الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت الوهم

فوز حمزة

2024 / 5 / 18
الادب والفن


هذه هي زيارتي الثالثة والأخيرة للطبيب النفسي.
المرة الأولى حدثت بالصدفة عندما كنت ذاهبة لمقابلة صديقتي الممرضة التي تعمل في الطابق الثاني.
ترددت قليلاً قبل الدخول عليه، لكنه شجعني عندما أومأ إليّ برأسه.
أغلقت الباب ورائي بطلب منه. سحب كرسيًّا أبيض قريبًا منه ودعاني للجلوس.
لا أنكر أنني شعرت بالقلق وفكرت في الهروب، شيء لا أعرف ما هو منعني من تنفيذ فكرتي، ربما هو الخجل الذي يقف بيني وبين تحقيق ما أريده فأصبح وليمة للندم.
عيناه الصامتة ويده المرتجفة هما أكثر شيء أثارا انتباهي وجعلاني لا أجرؤ على الكلام.
ظل يوزع نظراته بيني وبين الباب حتى ظننت أن أحدًا سيدخل علينا، مال بجسده نحوي هامسًا:
ـ اذهبي وتأكدي من عدم وجود أحد يتجسس علينا!
وحين أكدت له ذلك، أخرج بسرعة من جيبه علبة دواء بيضاء وناولني إياها وقال لي بنبرة تحذير وبصوت منخفض:
ـ إياكِ أن تتناولي من أقراص الدواء هذا!
ثم أضاف وكأنه يحدث نفسه:
- إنها سمٌ بطئ!
أردت إخباره بتناولي عشر علب منه إلا أني تراجعت عن قراري حينما قال لي:
- في الزيارة الثانية سأخبركِ سرًا آخرثم أشار إليّ بالانصراف بعد أن طلب مني معاودة زيارتهِ بعد ثلاثة أيام.
مر اليوم الأول عليّ لأصبح فريسةً دسمةً للخوف. فقدت شهيتي للأكل. دقات قلبي السريعة جعلت العرق يتصبب مني بغزارة حتى تيبست شفاهي، حاولت الهرب من هذه الحالة بالنوم إلا إن حبلًا طويلًا تتدلى منه علب دواء بيضاء رأيتها في منامي، جعلني أنسى فكرة النوم تمامًا.
طرأت لي فكرة الذهاب إليه في اليوم الثاني، لم أعد أطيق الانتظار، أعترف بأني جبانة، مترددة، الخوف هو مَنْ يقود خطواتي، فأصل دائمًا متأخرة أو أتعثر في الطريق فلا أصل أبدًا!
في اليوم الثالث، حينما رآني، وجد صعوبة في تذكري وأنكر كل شيء وطلب مني مغادرة الغرفة.
شعور باليأس والإحباط سيطرا عليّ، وحزن كبير شلَّ حركتي.
ماذا أفعل الآن؟!
لا أدري كيف خطرت على بالي علبة الدواء ونجحت الفكرة، فما إن رآها حتى انتفض من مكانه فزعًا ليقترب مني ويقول بطريقة هستيرية مسرحية وهو يضع فمه في أذني:
- إياكِ والعودة إلى هنا، فالموت يختبئ في الزوايا وخلف الجدران وتحت الأسِرّة وفي علب الدواء البيضاء، لا تغرَّكِ ابتساماتهم، فخلفها تقبع قلوب لا تعرف الرحمة.
وبعد أن عاد إلى مكانهِ واستقر فيه، قال بلهجة آمره أنهى بها الزيارة:
ـ عودي غدًا لأخبركِ بالسّر الأخير!
مرت ساعة قبل أن انتبه إلى أنني الوحيدة في صالة الانتظار، دوار أصاب رأسي افقدني تركيزي وتوازني، أسمع أصواتًا لا أرى أجسادًا لها، ضحكات هستيرية تسخر مني لا أعرف مصدرها، أشباح بألوان كثيرة تتقافز أمامي.
توقف الزمن من حولي وبدأت عقاربه تبث السم قطرة قطرة في دمي حتى شَحُبَ لوني وذبلت أجفاني. تناولت حبة دواء مهدئ من العلبة البيضاء قبل التوجه إلى بيتي منتظرة الغد أو بالأحرى السِّر.
في الليلة التي مرت، عرفت معنى انسلاخ الروح عن الجسد و كيف هو الاختباء في سرداب مظلم للهروب من الموت، معنى أن تعتقلك الهواجس و تحتضر بعيون مفتوحة، ترقب الحياة وهي تمر أمامكَ، كيف هو السير في متاهة بلا مخرج ولا من ضوء ينير لك الدرب؟
استيقظت فوجدت مخاوفي تنتظرني. لا أدري كيف أخبرت سائق سيارة الأجرة عن الطريقَ إلى المستشفى التي يرقد فيها الطبيب النفسي الذي كان يعالجني من مرض الوهم الغريب كما كان يسميه.
ناولته النقود وانتظرت حتى غاب عن ناظري لأتاكد من أنه لن يلحق بيّ.
دخلت البناية مسرعة، كل شيء كان صامتًا، الممرات والأبواب، لا صوت سوى صدى ضربات قلبي تردده الجدران.
دخلت الغرفة التي يرقد فيها طبيبي النفسي ، لكني لم أجده، بل وجدت بدلًا منه الممرضة التي أخبرتني أن مريض الوهم الغريب الذي كان هنا قد مات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز