الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار يحتاج تنظيما جديدا

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2024 / 5 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


لقد ثبت بعد ثلاثة عشر سنة أن الأحزاب اليسارية النخبوية، المشكلة من فرق وخلايا سرية، في بناء هرمي يقوده أمين عام أو رئيس ومكتب سياسي ولجنة مركزية (والذي يشبه التنظيم العسكري)، لم يعد مؤاتيا ومقبولا من قبل إنسان القرن الواحد والعشرين. وبات على اليسار أن يبتكر التنظيم الذي يتناسب مع مهمات بناء الدولة الحديثة ، ويستفيد من التطور التكنولوجي وسهولة التواصل، ويستلهم من تجارب مجموعات التلاقي المختلفة على الأنترنت، وتجارب الصحف والنشرات الإلكترونية ليبني تنظيما حديثا ، يكون العنصر المحرك فيه هو الموقف والقضية، وإطاره هو كل صيغ التواصل الممكنة من أجل تجميع الكتلة التاريخية القادرة على تحقيق التغيير الاجتماعي.

اليسار اليوم يحتاج تنظيم حديث وذكي ورحب يشمل كل المنادين بالعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية واستقلال القضاء وتحديث الدولة والمجتمع بتوطين الديمقراطية والعلمنة. ويشمل جميع المتحدين حول قضايا شاملة كالاشتراكية، والوحدة العربية، وقضايا البيئة،والمشتغلين في مجال القضايا المهنية كالنقابات العمالية والمهن الحرة والأجور، أو حول قضايا فكرية ، ولا سيما المتعلقة منها بتطوير الفكر التغييري وبالصراع الايديولوجي، الخ. تنظيم ذكي يضمن احترام كل صيغ التنوع والتعدد حول كل هذه القضايا، سواء فيما بين قوى اليساري، أو داخل التنظيم نفسه.

يعني التحدي الأكبر هو بناء تنظيم يساري حديث قادر على مراجعة التجارب السابقة ومساءلة كل الأفكار التي ادعت تمثيلها الوحداني للثورة والتغيير، والكشف عن أعطابها وحدودها بشجاعة، والتخلي عن تلك التأويلات المتعسفة، والكف عن الاعتقاد بإن الماركسية هي نهاية تاريخ العلوم والمعارف، والعمل على تجديدها وتحديثها، ووصلها بكل العلوم التي تمنح مصطلح الثورة مدلوله الحقيقي بعد أن شوهته التأويلات السطحية السخيفة التي قادها أناس محدودين بلا مواهب هم أقرب لضباط المخابرات ورجال الدين منهم لشباب الثورة والمستقبل.

اليساريحتاج تنظيما يُربي الأجيال على فكرة التغيير الشامل اقتصادا وسياسة وثقافة اعتراضا على التربية الانقلابية التي يقتصر التغيير فيها على تبديل المواقع في هرم السلطة. وهذا يقتضي إعادة النظر بكل المفاهيم "الربّانية" الإطلاقية الجامدة كالبروليتاريا والعنف الثوري، واشتراط التنظيم وحدة ايديولوجية وسياسية وتنظيمية! وحدة غير ممكنة حتى عند أهل السنة والجماعة.
لا بد من تنظيم قادر على التخلي عن هذه المفاهيم الغبية وتحصين أجياله ضد التطرف والانغلاق، وذلك بتحريض الشباب على تمثّل التعدد والتنوع والتعاون وبناء أفكارهم على ضوء العلوم والمعارف والوقائع والمعطيات .

