الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حروبنا الخاسرة

محمد فاضل رضوان

2006 / 12 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


تنص أبجديات المناهج العلمية سواء كانت حقة أم إنسانية على ضرورة التجرد من الظاهرة لفهمها بشكل صحيح، و التجرد من ظاهرة ما يعني ببساطة أن تتموقع خارجها، غير أن هذا التموقع خارج ما ندرسه و إن كان سهلا على مستوى الفهم، فهو عصي على مستوى التطبيق خصوصا حين يتعلق الأمر بقراءة و تأمل أحوال عالمنا العربي المتورم من شرقه حتى غربه، فمن المعروف أن جوازات السفر العربية البليدة لا تملك صلاحية تجاوز الخطوط التي تفصلنا عن غيرنا من بلاد الله الواسعة إلا وفق شروط صارمة و دقيقة تثبت فيها بالدليل الصادق و الملموس صدق و سلامة نية الشخص المهاجر تجاه من سيحط الرحال بينهم بعدما صنعت منه وسائل الإعلام الغربية وقليل من حماقات بني جلدته وحشا ضاريا يتحين الفرص لإحراق الأخضر و اليابس تحت أقدام الجميع. و الواقع أني أحسست بصدق هذه الرؤية منذ قدر لي أن أرى تضاريس وطني الذي لم أستطع أن أجوبه بأكمله رغم قضائي به ما يقارب الثلاثة عقود تنكمش أمام عيني لتستحيل رسما قريب الشبه من الخرائط المدرسية التي كان يطالبنا معلمونا برسمها أيام الدراسة. في مساءات كندا أجند اقلامي و أوراقي للكتابة عن عالمي الجديد، لكن أشجان وطني البعيد تنتصب باستمرار أمام عيني بكامل تفاصيلها، فأقضي الساعات الطوال ململما تفاصيلها و أنباءها من فضاءات العوالم الافتراضية في شبكة الأنترنيت، إني أرى وطني و قضايا وطني أكثر مما أرى كندا عالمي الجديد و المحنة هذه المرة مزدوجة، عالم تقاوم بقوة لاختراقه نفسيا ووجدانيا بعدما اخترقته ماديا و عالم دمرتك سياسات حكامه و حين هجرته اصبح يلح عليك بثقل أوزاره، و هذا ليس إلا جزءا يسيرا من محن المهاجر.
من صقيع الشمال أطل كل مساء على رسم اوطاني فلا أجد بها إلا معارك خاسرة في أزمنة التيه العربي، و لعلي إن كنت أستطيع في لحظات كثيرة أن أجد تفسيرا للأوضاع المتردية و المعارك الطاحنة في العراق و لبنان و فلسطين فإن حماري يغلب بتعبير الإخوة المصريين عن فهم معارك طاحنة تفرد لها مساحات فضاءاتنا الإعلامية العربية بسخاء حاتمي من قبيل ما استحق بامتياز تسمية حرب الحجاب بالعالم العربي، و لست غافلا عن شطط التسمية و أنا أنسب الحرب المذكورة للعالم العربي رغم أخذها لبوسا إسلاميا يتجاوز مساحة وطن بني يعرب، لكني أجدها أكثر التصاقا بالعرب بالنظر لاقتصار ساحات وغاها على عالمنا المنكوب دون غيره من امتدادات العالم الإسلامي الفسيح التي تفرغت بعض أركانه كدول شرق أسيا للتنمية الحقة فصنعت المعجزات. فقبل حوالي الشهر وصف مفتي استراليا الشيخ تاج الدين الهلالي و هو بالمناسبة مصري المولد و الجنسية و يلقي خطبه و مواعظه في مسجد لاكيمبا التابع لرابطة المسلمين اللبنانيين لمن شككوا في نسبة هذه الحرب للعرب و العاربة، وصف النساء غير المحجبات بأنهن “لحم مكشوف” يجلبن على أنفسهن الهجمات الجنسي، الرجل وجد نفسه في دوامة كبرى من الانتقادات التي طالبت برأسه بحجة التمييز و التحريض على العنف و الاغتصاب. ازمة وصلت إلى أعلى المستويات حين قال رئيس الوزراء الأسترالي جون هاورد أن تصريحات المفتي المذكور “مروعة وتستحق التوبيخ”، لكن الأمر العجيب كان أن خمدت رحى المعركة بمصدرها أستراليا باعتذار المفتي و انبعثت طويلا بجرائدنا و قنواتنا التي استفاضت في التحليل و التأصيل و التفنيد و الجرح و التعديل في المفتي و من صار على ركبه و من عانده من عبد الرحمن ، و لم تضع المعركة أوزارها إلا بالإعلان عن انطلاقة معركة جديدة، بطلها كان و لا يزال طويل العمر وزير الثقافة المصري فاروق حسني الذي كانت السنة الجارية فأل شؤم عليه إذ تزلزل العرش الذي يجلس فوقه منذ ما يقارب عمري مرتين، و هي فترة قياسية بمقاييس السياسة العربية المحنطة، و لست أدري إن كان طويل العمر على وعي من أن الجلسة ليست على المصطبة)و التعبير من نحت الأستاذ عماد عبد الرازق (كما في قرى الريف المصري، و إنما بمنبر إعلامي سيطلع عليه الجميع و هو يتحدث عن شعر النساء الجميل الذي يشبه الورد و الذي تعد تغطيته و حجبه عن الآخرين تخلفا ما فوقه تخلف، و أعجب لمقاييس التخلف في فكر السيد الوزير، و إن كان سعادته لا يرى في خلوده في منصبه بعضا من التخلف المذكور. انفتحت علبة البنادورا في وجه طويل العمر و كانت موقعة عبئت من خلالها فوهات البنادق و المدافع الكلامية و الكتابية بين مؤيد و معارض ووجدنا قنواتنا و مواقعنا و جرائدنا تغرق مرة أخرى في معركة طويل العمر الذي أغلق باب بيته عليه تاركا غيره من هتيفة المثقفين يحررون العرائض دفاعا عن حق سيادته في التعبير الحر عن الراي الذي يكلف عادة صاحبه هتك عرضه في حكومة يعد سعادته أحد أركانها، و فيما كان وضعنا يزداد سوءا و مراتبنا تتقهقر في سلالم التنمية البشرية و طبول الحروب الأهلية تدق و غربان الموت تحلق العواصم العربية الثلاث المنكوبة، غاص الجميع من جديد في التأصيل للحجاب و البحث عما يدعم فرضيته أو اختياريته، و تواصلت معركة الحجاب بين الكر و الفر، فانبرى الممثل المصري حسين فهمي في جلسة أخرى على مصطبة التلفزيون المصري ، و لست أدري من وضع بين يديه المقاييس الذهنية و كلفه بتطبيقها على النساء حين صرح أن المحجبات معاقات ذهنيا قبل أن يعود للاعتذار بعدما أدرك أن المسألة قد تكون أكثر تعقيدا من جلسة دردشة فارغة، و ووجدنا أنفسنا غارقين من خلال إعلامنا في تصريحات الممثل و اعتذاراته و العدة و العدد التي رصدتها الأطراف الأخرى للمطالبة برأسه، و كان علينا أن نسمع مرة أخرى محاضرات طويلة عن الحجاب و ما إذا كان موجها لنساء الرسول فقط أم لعامة المسلمات و عما إذا كان يجب بستر كافة الجسد أم بعضه، و إذا ما كان طقسا دينيا أم تقليدا اجتماعيا، و نشطت جحافل الممثلات المعتزلات و من بينهن من انتقلن حديثا من قنوات الوليد بن طلال المهتمة بهز البطون إلى قنواته المهتمة بالوعظ و الصلاح ليحظين في ظله بنعيم الدنيا و الآخرة، أما من لم يسعفهن حكم السن ليحظين بفرصة الخطابة و الوعظ في منابر الوليد حفظه الله فلهن التلفزيونات العربية المغلقة في أوجه مفكري و فناني الامة الحقيقيين بصفة محجبات يرمحن فيها بالطول و العرض ، و أستعيد هنا الليالي الظلماء التي كان السيد محمد بركات في قناة اقرأ و إمارة الشيخ كامل يستضيف فيها سيدات يشاركهن التكبير و التهليل بعد أن يقدمهن للمشاهد الكبير بصفة السيدة المحجبة شهيرة أو السيدة المحجبة سهير… و كأن الحجاب درجة علمية أو انتماء فكري أو سياسي أو اي شيء بعيد عن كونه أمرا خاصا يتعلق بطبيعة تصور و فهم كل واحد من الناس لعلاقته بجسده. و اليوم أقرأ في بعض منابرنا العربية أن قائمة من ممثلات مصريات بدرجة “محجبات”، تتصدرهن سهير رمزي وسهير البابلي وصابرين وعبير صبري قد قمن بإصدار “قائمة سوداء” تتضمن اسماء مثلات “غير محجبات” “دأبن على مهاجمة وانتقاد” الممثلات “المحجبات” تتضمن بالخصوص يسرا ونادية الجندي وإلهام شاهين ونبيلة عبيد وليلى علوي، ومن المتوقع أن تثير هذه الخطوة بحسب رأي منابرنا المصونة عاصفة كبيرة من الجدل و اللغط في الأوساط الفنية و الإعلامية المصرية و هو ما يعني بالضرورة أن نهيئ أنفسنا من الآن للغرق إعلاميا من جديد في حرب الحجاب المقدسة التي لم تكد تضع أوزارها في موقعة المفتي و الوزير و الممثل، و في بلداننا التي ينخر الفقر و المرض و التخلف و التسلط و الاستبداد أوصالها ستعلن الحروب الطاحنة من جديد ليس على مآسينا هذه، بل من أجل الحجاب مرة اخرى و إذا ما كان فرضا أم سنة أو كان موجها فقط لنساء الرسول أم لكافة المسلمات و ما إذا كان يجب بستر كافة الجسد أم جزء منه… لكن حجم و أهمية أطراف المعركة هذه المرة بين الممثلات حاملات درجة”محجبات”، و نظيراتهن في المعسكر المضاد يعد بفرجة مميزة قد تصل إلى جلسة من طراز “بلدي” تنظمها إحدى تلفزيوناتنا المجيدة للردح الشعبي المؤصل بين أطراف الحرب المقدسة قد تتخللها بعض مستملحات لشيوخ الفتاوى الطازجة من جهة، و دعاة حداثة الهيشك بيشك من جهة أخرى. و لعلي أحس ببعض القهر و الأسى من مجريات الأمور بوطني، و انا لسوء حظي لازلت أعتقد أن كل بلاد العرب أوطاني، حين ارى عمامة السيخ الكبرى تسير جنبا إلى جنب مع الطاقية الأفغانية و الحجاب مع كل أصناف موضة اللباس الغربي الحديث في شوارع مونتريال التي قد تشكل فضاء حتى لمن قرر التظاهر عاريا دون أن يشكل الأمر مثارا للنقاش بين الناس في جلساتهم أو في برامجهم التلفزيونية و الإذاعية لأن دولة المؤسسات تحمي الجميع و تحمي حق الجميع في تنظيم علاقته بجسده وفق قناعاته و معتقداته دون أن يشكل ذلك مثار استنكار أو استغراب من قبل الأطراف الأخرى، لأن حق الأفراد في العيش بحرية لا يتحقق إلا بشكل متبادل في مناخ تحكمه المؤسسات و القوانين و ليس الكراسي التي تجلس فوق الكراسي، أما الالتفات نحو بناء المستقبل و الخروج بأوطاننا من عنق الزجاجة فأمر لا يتم إلا بخوض المعارك الحقيقية في أماكنها الطبيعية، و إذا ما اخترنا ان نستمر في ممارسة التجييش و و التهليل لمعارك دونكيشوتية خاسرة سلفا استهلكت من عمرنا قرونا و قرونا، و اختارت فضاءاتنا الإعلامية ان تظل مسرحا لهراء ممجوج يغطي على قضايا الشعوب الحقيقية و منتظراتها، و تنشط فيه صنائع إعلامية هي أقرب إلى صورة الدجال و المهرج منها إلى صورة المفكر و الفنان فهو أمر ينبئ باننا قد أضعنا فعلا الطريق و أن التيه العربي قد يستمر لسنوات و ربما لقرون أخرى...
كاتب مغربي مقيم بكندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها