الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مائويّة الحركة النّقابيّة التّونسيّة/ رحلة البحث عن الاستقلاليّة

الطايع الهراغي

2024 / 5 / 17
الحركة العمالية والنقابية


ا



"أتونس عندي في هواك تولّع*** وأنت منى نفسي عليك تقطّع"
(الطّاهر الحدّاد)
"التّاريخ ...تعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق".
( ابن خلدون)
" لا يسرد التّاريخ إلاّ ما تبقّى من الماضي محفوظا في الذّاكرة".
(عبد الله العروي/ مجمل تاريخ المغرب)

قبل مائة عام، في تونس المنهكة بعجز باياتها والمستعمرة من أعدائها(لعلّه من الضّروريّ الجزم والقسم بأنّنا ما زلنا في حاجة إلى التّذكير بأنّ تونس كانت فعلا محتلّة وليست في حماية"العكري")،تحديدا في صائفة 1924 انبعث حلم.لم يعمّر (كتجربة)غير بضعة أشهر منفلتة من حوادث الأيّام كانت كافيّة ليخصب الحلم وينمو الجنين ويمتدّ في الزّمن ويتحوّل إلى إرث جيل وأجيال. التقت رغبة عمّال الرّصيف- الذين تمرّسوا على النّضال النّقابيّ وخاضوا عدّة "اعتصابات" في صلب النّقابات الفرنسيّة وبقيادتها دون أن يغنموا من نضالاتهم شيئا- بحماسة بعض المفكّرين المسكونين بالهمّ الوطنيّ والتّوّاقين إلى خدمة الشّأن العامّ،الحامّي/ الحدّاد/ مختار العيّاري/ أحمد الدّرعي. فكانت المغامرة التي تحوّلت إلى رهان. وكانت منطلقا لمراكة إرث يغطّي قرنا من الفعل النّقابيّ،قرنا من البحث عن استقلاليّة ظلّت دوما هدفا وغاية تُطلب ويعسر إدراكها، إرث هو محلّ اعتزاز من كلّ الطّيف النّقابيّ. وغالبا ما يقع استحضاره كلّما عسرت السبّل وبات الأفق ضبابيّا ووجدت المنظّمة نفسها في أزمة أيّا كانت طبيعة هذه الأزمة،أسبابها وتمظهراتها.
وتبقى الأسئلة قائمة منتصبة مستفزّة. مثّلت ومازالت تمثّل إشكالات وهواجس: كيف نقرأ هذا الإرث وقبلتنا المستقبل وليس الماضي؟؟ وبأيّة غاية؟؟ بأكثر دقّة كيف نقرأه قراءة براغماتيّة واعية ومقصودة ؟؟ إلى أيّ حدّ يمكن الاستفادة ممّا تراكم من نضالات محطّات- بعضعها كان جمرا- لتجاوز الأزمة الجاثمة اليوم(اليوم تحديدا)؟؟ وقبل؟؟ وبعد؟هل من الجدّيّة في شيء،وهل يمكن أصلا تجاهل ضغط الواقع المأزوم حدّ الانفجار؟؟ وماذا عن الأزمة التي تردّت فيه الحركة النّقابيّة في السّنوات الأخيرة العجاف وأساسا في ظلّ حكم سعيّدّ،حكم لا مكان للوسائط في سرديّته وفي فهمه لأشكال وآليّات تسيير شؤون البلاد ولا مجال في "فلسفته" للعمل المنظّم نقابيّا كان أم جمعياتيّا، حزبيّا كا أم فكريّا ؟؟ وهل يمكن الفعل في أزمة جاثمة بكلّ كلكلها ومكشّرة عن أنيابها- متى اقتنع القوم براهنيّة التّسليم بوجودها- بتحميل تبعاتها لعوامل خارجية فقط؟؟ وبعض"التّنطّع"من هذه الجهة أو من تلك؟؟ وماذا عن اقتناع البعض بضرورة الارتماء في حبائل المنقذ الأعلى؟؟أليس هناك عقم في التّسيير وعجز عن التّصالح مع متطلّبات المرحلة وتحدّياتها التي ترقى إلى مستوى الإعصار؟؟ أليس الزلزال الذي ضرب البلاد بعد 25 جويلية قد أصاب من الجسم النّقابيّ مقتلا؟؟ هل يكفي أن تكون الصّورة (صورة العمل النّقابيّ)منسجمة مع غرور النّقابيّين في كونهم رقما في كلّ معادلة؟؟ أم المطلوب صورة المنظّمة كما يجب أن تتمثّلها المخيّلة العامّة؟؟ والاتّحاد هل هو فعلا أقوى قوّة في البلاد كما ظلّ النّقابيّون يردّدون دوما أم أنّ المطلوب أن يكون كذلك؟؟

++ الميثـاق النّقابـيّ
أجمل، وأصدق عهد ودستور نقابيّ ما ردّ به النّقيب(كما يحلو للطّاهر الحدّاد نعته)محمد علي الحامّي على طلب مدير البوليس الفرنسيّ: "إنك تخاطبني في حلّ الجامعة. وهي ليست ملكا من أملاكي لي حقّ التّصرّف فيه. بل هي حقّ للعملة مشاع. ولي صوت لا أرفعه ضدّ الجامعة ما حييت". فهل كنّا دوما على العهد؟؟
حريّ بكلّ النّقابيّن -وبالقيادات النّقابيّة أساسا-أن يضعوا إجابة محمّد علي نصب أعينهم ويجعلوا منها شعارهم الرّسميّ ونشيدهم النّقابيّ،ميثاق شرفهم،بوصلة مسارهم ودليل عملهم في كلّ مرحلة حتّى يكتسب انتماؤهم للحقل النّقابيّ-موقفا وموقعا،رؤية وتبصّرا، انضباطا والتزاما- كلّ المعنى، كلّ الصّدقيّة،كلّ الوجاهة وكلّ المشروعيّة.أن لا يحيدوا عنه ليكونوا قولا وصدقا جديرين بالانتساب لما نحته الرّوّاد من إرث، الحامّي/ الحدّاد وحشّاد ورفاقهم من المؤسّسين ممّن آمنوا بمشروع بدأ، ككلّ مشروع نبيل، فكرة وحلما ليصبح مع مرور الأيّام سرديّة وموروثا. قرن على انبعاث الحركة النّقابيّة التّونسيّة(وليس الحركة النّقابيّة) وتنظّمها وتونستها.الحركة التي أردها المؤسّسون تنظّما نقابيّا تونسيّا لحما ودما على غرار ما هو موجود في سائر الأمم المتقدّمة: "جامعة عموم العملة التّونسيّة".
خليط من المحطّات والمنعرجات، الأزمات فيها ملاحم تتداخل فيه الأشجان والأحلام.تتباين حينا وتلتقي أحيانا. تتصارع وفي البال أن تصنع وحدة ومنعة. سيرة يلتحم فيها النّزوع الذّاتيّ بالهمّ الجمعيّ وذّكريات تشقّ ذاكرة وتاريخا يعود تشكّلها وتشكّله إلى مطلع العشرينات:حلم جيل وقد أبى معتنقوه إلاّ أن يجعلوا منه حلم أجيال/ ذاكرة متوقّدة وتذكّر وقّـاد/ مراوحة بين التّجربة والتّجريب/ نجاحات كثيرة ولكنّها مريرة وإخفاقات ليست بالقليلة ولكنّها ليست كلّها مآس/ خيبات وأحلام /أعاصير وتحدّيّات/ أزمات( فعليّة ومفتعلة)وصمود/ ثبات وغدر/ شهداء وشهادات/ تطويع وتنطّع/ تباين كأشدّ ما يكون التّباين والتقاء غالبا ما تكون للضّرورة فيه نصيب،اختلاف لا يمكن إلاّ أن يكون ضروريّا وانضباط تمليه الضّرورات والرّغبة في المحافظة على وجاهة الفعل النّقابيّ ببريقه ومصداقيّته/ إحباطات وتطلّعات.
ذلك هو تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة وتلك خصوصيّته وخصوصيّتها.مسيرة ليست بالضّرورة ناصعة وورديّة في مختلف منعرجاتها(وما كان يمكن أن تكون) ولكنّها بالمقابل شديدة الثّراء والإغراء وكثيفة الحضور.

++التّاريخ استخلاصات واستنتاجات
التّاريخ سيَـرٌ وعِبـر."أيّـام" وتسجيل للأيّام .أحداث واستنتاجات. ولكنّ التّاريخ هو أيضا قراءة في التّاريخ.مقارعة وتأويل. قراءة للوقائع وفي الوقائع. لم يكن يوما غاية في ذاته، وما كان يوما محايدا حتّى في تلك الدّراسات والبحوث المسكونة بشغف الانضباط للبعد الأكاديميّ التّوثيقيّ، مهما جزمت من عزم على تغليب النّزاهة المعرفيّة واعتمادها منهجا في البحث. ابن خلدون كان - وهو يعرك ما أصرّ على اعتباره"علم التّاريخ" واعيا بذلك كأشدّ ما يكون الوعي .ولعلّ أهمّ مؤلّفاته في ما عُرف بـ"تاريخ ابن خلدون"ينهض دليلا على أنّ غاية الغايات في التّاريخ: العبرة والاعتبار، كما يحيل إلى ذلك عنوان الموسوعة :" كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومن عاشرهم من ذوي السّلطان الأكبر". الطّاهر الحدّاد- ذلك الثّوريّ المنسيّ- مؤرّخ الحركة والعضد الأيمن لمؤسسها أكّد هو الآخر، بكثير من التّمثّل والإدراك والوثوقيّة، في خاتمة كتابه"العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة "(1927)، عامين بعد إجهاض التّجربة والتّنكيل بزعمائها ومحاكمتهم وتشريدهم ونفي البعض منهم،على أنّ التّأريخ لمسارات التّنظّم النّقابيّ ليس (ولا يجب أن يكون)غاية في ذاته. ذلك هو المغزى من قوله".. وما الماضي إلاّ درس للمستقبل.". كتاب أراده الحدّاد تأريخا لمرحلة ورصدا لتحوّل نوعيّ على غاية من الخصوصيّة، سيطبع لأسباب متعدّدة وجملة من المعطيات المتداخلة ما تلاه من مراحل، وحفظا للذّاكرة من التّلف ما دامت الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها يوما ما تتآكل و يعلوها الصّدأ وينال منها تقادم الزّمان.هديّته للحركة الاجتماعيّة وللحركة العمّاليّة أساسا وتثمين لمجهود المؤسّس محمد علي ولرفاقه أيضا .آية ذلك أنّ فكرة بعث جسم نقابيّ متونس لحما ودما لم تكن رغبة ذاتيّة، ولا حلما فرديّا راود محمّد علي ولا انفعالا لحظويّا. فمخاضات وحيثيّات تبلور فكرة نحت خيمة نقابيّة تونسيّة بما يعنيه ذلك من ضرورة وأهميّة الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة (الس ج ت بالخصوص) كانت نتاجا لاعتمال هاجس جماعيّ:"إنّ جامعة عموم العملة التونسية لم تكن نتيجة جلسة أو جلستين أو يوم أو يومين بل هي نتيجة للمحاوارات الدّائمة بين الأعضاء المؤسّسين في اجتماعاتهم المتتالية". منذ مغامرة الانسلاخ ومخاطرة التّأسيس حكم التّاريخ على الحركة النّقابيّة أن تكون مسكونة بهاجس الاستقلاليّة، هاجس الرّوّاد، رغبتهم ومشروعهم في رحلة بحث دائم عن اكتساب أكثر ما يمكن من آليات التّحصين.استقلاليّة الحركة لم تكن يوما( لحظات المدّ ولحظات الجزر) منجزا بل كانت دوما مطمحا ومطلبا، مدار صراع الحركة مع أعدائها.
يمكن الجزم بأن الاستقلاليّة - تماما كالحرّيّة- رهانٌ، تحقيقها في النّضال من أجل فرضها واقتلاعها. دفاع في حجم الضّريبة التي دُفعت مهرا لها. رحلة البحث عن الاستقلاليّة هي بالأساس مشوار العذابات التي عاشها العمّال التّونسيّون وقياداتهم النّقابيّة وجملة النّضالات التي خاضوها.ألا يمكن الجزم دون الخوف من الوقوع في مطبّ خطيئة الاختزال أنّ تاريخ الحركة النّقابيّة في تونس ليس إلاّ رحلة شاقّة وطويلة للتّخلّص من شبح الهيمنة والتّطويع والإلحاق مسكونة بهاجس اسمه الاستقلالية.أمّا الباقي فعلى أهمّيته يبقى تفاصيل. لعلّ ذلك ما يفسّر وقع شعار "اتّحاد مستقلّ والشّغيلة هي الكلّ".

++ فضل التّأسيس وفضل التّأريخ
أمّا فضل التّأسيس- والرّيادة- فيعود في المقام الأوّل إلى ذلك الشّاب العائد من ألمانيا بعد غربة واغتراب قسريّ، الشّهيد محمّد علي الحامّي، زارع بذرة الفعل النّقابيّ وباعث أوّل نواة لتجربة نقابيّة أرادها أصيلة منغرسة في تربتها،هذا الذي قال عنه جون بول فينودوري ممثل الحزب الشيوعي في تونس "ظلّ الخادم الوفيّ للطّبقة الشّغيلة التّونسيّة" وكتب عنه رفيق دربه الحدّاد "لقد جاءنا لأوّل مرّة بأفكار لا تتّسع لها البلاد التّونسيّة".غير أنّ البلاد ما ضاقت بالفكرة وما ضاق بها العمّال الذين التفّوا حوله وحول الفكرة النّقابيّةالتي كان يدعو إليها، بل حاصرها وأجهضها من مثّلت الفكرة عليهم خطرا. حوكم الرّجل، لوحق ونُفي وشُرّد ومات غريبا في غير تربة بلده. رحل وما رحلت الفكرة ولا خبت التّجربة،تماما ككلّ فعل عظيم وفكرة نبيلة وحلم متجاوز لزمانه، يفنى من حملوها بذرة وتحدّيّا، وقد يُظلمون في حياتهم ولا يُردّ لهم الاعتبار بعد رحيلهم. ولكّن الفكرة أبدا لا تموت. ويبقى عزاؤهم وعزاء من يعتنق أفكارهم وإليها ينتصر أنّ الأفكار تكتسب أجنحة بها تعبر المكان والزّمان وتطير، وأنّ ما أفنوا عمرا من أجله يظلّ إرثا يعبر كلّ مصر وعصر. عزاء محمد علي ومن عاش معه التّجربة والمحنة تجسّد أوّلا في محاولة البعث الثّانيّة (تجربة بلقاسم القناوي 1937) والإصرار على الاحتفاظ بذات التّسميّة "جامعة عموم العملة التّونسيّة الثّانية. تجربة لم تعمّر هي الأخرى كثيرا ودفعت نفس الضّريبة التي دفعتها الجامعة الأولى: مهر الاستقلالية، وتجسّدت بشكل أوضح في تجربة حشّاد(الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، 20 جانفي 1946).في قراءة ما(ودون الإجحاف في حقّ مؤسّس الاتّحاد،وليس مؤسس الحركة النّقابيّة، الشّهيد فرحات حشّاد في إخلاصه ووفائه ووضوحه وخاصة نضاليّته مع أخذ بعين الاعتبار اختلاف السّياقات) يمكن الجزم بأنّ تجربة حشّاد "استنساخ" ذكيّ ومحيّن لتجربة محمد علي بتلافي ما كان سببا في وأدها في المهد.
وأمّا فضل التّـأريخ والتّوثيق والقراءة والتّأصيل فيعود بلا منازع إلى أهمّ شخصيّة إشكاليّة سجاليّة طبعت تلك الفترة،الفتى الثّائر الطّاهر الحدّاد،مؤرّخ الحركة،ضميرها وأمير سرّها.عنه يقول نصير الفكر الحرّ المفكّر المصريّ طه حسين "لقد تجاوز هذا الفتى قومه بقرنين". ويقول عنه رفيق دربه ونصيره في محنته أحمد الدّرعي أنه أعظم شخصيّة تونسيّة في عصره. ويعتبره بعض الدّارسين - بلا مغالاة- أب الحداثة في تونس.كتاب الحدّاد ليس مجرّد انتصار لتجربة قد تكون سابقة لوقتها،استعجلت الزّمن ( وفي ذلك تحديدا تكمن روعتها) وإنّما هو مدوّنة أرادها صاحبها تأريخا لأهمّ حدث وقتها: بروز العمّال على السّاحة وانتصارهم للانتماء المهنيّ والطّبقيّ بديلا عن الانتماء العروشيّ، الجهويّ والقبليّ .
الاحتفال والاحتفاء بمرور مائة سنة على ميلاد أوّل تجربة نقابيّة تونسيّة حدث نقابيّ هامّ تاريخيّ ورمزيّ . إحياؤه ليس مجرّد واجب تملين السّنن وحكم العادة .كان يجب أن يكون حدثا وطنيّا (بعيدا عن كلّ توظيف رخيص) بحكم وزن الحركة النّقابيّة وحضورها في سائر المعارك التي خاضتها الحركة الوطنيّة زمن الاستعمار وبحكم مساهمتها في تأثيث المشهد السّياسيّ والحراك الاجتماعي ( بوجهيه السّلبيّ والإيجابيّ )في ظلّ دولة الاستقلال. احتفال تمليه العادة والمألوف وتمليه أكثر الضّرورة والحاجة. فما تعيشه البلاد من ألغام تضعها على كفّ عفريت مرعب ومخيف. والاستنجاد بإرث لم يكن يوما عبئا سيكون أبلغ رسالة في أصعب فترة من تاريخ تونس الحديث.

































"أتونس عندي في هواك تولّع*** وأنت منى نفسي عليك تقطّع"
(الطّاهر الحدّاد)
"التّاريخ ...تعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق".

( ابن خلدون)
" لا يسرد التّاريخ إلاّ ما تبقّى من الماضي محفوظا في الذّاكرة".
(عبد الله العروي/ مجمل تاريخ المغرب)

قبل مائة عام، في تونس المنهكة بعجز باياتها والمستعمرة من أعدائها(لعلّه من الضّروريّ الجزم والقسم بأنّنا ما زلنا في حاجة إلى التّذكير بأنّ تونس كانت فعلا محتلّة وليست في حماية"العكري")،تحديدا في صائفة 1924 انبعث حلم.لم يعمّر (كتجربة)غير بضعة أشهر منفلتة من حوادث الأيّام كانت كافيّة ليخصب الحلم وينمو الجنين ويمتدّ في الزّمن ويتحوّل إلى إرث جيل وأجيال. التقت رغبة عمّال الرّصيف- الذين تمرّسوا على النّضال النّقابيّ وخاضوا عدّة "اعتصابات" في صلب النّقابات الفرنسيّة وبقيادتها دون أن يغنموا من نضالاتهم شيئا- بحماسة بعض المفكّرين المسكونين بالهمّ الوطنيّ والتّوّاقين إلى خدمة الشّأن العامّ،الحامّي/ الحدّاد/ مختار العيّاري/ أحمد الدّرعي. فكانت المغامرة التي تحوّلت إلى رهان. وكانت منطلقا لمراكة إرث يغطّي قرنا من الفعل النّقابيّ،قرنا من البحث عن استقلاليّة ظلّت دوما هدفا وغاية تُطلب ويعسر إدراكها، إرث هو محلّ اعتزاز من كلّ الطّيف النّقابيّ. وغالبا ما يقع استحضاره كلّما عسرت السبّل وبات الأفق ضبابيّا ووجدت المنظّمة نفسها في أزمة أيّا كانت طبيعة هذه الأزمة،أسبابها وتمظهراتها. وتبقى الأسئلة قائمة منتصبة مستفزّة. مثّلت ومازالت تمثّل إشكالات وهواجس: كيف نقرأ هذا الإرث وقبلتنا المستقبل وليس الماضي؟؟ وبأيّة غاية؟؟ بأكثر دقّة كيف نقرأه قراءة براغماتيّة واعية ومقصودة ؟؟ إلى أيّ حدّ يمكن الاستفادة ممّا تراكم من نضالات محطّات- بعضعها كان جمرا- لتجاوز الأزمة الجاثمة اليوم(اليوم تحديدا)؟؟ وقبل؟؟ وبعد؟هل من الجدّيّة في شيء،وهل يمكن أصلا تجاهل ضغط الواقع المأزوم حدّ الانفجار؟؟ وماذا عن الأزمة التي تردّت فيه الحركة النّقابيّة في السّنوات الأخيرة العجاف وأساسا في ظلّ حكم سعيّدّ،حكم لا مكان للوسائط في سرديّته وفي فهمه لأشكال وآليّات تسيير شؤون البلاد ولا مجال في "فلسفته" للعمل المنظّم نقابيّا كان أم جمعياتيّا، حزبيّا كا أم فكريّا ؟؟ وهل يمكن الفعل في أزمة جاثمة بكلّ كلكلها ومكشّرة عن أنيابها- متى اقتنع القوم براهنيّة التّسليم بوجودها- بتحميل تبعاتها لعوامل خارجية فقط؟؟ وبعض"التّنطّع"من هذه الجهة أو من تلك؟؟ وماذا عن اقتناع البعض بضرورة الارتماء في حبائل المنقذ الأعلى؟؟أليس هناك عقم في التّسيير وعجز عن التّصالح مع متطلّبات المرحلة وتحدّياتها التي ترقى إلى مستوى الإعصار؟؟ أليس الزلزال الذي ضرب البلاد بعد 25 جويلية قد أصاب من الجسم النّقابيّ مقتلا؟؟ هل يكفي أن تكون الصّورة (صورة العمل النّقابيّ)منسجمة مع غرور النّقابيّين في كونهم رقما في كلّ معادلة؟؟ أم المطلوب صورة المنظّمة كما يجب أن تتمثّلها المخيّلة العامّة؟؟ والاتّحاد هل هو فعلا أقوى قوّة في البلاد كما ظلّ النّقابيّون يردّدون دوما أم أنّ المطلوب أن يكون كذلك؟؟

++ الميثـاق النّقابـيّ

أجمل، وأصدق عهد ودستور نقابيّ ما ردّ به النّقيب(كما يحلو للطّاهر الحدّاد نعته)محمد علي الحامّي على طلب مدير البوليس الفرنسيّ: "إنك تخاطبني في حلّ الجامعة. وهي ليست ملكا من أملاكي لي حقّ التّصرّف فيه. بل هي حقّ للعملة مشاع. ولي صوت لا أرفعه ضدّ الجامعة ما حييت". فهل كنّا دوما على العهد؟؟ حريّ بكلّ النّقابيّن -وبالقيادات النّقابيّة أساسا-أن يضعوا إجابة محمّد علي نصب أعينهم ويجعلوا منها شعارهم الرّسميّ ونشيدهم النّقابيّ،ميثاق شرفهم،بوصلة مسارهم ودليل عملهم في كلّ مرحلة حتّى يكتسب انتماؤهم للحقل النّقابيّ-موقفا وموقعا،رؤية وتبصّرا، انضباطا والتزاما- كلّ المعنى، كلّ الصّدقيّة،كلّ الوجاهة وكلّ المشروعيّة.أن لا يحيدوا عنه ليكونوا قولا وصدقا جديرين بالانتساب لما نحته الرّوّاد من إرث، الحامّي/ الحدّاد وحشّاد ورفاقهم من المؤسّسين ممّن آمنوا بمشروع بدأ، ككلّ مشروع نبيل، فكرة وحلما ليصبح مع مرور الأيّام سرديّة وموروثا. قرن على انبعاث الحركة النّقابيّة التّونسيّة(وليس الحركة النّقابيّة) وتنظّمها وتونستها.الحركة التي أردها المؤسّسون تنظّما نقابيّا تونسيّا لحما ودما على غرار ما هو موجود في سائر الأمم المتقدّمة: "جامعة عموم العملة التّونسيّة". خليط من المحطّات والمنعرجات، الأزمات فيها ملاحم تتداخل فيه الأشجان والأحلام.تتباين حينا وتلتقي أحيانا. تتصارع وفي البال أن تصنع وحدة ومنعة. سيرة يلتحم فيها النّزوع الذّاتيّ بالهمّ الجمعيّ وذّكريات تشقّ ذاكرة وتاريخا يعود تشكّلها وتشكّله إلى مطلع العشرينات:حلم جيل وقد أبى معتنقوه إلاّ أن يجعلوا منه حلم أجيال/ ذاكرة متوقّدة وتذكّر وقّـاد/ مراوحة بين التّجربة والتّجريب/ نجاحات كثيرة ولكنّها مريرة وإخفاقات ليست بالقليلة ولكنّها ليست كلّها مآس/ خيبات وأحلام /أعاصير وتحدّيّات/ أزمات( فعليّة ومفتعلة)وصمود/ ثبات وغدر/ شهداء وشهادات/ تطويع وتنطّع/ تباين كأشدّ ما يكون التّباين والتقاء غالبا ما تكون للضّرورة فيه نصيب،اختلاف لا يمكن إلاّ أن يكون ضروريّا وانضباط تمليه الضّرورات والرّغبة في المحافظة على وجاهة الفعل النّقابيّ ببريقه ومصداقيّته/ إحباطات وتطلّعات. ذلك هو تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة وتلك خصوصيّته وخصوصيّتها.مسيرة ليست بالضّرورة ناصعة وورديّة في مختلف منعرجاتها(وما كان يمكن أن تكون) ولكنّها بالمقابل شديدة الثّراء والإغراء وكثيفة الحضور.

++التّاريخ استخلاصات واستنتاجات

التّاريخ سيَـرٌ وعِبـر."أيّـام" وتسجيل للأيّام .أحداث واستنتاجات. ولكنّ التّاريخ هو أيضا قراءة في التّاريخ.مقارعة وتأويل. قراءة للوقائع وفي الوقائع. لم يكن يوما غاية في ذاته، وما كان يوما محايدا حتّى في تلك الدّراسات والبحوث المسكونة بشغف الانضباط للبعد الأكاديميّ التّوثيقيّ، مهما جزمت من عزم على تغليب النّزاهة المعرفيّة واعتمادها منهجا في البحث. ابن خلدون كان - وهو يعرك ما أصرّ على اعتباره"علم التّاريخ" واعيا بذلك كأشدّ ما يكون الوعي .ولعلّ أهمّ مؤلّفاته في ما عُرف بـ"تاريخ ابن خلدون"ينهض دليلا على أنّ غاية الغايات في التّاريخ: العبرة والاعتبار، كما يحيل إلى ذلك عنوان الموسوعة :" كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومن عاشرهم من ذوي السّلطان الأكبر". الطّاهر الحدّاد- ذلك الثّوريّ المنسيّ- مؤرّخ الحركة والعضد الأيمن لمؤسسها أكّد هو الآخر، بكثير من التّمثّل والإدراك والوثوقيّة، في خاتمة كتابه"العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة "(1927)، عامين بعد إجهاض التّجربة والتّنكيل بزعمائها ومحاكمتهم وتشريدهم ونفي البعض منهم،على أنّ التّأريخ لمسارات التّنظّم النّقابيّ ليس (ولا يجب أن يكون)غاية في ذاته. ذلك هو المغزى من قوله".. وما الماضي إلاّ درس للمستقبل.". كتاب أراده الحدّاد تأريخا لمرحلة ورصدا لتحوّل نوعيّ على غاية من الخصوصيّة، سيطبع لأسباب متعدّدة وجملة من المعطيات المتداخلة ما تلاه من مراحل، وحفظا للذّاكرة من التّلف ما دامت الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها يوما ما تتآكل و يعلوها الصّدأ وينال منها تقادم الزّمان.هديّته للحركة الاجتماعيّة وللحركة العمّاليّة أساسا وتثمين لمجهود المؤسّس محمد علي ولرفاقه أيضا .آية ذلك أنّ فكرة بعث جسم نقابيّ متونس لحما ودما لم تكن رغبة ذاتيّة، ولا حلما فرديّا راود محمّد علي ولا انفعالا لحظويّا. فمخاضات وحيثيّات تبلور فكرة نحت خيمة نقابيّة تونسيّة بما يعنيه ذلك من ضرورة وأهميّة الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة (الس ج ت بالخصوص) كانت نتاجا لاعتمال هاجس جماعيّ:"إنّ جامعة عموم العملة التونسية لم تكن نتيجة جلسة أو جلستين أو يوم أو يومين بل هي نتيجة للمحاوارات الدّائمة بين الأعضاء المؤسّسين في اجتماعاتهم المتتالية". منذ مغامرة الانسلاخ ومخاطرة التّأسيس حكم التّاريخ على الحركة النّقابيّة أن تكون مسكونة بهاجس الاستقلاليّة، هاجس الرّوّاد، رغبتهم ومشروعهم في رحلة بحث دائم عن اكتساب أكثر ما يمكن من آليات التّحصين.استقلاليّة الحركة لم تكن يوما( لحظات المدّ ولحظات الجزر) منجزا بل كانت دوما مطمحا ومطلبا، مدار صراع الحركة مع أعدائها. يمكن الجزم بأن الاستقلاليّة - تماما كالحرّيّة- رهانٌ، تحقيقها في النّضال من أجل فرضها واقتلاعها. دفاع في حجم الضّريبة التي دُفعت مهرا لها. رحلة البحث عن الاستقلاليّة هي بالأساس مشوار العذابات التي عاشها العمّال التّونسيّون وقياداتهم النّقابيّة وجملة النّضالات التي خاضوها.ألا يمكن الجزم دون الخوف من الوقوع في مطبّ خطيئة الاختزال أنّ تاريخ الحركة النّقابيّة في تونس ليس إلاّ رحلة شاقّة وطويلة للتّخلّص من شبح الهيمنة والتّطويع والإلحاق مسكونة بهاجس اسمه الاستقلالية.أمّا الباقي فعلى أهمّيته يبقى تفاصيل. لعلّ ذلك ما يفسّر وقع شعار "اتّحاد مستقلّ والشّغيلة هي الكلّ".

