الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نجيب محفوظ -نبيًّا-.

محمد فرحات

2024 / 5 / 26
الادب والفن


مرحلة القصص التاريخي عند نجيب محفوظ مُجسدة بروايات “عبث الأقدار 1939″و”رادوبيس1943 ” و”كفاح طيبة 1945″ تمثل تلك البذرة التي انبسقت شجرة مكتملة فيما تلاها من أعمال، ما بين الأطروحة الفلسفية والإسقاط والملحمية. لتشكل مرحلة القصص التاريخي التطور الميكرسكوبي الذي سارت فيه رواية محفوظ فيما بعد.
“عبث الأقدار”1939 وفكرة الصراع مع القدر، نبوءة تُلقى أمام ملك مصر الحكيم “خوفو” تقُضّ مضجعه، تُخرجه من طور الحكمة، فيسعى لقتل التحدي الغيبي في مهده، ولايدري أنه بذلك يمكن لسيرورة القدر الحتمي الحدوث، فهناك في أحد المعابد القصية يولد لأحد الكهنة من سيملك بعد “خوفو” بدلًا من ولي عهده، هي فكرة توراتية تؤكد ذات الحكي، فقد قضّت نفس النبوءة مضجع “فرعون”، وكان الصراع مع القدر أحد عناصر تكوينه في الحالين، والفارق هو ذلك الإطناب والتأكيد على الفكرة في السرد المحفوظي والاختزال والتكثيف في القصص التوراتي وبشكل أكثر اختزالية في القصِّ القرآني.
وإذا كانت الفلسفية هي نقيض موضوع اللاهوتية؛ فإن سردية محفوظ هي مركب النقيضين لتمثل الديالكتيك الجدلي الهيجلي عند محفوظ، فالوليد موضوع النبوءة ينشأ وينمو في قصر كبير مهندسي هرم خوفو ليلتحق بالجيش، بل يصطفيه وليُ العهدِ ليكون قائدًا لحرسه الخاص، وإن كان موضوع النبوءة التوراتية “النبي موسى” ينشأ في قصر فرعون ويقود ثورة تقتلعه من قصره وعرشه غريقًا صريعَ أمواج البحر المتيبس لحين، ليصبح عنصر هلاك، إلا أن قائد الحرس موضوع النبوءة المحفوظية ينقض على مؤامرة ولي العهد لاجتثاث أبيه الملك خوفو، ليصبح عنصر نجاة لخوفو المحتضر على فراش موته الطبيعي.
الفكرة الفلسفية كانت دائمًا معانقةً للاهوتية عند نجيب محفوظ، لم تكن فلسفة خاصة ناتجة عن أطروحات فكرية تمثل المقدمات لتخطو نحو النتائج المتسقة، مُشكِلةً النسق الفلسفي الخاص بمحفوظ الفيلسوف، وإنما كانت دائمًا تحليلاً ثم تفاعلاً مع اللاهوت لتنتج الروائي والسارد محفوظ، لتشكل تيمة متلازمة في السرد المحفوظي الذي بلغ ذروته الفلسفية المباشرة ثم السردية في “أولاد حارتنا”والذروة السردية المُعجِزة ثم الفلسفية غير المباشرة في “الحرافيش” غير أن البداية كانت في روايته الأولى “عبث الأقدار” 1939
وكان الإسقاط التاريخي على الواقعي السياسي القضية الثانية لروايته الثانية “رادوبيس” تلك الغانية التي عشقها الفرعون “مرنرع الثاني” …الملك الشاب الذي احتدم الصراع بينه وبين رجال الدين حينما أراد انتزاع ملكية المعابد لثلث أراضي المملكة لصالح نزواته، ولرغبته في الاستقلال عن سلطة رجال الدين المستبدة، ليثور الشعب تحت قيادة كهنته ضد ” الملك العابث”، وكان ذلك إسقاطًا واضحًا على ما أُشيع وقتها ضد الملك الشاب “فاروق الأول” ومجونه ونزواته.
ويتلاحم السرد مع اللاهوت الذي يحكي عن تلك الغانية التي يقع الراهب في حبائل عشقها لتقوده لمطارحة الهوى معها، مضحيًّا بمكانته وقداسته ليقدمها قربانًا على مذبح الرغبة الإنسانية التي لافكاك منها.
يستبدل نجيب محفوظ شخصية الراهب بشخصية الفرعون الذي يجسد منصبه اللاهوتي قبل الدنيوي، فالفرعون ظل الإله المعبود على الأرض، بل كان هو الإله المعبود ذاته، لينجح نجيب محفوظ في تشكيل الرمز أيما نجاح في” رادوبيس”، لنجد أنفسنا للمرة الثانية في اشتباك ما بين اللاهوتي و الفلسفي، ليعبر عن فكرة ثانوية لا تبعد كثيرًا عن نظرية الحكم في اللاهوت والفلسفة، وهل هي فكرة قدرية الوهب والنزع، أم هو تعاقد دنيوي مؤقت ما بين الحاكم والمحكوم على شروط يرتضيها الطرفان، لتختل العلاقة بين الطرفين إذا تم تجاوز تلك الشروط من قبل الحاكم في الغالب، هذه التعاقدية التي إن اختلت، اختلت معها دفة الأمور نحو الفوضى وانفراط عقد المجتمع، حتى في أكثر المجتمعات خنوعًا.
ليرحل الملك العابث بحركة الجيش 1952 التي تحمست لها الجماهير ولو لحين، ويُقتل الفرعون الشاب مرنرع في ثورة شعبية حاشدة، لتبرز قدرة محفوظ العبقرية في التنبؤ السياسي، خاصة إن علمنا أن تاريخ كتابة ” رادوبيس” كان عام 1943
ليظهر دور جديد لمحفوظ لا يبعد كثيرًا عن تيمة تزاوج اللاهوت و الفلسفة وهو دور “النبي” بمعناه المعجمي، الذي يلقي بنبوءة بين أسطر روايته وكما تنبأ في “رادوبيس” بنهاية الملكية المصرية، تنبأ أيضا في “ثرثرة على النيل” و”ميرامار” بهزيمة النهج الثوري الناصري الاشتراكي فازدواجية الفيلسوف / الروائي قد خَلَّقَتْ في النهاية دور “النبي” الذي يلقي بالنبوءة تلو النبوءة بطيات سطوره.
يستسلم نجيب محفوظ تمامًا للسرد التاريخي الملحمي غير المرمز في “كفاح طيبة” 1945 وقصة نضال المصريين الوطني ضد المستعمر الأجنبي مستعرضًا قصة تلاحم الأسرة الفرعونية الملكية بداية من سيكننرع مرورًا بكاموس منتهيًّا بأحمس وقصة فرعية عن الغرام المتقد بين أحمس وابنة آخر ملوك الهكسوس “أبوفيس".
نقف في النهاية على حقيقة أن القصص التاريخي عند نجيب محفوظ يمثل محطة أولية أعقبتها انطلاقة روائية عبقرية تمثل بحق ذروة الكلاسيكية الروائية العربية، وأن نجيب محفوظ سيظل الأيقونة الخالدة للرواية العربية والمثل الأعلى لأي روائي عربي لقرون آتية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب


.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح




.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال


.. عبد الوهاب الدوكالي يحكي لصباح العربية عن قصة صداقته بالفنان




.. -مقابلة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ-.. بداية مشوار الفنان المغ