الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنا الجامعة في رواية (77 خريفا) لفاطمة هلالات.

سامي موسى عبدالله الخليفات

2024 / 5 / 22
الادب والفن


يظل الأديب هو الأقدر على صياغة الوعي واستنطاقه وهو المشكّل الرئيس له، الصانع كثير الأناة، عندما يرى أن سفينة الفكرة لا تتحرك من توقفها، وهو المساهم الفاعل في إثارة أسئلته الكبرى، والأقدر على التعبير عن أزمة الأمة أيا كانت، لتظل الذاكرة الجامعة هي الحاضنة التي يتكئ عليها في استنطاق المشهد، ودفع القضية المؤرقة لكينونته لتصبح في واجهة الاهتمام، يميط اللثام عنها لتصبح مقروءة للعيان.
هناك علاقة وثيقة بين (الأنا) الواحدة / الذات المتجذرة في الأديب الأول/ الصانع الأول وبين (الأنا)/ الجميع لما يكون الواحد بمعنى الكل ثقافة ورؤية، ليقف معبرا عن همومه وغاياته وموفقه من الحياة في بعديها الآني والمستقبلي، ويبقى سؤال النتاج الفني في خضم المعركة الكبيرة: من أنا؟ في هذه العاصفة التي تقاتل فيها الكلمة نيابة عن فوهة المدفع.
يجثم هذا الهم متجذرا في لاوعي العربي الذي يعاني تشظيا كبيرا في سعيه إلى الوحدة وإلى النهوض حضاريا من جديد؛ ليكون عنصرا فاعلا في البناء والحركة العالمية، يظل البطل عند (هلالات) قلقا يخاف أن يتلاشى في الآخر ويضمحل، في زمن تعيش فيه الأمة خوفا وجوديا يهدده الآخر من خلال الفكرة الثقافية، والاحتلال، وانتهاء بالانحياز الكلي لعدوها الأول في فلسطين، فالراوي- وهو فيلسوف بطبعه- هو من يحمل هذا الأنا بطاقة أكثر عمقا ومخاتلة؛ فلا ينفك هذا الهاجس يضغط على لا وعي البطل فيجبره على الإصغاء إلى هذا الصوت الذي يتضخم رويدا رويدا كلما أوغل البطل في سرديته، يقول أحدهم: " كل يوم أذبح جزءا مني قربانا للقبيلة، قالوا لي لما كنت صغيرا... كان لزاما عليك أن تسمع صوتك... ظننته حلمي " (ص16)
يبرز هذا الملمح جليا واضحا في رواية (77 خريفا) لفاطمة هلالات، الصادرة عن دار وائل 2021، عمان، في (210 صفحات)، على شكل أزمتين كبيرتين تترددان دوما في سرديتها وهما: الوحدة العربية المؤملة في ذهنية العربي الذي يحاول أن يجعلها في المتناول من خلال بساطة الشروط وقربها تحققا، وبحثها عن الحرية، والثاني احتلال فلسطين وغيابها عن الحضن العربي جزءا عربيا خالصا من دنس الاحتلال، وما تعيشه الأقطار العربية جراء النزاعات والحروب.
لا تتركنا هلالات نهدأ من توترنا منذ الصفحات الأول، تدخل بنا من مأزق سردي إلى مأزق سردي آخر فنظل مشدوهين نجري خلف الأحداث لنقف آخر المطاف أمام كم هائل من الأسئلة، فتظهر الأنا المفردة الحاملة هما جمعيا لتكون الناطق المعبر عن القضية، عن المعاناة والحلم في سعي دؤوب للوحدة المنشودة والتحرر من نير الاحتلال والموت فتتحول إلى الأنا الكبرى الجامعة.
الحرية هي الهاجس الأكبر والمبتغى المقصود الذي يخامر عقل البطل، الحرية العارمة التي تجتاح كامل الأرض العربية لتعود ربيعا قابلا للحياة بعيدا عن هراوة الشرطي، وسجون الإقصاء والإلغاء، حياة كريمة بكل طاقتها الإنسانية، فكان لابد من الثورة والخروج على الأحكام العرفية والقوانين الظالمة تقول في حوارية البطلين:
" طويل ليل هذا الشرق.
- وماذا فعلتم بكل هذا الغضب؟
- سنثور للحرية، للفقراء، للمساواة، للعدل، ولرغيف الخبز...." ...وقالوا إنه ربيع الشرق. وأغصان الزيتون تتعانق في وجه الريح.... بات الحمل يكسر أكتاف الخشب" (ص27) .
لا تتوانى أن تقول في موضع آخر عندما تمثلت الطيور رمزا جليا للحرية والانعتاق من الظلم، فيكون القيد جرحا لا ينفك ينزف، ويحتاج أن نرتقه بأن نؤمن بأن شمس الحرية آتية لا ريب. هو إيمان البطل (الأنا) الواحدة عندما تكون (الأنا) الكل: تقول على لسان بطلها " كنا ننتظر الشروق، ونضمد جرحا بجرح؛ كي تنبت بين الجراح زهرة" (ص41). هذه الزهرة الجالبة للهدوء والانطلاق نحو غد باسم. يتجسد في حلول قدَّمها أحد الأبطال في حواريته الطويلة في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خراب أصاب جسد هذه الأمة في الوقت الذي يمكننا فيه أن نؤمن بأن هذا الحوار يتكرر كثيرا في بلدان العربي بتفاوتات قليلة: " سألتها ذات مرة: هل تحتاجين إلى المأوى، الأمان، الرفاق، الأهل، الحب، الزواج، السفر...؟ قالت: "هذه البشرية يا صديقي لا يحكمها حب، إنها بشرية تحكمها شريعة الغاب "( ص63). فالفقر والأقصاء والترحال سمة غالبة في سيرورة هذه الشعوب المسكونة بالهجرة خوفا من حياة لا تليق بها، يتجلى ذلك في وصية البطل في دعوته المتواصلة للتحرر، يقول :" احذر يا صديقي أن تكون من القطيع، وأن تكون ماعزا، واحذر أن تكون ظالما" (ص104)
يبرز جليا هاجس الوحدة العربية التي يؤملها البطل من خلال التأكيد على وحدة الأرض واللغة والدين والأهداف القومية، مصرا على أن هذه الامة لا ينبغي لها أن تكون متذيلة قائمة الشعوب تنساق بكليتها للآخر، يتمسك البطل بالأرض بترابها وأهلها لا يرغب في الهجرة عنها مؤمنا بأنها الأرض التي قدم من أجلها دماء كثيرة وأجبر على أن يخوض من اجل ترابها حروبا كثيرة لتخليصها من عدوها المتكرر، يحمل البطل الرسالة التي تعبر عن ضمير الأمة في لا وعيها الجمعي الذي يمكن تجسيده " أنا هنا " تقول هلالات على لسان أحد ابطالها:" على طول الطريق الوعر من ذلك المقعد وحتى آخر المدى، يتعثر، حتى سقط أرضا، أخذ يضم رائحة التراب، وسقطت له آخر دمعة همست للأرض: أحبك يا وطني"( ص 19)..
لا يراود هلالات شك فهي تصر على هذه الرسالة وهي وحدة الدم والأرض والمصير، وأن لكل أمة حربها التي ستخوضها على أي حال للدفاع عن كينونتها وحقها في البقاء، موجهة سؤالا لعقل المتلقي :" وأنت؟" يقول البطل:" وهذه الأرض يا صديقي أرض خضبتها الدماء والحروب منذ بداية الخليقة، ولك في الحياة حرب ستلقاها، راغبا، كارها، مرغما ستلقاها؛ فبادر إليها قبل أن تطحنك وتنهب حتى ذكرياتك، قاتل ومت كريما قبل أن تموت ذليلا.
- وأنت؟ (ص 29)
إن الواقع الحالي الذي تعيشه الأمة ليس مقبولا في عمق وعي العربي الذي يراجع أخطاءه التاريخية محاولا تصويبها من أجل النهوض مجددا وعلى رأسها قضيته الأم وفي هرمها الأعلى: القدس، فالهزائم تملأ لا وعيه، مسلوب الحرية، والثروة والمقدرات، يعيش على الهامش، في ظل الخوف والترويع والاستلاب، تقول على لسان أحد الشخوص:" قل لي أي كلام يهدهد وجع الحقيقة، أي كلام ولو من كذب ... أوراقنا المهزومة، أوطاننا المسلوبة، أنفاسنا المسروقة ووجهنا التعب" ( ص59). هذا القلق الوجودي يظل ضاغطا في كل أوراق الرواية يردده الشخوص في محاولة استنطاق بطل يحرر هذه الأرض من غربتها.
لا تذهب الأنا الجامعة من مخيال القاصة لتعود وقوفا على سلسلة من الهجمات المهلكة التي شنت وما تزال على العربي والإسلامي في سعي الأخر لسلبه الهوية، والثروة ،والاعتقاد، وانقياده لها نزاعا بين الأمة من خلال اختلافاتها الفكرية؛ فهي تربط الماضي السحيق بالحاضر الواهن الضعيف، موجهة صفعة احترازية للراهن الآن ليستفيق ويعيد ترتيب أعدائه؛ لصدهم ومنعهم من الوصول في غاياتهم، فهي تقدم أنموذجا سالفا للاتحاد والانتصار من قلب الضعف والانكسار، واضعة العربي مباشرة أمام التحدي :" يا وطني ، قد عاد البربر والتتار، وحلفوا بجلال نفطك، أنهم قادمون ليعصروك، وبي وبك سيرجموك وأنت منذ اليوم محرقة السلام " (ص143) .
ففي غياب القائد الفعلي تحاول الكاتبة استجلاب رمز قادر على تحقيق الوحدة عندما فقدت القافلة / الأمة: حدَّاءها / القائد ، تقول :" هل كنت تدري أني أضعت في عرض البحر حداء قافلتي ، وهل كنت تسمع موت نبض المجاديف، ونحيب دماء أشرعتي؟!.( ص144)
تبدو الأنا الجامعة واضحة في موقف أبطال الرواية من قضية العرب الأولى" فلسطين" ، الجرح الذي ما زال ماثلا في وعي العربي من المحيط الى الخليج، فيصر البطل على أن يجعلنا نقف قسرا أمام خيباتنا وخساراتنا المتوالية، فهو لا يتوانى في استحضار فلسطين والقدس والقضية ؛ لإعادة التذكر بها وجعلها حاضرة دوما امام أعين العرب والعالم ؛ لأن ذلك يشكل جرحا غائرا في وجدان العربي والمسلم يسعى لرتقه ، إذ لا بد من التحرر والعودة:" فوجه الحقيقة يا صديقة حزين، مشوهة ملامحي، مطأطأ الجبين، أنحني ، أقبل يدي قاتلي، أني هنا في المخيمات والملاجئ وخلف جدران المخابئ.. مقطوع اللسان فرح بانقضاء أيامي واختزال العمر....، فأنا عربي في زمان بحّ فيه صوت العروبة، عربي قهره الخذلان. (ص150).
وفلسطين هي ليلى المعشوقة التي جن حبيبها / العربي، في عشقه لها وهيامه، فهو دائم الهذيان بها، لكنها أسيرة عند المحتل يمنعه عنها ويمعن في تغريبه عنها، وهو قيس الذي وضعت بينهم الحدود والمخيمات والملاجئ والموت والغربة وخذلان العربي:" وقيس يغنيك.. فلسطين أماه! كيف لجموا في وادي الغدر صهيل حصانه، ونهبوا خنجره ومرعاه" (ص69).
هذه ليلى/ فلسطين/ القدس يسيمها العدو الظلم، والخسف، والترويع، والموت، والسجن، فهي حبيسة في ظل الخذلان العربي، وجبنه في ان يحررها ويعيدها للحاضرة العربية؛ لذلك تقدم الكاتبة صورة قاسية لمعاناة الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال:" كيف وفي كل مضرب صارت له ليلى، عاجزا يحترف خلف الديار بصيحاتها، وهي تغتصب وتحتضر على مرآه، كيف يا قدسي وأنا الطائف المخذول حول أسوارك... آه يا صديقي من منذ سنين وأنا أطوف" (ص70).
لا تغيب هذه (الأنا ) الجامعة عند الروائية، وهي لا تنسى العرب الذين تشردوا من أوطانهم من العراق وليبيا وسوريا، جراء الحرب التي تأكل الأخضر واليابس، وقصدوا دول الجوار أو تجشموا عناء الهجرة في البحر فماتوا أما في غرقا أو جوعا على حدود دول أوروبا يقول البطل المغلوب :" كم موتا يلقاه الجريج العائم بدمائه في عرض البحر، لم يقتله العدو ولا يستطيع الرجوع، ولا يرى وجها للشاطئ ولا يدري ان كان سيدركه الغرق" (ص 165).
وأخيرا يظل الأديب هو الأقدر على صناعة نص مخاتل قادر على البوح بالكثير ليوصل المعزى للمتلقي، فكانت هذه الأنا معبرة عن الجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل


.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف




.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس


.. أحمد فهمي عن عصابة الماكس : بحب نوعية الأفلام دي وزمايلي جام




.. عشر سنوات على مهرجان سينما فلسطين في باريس