الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة انطباعية في رواية أكلة لحوم البشر

كايد الركيبات
(Kayed Rkibat)

2024 / 5 / 20
الادب والفن


من ارحام المصائب تتوالد الأحداث الجسام، ومن الثوابت العقائدية ذات الجذور الدينية، أو الفكرية، أو التعليمية، أو الوظيفية، تتفرع صنوف السيادة المطلقة. من هنا تأخُذنا رواية أكلة لحوم البشر في سرديتها لتضعنا وجهاً لوجه أمام واقعة دموية أرتكبها المأمور بأمر الآمر، فأفقدته صوابه، وهبطت به من شُرفة المهابة، إلى حضيض التشرد والضياع، رواية كتبها الكاتب المصري حسام أبو سعدة، ونشرتها دار ابن رشد في القاهرة عام 2017، جاءت في مئة وعشرين صفحة من القطع المتوسط، تحكي قصة وتترُك عبرة، كُتِبت حروفها على هامة الشرف، مِدادُها الدّم، وصوتها الألم.
شخصية الرواية الرئيسة ضابط شرطة برتبة نقيب في الأمن المركزي (عماد عبدالله)، يشاركه بطولة أحداث الرواية قائده الميداني ضابط شرطة برتبة عميد (وليد البهنساوي)، وهو المعلم والقائد والأب الروحي ومثاله المحتذى في سلوكيات الانضباط والعمل الشرطي، وحتى تبقى الروح الإنسانية قادرة على الحضور ومواجهة الظلم والقهر والبطش في سياق الرواية، جاء توظيف أدوار الجنس اللطيف في أحداثها من خلال شخصية الطالبة الجامعية نهال، والفتاة الحسناء شاهيناز، والطفلة صابرين، والاستعانة بشخصيات ثانوية وفرت الحركة والتفاعل في سردية الرواية.
صورت الرواية الحالة العامة التي كانت سائدة في الجمهورية العربية المصرية، التي كانت تدار فيها الأمور الداخلية بقبضة أمنية، مكنت ضباط الأمن من بسط نفوذهم وصناعة المكانة الشخصية لهم بين أفراد المجتمع بالتخويف والرعب، وترسيخاً لهذه المكانة، غرس كبار الضباط هذه البذرة في نفوس الضباط الجدد، قال الكاتب على لسان العميد البهنساوي مخاطباً التلميذ العسكري وليد: "يجب أن يَنظُر الناس لضابط الشرطة على أنه أسد. يجب أن يتعاملوا مع الشرطي بنفس هيبة واحترام الأسد" (ص: 19).
تفرعت خيوط سردية الرواية مع انطلاق أحداث ثورة 2011، التي جاءت بمطالب تغيير نظام الحكم، والخروج من نفق الظلم والاستعباد، تدخل الأمن المركزي، صدرت الأوامر بفتح النار على المتظاهرين وسحق الثورة والثوار، أصدر العميد وليد البهنساوي أوامره التي تلقاها من القيادة العليا، تردد ضباط الميدان وصغار الضباط والشرطة، بادر العميد بإطلاق النار لحث الضباط والشرطة على الاقتداء به، لكن كانت أول رصاصة موجهة من البندقية التي انتزعها من يد أحد عناصره تندفع إلى الأمام مع خط نظره حتى استقرت في جسد ابنه الذي كان يشارك الثوار في تظاهرتهم السلمية، فقد العميد صوابه، وهام على وجهه، بهذه الحادثة بدأت رحلة التقصي وراءه من قبل النقيب عماد، لكشف سلوكه الوظيفي ومصيره الغامض، من خلال التفاعل مع أحداث قصة اختفاء العميد البهنساوي، استطاع كاتب الرواية أن يخلق لنا النماذج التي أسس عليها فكرة الرواية، وعبّرت عن مرارة الواقع الذي كان نتاج شعور العظمة واستغلال المنصب والنفوذ.
مثلت الحكايات التي تضمنتها الرواية عن سيرة العميد البهنساوي رمزية عن سلوكيات كبار ضباط الشرطة، الذين استمدوا جبروتهم وتسلطهم ونفوذهم في المجتمع من المراكز الوظيفية التي منحتهم إياه رتبهم العسكرية الكبيرة في الأمن المركزي، بدأت حكايات العميد البهنساوي بتلفيق قضايا السكر والعربدة وعبادة الشيطان، لشاب في مقتبل العمر، انتقاماً من والده الذي انتقد التزوير في إجراءات ونتائج الانتخابات العامة، بصفته مستشاراً ومراقباً على العملية الانتخابية، ليبدأ بين الرجلين صراعاً ينتهي بقضاء الابن مدة المحكومية، ونقل العميد البهنساوي من مباحث العاصمة إلى الأمن المركزي، هذه الحادثة تمثل كل حوادث التهديد والتجبر التي مارسها ضباط الأمن بحق من وقف أمامهم أو أمام أسيادهم، ليقذفوه وراء الشمس.
ثم كشفت رحلة البحث عن العميد قصص الانغماس في العلاقات العاطفية عند تراضي الطرفين على استفادة كل منهم من الآخر، فكانت العلاقة العاطفية للعميد بصديقة ابنه الفتاة الصغيرة الجميلة شاهيناز مثالاً على ذلك، هي تبحث عن السند والقوة التي تتفاخر بها في المجتمع، وهو يتلذذ بجسدها ورغد عيشها. يرى الكاتب أن المرأة من هذا النوع تريد البقاء ملتصقة ببذلة الضابط والاستفادة من نفوذه، لقدرتها على مداعبة عواطفه المتخفية في رداء القسوة الذي يفضل الظهور به، قال على لسان شاهيناز وهي تخاطب النقيب عماد بعد هجرها للعميد البهنساوي: "أنت شاب وسيم، يجب أن تعيش الحياة دون أن تفهمها" (ص: 106). أصابت منه بقولها هذا مقتله، حتى أصبح يدور حول نفسه قائلاً: "إنها على حق. إنها على عكس نهال تماماً التي تحاول فهم الحياة دون أن تعيشها" (ص: 106، 107).
ذكرت شاهيناز بعض المواقف التي صدرت عن العميد البهنساوي خلال علاقتها به، مثلت في رمزيتها سلطة وتجبر واستغلال ضابط الأمن من حوله لتحقيق أهدافه وإشباع غرائزه، في ليلة من الليالي أحضر لها وجبة عشاء، وعندما سألته عن سعر الوجبة الفاخرة قال لها: "أنا لا أدفع الأموال. أنا آكل فقط" (ص: 102)، امتعضت أول الأمر وتساءلت عن حال من تجبر عليه العميد للحصول على هذه الوجبة، أو لعله فرض على أحدهم دفع ثمنها، ثم أدارت وجهها لهذه القضية وأمثالها واستمرت علاقتها به على حالها، حتى عرض لها مشاهد تصويرية عن تعذيبه لحارس الأمن الجامعي الذي نقله للعمل تحت إمرته، وعذبه بأبشع صورة، لأنه تحدث عن العلاقة العاطفية بين العميد وشاهيناز، فكم شخص سيق للتحقيق وعذب ولفق له التهم لأنه تطاول على ضباط الشرطة أو ذكرهم أو ذكر المقربين منهم بسوء.
وعن أحداث الثورة وارتباطها الموضوعي بالرواية، تحدث عن تقصير الأمن المركزي في فرض الأمن وإتاحة الفرصة للمجرمين بالهرب من السجون، وإثارة الذعر والفوضى بين الناس، حتى غدت البلاد غارقة في الفوضى، وتقصيرهم في مساعدة الجيش الذي تولى مسؤولية حماية الشعب، حتى شعر الناس بأن الشرطة تريد أن توصل الناس لمرحلة تكفير الثورة والمطالبة بعودة النظام السابق. بذلك أصبح المواطن بين سندان الأمن المتقاعس، ورحى العصابات والمجرمين الذين توافرت لهم الفرصة بأن يبطشوا ويثأروا من المواطن ومن رجل الأمن، ومن هنا جاء اسم الرواية، فرجل الأمن المتنفذ ورجل العصابة المتمرد هم أكلة لحوم البشر.
استعرضت الرواية الحالة النفسية التي دخل فيها النقيب عماد، بعد هجوم المواطنين على مراكز الأمن المركزي، وإحراقهم مقارها والاستيلاء على ما فيها من أسلحة، وفرار عناصر الأمن، وبدء فرار الكثير من المساجين من السجون المركزية، وتعرضه شخصياً للتهديد على يد طالب الكيمياء الذي اعتقله بطريقة وحشية، وجاء اليوم لينتقم منه، وازدادت حالة عماد النفسية سوءاً بعد مقتل زميله النقيب كمال، على يد شخص كان قد لفق له كمال تهمة الاتجار بالمخدرات على خلفية حادث سير بسيط، وغيبه بسببها في ظلمة السجن ست سنوات.
في ظل هذه الظروف الخطيرة وبإصرار والدته انتقل مركز عمل النقيب عماد من القاهرة إلى الإسكندرية، الأمر الذي هيئ له فرصة الاختلاط ببعض الأصدقاء والجيران، وفرصة التأمل في ماضيه ومستقبلة، فتحركت مشاعر النقيب عماد وبدأ تأنيب الضمير ولم يعد يقدر أن يوفق بين ما غرسته التعليمات والعقيدة العسكرية في نفسه، وبين ما تتطلبه الجماهير من حياة مدنية تنعم فيها بالأمن والرخاء والعدالة الاجتماعية، بدأ يبحث عن الأعذار التي تدفع رجل الأمن ليكن قاسياً مع أفراد المجتمع، ويرفض أن يظهر بمظهر الإنسان الطيب الودود، حتى أصبح يحلم أن يكون بحاراً، أو صياداً، أو أي شيء ممكن عدا أن يكون ضابط أمن، ساندته في هذه المرحلة العصيبة جارته نهال وهي طالبة جامعية تدرس الفلسفة، أراد الكاتب من توظيف شخصيتها إثارة المواضيع بعقلانية بعيداً عن الضوابط العسكرية التي تعلمها وليد في الكلية العسكرية، والتي شكلت أفكاره بقوالبها الجاهزة والجامدة في التعامل الإنساني مع المواطن.
انتهت بنا الرواية إلى أن التخلص من العقلية المتجذرة في نفوس ضباط الشرطة أمراً من المستحيل تغييره، وأن المحاولات العلاجية التي يمكن استخدامها، لا تزيد في مفعولها عن تليين شيء من مشاعرهم تجاه الأشخاص المقربين منهم بحكم العلاقة الأسرية أو العاطفية، لهذا اختُتِمت الرواية بمشهد متصلب ومعاند من النقيب وليد الذي أرغم الطفلة صابرين على الخروج من عزلتها، وصدمة الخوف التي عانت منها، نتيجة تعرضها للإصابة في إحدى موجات الانفلات الأمني، التي شهدتها المنطقة، وبهذا الموقف القاسي الذي عالج به النقيب حالة صابرين وضعنا الكاتب أمام النهاية المحتومة التي تربط علاقة رجل الأمن بالمواطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطل الفنون القتالية حبيب نورمحمدوف يطالب ترمب بوقف الحرب في


.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق




.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة