الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخنيزية

حمد الشهابي

2024 / 5 / 18
الادب والفن


يقال بأن عمر البيت أكثر من مائتي عام، ويقع في شرق قرية المالكية، يتقدمه حوش واسع، وبه ليوان أعمدته مربعة الشكل بنيت من الجص ومازالت بقايا نقش منقوشة عليها منذ بنائها، تتوسط الحوش نخلة واحدة تنتج رطبا أحمر اللون والمعروف باسم «الخنيزي»، وتحيط بهذه النخلة ثلاث أشجار كبيرة متفرعة تمتد أغصانها على الأرض وكأنها عنكبوت وتنتج الكنار الهندي الحلو المذاق وثلاث شجرات من اللوز البحريني، تتيح للجالس تحت ظلها في فصل الصيف بقعة باردة لطيفة الهواء طيبة الرائحة بنكهة اللوز والكنار الهندي ممزوجة برائحة الرطب «الخنيزي» وكأنه عطر مركز من مجملها.

وبالرغم من موقع هذا البيت القديم الكبير في منطقة حديثة عامرة ببيوتها وبناياتها الجديدة على أطراف القرية إلا أن ورثته لم يهدموه أو يؤجروه أو يبيعوه والسبب وجود النخلة «الخنيزية» التي لا ينقطع محصول ثمرها طول العام، ومع الوقت لاحظ المقربون منهم أن أصحاب هذا البيت يدور حولهم شك في موضوع ما بسبب هذا البيت القديم المهجور وقد اخفيت معلوماته عن الجميع، انتشر قليل من هذا الخبر ووقع على مسامع الصحفية مي، فعملت بحثا للصحيفة حول هذا الموضوع للوصول إلى السر الحقيقي حول البيت واصحابه، فانتهى بحثها إلى وجود جدة لهذه العائلة تدعى أم حسن وهي المسئولة عن هذا البيت، وعرفت أيضا أن لهذه الجدة من الأبناء سبعة ومن الأحفاد ثلاثون وأبناء الأحفاد عشرون، واستطاعت الصحفية أن تحصل على موعد معها واستعدت بكل جوارحها لترى هذه الجدة العجوز وتعرف منها قصة هذا البيت، التقت مي عند باب البيت بامرأة في العقد الثالث من عمرها جميلة الملامح ناحلة الخصر منتصبة العود لها عينان واسعتان حادتان كالصقر وقد وضعت كامل زينتها وانسدل شعرها الأسود الطويل على جوانب كتفيها. سألتها عن الجدة أم حسن رحبت بها المرأة وطلبت منها الدخول، استضافتها في صالة البيت، وبعد تبادل بضع كلمات وابتسامات بين الاثنتين طلبت مي من المرأة ان ترى الجدة أم حسن، وبصوت ناعم مكابر يشبه صوت الأميرات وابتسامة ترحيبية أجابتها المرأة أنها هي أم حسن!! قالت مي ولكن... ولكن سمعت أنها... جدة ولديها أولاد وأحفاد كثيرون، أجابتها أم حسن نعم أنا هي أم حسن التي طلبتها للمقابلة!!

دققت مي النظر في وجهها وجمالها صامتة وقد تغيرت ملامح وجهها وكأنها ترى أعجوبة من عجائب الخلق أمامها، ابتسمت أم حسن قائلة لا تستغربي شكلي. وقوامك قالت مي وو.. ولكن كيف سألتها مي، هل هناك.. أكملت أم حسن بقولها هناك سر يا أستاذة مي!!

اعتدلت أم حسن وبدأت تتحدث بثقة كبيرة قائلة، أنا في هذا العام سأبلغ من العمر 180 عاما!! والسر الخفي في كل هذا، ما هو؟ سألتها مي، فقالت لها أم حسن، آن الأوان ليعرف الناس السر الخفي كما قلت، نعم آن الأوان، ولماذا لا؟ ولكن قبل كل شيء سوف ارتب لك موعدا غدا مع حفيدتي لكي تذهبي إلى البيت وتلقي عليه نظرة من الداخل وعلى ما يحتويه ثم سوف نلتقي غدا هنا في نفس الوقت، هذا عظيم قالت مي.. عظيم جدا يا سيدتي.. يسعدني ذلك، وهي في حالة ذهول ووضع مرعب. ولما خرجت من بيتها ودخلت سيارتها أحست أن قدميها تخدرت لبضع دقائق.

في اليوم التالي وقبل الوقت المحدد وأمام البيت كانت مي جالسة في سيارتها تنتظر حفيدة أم حسن وهي تسجل أيضا بصوتها في الهاتف المحمول بداية هذه القصة التي ستنشرها في منصة صحيفة الأيام، وبعد وقت قصير جاءت الحفيدة. نزلت مي من سيارتها وفتحت الحفيدة باب البيت ودخلتا إلى حوشه، ولم تكد مي تضع قدماها داخله وهي تنظر إلى نخلة «الخنيزية» التي تتوسط الأشجار كعملاق مهيب يسلب النظر حتى كادت أن تنهار ضعفا، وأصبحت قدماها ضعيفة لا تحمل جسدها واقشعر شعر جسدها، رأت الكمية الهائلة من الرطب معلقة في عذوق «الخنيزية»، وهو ليس في موسمه، رأت عظم حجم جذعها والماء الذي يقطر من مساماته بلا مزود، كيف؟ تساءلت كيف، ثم وفجأة تحرك سعف النخلة وكأن عاصفة هبت عليها وليس هناك عاصفة، ثم سألت الحفيدة أين نحن؟ ابتسمت الحفيدة وقالت لها سجلي ما تريدين وتحاوري مع جدتي أم حسن!

في مساء ذلك اليوم وفي صالة بيت أم حسن قالت لها سوف اخبرك بقصة نخلة «الخنيزية». وكانت مي متشوقة لسماع قصتها، بدأت أم حسن بالقول إن والد جدها أحضر خمس نخلات من سلطنة عمان ولم تنتصب منها وتحيا إلا هذه «الخنيزية»، وقيل له أن الموطن الأصلي لهذه النخلة يرجع إلى بلد الشام وتحديدا من فلسطين، كيف؟ سألتها مي، هزت أم حسن رأسها مبتسمة وهي تبدو غاية في الحسن والجمال في ثلاثينياتها، ثم قالت، هكذا قيل لي والله أعلم! والقصص والاخبار تنتقل شفاهه من جيل إلى جيل والقصة لم تنته عند هذا الحد يا أستاذة مي!! قالت مي بلهفة أرغب جدا في سماعها إلى الآخر، وأرجو أن لا تستغربي قالت لها أم حسن، ثم واصلت، قيل أن بعضا من عفاريت أو مردة الملك سليمان هم الذين احضروا كمية من النخيل إلى بلاد الشام ونقل بعضها إلى سلطنة عمان قبل الف عام أو ربما أكثر.. وهذه النخلة من تلك النخلات. بطلب من الملك سليمان هذا خبر لا يصدق قالت مي، ولك حرية الرأي أجابتها أم حسن، ويجب أن تعرفي أيضا أن رطب «الخنيزية» يختصر عمر الإنسان إلى درجة لا يتصورها العقل وكأنه اكسير الحياة الذي لا يعرفه أحد. سألتها مي هل حقا عمرك مائة وثمانون عاما؟ أخبرتك قالت لها أم حسن لأن من يأكله لا يشيخ. ساد صمت بينهما وكأن مي قد وقعت في فخ يصعب الإفلات منه، واصلت أم حسن، وأنا كما ترين في الثلاثينات من عمرى بسبب «الخنيزية».

نعم قالت مي تبدين في الثلاثين من عمرك وجميلة أيضا، واصلت أم حسن، لا أعرف إن كنت أعيش كذبة في هذه الحياة أم في حلم ولكني تعبت من حمل هذا السر على عاتقي فقررت أن أبوح لك بهذا السر ولا أعلم ما هي النتيجة!! وفي ذاكرتي وحياتي أحداث لا عد لها ولا حصر. بدأت أم حسن تسرد القصة وكأنها تحلم بشيء مصيره مجهول قائلة مرت علي أحداث مروعة مثل وفاة أزواجي السبعة وجميع صديقاتي ومن صاحبني، فيما كنت أراهم يدفنون في قبورهم وأنا بكامل قواي وعقلي وجسدي، إنه أمر متعب للغاية لا أعرف أين سأصل به، فهو يؤرقني ويعذبني طول الوقت واليوم، ولا أكاد أصدق ما حدث لي، فأصبحت ضعيفة جدا أمام هذا السر في هذه الحياة. لقد تعبت، وهذه هي حياتي يا مي.

مائة وثمانون عاما قضيتها في ألم وبسرية، الحب والفرح ودفن أحبابي والحزن الذي لازمني عهودا، الصدمة، المكابرة، والذلة، لم أعد أطيق ما حولي، هذا شيء مؤلم حقا. ولعلمك أيضا فإن جميع أفراد عائلتي تعودوا على أكل عدد سبع حبات من الرطب كل شهر. ولن تصدقي لو رأيتهم.

في اليوم التالي عندما قررت مي زيارة البيت القديم لالتقاط بعض الصور بعد أن استأذنت من أم حسن ودخلت مع الحفيدة فوجئت باختفاء النخلة «الخنيزية» من موقعها بوسط حوش البيت ما أثار حفيظتها وزادها رعبا وخوفا، ولكنها لاحظت أن عدد سبع حبات من الرطب ملقية على الأرض في موقع النخلة فأخذتها ووضعتها في حقيبة يدها!!

في بيت أم حسن بمدينة حمد دخلت الحفيدة على جدتها أم حسن الموجودة في مطبخ البيت وهي جالسة على كرسي منكسة راسها إلى الأسفل صامتة ثابتة في مكانها وقد تغير شكلها وأصبحت عجوز طاعنة في السن، برزت عظامها في جوانب اكتافها وتشابكت التجاعيد في وجهها وذوت وكأنها الثمرة الجافة وهي ميتة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة رائعة
أم علي ( 2024 / 5 / 18 - 16:56 )
قصة قصيرة رائعة أبدع الكاتب بسردها، اختار لها اسم الخنيزية وهو نوع نخل معروف في البحرين ودول الخليج وعرف باكتناز ووفرة ثماره وبطعم رطبه اللذيذ، ووقعت أحداث القصة في المالكية وهي اسم لقرية من قرى البحرين وتقع في المحافظة الشمالية ويرتبط أهلها بالزراعة وفيها عدد من المزارع، وذكر الكاتب في قصته أسماء لأشجار اشتهرت بها مملكة البحرين كأشجار اللوز والكنار -شجرة السدر-، سرد قصصي مثير يأخذك إلى حياة القرية البسيطة في البحرين عالم يستقبلك بالكرم والحفاوة، ثم يقف في سرده عند طقوس عرفت عند أهل الخليج والعرب كتناول سبع حبات من الرطب. أسوة بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا يأخذك الكاتب في رحلة قصيرة بين الواقع والخيال فيحلق معك في عالم الأساطير، سرد قصصي موفق للمؤلف حمد الشهابي

اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز