن"، و"كل مواطن" تجاه "كل الشعب". وتعتبر الدولة، ايضا مبدئيا ونظريا ودستوريا وحقوقيا وسياسيا، مؤسسة عليا مستقلة، للجميع، وبالجميع، وفوق الجميع، اي فوق جميع مكونات "الشعب"، الحزبية والسياسية والطبقية والدينية والاتنية الخ. وبكلمات اخرى فإن الدولة هي "فوق السوق" و"فوق المواطن" و"فوق الشعب"، وحكما "فوق الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا". وواقعيا فإن "الدولة" الامبريالية ــ الرأسمالية تمتلك هامشا معينا من الاستقلالية النسبية عن "السوق" وعن "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا". ولكن اذا وضعنا جانبا مفهومة المبادئ والقيم الاخلاقية، الانسانية والوطنية والدينية والحقوقية، فإن أبسط تحليل يقودنا الى الاعتراف بأن الامبريالية، المنبثقة من الرأسمالية، لا توجد ولا يمكن ان توجد الا بالدوس على جميع المبادئ والقيم حتى، وبالاخص، التي تتبناها وتنادي بها هي نفسها. ويقودنا ابسط تحليل، ايضا، لان نرى ان "الدولة"، في جميع بلدان الكتلة الامبريالية وتوابعها، انما تقع بشكل رئيسي تحت سيطرة "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، وطنيا، وعالميا بالمشاركة والاندماج بين الامبريالية الاميركية والطغمة المالية اليهودية العليا العالمية. وبكلمات اخرى فإن مؤسسة "الدولة"، في جميع بلدان الكتلة الامبريالية الغربية واتباعها، ما هي سوى اداة في يد الطغمة الرأسمالية الاحتكارية الكبرى، وعلى رأسها الطغمة المالية العليا اليهودية العالمية. وجميع الاحزاب "الشرعية" و"النظامية" في تلك البلدان، الموالية منها و"المعارضة" للحكومة او السلطة، في كل "دورة انتخابية" او سياسية، ليست سوى "وكلاء" لمختلف اطراف "الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، التي تضطلع فعليا بدور "الحكومة العميقة" التي تحكم، من امام الستار ومن خلفه، جميع البلدان الامبريالية الغربية واتباعها. وبالرغم من جميع اشكال المنافسة والتناحر والنزاعات بين مختلف اطراف "الشرائح الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، في مختلف البلدان، فهي في الوقت ذاته تشكل جبهات موحدة اقليمية وجبهة موحدة عالمية تقودها الولايات المتحدة الاميركية والطغمة المالية اليهودية العليا العالمية. وفي البلدان الرأسمالية الامبريالية الرئيسية تمتلك تلك الشريحة، بالرغم من جميع تناقضاتها الداخلية، "مجلسا اعلى" يرسم ويدير الخطوط العريضة للشؤون الجيوسياسة والجيوستراتيجية والجيواقتصادية الرئيسية للدولة. ويمكن لرئيس الوزراء او رئيس الجمهورية او حتى الملك (في البلدان الملكية) ان يكون عضوا في ذلك "المجلس الاعلى" او لا يكون. وكل من يخالف القرارات الرئيسية لهذا المجلس يتم شيطنته واستبعاده فورا او حتى تصفيته جسديا كما جرى لجون كندي في اميركا سنة 1963 الذي تمت تصفيته في وضح النهار، ولا يزال البحث جار لمعرفة الجاني حتى اليوم، وطبعا لن يعرف.
ولكن بالرغم من كل شيء، وفوق كل شيء، ينبغي التأكيد انه، في المرحلة الاعلى للرأسمالية اي: الامبريالية، فان "الدولة"، كما "الشريحة االطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا"، تبقيان خاضعتين لـ"السوق"، التي تتأثر وتخضع بدورها لكل التقلبات والثورات والاحداث والحروب والظاهرات الطبيعية المفاجئة، والتي تديرها و"تضبطها" القوانين الاقتصادية ـ السياسية العمياء للرأسمالية، التي تتمحور جميعا حول القانون الرأسمالي الرئيسي، اي قانون ضبط او تحديد القيمة الانتاجية (المعبر عنها في الاسعار) عبر قانون العرض والطلب.
والدول الامبريالية، بكل ما فيها من "ادمغة" ومراكز دراسات وابحاث وتخطيط وبرمجة، لا تستطيع تغيير هذا الواقع، لان الامبريالية، المتصفة بـ"المركزية" الشديدة ومتزايدة الشدة، المنبثقة والصاعدة من المرحلة الادنى للرأسمالية، اي رأسمالية "المزاحمة الحرة"، لا تستطيع تغيير الاساس الذي انطلقت منه، اي تغيير نفسها بنفسها، اي هدم واعادة بناء نفسها، اي هدم واعادة بناء النظام الرأسمالي وقوانينه الاساسية؛ واقصى ما تستطيعه هو ان "تجتر" نفسها بنفسها، اي ان تقضي على بعض اجزائها او مركباتها، اي تقضي على بعض القطاعات الرأسمالية وعلى النظام الرأسمالي في هذا البلد او ذاك، لتعود وتظهر اجزاء ومركبات جدبدة، و"نمور رأسمالية" جديدة، في حلقة دائرية من الصراع والفوضى والكوارث الاجتماعية، الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا.
000
مقارنة بين نمطيْ النظام الرأسمالي الغربي والروسي

إن ما يسبب الصراع داخل النظام الرأسمالي هو حقيقة أن القوانين الاقتصادية الاساسية تعبر عن نفسها وتعمل بشكل أعمى. لكن بمجرد ما يتم تأميم الصناعة ووسائل الانتاج الرئيسية والرساميل المالية الاساسية، يمكن لأول مرة تأكيد الرقابة والتخطيط بوعي من قبل المنتجين.
ونمط النظام الرأسمالي الاحتكاري يقوم على الملكية الخاصة (الفردية او المجموعاتية بشخص الشركات المساهمة او الكارتيلات او التروستات او التكتلات الفئوية الخ). وبالتالي فإن اصحاب الملكية الخاصة هم الذين يسيطرون على عملية الانتاج والتوزيع والاستهلاك، والتخطيط لدورات الانتاج المتتالية، بمعزل عن او بتأثير ثانوي غير مباشر للقوى المنتجة، اي العمال والمزارعين والحرفيين والمبدعين. وتتم هذه العملية بشكل اعمى وفوضوي ضمن قوانين العرض والطلب والمزاحمة في "السوق الرأسمالية".
والدولة في هذا النمط تخضع لارادة اصحاب الملكية الخاصة الاحتكاريين، الذين يخضعون هم انفسهم، وتخضع الدولة معهم، لقوانين "السوق" العمياء.
وفي هذا النمط يتحقق التأثير النسبي غير المباشر للمنتجين (الناخبين) من خلال الدولة، التي يسيطر عليها ــ بحكم امتلاكهم "حصة الاسد" من الرأسمال المالي والانتاجي والتجاري والاعلامي والثقافي والتعليمي و"الديني" و"الخيري" الخ. ــ ممثلو الطبقات المالكة الاحتكارية الراسمالية، اكثر بكثير من مجموع جماهير الناخبين الشعبيين، الذين يتم تحويلهم الى مجرد "قطعان بشرية" تطبق عليها مختلف التجارب "التكنو ــ بسيكولوجية" لـ"صناعة الرأي العام".
اما في نمط "رأسمالية الدولة" الروسية، التي هي عمليا "رأسمالية احتكارية للدولة"، فان الدولة تصبح هي المالك الاكبر لوسائل الانتاج و"رب العمل" الاكبر، بدون املاءات الرأسماليين الاحتكاريين الكبار، الخاصين، بل وضدهم. وهذا مما يتيح للدولة الروسية التحكم بـ"السوق" وبعملية الانتاج والتوزيع والاستهلاك، والتخطيط الواعي والمسبق لعملية الانتاج وتوجيهه وترشيده. ونظريا تصبح القوى المنتجة، اي الجماهير الشعبية بمختلف فئاتها، هي مالكة وسائل الانتاج، عبر ملكية الدولة لوسائل الانتاج، بوصفها ــ اي الدولة ــ ممثلة للمجتمع. وواقعيا تصبح الدولة ممثلة (واداة) للتيارات (والمؤسسات) السياسية والفكرية والايديولوجية والدينية، السائدة وذات الشعبية الاكبر في المجتمع.
وفي نمط "رأسمالية الدولة" الروسي توجد عدة خصائص جوهرية تميزه عن نمط النظام الرأسمالي الاحتكاري الغربي. ولا يمكن فهم الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا والجيوايكونوميكا، للدولة الروسية، بدون ادراك هذه الخصائص واهمها:
1 ــ فقدان وجود الشريحة الطبقية الرأسمالية الاحتكارية العليا:
فهذه الشريحة توجد في النظام الرأسمالي الاحتكاري الغربي خارج تركيبة الدولة. وهي توجد اما ككتلة شبه موحدة، او كتكتلات متنافسة ــ موحدة، وهي تفرض "ارادتها" على اجهزة الدولة، بموازاة وضد ارادة "الناخبين".
اما في نظام "رأسمالية الدولة" في روسيا فيوجد رأسماليون كبار، فرادى، خاضعون الزاميا للدولة، ولكن لا يوجد شريحة رأسمالية احتكارية عليا تخضع لها الدولة. فالدولة الروسية هي التي تمسك بمفاتيح ومفاصل الاقتصاد الوطني برمته، من انتاج حبة "البونبون" الى تركيب محطة تجارب فضاء كونية تدور حول الكوكب الارضي لعشرات الوف السنين.
ومن ابرز الفوارق على هذا الصعيد بين نمطيْ النظام الرأسمالي الغربي والروسي ما يلي:
ــ آ ــ ان البنك المركزي الاميركي (ما يسمى "فيديرال ريزرف بنك")، المنوط به اصدار العملة الوطنية ــ الدولية (الدولار)، هو شركة رأسمالية خاصة تسيطر عليها الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا. وهذا "الفيديرال ريزرف بنك" اليهودي يتحكم بالدولة الاميركية، وبالنظام المالي الاميركي والغربي باسره. وتقدم لنا الوضعية الدولية THE WORLD CONJUNCTION الان الصورة الاميركية التراجي ــ كوميدية التالية: ان الدولة الاميركية، الناهب الاكبر لشعوب العالم، هي حتى الان أغنى دولة في العالم، ولكن في الوقت نفسه هي الدولة الاكثر مديونية في العالم، اذ يبلغ الدين العام الاميركي اكثر من 23 تريليون (الف مليار) دولار. وكلما انكشف عجز الميزانية الاميركية (وهي دائما عاجزة نتيجة التضخم المتواصل لاجهزة الدولة الاميركية المترهلة) يتفق ممثلو اللصوص الثلاثة الكبار: الحزبان الدمقراطي والجمهوري والكتلة المالية اليهودية، على تغطية العجز برفع سقف الدين الاميركي العام، والايعاز لـ"الفيديرال ريزرف بنك" اليهودي بطباعة كمية اضافية من الدولارات الورقية الاميركية، التي "تقبضها" الاسواق المالية العالمية بدون ابة عوائق، لانها تعتبر "العملة الدولية" رقم واحد. ولكن كل هذه الدولارات الورقية، القديمة والجديدة، ما هي في الحساب الاخير سوى "دين" على الدولة الاميركية، ومن ثم على الشعب الاميركي وكل من يتعامل بالدولار، لصالح "الفيديرال ريزرف بنك". وهكذا فإن الدولة الاميركية (التي بالمناسبة ينتصب تمثال الحرية على بابها) ليست اكثر من "رجل مافيا" او "بلطجي"، فارض ومحصل "خوّات" على الشعب الاميركي وجميع شعوب العالم التي تتعامل بالدولار، لصالح الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا وشركائها الرأسماليين الاحتكاريين "الانجيليين" البروتستانت والكاثوليك المتصهينين.
اما في المقابل فإن البنك المركزي الروسي هو مصلحة او دائرة مالية مستقلة، تملكها الدولة الروسية، وهي خاضعة تماما لها. ومدير البنك المركزي الروسي (حاليا: مديرة) يعتبر موظفا، كمدير اي مصنع او مصلحة او دائرة مستقلة اخرى تابعة للدولة الروسية. والدولة هي التي تعين هذا المدير واعضاء مجلس ادارته، وتعزل كلا منهم وتستبدله ساعة ترى مصلحة الدولة في ذلك. وعادة يكون مدراء البنك المركزي والبنوك الاخرى التخصصية، واعضاء مجالس الادارات البنكية، من كبار علماء الاقتصاد والمالية المشهود لهم بالوطنية والنزاهة والاخلاص والكفاءة المهنية. وحاليا فإن السيدة إلفيرا نابيولينا هي مديرة البنك المركزي الروسي، وهي تتارية الاصل، وتعتبر من اهم اركان فريق عمل الرئيس بوتين.
ــ ب ــ يجمع الخبراء ان قطاع الطاقة هو اهم قطاع اقتصادي في الزمن الحاضر في جميع انحاء العالم.
وكل فروع صناعة الطاقة في الولايات المتحدة الاميركية (النفط والغاز والنووية والفحم الحجري وتوليد الكهرباء بكل الوسائل)، ـــ جميعها بدون استثناء هي مملوكة للشركات الرأسمالية الخاصة. وجمبع اجهزة الدولة والجيش والقوى الامنية والبلديات والمصالح العامة، الاميركية، تشتري حاجاتها من تلك الشركات. اي ان الدولة الاميركية بقضها وقضيضها هي "زبون" لدى الشركات الرأسمالية الخاصة الاميركية. وحتى اذا كانت شركة طاقة اميركية كبرى رئيسية تلزّم تسويق منتوجاتها لشركة خاصة اخرى، فرعية، (في احدى الولايات مثلا)، وشركة التسويق في الولاية تلزّم التسويق لشركات فرعية ثالثة (في كل مقاطعة او مدينة مثلا)، فإن جميع اجهزة ومؤسسات الدولة والمصالح العامة في جميع المقاطعات والمدن الاميركية تصبح "زبونا" لدى زبون زبون شركة الطافة الرأسمالية الخاصة الرئيسية. وهذا، وليس وحده طبعا، يفسر لنا السعر المرتفع للطاقة والذي يقع على كاهل المواطن الاميركي العادي. وهكذا دواليك بالنسبة لاي سلعة في اميركا. فكل هذه السلسلة من الوسطاء الذين يتمحور وجود الدولة الاميركية على ضمان مصالحهم وارباحهم، ليسوا سوى احد وجوه النظام الرأسمالي اللصوصي الاميركي خصوصا والغربي عموما. وبكلمات مبسطة فإن الدولة الاميركية ليست اكثر من "جابي فواتير" (مقابل حصة طبعا) لصالح الشركات الرأسمالية الخاصة، الرئيسية والفرعية والفرعية من الفرعية، التي تمتلك وتهيمن على قطاع الطاقة في اميركا.
اما في روسيا فإن قطاع الطاقة بكل متفرعاته ومتعلقاته وتسويفه وتجارته الداخلية والخارجية، وكل الابحاث المتعلقة بايجاد طرائق ووسائل جديدة لانتاج الطاقة، كل ذلك بدون استثناء هو ملك حصري للدولة الروسية، ويعتبر من الضرورات الستراتجية لوجود الدولة مثلما واكثر من الطاقة النووية بما فيها الاسلحة النووية ذاتها. وخرق ملكية الدولة لقطاع الطاقة يعتبر تهديدا للامن القومي لروسيا وبمثابة خيانة وطنية. والدولة الروسية ملزمة بتقديم الطاقة الاستهلاكية والانتاجية للمواطنين وللمؤسسات العامة والانتاجية بادنى الاسعار وافضل الشروط الممكنة. كما انها تحدد الاسعار الخارجية انطلاقا من عدة مكونات، احدها هو بورصة الاسعار العالمية للطاقة، ولكن اهمها واساسها هو المصالح الوطنية العليا للشعب الروسي والجيوبوليتيكا السياسية العامة للدولة الروسية.
ــ ج ــ ان قطاع صناعة الاسلحة، بكل متعلقاته، هو ــ خصوصا للدول الكبرى والمهمة عالميا واقليميا ــ اهم قطاع في تلك الدول، بعد قطاع الطاقة؛ وذلك نظرا لاهميته الاقتصادية والامنية والعسكرية ــ الحربية (الدفاعية والهجومية) والسياسية والدبلوماسية. وفيما يتعلق بالابحاث التخمينية ــ الخيالية حول مجاهل الفضاء الكوني البعيد، والابحاث التخمينية الغامضة و"الحزازيرية" لاكتشاف اسلحة جديدة غير معهودة، وهذه كلها ابحاث تحتاج الى تمويل ضخم غير مضمون بتاتا وفي الغالب يذهب هدرا، هي تقع على عاتق الدولة الاميركية ــ وفي ما عدا ذلك فإن كل صناعة الاسلحة في اميركا هي مملوكة 100% من قبل الشركات الخاصة، من المسدس الصغير الى الاقمار الاصطناعية والصواريخ العملاقة والقنابل النووية وكل انواع الذخائر القديمة والجديدة. والدولة الاميركية، بجيوشها وشرطتها ومخابراتها، هي "زبون" لدى الشركات الخاصة الرئيسية لصناعة الاسلحة والشركات الوسيطة المتفرعة عنها. ولدى تقدمها بأي "طلبية"، او تقديم الاسلحة لاي "حليف" خارجي، او القيام بأي مغامرة حربية مباشرة او بالوكالة في الخارج، تقتضي "إنفاق" كميات مرموقة من الاسلحة والذخائر، فإن الدولة الاميركية ملزمة بتفديم "كشف" تعليلي بالمبررات والاهداف من تلك التقديمات او المغامرات الحربية، كشرط ضروري لاتمام "الصفقة" بين "البائع" اي الشركة الخاصة المعنية، وبين "الشاري" اي الدولة الاميركية. وعليه يمكن الاستنتاج، مثلا، بأن عملية الابادة الجماعية وقتل عشرات الوف الاطفال والنساء والشيوخ والمدنيين في غزة وفلسطين ما هي سوى "صفقة بيزنس" بين دولة القتلة اليهود المسماة "اسرائيل" وبين الشركات الخاصة لصناعة وتجارة الاسلحة في اميركا (والمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها)، وان دول تلك البلدان ليست اكثر من "وسيط" و"سمسار" و"وكيل مبيعات" اسلحة لتلك الشركات الخاصة.
اما فيما خص روسيا فإن المجمّع الصناعي الحربي هو، الى جانب قطاع الطافة، الركيزتين الاساسيتين لمجمل الاقتصاد الوطني الروسي، وهو ملكية عامة 100% للدولة، ويعتبر اهم ركن من اركان السيادة الوطنية لروسيا. وتاريخيا اضطلع المجمع الصناعي الحربي، عبر مالكته الدولة الروسية، بدور رئيسي في دعم جميع الحركات الوطنية وحروب التحرير ضد الاستعمار والامبريالية في جميع بلدان العالم، وهو اليوم يمثل الحارس الجبار الامين للسلم العالمي، ولاستقلال البلدان المتحررة من ربقة الاستعمار والامبريالية، والركن العسكري الرئيسي للمحور الشرقي العظيم الجديد، المتشكل من روسيا والصين وايران الثورة، الذي يقف اليوم كالطود الشامخ بوجه الكتلة العدوانية الامبريالية الغربية ــ الاسرائيلية وتوابعها بزعامة الولايات المتحدة الاميركية.
2ــ ان قانونيْ تركيز ومركزة الرأسمال (Concentration and centralization of capital) يعملان ضمن نظام رأسمالية الدولة الروسي:
وان نقطة الارتكاز، او مركز الثقل، في عمل هذين القانونين، تقع في دائرة الملكية الرأسمالية الخاصة في النظام الرأسمالي الامبريالي الغربي، وبالتالي فإن المسارية العملية للانتاج الرأسمالي (بصفته الشيئية (المنتوجات والعقارات ووسائل الانتاج المضافة والمطورة والجديدة المبتكرة) والمالية (الرساميل) ) تقع في حقل تعزيز الملكية الرأسمالية الاحتكارية الخاصة، اي تضخيم "الرساميل المملوكة" وتقليص اعداد "الرأسماليين المالكين". وفي هذه الحالة فإن الدولة، بما هي "ممثلة للشعب!"، تصبح "هي وشعبها!" اداة صاغرة (متناقصة الاهمية من حيث تقرير "االسياسة الوطنية") لتنفيذ ارادة الشريحة الرأسمالية الاحتكارية العليا، متناقصة عدد الافراد باستمرار، قياسا بحجم الرساميل.
اما في نظام "رأسمالية الدولة" الروسي، فلا يلتغي عمل هذين القانونين، بل هما يستمران في العمل في ظروف انتقال نقطة الارتكاز او مركز الثقل في عملهما الى دائرة الملكية العامة لوسائل الانتاج، اي انهما يعملان في اتجاه تضخيم الرأسمال الكلي للدولة، وتشديد مركزية ادارة مسارية الانتاج، اي ــ بمعنى ما ــ رفع مختلف الفروع الانتاجية والخدماتية والاجتماعية من مستوى "مصالح مستقلة" تابعة لوزراة ما، الى مستوى وزارة وطنية لكل من تلك المصالح.
3ــ "بالونات" الاقتصاد المالي الوهمي الاميركي، والطابع الواقعي للاقتصاد الروسي:
تقول احدى السرديات ان طلاب كلية الاقتصاد في احدى الجامعات الاميركية طُرح عليهم السؤال التالي: اذا وضع بتصرفك مبلغ 100 مليون دولار، فأي مشروع مربح يمكن ان تعمل به؟
فكان هناك الكثير من الاجوبة الممتازة التي نالت علامات التقدير. ولكن الجواب الناجح كان: سوف اعمل اي مشروع كان بمبلغ 10 ملايين دولار، واعمل دعاية للمشروع بمبلغ الـ90 مليون دولار الباقية!
والعبرة هي: ان الاقتصاد الاميركي هو اقتصاد مالي وهمي يقوم على نفخ "البالونات" المالية المبنية على الدعاية الفارغة واستهبال الجمهور. ويكفي ان نقدم المثالين التاليين عن "البالونات" المالية الوهمية الاميركية:
الاول ــ مع بدابة عهد بوتين في 1-1-2000، دخلت روسيا بقوة في اسواق الطاقة الاوروبية والعالمية، الى جانب الجمهورية الاسلامية الايرانية التي كانت قد دخلت تلك الاسواق بعد نهاية الحرب البعثية ــ الصدامية ضد الثورة الايرانية في 1988. وفي 11-9-2001 وقع انهيار البرجين التجاريين في نيويورك، ثم غرقت الجيوش الاميركية في مستنقعات الحرب والاحتلال في افغانستان والعراق. وادى كل ذلك الى انهيار اسهم شركات الطاقة والاسلحة وغيرها في البورصات الاميركية. واخذت الرساميل تتجه نحو التوظيف في قطاع العقارات المضمون. ولاجل استقطاب المزيد من المشترين، وزيادة ارباح اسهم الشركات والبنوك العقارية، اخذت شركات الدعاية الهوائية الاميركية تنفخ في "بالون" قطاع العقارات الى الحد الاقصى. وحينما بلغ التوسع في الاستثمار العقاري اقصاه، وارتفعت اسعار العقارات بشكل جنوني، وبالرغم من كل "التسهيلات" البنكية، بدأت اعداد متزايدة بشكل مطرد من المشترين تعحز عن دفع الاقساط البنكية "الميسّرة". وحينئذ "انفخت البالون"، وانفجرت الازمة اولا في البنوك العقارية، ثم تدحرجت لتشمل القطاع البنكي والبورصوي بمجمله، ولتنفجر اخيرا بصورة الازمة المالية ــ الاقتصادية الاميركية ــ العالمية في 2008 ــ 2009.
والثاني ــ في مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الامبريالي الغربي، كان التنافس في حقل استكشاف الفضاء الكوني على أشده بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الاميركية. وكان التفوق السوفياتي في هذا الحقل ظاهرا بشكل صادم، مما كان يزعزع هيبة الدولة الامبريالية الاميركية ونزعتها المَرَضية للهيمنة على العالم. وفي 1957 اسست الدولة الاميركية الوكالة الفضائية ناسا، التي بدأت العمل في 1958 برأسمال اولي قدره 16,1 مليار دولار (بقيمة شرائية للدولار يومذاك اكثر من عشرة اضعاف القيمة الدولارية اليوم). ومنذ البداية كانت جميع اعمال ناسا تتم عن طريق التلزيم والتعاقد مع الشركات الرأسمالية الخاصة. ولتكثيف اعمال وكالة ناسا، وتحفيز وتشجيع العمل معها، وتبرير انفاق مئات مليارات الدولارات عليها، امام جموع الناخبين الاميركيين المستَهبَلين، قامت الدولة الاميركية، بكل خزعبلاتها وكلاكيش زينتها "الدمقراطية" المسخراتية، بفبركة وتزويق واطلاق بالون الكذبة الكبيرة ونعني بها كذبة الهبوط الاميركي على سطح القمر. ونُفخت جميع المزامير، وقرعت جميع الاجراس، ودقت جميع الدربكات والطبول، في اميركا وجميع بلدان "الدمقراطية الغربية"، لتبليع الجماهير المستَهبَلة هذه الكذبة الكبرى. وعلى من لا يزال يصدق هذه الكذبة ان يتساءل:
ــ آ ــ تقول الكذبة ان رائد فضاء اميركيا هبط وسار على سطح القمر في تموز 1969، اي منذ حوالى 55 سنة. وفي العادة تكون الخطوة الاولى هي الخطوة الاصعب. فاذا كان الاميركيون، حسب الكذبة، اجتازوا مرحلة الخطوة الاولى، فلماذا توقفوا عن ارسال رواد فضاء بشكل متتابع خلال هذه المدة الطويلة، وانشاء قاعدة تجارب علمية اميركية فوق سطح القمر؟ ام ان حبل الكذب قصير؟ ولم يكن بالامكان علميا تطويل و"تطوير" الكذبة!
ــ ب ــ لقد ملأت اجهزة البروباغندا الدنيا زعيقا لدى اطلاق تلك الكذبة. ولكنها بعد ذلك لزمت الصمت واوقفت قرع الاجراس ودق الطبول، لان ذلك كان يقتضي "تطوير" الكذبة والحديث عن بعض الانجازات البحثية والعلمية. ولكن ذلك كان مستحيلا لانه مع العلم من الصعب جدا بل المستحيل "اللعب" والكذب الدائم او طويل الامد، كما في اي منظومة مفاهيمية اخرى، كالدمقراطية وحقوق الانسان والمعتقدات الدينية الخ. ولكن تلك الكذبة حققت الغاية منها: فحسب الاحصاءات المعلنة بلغت ميزانيات وكالة ناسا من سنة 1958 الى سنة 2018 اكثر من 600 مليار دولار. واغلبية رؤساء الوكالة المتعاقبين صاروا من المليارديرية. كما جنى اصحاب الشركات الرأسمالية الخاصة التي عملت مع ناسا مئات مليارات الدولارات، وكان آخرهم "الشاطر حسن!" الملياردير الشهير إلون ماسك.
اما الاقتصاد الروسي فهو اقتصاد قطاع عام (غير لبناني طبعا) لا يمكن لاي من رجالاته ان يفكر للحظة في ان ينفخ اي "بالون"، لان ذلك يعني ببساطة الانتحار او الاستنحار معنويا وقانونيا، ماليا وربما جسديا. فالقطاع العام الوطني الروسي ليس (قياسا على النموذج اللبناني) ملكا لطبقة حاكمة خائنة باعت الاستقلال الوطني والاخلاق والدين لفرنسا وبريطانيا واميركا واسرائيل، ولا لبعض الشطار الذين اشتغلوا خدما وقوادين ووسطاء ــ بارافانات للتجارات "القذرة" والصفقات المشبوهة و"المنفوخة" للامراء السعوديين، بل هو ملك لشعب أبي قدم عشرات ملايين الشهداء في الصراع التاريخي ضد الغزاة الرومان واليهود الخزر (اجداد الجزار ناتنياهو وعصابات "شعب الله المختار") والمغول والصليبيين والنابوليونيين، واخيرا قدم 30 مليون شهيد للانتصار على النازية الهتلرية الالمانية (اي الاوروبية الغربية) التي تعود اليوم لتطل برأسها من جديد في اوكرانيا.
4ــ السرية المطلقة للاقتصاد الوطني الروسي:
ان سرية الاقتصاد الوطني الروسي، على قدم المساواة مع سرية الانفاق العسكري، هي معطى اساسي في الجيوبوليتيكا السياسية والجيوستراتيجيا العسكرية للدولة الروسية.
فمنذ ازاحة الخائن عميل اميركا واليهودية العالمية، بوريس يلتسين، ووصول فلاديمير بوتين الى الرئاسة في1-1-2000 والدولة الروسية تعتبر نفسها في حالة حرب وجودية شاملة، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، مع الكتلة الغربية الامبريالية بزعامة الولايات المتحدة الاميركية واليهودية العالمية. ولذلك فإن الحجم الحقيقي للاقتصاد الروسي، وفروع الانتاج، وابواب الانفاق، هي من الاسرار الوطنية للدولة. ويمكن الاستدلال على هذا الواقع من المثالين التاليين:
الاول ــ ان الميزانية العسكرية المعلنة للدولة الروسية هي حوالى 70 مليار دولار، اي اقل باكثر من 11 ــ 12 مرة من الميزانية الحربية المعلنة لاميركا. وهذه الميزانية "الضئيلة" بالمقاييس الاميركية لا تكفي ثمن البيرة للقوات المسلحة الاميركية، العسكرية والامنية، التي يبلغ تعدادها الملايين والتي تنتشر في 700 ــ 800 قاعدة عسكرية اميركية في كافة ارجاء العالم، ناهيك عن الاساطيل والغواصات وحاملات الطائرات التي تجوب جميع البحار والمحيطات. ومع ذلك فإن جميع الستراتيجيين وكبار الجنرالات الاميركيين يرتجفون وتصطك ركبهم رعبا لمجرد التفكير بامكان وقوع مجابهة شاملة مع روسيا. فالقادة الاميركيون والناتويون و"الاتحاد ــ اوروبيون" الذين يستهبلون شعوبهم، ليسوا هم انفسهم بلهاء واغبياء، وهم يعلمون تمام العلم، من جواسيسهم ومن مئات الاقمار الاصطناعية التجسسية، ان القوات المسلحة الروسية تخفي اكثر بكثير مما تظهر، وانها قادرة على محو اميركا وجميع دول الناتو من الوجود قبل ان ترف جفن للقادة الغربيين.
والثاني ــ منذ وصول بوتين الى الرئاسة، وخاصة بعد احداث جورجيا في 2008، ولا سيما بعد اعادة القرم الى روسيا في 2014، شرعت الكتلة الغربية في حصار روسيا وتطبيق سياسة المقاطعة وفرض العقوبات ضدها وضد كل من يتعاون معها. ومع بداية الحرب الاوكرانية في 2022 عبأت الكتلة الغربية بأسرها كل قدراتها التسليحية والمالية لخوض حرب استنزاف عسكرية واقتصادية مميتة ضد روسيا. ولو ان عِشر مفاعيل سياسة الحصار والعقوبات والاستنزاف التي طبقت على روسيا، طبق على اوروبا الغربية بأكملها، لحلت فيها المجاعة في اشهر قليلة، ولانتشرت جثث الموتى جوعا في شوارع كافة المدن الاوروبية دون ان تجد من يدفنها. ولكن كيف كان تأثير تلك السياسة المعادية للانسانية على الدولة الروسية؟ في احسن الافتراضات، من وجهة النظر الاميركية والاوروبية واليهودية ذاتها، كان تأثيرها اقرب الى تأثير وخزة بعوضة في ذنب دب. وستموت البعوضة حتى قبل ان يحرك الدب ذنبه ويسحقها.
وطبعا ليس في هذا الصمود الروسي، القاتل بالنتيجة للاقتصاد الامبريالي الغربي، اي اعجوبة. فزمن الاعاجيب قد ولى، وكل "قدسية" اتفاقيات السلام "الابراهيمي" لن تنقذ اسرائيل وانظمة سايكس ــ بيكو الخيانية العربية من الزوال؛ وكل صلوات ومليارات دولارات "شعب الله المختار" و"الانجيليين" البروتستانت و"البابويين" الكاثوليك واذنابهم "الخلافتيين" الدواعش لن تنقذ الرأسمالية الامبريالية الغربية واليهودية العالمية من الانهيار امام الزحف التدريجي الثابت للنظام الروسي، الذي يستند الى معطيات اقتصادية ــ اجتماعية ــ سياسية يرتكز اليها وينطلق منها الاقتصاد الوطني الروسي. ونلقي في ما يلي نظرة الى بعض هذه المعطيات:
ــ1ــ ان مساحة روسيا (بما فيها شبه جزيرة القرم ومقاطعات شرق اوكرانيا التي استعيدت الى روسيا) تبلغ اكثر من 17.075.000 كلم مربع. بينما تبلغ مساحة الولايات المتحدة الاميركية (بما فيها الاسكا التي هي بالاساس اراض روسية) 9.834.000 كلم مربع. اي ان مساحة روسيا هي اكبر بنسبة 1.7 من مساحة الولايات المتحدة الاميركية.
ــ2ــ وتفيد الاحصاءات المعتمدة دوليا ان روسيا تمتلك نسبة 30% واكثر من الثروات الطبيعية على الكرة الارضية (النفط، الغاز، اليورانيوم، المعادن على انواعها، المعادن الثمينة، المعادن النادرة، المياه الخ).
ــ3ــ يبلغ عدد سكان روسيا (باضافة سكان شبه جزيرة القرم ومقاطعات شرق اوكرانيا التي استعيدت الى روسيا) حوالى 150 مليون نسمة. بينما يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة الاميركية 333 مليون نسمة (احصاء سنة 2022)، اي اكثر من مرتين (2.22) من عدد سكان روسيا.
اي انه (في ظروف متشابهة، اخذا بالاعتبار حجم المساحة والثروات الطبيعية (الاكبر مرتين لصالح الدولة الروسية) وعدد السكان (الاكبر مرتين لصالح الدولة الاميركية) ) فإن حجم الاقتصاد لكل من الدولتين ينبغي ان يكون متساويا تقريبا. ولكن الارقام المعلنة من قبل الدولتين تبين"ضآلة" الاقتصاد الروسي مقابل الاقتصاد الاميركي. الا انها تبين ايضا وجود دين عام على اميركا بأكثر من 23 تريليون دولار، مقابل صفر دين عام على الدولة الروسية. فاذا تجردنا عن الكثير الكثير من المعطيات والوقائع، يجب ان يكون لدى روسيا وفر بمبلغ 23 تريليون دولار على الاقل، اي ما يوازي الدين العام الاميركي. فأين هي هذه المبالغ الاسطورية، سواء بالشكل السلعي والانشائي والتسليحي او بالشكل المالي؟
ان جميع مراكز الابحاث وجميع ابواق البروباغندا الغربية لا تتناول من قريب او بعيد هذا الواقع، حتى لا تكشف مدى قزمية وهشاشة نظام الاقتصاد الرأسمالي الامبريالي الغربي. في حين ان الدولة الروسية تصمت صمت أبي الهول عن حقائق وطبيعة نظام اقتصاد رأسمالية الدولة الروسي. وأي حديث على هذا الصعيد لا يخرج عن نطاق التخمينات.
000
نظام "رأسمالية الدولة" الروسي ...في العمل
ان "رأسمالية الدولة" في روسيا تعني: ان الدولة، كشخصية معنوية تتجسد في مجموع اجهزتها: التشريعية (البرلمانية والجمهوريات المستقلة ذايا الخ)، والتنفيذية (الرئاسية، والحكومية)، والقضائية، والامنية والعسكرية، والادارية، ومجموع هيكلياتها من الموظفين المدنيين والامنيين والعسكريين، لا يقتصر دورها فقط على ادارة شؤون الوطن والشعب، سياسيا وعسكريا وامنيا وصحيا وتعليميا وثقافيا الخ، بل ـــ وبواقع كونها "الرأسمالي الاكبر" و"رب العمل" الاكبر الذي يمتلك الارض ووسائل الانتاج ـــ تقع عليها ادارة استغلال الارض الوطنية وجميع وسائل الانتاج (الصناعية والزراعية والخدماتية الخ) في علاقة مباشرة مع القوى المنتجة، اي العمال والمزارعين والمثقفين والعلماء والخبراء، المنتجين. وهي تمتلك حق السيادة على القطاع الخاص ومصادرة وتأميم اي مؤسسة خاصة مهما كان حجمها وايا كان مالكوها.
ولكون الدولة الروسية هي المالك الاكبر لوسائل االانتاج و"رب العمل" الاكبر في البلاد، بدون اي مزاحم، وبدون املاءات الرأسماليين الاحتكاريين الكبار، الخاصين، وضدهم عند الضرورة، فهي مخولة، وقادرة، ان تتحكم بـ"السوق" وبعملية الانتاج والتوزيع والاستهلاك والتخطيط الواعي والمسبق لعملية الانتاج وتوجيهه وترشيده. ونظريا تصبح القوى المنتجة، اي الجماهير الشعبية بمختلف فئاتها، هي مالكة وسائل الانتاج، عبر ملكية الدولة لوسائل الانتاج، بوصفها ــ اي الدولة ــ ممثلة للمجتمع. وواقعيا تصبح الدولة ممثلة (واداة) للتيارات (والمؤسسات) السياسية والايديولوجية والدينية والفكرية، السائدة وذات الشعبية الاكبر في المجتمع.
وقد كرست "الدولة الروسية" دورها السيادي الاقتصادي ــ الاجتماعي، الى جانب دورها السياسي والامني والعسكري، في معركة شرسة ضد اصحاب الرساميل الاحتكارية الكبرى. ومن الامثلة على ذلك:
1 ــ كان المافياوي اليهودي الصهيوني بوريس بيريزوفسكي احد اكبر رجال الاوليغارخيا واكبر اباطرة الإعلام في روسيا (ما بعد السوفياتية)، واكبر داعم وممول للحرب الانفصالية الاسلاموية الشيشانية الثانية (1999 – 2009). وقد وُجهت ضده التهم بالفساد وتبييض الاموال، ففرّ الى بريطانيا في 2001 حيث حصل على اللجوء السياسي، وحصل على الجنسية الاسرائيلية، وغادرت عائلته الى اسرائيل حيث بقيت تعيش هناك. وفشلت محاولات الحكومة الروسية في استعادته بالطرق القانونية لمحاكمته. وبعد سحق التمرد الشيشاني في 2009، أسقط تماما بيد بيريزوفسكي، فأرسل "رسالة استرحام" الى الرئيس بوتين طالبا السماح له بالعودة الى روسيا، ولكنه لم يتلق جوابا لا سلبا ولا ايجابا. وفي اذار 2013 وجد ميتا غرقا في مغطس الحمام في شقته الفخمة في لندن، والتي كانت محروسة من قبل الشرطة البريطانية على مدار الساعة. ولم تتهم الحكومة البريطانية اي طرف بقتله، واغلقت ملفه، لان الشرطة البريطانية لم تجد اي اثر للعنف على جسده "الطاهر" رحمه الله!
2 ــ وفي اعقاب هذا "الحادث المؤسف" فإن العديد من "اصدقاء" بيريزوفسكي من رجال الاوليغارخيا اليهود (ليف ليفابف و مايكل تشورني وغيرهما) فروا ايضا من روسيا الى اسرائيل وحصلوا ايضا على الجنسية الاسرائيلية، بالاضافة الى اللجوء السياسي في بريطانيا.
3 ــ وفي الفترة ذاتها كان الاوليغارخي اليهودي الروسي ميخائيل خودوركوفسكي يصول ويجول في روسيا كقيصر غير متوج. وهو كان يعتبر اغنى رجل في روسيا والرقم 14 في لائحة اغنى اغنياء العالم، حسب مجلة "فوربس" الاميركية. وكانت شركته "يوكوس" اكبر شركة خاصة في روسيا منذ عهد يلتسين، وتقدر رساميلها وممتلكاتها بـ800 مليار دولار، وكانت تملك نسبة 20% من انتاج النفط والغاز في روسيا. ومن خلالها كان خودوركوفسكي ورجال الاوليغارخيا المقربون من بطانته يتحكمون بالحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاعلامية لروسيا. وفي سنة 2003 اتهم خودوركوفسكي وشركته بالتهرب الضريبي، فوضعت الدولة يدها على شركته والقي القبض عليه شخصيا، وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات. وقبل ان يستأنف وكلاؤه الحكم، وجهت اليه تهمة جديدة وحكم عليه بالسجن 20 سنة اضافية. وقامت المانيا بالتوسط له، فتم اصدار عفو رئاسي عنه في اب 2014 (وقيل حينذاك لاسباب "انسانية"، لان والدته كانت مريضة وفي حالة ميؤوس منها). وتمت الموافقة على مغادرته لروسيا الى المانيا مقابل ان لا يقوم بأي نشاط اعلامي ــ سياسي معاد لروسيا. وجاءت طائرة المانية خاصة وحملته من موسكو الى برلين. واقام بعد ذلك في لندن. وعمل اخيرا كوسيط لبيع الغاز الروسي (الذي كان يضخ الى المانيا) للبلدان الاوروبية الاخرى.
وتمتلك اجهزة الدولة الروسية، كلا باختصاصها، حق التدخل في شؤون وادارة الاقتصادات الخاصة، بصفتها السياسية والرسمية كمؤسسات تمثل الدولة، اي عامة المجتمع والشعب والوطن. ولكن على ارض الواقع المعاش، وعلى الاعم الاغلب، فإن مؤسسات الدولة الروسية الحالية لا تستخدم هذا الحق السياسي ــ القانوني ــ الرسمي، بل هي تقود الحياة الاقتصادية في البلاد، عملا بالقوانين الاقتصادية الرأسمالية ذاتها. وبكلمات اخرى فإن الرئيس بوتين نفسه، او اي وزير معني، يمكنه ساعة يشاء ان بحضر اجتماعات مجلس ادارة اي شركة او مؤسسة اقتصادية انتاجية او خدماتية الخ، روسية، وان يقرّ او يطلب الغاء او تعديل اي قرار لمجلس ادارة تلك الشركة، وذلك ليس بصفته رئيسا للجمهورية، او وزيرا، بل بصفته ممثلا للشركة ــ الام مالكة حزمة الاسهم الاكبر في تلك الشركة او المؤسسة.
ونشير هنا الى قناتين او رافعتين رئيسيتين للاقتصاد الروسي:
القناة الاولى: هي المجمع الصناعي ــ الحربي الروسي (وهو يشمل لا الصناعة الحربية وتوابعها وحسب، بل ويشمل ايضا جميع مراكز الابحاث والتجارب والصناعات الخاصة بقطاع الفضاء). فهذا المجمع، بجميع توابعه، هو محرك رئيسي من محركات الاقتصاد الوطني الروسي العام. والدولة الروسية تمتلك 100%، وعلى الاقل الحزمة الاكبر من اسهم رساميل كل شركة او مؤسسة خاصة بهذا المجمع او متفرعة منه.
والقناة الثانية: هي شركة غازبروم للنفط والغاز:
وقد تم إنشاء شركة "غازبروم" في عام 1989 عندما حولت وزارة صناعة الغاز في الاتحاد السوفياتي نفسها إلى شركة، مع الاحتفاظ بملكية كل أصولها. وفي وقت لاحق، تمت خصخصة جزء من الشركة، مع احتفاظ الدولة بحزمة الاسهم الاكبر في اي شركة متفرعة منها. وفي الوقت الحالي، تسيطر الحكومة الروسية على أغلب أصول شركة غازبروم العملاقة.
وفي عام 2011، أنتجت الشركة من الغاز الطبيعي، ما مقداره 17% من إنتاج الغاز في العالم. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أنتجت شركة غازبروم 32.3 مليون طن من النفط الخام و12.1 مليون طن من الغاز المكثف.
وتمتلك الشركة شركات فرعية تعمل في العديد من المجالات الصناعية، وقطاعات التمويل والإعلام والمواصلات والطيران. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها تسيطر على أغلبية الحصص في اكثرية "الشركات المستقلة" العاملة في روسيا.
