الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناجي شفيق نسيج خاص

مصطفى مجدي الجمال

2024 / 5 / 24
سيرة ذاتية


أسعدني زماني بالاقتراب والتعلم في شبابي من نماذج فذة نادرة التكرار.. أظنهم كانوا نتاجًا طيبًا للعهد الناصري في التعليم والثقافة والوطنية.. وقد كتبت عن الكثيرين ممن عايشتهم بجامعة المنصورة إبان عصرها الذهبي في سبعينيات القرن الماضي.. وهي الفترة التي شهدت ازدهارًا وحيوية لم يكونا بالغي الندرة وقتها.. وهو الحراك الهائل في جامعة غير قاهرية لكن قاماتها العلمية والسياسية كانت ملء الأسماع وموضع الانبهار.. ولا أستطيع في هذا الحيز أن أعدد أسماء مواهب وقيادات كانوا ومازالوا موضع الاحترام على المستوى الوطني..
لكنني هنا أركز على شخصية لم تنل حقها من الاحترام والتكريم لسببين أولهما أن صاحبها من النوع المتواضع جدا إلى حد النفور من أية محاولة شكر أو مدح.. وثانيهما أن مجال عمله بعد التخرج اتخذ طابعًا عالميًا لكنه عاد وانغرس وبكل محبة في الواقع الوطني، بل وشديد المحلية، بعد أحداث 2011 حيث اختار لنفسه أن يعود إلى جذوره المباشرة في مدينته الحبيبة ، المنصورة العامرة بأهلها.
هو الدكتور ناجي شفيق.. ويمكن أن أقول إنه كان نسيج وحده رغم اندماجه وسط جيل هائل بجامعة المنصورة وقتها، وخاصة بكلية الطب، وكان بالقرب من دوائرهم عالم زراعة الكلى الأشهر الدكتور محمد غنيم.. وكثيرون منهم فيما بعد أصبحوا من علامات وأساتذة الكلية مثل سامح شمعة وعلي عباس ورؤوف النفيس.. بل إن الكلية أخرجت أيضًا أحمد راسم النفيس زعيم التيار الشيعي فيما بعد.. ويكفي ذكر اسمي الأديبين محمد المخزنجي ومحمد المنسي قنديل.. وهذا بالطبع لا ينفي النشاط العارم في الكليات الأخرى مثل الهندسة والتجارة والحقوق.
كانت بداية تعرفي على ناجي في اعتصام جامعة المنصورة شتاء 73 احتجاجا على اعتقال الطالبين محمد المخزنجي وعلاء غنام. كنا جميعًا غارقين في المناقشات السياسية ولكني تعرفت على شخص آخر ذي معارف موسوعية أدبية وفنية أخرى فانجذبت إليه بقدر انجذابي أيضًا إلى المرحوم سالم سلام القائد اليساري الفذ ووكيل كلية طب المنيا فيما بعد.
أظن أنني كنت وصديق عمري مصطفى وهبه قد لفتنا بقوة أنظار هذه المجموعة راقية الثقافة في كلية الطب.. فقد انبهر كل المعتصمين بإلقاء مصطفى وهبة قصيدة "كلب الست" لأحمد فؤاد نجم ببساطته المذهلة الحبيبة. أما أنا فقد طلبوا مني إلقاء مداخلة عن حرب الشعب فتحدثت حديثًا ضافيًا، ولا يصح أن أتحدث عن ردود فعل المستمعين (ولعل هذه المداخلة هي التي جعلت أمن الدولة يصنفني تصنيفًا خاطئًا بالعضوية في تنظيم يساري آخر بسبب صداقتي العميقة مع المخزنجي ووهبه ومحمد الكامل.. وهي الحقيقة التي اعترف لي بها عام 1978 أحمد موافي مفتش مباحث أمن الدولة بالدقهلية).
بعد ذلك بدأت أتابع مجلات الحائط التي يصدرها ناجي شفيق بخط بديع.. فوجدته كما قلت نسيج وحده، يكتب في الأدب والسينما عن معرفة موسوعية بالنسبة لطالب في أوائل العشرينيات.
كان ناجي أكبر مني بعامين وصديق أخي محسن.. لكني كنت أنهل منه ما ينعش ثقافتي في نواحي كنت قليل التفرغ للإلمام بها ورغم أني منذ المراهقة كنت مجنونا بالأدب الإغريقي وشكسبيروديستويفسكي..
أنشأ ناجي مع زملائه نادي السينما بالمنصورة وكانوا يستضيفون كبار النقاد والمخرجين الجدد الذين كان الواحد منهم يعود إلى القاهرة ليحكي بانبهار عما رآه وسمعه بالمنصورة.
وجدير بالذكر أن ناجي كان ولا يزال دقيق البنية الجسدية ويحمل ملامح تقارب أبناء جنوب شق آسيا مع شعر فاحم ناعم وطويل. لم أكن أتحدث معه إلا وأتساءل عن العافية الروحية والعقلية التي تجعل طالبًا في كلية الطب على هذا المستوى من الإلمام الموسوعي بقضايا الفن والثقافة إلى جانب الوعي بالشأن العام.
وقد حدث أن طلب مني طلبة كلية الطب الاشتراك معهم في قافلة طبية وثقافية في إحدى قرى المحافظة (كفر العرب).. وإلى جانب السهرات الضاحكة كنت أستمتع بحوارات ومعارف ناجي الفنية. ومن الطرائف أنني وجدته غاضبًا في يوم لأن قصر الثقافة اختار أين يسهم في نشاط القافلة بعرض فيلم "الشحاذ" بما فيه من قضايا ومشاهد لا تناسب مطلقًا البيئة الريفية..
ثم حدث أن أقيمت مباراة في كرة القدم بين فريق القرية وفريق الجامعة الذي لم يحضر منه أهم لاعبيه (وبعضهم كان في المنتخب القومي) وكانت المفاجأة أن وجدت ناجي لاعبًا ماهرًا وخصوصًا عندما يقفز عاليًا للعب الكرة برأسه. وأذكر أنني حاولت لعب ضربة خلفية مزدوجة فأصابني تمزق لازمني شهور دون علاج.
المهم أن ناجي سافر بعد التخرج وشحت أخباره وكنت أشعر بفقده كلما مررت بجوار "لوكاندة البرلمان" المملوكة لأسرته، وحيث كنت أحب الجلوس بالقرب منها على مقهى معظم رواده من الخرس لأستمتع بأكبر كمية من الضجيج يمكن أن تتخيلها وأحاول ترجمة الإشارات والغمزات والآهات والغمغمات..
ماذا كانت خطة ناجي في السفر.. اتجه إلى الأنشطة التطوعية لمنظمات مثل أطباء بلا حدود.. وظل يتنقل بين بلدان عديدة وأصبحت له معارف موسوعية أيضًا بالأمراض المتوطنة في بلدان الجنوب، وبطبيعة عمل المنظمات الدولية.. غير أنه استقر به الحال لسنوات طويلة في بلدان جنوب آسيا حتى أصبح مديرًا لمكتب منظمة الصحة العالمية في إندونسيا.. وتراكمت معارف مهولة لناجي عن لغات وثقافات بلدان أخرى مثل الكوريتين والصين وكمبوديا.. وقد أذهلني ناجي ذات يوم بمتابعته للأدب الصيني الحديث وخاصة في الرواية والسينما..
وقد أكد لي ناجي أن خبرته المباشرة تقول إن نسبة كبيرة من الناشطين الغربيين في المنظمات الدولية الرسمية والمدنية همهم الأساسي هو جمع المعلومات عن تلك المجتمعات أكثر من تقديم الخدمات. بل إنهم كانوا يتوسلون إليه ليعطيهم معلومات عن كوريا الشمالية والصين بالذات.
وبعد عقود من الترحال اختار ناجي العودة، لكنه لم يعد إلى كمباوندات القاهرة، وإنما فضل العودة إلأى حبيبته المنصورة حتى بعدما تردى حالها. والغريب أن أحدا من مسؤولي الصحة لم يفكر في الاستفادة من هذا الخبير المصري الكبير في مجالات مثل الحق في الصحة، ومكافحة الأوبئة.. ويكفي أن لناجي خبرة كبيرة في مكافحة الآسيويين لوباء سارس وهي الخبرة التي كان من الممكن أن تكون مفيدة أيضًا في مقاومة كوفيد.
عندي يقين أن بمصر الكثير جدا من القامات والخبرات التي يمكن أن تفيد الوطن أكثر من منخفضي الكفاءة والمتسلقين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين في البحر الأحمر والمحيط الهن


.. لجنة مكافحة الإرهاب الروسية: انتهاء العملية التي شنت في جمهو




.. مشاهد توثق تبادل إطلاق النار بين الشرطة الروسية ومسلحين بكني


.. مراسل الجزيرة: طائرات الاحتلال تحلق على مسافة قريبة من سواحل




.. الحكومة اللبنانية تنظم جولة لوسائل الإعلام في مطار بيروت