+++ فضل التّأسيس وفضل التّأريخ

أمّا فضل التّأسيس- والرّيادة- فيعود في المقام الأوّل إلى ذلك الشّاب العائد من ألمانيا بعد غربة واغتراب قسريّ، الشّهيد محمّد علي الحامّي، زارع بذرة الفعل النّقابيّ وباعث أوّل نواة لتجربة نقابيّة أرادها أصيلة منغرسة في تربتها،هذا الذي قال عنه جون بول فينودوري ممثل الحزب الشيوعي في تونس "ظلّ الخادم الوفيّ للطّبقة الشّغيلة التّونسيّة" وكتب عنه رفيق دربه الحدّاد "لقد جاءنا لأوّل مرّة بأفكار لا تتّسع لها البلاد التّونسيّة".غير أنّ البلاد ما ضاقت بالفكرة وما ضاق بها العمّال الذين التفّوا حوله وحول الفكرة النّقابيّةالتي كان يدعو إليها، بل حاصرها وأجهضها من مثّلت الفكرة عليهم خطرا. حوكم الرّجل، لوحق ونُفي وشُرّد ومات غريبا في غير تربة بلده. رحل وما رحلت الفكرة ولا خبت التّجربة،تماما ككلّ فعل عظيم وفكرة نبيلة وحلم متجاوز لزمانه، يفنى من حملوها بذرة وتحدّيّا، وقد يُظلمون في حياتهم ولا يُردّ لهم الاعتبار بعد رحيلهم. ولكّن الفكرة أبدا لا تموت. ويبقى عزاؤهم وعزاء من يعتنق أفكارهم وإليها ينتصر أنّ الأفكار تكتسب أجنحة بها تعبر المكان والزّمان وتطير، وأنّ ما أفنوا عمرا من أجله يظلّ إرثا يعبر كلّ مصر وعصر. عزاء محمد علي ومن عاش معه التّجربة والمحنة تجسّد أوّلا في محاولة البعث الثّانيّة (تجربة بلقاسم القناوي 1937) والإصرار على الاحتفاظ بذات التّسميّة "جامعة عموم العملة التّونسيّة الثّانية. تجربة لم تعمّر هي الأخرى كثيرا ودفعت نفس الضّريبة التي دفعتها الجامعة الأولى: مهر الاستقلالية، وتجسّدت بشكل أوضح في تجربة حشّاد(الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، 20 جانفي 1946).في قراءة ما(ودون الإجحاف في حقّ مؤسّس الاتّحاد،وليس مؤسس الحركة النّقابيّة، الشّهيد فرحات حشّاد في إخلاصه ووفائه ووضوحه وخاصة نضاليّته مع أخذ بعين الاعتبار اختلاف السّياقات) يمكن الجزم بأنّ تجربة حشّاد "استنساخ" ذكيّ ومحيّن لتجربة محمد علي بتلافي ما كان سببا في وأدها في المهد. وأمّا فضل التّـأريخ والتّوثيق والقراءة والتّأصيل فيعود بلا منازع إلى أهمّ شخصيّة إشكاليّة سجاليّة طبعت تلك الفترة،الفتى الثّائر الطّاهر الحدّاد،مؤرّخ الحركة،ضميرها وأمير سرّها.عنه يقول نصير الفكر الحرّ المفكّر المصريّ طه حسين "لقد تجاوز هذا الفتى قومه بقرنين". ويقول عنه رفيق دربه ونصيره في محنته أحمد الدّرعي أنه أعظم شخصيّة تونسيّة في عصره. ويعتبره بعض الدّارسين - بلا مغالاة- أب الحداثة في تونس.كتاب الحدّاد ليس مجرّد انتصار لتجربة قد تكون سابقة لوقتها،استعجلت الزّمن ( وفي ذلك تحديدا تكمن روعتها) وإنّما هو مدوّنة أرادها صاحبها تأريخا لأهمّ حدث وقتها: بروز العمّال على السّاحة وانتصارهم للانتماء المهنيّ والطّبقيّ بديلا عن الانتماء العروشيّ، الجهويّ والقبليّ . الاحتفال والاحتفاء بمرور مائة سنة على ميلاد أوّل تجربة نقابيّة تونسيّة حدث نقابيّ هامّ تاريخيّ ورمزيّ . إحياؤه ليس مجرّد واجب تملين السّنن وحكم العادة .كان يجب أن يكون حدثا وطنيّا (بعيدا عن كلّ توظيف رخيص) بحكم وزن الحركة النّقابيّة وحضورها في سائر المعارك التي خاضتها الحركة الوطنيّة زمن الاستعمار وبحكم مساهمتها في تأثيث المشهد السّياسيّ والحراك الاجتماعي ( بوجهيه السّلبيّ والإيجابيّ )في ظلّ دولة الاستقلال. احتفال تمليه العادة والمألوف وتمليه أكثر الضّرورة والحاجة. فما تعيشه البلاد من ألغام تضعها على كفّ عفريت مرعب ومخيف. والاستنجاد بإرث لم يكن يوما عبئا سيكون أبلغ رسالة في أصعب فترة من تاريخ تونس الحديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات المزارعين في أوروبا: مزارعو النمسا يغضبون ويضعون نع


.. وقفة احتجاجية في باريس تطالب بوقف الحرب في غزة




.. أشرف صبحي: أتعامل بدقة مع أزمات اتحاد الكرة من 2019 كوزير وم


.. وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض تنديدا بمجزرة رفح




.. تحقيق لبي بي سي يكشف ارتباط صناعة العطور الفاخرة بعمالة الأط