000

الاساس الاقتصادي المشترك لمحور الشرق الجديد
وبصرف النظر عن الاختلافات الايديولوجية والدينية، من جهة، وعن المواقف الجيوسياسية والجيوستراتيجية المشتركة، من جهة ثانية، بين روسيا والصين وايران (الاركان الرئيسية للمحور الشرقي الجديد المعادي للامبريالية الاميركية والغربية واليهودية العالمية)، فإن هذه الدول الثلاث الكبرى تشترك جميعا في قاعدة اساسية مشتركة وهي كونها اقتصاديا ــ اجتماعيا تقوم على اسس نمط نظام "رأسمالية الدولة". ولكنها ــ لاسباب تاريخية خاصة بكل منها ــ تختلف احداها عن الاخرى في تركيبة البنية الفوقية للدولة:
ـــ فالذي يقود الدولة في الصين الشعبية هو الحزب الشيوعي الصيني ذو التراث الثوري، الفكري والنضالي، الغني والعريق. ومهما كان من "ليبيرالية" الشعار الصيني "نظامان (اشتراكي ورأسمالي) في دولة واحدة"، و"الحرية" والضمانات الممنوحة للاستثمارات والتوظيفات الرأسمالية الغربية (ولا سيما الاميركية) في الصين، فإن "تأميم" جميع الاستثمارات الاجنبية في الصين لا تحتاج الا الى "شحطة قلم"" من قيادة الحزب الشيوعي الصيني. وجميع اصحاب الرساميل الاجنبية الموظفة في الصين، و"الرأسماليين الجدد" الصينيين المتعاونين معهم، "يلتزمون حدودهم" تماما، لانهم يعرفون تمام المعرفة انهم يعملون في ظل هذا "السيف الشيوعي" المسلط فوق رؤوسهم في كل لحظة، والذي لا يمكن "اللعب" معه بتاتا.
ـــ والذي يقود الجمهورية الاسلامية الايرانية هو المؤسسة "الاكليروسية" الدينية الاسلامية الشيعية، المجاهدة، المتنورة، المجدِّدة والمتجددة. وهي مؤسسة متواضعة، متقشفة ومتفانية، تُخضع كل الاقتصاد الايراني، وكل مقدرات الدولة الايرانية، لمصلحة الرؤية الجيوسياسية الاسلامية ــ الدولية، لـ"الهيكلية الاممية الشيعية"، ذات النزعة والثقافة الثورية التاريخية، التي دخلت كلاعب رئيسي في المسرح الجيوسياسي العالمي بانتصار الثورة الاسلامية في ايران، وبروز ودعم المقاومة الشعبية الاسلامية المسلحة، بقيادة حزب الله، ضد "اسرائيل" والصهيونية والامبريالية الاميركية والغربية.
ـــ والذي يقود الدولة الروسية هو النخبة السياسية، الامنية والعسكرية، الثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، ذات النزعة الوطنية الروسية ــ الاورثوذوكسية، بزعامة فلاديمير بوتين في المرحلة التاريخية الراهنة، المعادية للامبريالية الغربية واليهودية العالمية. وهذه النخبة هي منتخبة من قبل الجماهير الشعبية مباشرة بمختلف اشكال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والاقاليمية والبلدية الخ. والرئيس بوتين، الذي كان يتزعم حزب "روسيا الموحدة" الذي كان يمتلك اكثرية من 238 مقعداً من اصل الـ450 مقعدا بالبرلمان الروسي (الدوما)، فبعد انتخابه للرئاسة، وضع مسافة بينه وبين حزبه ذاته. وهو يحظى بدعم جميع الاحزاب الوطنية الروسية، الموالية والمعارضة، ودعم جميع المؤسسات الدينية الروسية، وخصوصا المؤسسة الاورثوذوكسية (التي يرتبط بها بشكل اساسي التاريخ العريق لروسيا) والمؤسسة الدبنية الاسلامية بمختلف مذاهبها.
ومع الاخذ بالاعتبار التمايز والاختلاف الايديولوجي والديني والثقافي والفكري بين القوى السياسية الحاكمة في كل من روسيا والصين وايران، فإن نظام رأسمالية الدولة في البلدان الثلاثة يشترك في خاصية واحدة هي انه "اقتصاد قطاع عام" إسما على مسمى، اي انه "اقتصاد البلد" او "الاقتصاد الوطني" او "اقتصاد الشعب" المعني، ليس فقط بالمعنى السياسي ــ القطري، بل بالمعنى الاقتصادي ــ التملكي بالتحديد.
وبهذا المعنى المحدد فإنه يدخل ضمن مفهوم "نظام الرأسمالية الاحتكارية للدولة"، أي "الغرفة المجاورة للاشتراكية"، اقتصاديا ــ اجتماعيا ــ طبقيا، حسب التعريف اللينيني.
وبهذا المعنى فإن القيادة الوطنية ــ الاورثوذوكسية البوتينية في روسيا، والقيادة الوطنية الشيوعية في الصين، والقيادة الوطنية الثورية الاسلامية الاممية الشيعية في ايران، التي تقود الاقتصاد الوطني للبلدان الثلاثة، ومن الوجهة الاقتصادية ــ الاجتماعية ذاتها، وليس فقط من الوجهة السياسية والايديولوجية، تمثل المصالح العليا للشعوب الروسية والصينية والايرانية، المالك الحقيقي، الاول والاخير، للاقتصادات الوطنية لروسيا والصين وايران.
وهذه الخاصية الاقتصادية ــ الاجتماعية الوجودية، للانظمة الوطنية الروسية والصينية والايرانية، تمثل الصخرة الاساسية التي تنبني عليها وحدة "المحور الشرقي الجديد" الذي تشكله البلدان الكبرى الثلاثة، وهي "الصخرة البطرسية" التي بدأت تتكسر عليها قرون "روما الجديدة" المتمثلة في النظام الرأسمالي الامبريالي الاميركي الغربي واليهودي العالمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الغوطة السورية .. قصة بحث عن العدالة لم تنته بعد ! • فرانس 2


.. ترشح 14 شخصية للانتخابات الرئاسية المرتقبة في إيران نهاية ال




.. الكويت.. أمر أميري بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصب


.. حماس ترحب بمقترح بايدن لإنهاء الحرب.. وحكومة نتنياهو تشترط|




.. الجبهة اللبنانية الإسرائيلية.. مزيد من التصعيد أو اتفاق دبلو