اليسار يحتاج تنظيم له مؤسسات ومراكز بحث تتولى دراسة مقومات اقتصاد تونس وثرواتها وأولويات شعبها ومحيطها وموقعها في العالم وإمكانياتها، حتى يرسم مشروعا وطنيا قابلا للتنفيذ. فالماركسية لا تكفي تونس. فعلى سبيل المثال نحن نعلم أن اهتمام ماركس انصب على الجانب الاقتصادي من تطور الرأسمالية في إطار سعيه وراء تفسير التاريخ واستخراج قوانينه. ولذلك تكاد كتاباته تخلو من البحوث السياسية التي توازي، في عمقها، بحوثه الاقتصادية. كما نعلم أنه جرى تأويل أفكار ماركس المبعثرة والقليلة عن الدولة تأويلا إيديولوجيا بافلوفيا، مفاده القضاء على الدولة بدل النضال من أجل إصلاحها بما يؤمّن الشروط المادية لانتصار الاشتراكية. ونعلم أنه ما من فلسفة عظيمة وملهمة إلا وبنت لنفسها فردوسها وجنتها الخالدة. ومن ذلك مجتمع ماركس الفاضل الخالي من الطبقات الذي تضمحل فيه الدولة من تلقاء نفسها ما أن تنتهي شروط وجودها.

اليسار يحتاج تنظيما عقلانيا ينظر بدقة للتطور اللامتكافئ بين المركز والأطراف، ليعيد النظر في برنامجه الذي بناه زمن الحرب الباردة، على هاجس الاستقلال الاقتصادي وفك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية. وذلك لكي يكون قادرا على انتاج فكر واقعي يقول بالنضال من أجل تحسين شروط استقلال القرار السيادي داخل المنظومة الرأسمالية، طالما لم تعد هنالك منظومة اشتراكية في هذا العالم. وفي هذا الباب هنالك جبل من الدراسات، وضعها مفكرون تقدميون ماركسيون عرب وأجانب من كل العالم. يمكن لليسار اليوم الاستفادة منها، والاسترشاد بها لإعادة بناء مشروعه. ويمكن أيضا بحث تجارب عالمية تميزت بطابع اشتراكي في بعض بلدان شمال أوروبا (السويد والدنمرك وبعض بلدان أميركا اللاتينية كالبرازيل. والتجربة الصينية ونظرية اقتصاد السوق الاشتراكي).

اليسار يحتاج تنظيم يعيد النظر بتركيزه على الجانب الاقتصادي، وإغفاله كون الرأسمالية منظومة كاملة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية، وبالتالي فإن تجاوزها لا يتم بالتبسيط الذي تخيله السوفييت، أي بمجرد استلام السلطة عن طريق الثورة المسلحة أو الثورة الجماهيرية، أو بانقلاب يقوده زعيم قبيلة، بل هو عملية تاريخية معقدة طويلة الأمد.

اليسار يحتاج تنظيم حقيقي له مؤسسة بحثية تساعده على إعادة النظر في الاعتقاد بأن العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية. ذلك الاعتقاد البسيط الذي جعله يرسم برامجه ويحدد جبهة أعدائه وجبهة حلفائه على أساسه. لأنه منذ ثلاثين عاما، سقطت الفرضية القائلة إن البشرية تعيش "عصر الانتقال إلى الاشتراكية". ومنذ ذلك الوقت بات على اليسار أن يعيد رسم حلمه على أسس جديدة.

مقصدي من هذا التعليق المطوّل جملة واحدة. "أزمة اليسار التونسي هي أزمة تنظيم حديث عقلاني مرن وواسع، وله بوصلة حقيقية". وعندي يقين أن كل النقاشات الجادة مهمة ومفيدة وضرورية كمجمل الاسئلة والقضايا التي يثيرها توفيق على جداره باستمرار. ولكني أعتقد أن أهم موضوع على الإطلاق في المرحلة الراهنة هو موضوع التنظيم. وحده التنظيم يخلق القادة، ويخلق البوصلة، ويبني المشروع، ويُجمّع الناس ويلهمهم ويبني لهم ثقة في بلادهم وفي مستقبلهم.

مع الودّ دائما








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يغير نتانياهو موقفه من مقترح وقف إطلاق النار في غزة؟ • فر


.. قراءة عسكرية.. اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال




.. ما آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة؟


.. أمريكا.. طلاب جامعة كولومبيا يعيدون مخيمات الحراك المناصر لغ




.. شبكات| غضب يمني لخاطر بائع البلس المتجول