الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا لو كنت رئيسا للعراق

محمد لفته محل

2024 / 5 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كثيرا ماسمعت عن رغبة بعض العراقيين في حكم العراق والحلول الجذرية التي يقترحونها لمشاكله العامة، والتي تقال بالعامية على صيغة "لو كنت": "لو بس الزم السلطة" "لو جنت رئيس كان سويت..." "لو السلطة بيدي جان ..." ومن كثر ماسمعت من هذه العبارات التي تطرح حلولاً سطحية مثل الاعدامات الميدانية للمخالفين او الضرب بيد من حديد الخ. هذه الحلول التي تعتقد ان العقوبة القصوى هي الحل الوحيد للمجتمع العراقي والتي جميعها تعيد انتاج الاستبداد السياسي، اصبحت هذه العبارات مصدر ازعاج بالنسبة لي، ومؤشر خلل بالوعي الاجتماعي بالمتطلبات الاساسية للحكم الرشيد خصوصا توازي هذه الافكار مع المفاهيم الديمقراطية التي جاءت بعد الاحتلال وهو مايسمى في علم النفس التناشز المعرفي.
لكن الان بعد 21 عاما اعود الى طرح السؤال الخيالي "ماذا لو كنت بموقع القرار" (رئيس دولة او رئيس وزراء لا فرق) في ظرف وأدت فيه الديمقراطية من النخبة السياسية ومن العامة، ومضى العراق على طريق لبنان الى غير رجعة، ودخل مرحلة الانسداد السياسي التام الا في حالة ازالة هذه النخبة بالقوة العسكرية او الثورة الشعبية العنيفة (على غرار الثورة الفرنسية).
على اية حال ان المشاكل كارثية للناظر الى الوضع العراقي، وبصفتي مواطن اصبحت بموقع القرار، فان التشخيص الصحيح هو اول خطوة على الطريق الصحيح للمعالجة. وهذه المشاكل بالعموم متمثلة بالانقسام الاجتماعي، وعدم وجود نخبة سياسية تقدمية ترتقي بهذا الواقع لمرحلة الأمة، وعدم الاتفاق على عقد سياسي، ومشكلة الدولة الريعية، وتراجع الصناعة والزراعة والقطاع الخاص، مقابل تضخم القطاع العام والبطالة المقنعة بداخله، ناهيك عن انفصام المواطن عن الدولة وقوانينها واملاكها، وتقديم ولائه للعشيرة والطائفة والقومية. وهناك مشاكل اخرى جسيمة مثل تلوث البيئة والعشوائيات وضبط الحدود والرقابة على المستورد وتفشي المخدرات الخ التي تاتي بالمرتبة الثانية بالنسبة الى المشاكل العراقية الكارثية.
صحيح هناك بعض المشاكل القديمة والمزمنة التي رافقت الدولة الحديثة من بدايات القرن العشرين (التي اشار اليها الملك فيصل في رسالته المشهورة)، وهناك مشاكل تولدت عن الاستبداد السياسي في نهاية القرن الماضي (العهد الصدامي) والتي كان يمكن معالجتها بعد الاحتلال، لكن عام 2003 كان للأسف كارثة بكل معنى الكلمة، لأنه العهد الذي اسس للطائفية السياسية والاجتماعية، واسس للإرهاب الجهادي، واسس للفساد السياسي وهجرة العقول والمكونات والتهجير الطائفي، وضعف الدولة والتدخل الاقليمي الخ.
وسط هذا الوضع الكارثي ما العمل؟ اولا يجب ايجاز المشكلة واولياتها وهي ان المشكلة الاساسية تتمثل بغياب الامة والنخبة التقدمية، وانفصال المجتمع عن الدولة، واي حل يجب ان يبدأ من هنا قبل اي اصلاح سياسي او اقتصادي. وعليه لو كنت رئيسا للعراق فان اول شيء افكر به هو مرحلة انتقالية تفرض فيها الاحكام العرفيه من حل الاحزاب وتوقيف العمل بالدستور مؤقتا مع تشكيل كادر فني استشاري من كل التخصصات وتشكيل حكومة كفاءات بنفس الوقت لديها سلطات استثنائية.
طبعا يجب الاستعداد للمعوقات الاجتماعية مثل عدم تعاون المجتمع مع الاصلاحات الجذرية، والتدخلات الاقليمية الرافضة لأي نهضة اجتماعية او سياسية او اقتصادية، يجب الاستعداد بالوسائل السياسية لكل المشاكل المرتقبة.
والمعوق الاساسي هو استشراء الفساد الاداري والمالي بفعل الانفصال بين المواطن والدولة ولتجاوز هذه المشكلة ليس بفرض العقوبات المشددة او نصب الكاميرات على المكاتب فقط، فهذه وحدها تعالج نتائج المشكلة وليس اسبابها، ذلك ان الفساد له طرق محترفة للتحايل على اي رقابة، كذلك ان الرقيب على الفساد هو من نفس هذا المجتمع المتطبع بالفساد السياسي وهنا يعني امكانية التواطؤ او الابتزاز باسم الفساد. وعليه يجب ان يرافق هذه الوسائل الاستعانة بكوادر اجنبية للعمل وللرقابة للفترة الانتقالية يرافقون الكوادر العراقية، ويمكن الاستعانة بنظام النقاط الصيني الذي يربط بين نيل الحقوق الشخصية وبين التزام المواطن بواجباته تجاه الدولة.
يجب تأهيل المجتمع لكي ينظر للدولة نظرته لعشيرته، يعتقد بانتمائه لها وبانها تمثله، يدافع عنها ضد الفساد او ضد خرق قوانينها، ويؤدي واجباته بوازع داخلي قبل ان يكون رادع خارجي، ويكون هو العين الرقيبة على تنفيذ القانون فيبادر الى التنبيه على الخطأ، او احتقار المرتشي او موسخ المكان العام او من يخرق الاشارة الضوئية او المتهرب من دفع فواتير الماء والكهرباء والضريبة الخ.
ترى كيف تتم عملية التأهيل هذه لمجتمع تعداده فوق الاربعين مليون؟ طبعا التأهيل سيكون لفئة الشباب والاطفال، ولن يكون التعليم الاداة في ذلك، فهذا التعليم على مدى نصف قرن فشل في هذه المهمة، بل قام بتخريج جيوش العاطلين الغير كفوئين غالبا، فهذا التعليم جزء من المشكلة وليس جزء من الحل. انه بعبارة موجزة تعليم ضد العلم. والحل المعول عليه هو التطبيع بنمط حياة مختلف في كافة المجالات العامة. وتفعيل نظام المكافئات للملتزمين بالقانون (ليس شرط ان تكون المكافئات مالية انما امتيازات صحية او اقتصادية او ماسواها).
يقول كثيرون ان ضعف الدولة هو اساس قوة العشيرة وبمجرد قلب المعادلة اي تقوية الدولة كفيل بحل المشكلة، وللأسف فان الذاكرة التاريخية الحديثة لا تبخل علينا بوقائع تخالف هذا التصور التبسيطي الذي يختزل العشيرة بحل النزاعات، وتجاهل العناصر الاخرى للعشيرة مثل الهوية والانتماء، ان العشيرة ظلت راسخة في كل فترات الاستقرار السياسي وتراجعت في فترات معينة (مثلا حالة السبعينات) ومارست العشيرة الابتزاز في تطبيق القانون المدني (التنازل عن الدعوة مقابل دفع دية)، ان تراجع العشيرة مرتبط بالتمدن الذي ينتج النخبة السياسية المدنية. وهذا يعيدنا الى المجتمع الحضري الذي يجب ان يولد نخبة ذات ثقافة حضرية. فقوة العشيرة ليس من ضعف الدولة انما من ضعف الثقافة الحضرية في المدينة.
كتبت سابقا واكرر ان علاقة المواطن بالدولة علاقة انتهازية يلخصها المثل "حجي كليب" فالمواطن يطالب بحقوقه مقابل التحايل والتهرب من واجباته بكل الوسائل الممكنة دون ان يشعر بوخز الضمير الذي يعتريه اذا خالف حراما او خالف عرفا، ومن هنا تاتي اهمية تأهيل المواطن ليكون مواطنا ملتزما بواجباته مقابل حقوقه المترتبة على التزامه. واظن ان تكرار نهب الدولة في كل حالة سقوط سياسي او عند كل حالة تسلم منصب وظيفي او تخريب الممتلكات العامة او التحايل على القوانين الخ دليل واضح على وجود مشكلة انفصال بين المواطن والدولة.
ان التاريخ التراكمي عامل مهم في ترسيخ الانتماء الوجداني والسياسي للوطن وليس الانتماء القانوني فقط، لكن التاريخ العراقي لايسعفنا في المساعدة، فأربعة قرون من احتلال عثماني ثم نظام ملكي فاسد وبعدها جمهوري مستبد، كلها لم ترسخ فكرة الأمة للأسف بل رسخت الولاء للنظام السياسي فقط.
احد الحلول التجريبية الممكنة لتأهيل المجتمع هو الخصخصة الاقتصادية والادارة الذاتية، فقد لفت نظري ادارة المصارف الاهلية حيث يعامل فيها المراجع (المواطن) باحترام وسلاسة ادارية مفقودة تماما في الدوائر الحكومية، بل ان الموظف هو من يحاول استرضاء المراجع ويلقبه بكلمة "استاذ". اما الادارة الذاتية فقد استوحيتها من ادارة المجمعات السكنية العامودية التي تدار ذاتيا وبتمويل من ساكنيها، حيث نجد حالة حضرية من النظام والنظافة والخدمات والأمن، ادارة ملفته تستوقف النظر عن امكانية نشر الثقافة الحضرية بدوائر اوسع من خلال التطبع بنمط هكذا حياة. ان تمويل المواطن للخدمات العامة ربما يساهم في اعتبار الملكية العامة جزء من ملكيته. وهذا نموذج من التطبيع بنمط معاملاتي مختلف.
فالدولة الريعية تساهم في حالة الانقسام الاجتماعي فهي من جهة تقوي استبداد السلطة السياسية على المواطن والذي يعبر عن قهره بالانفصال عنها والاعتداء عليها في حال ضعفها، والدولة الريعية تخلق حالة رأسمالية الدولة التي تتملك كل المؤسسات والتي سيعتبر المواطن كل المؤسسات والمكان العام هي ملك لهذه الدولة القاهرة. وهذا الاساس النفسي والاجتماعي للانفصال الاجتماعي عن الدولة وتدميرها في اي فرصة سانحة.
اما حالة الخصخصة وتقوية الضرائب والادارة الذاتية ستعمل على تفكيك الدولة الريعية وتنمية ثقافة حضرية مضادة للعشائرية والانتماءات الفرعية الاخرى. ان تمويل الحكومة لكل شيء يخلق حالة انتهازية تسمى في الادبيات الاقتصادية "الراكب المجاني" وتخلق في الحالة العراقية الاستبداد المالي الذي يبتز المواطن بالولاء للنظام السياسي مقابل الوظيفة او الدعم المالي الحكومي للقطاعات العامة.
ولا شك ان هناك وجهات نظر اخرى تكمل او تضيف او حتى تنقض هذا الطرح ببدائل هذه الحلول الافتراضية في علاج مشكلة البلد.
ومثلما قمنا بخصخصة اقتصادية لتغيير علاقة الانفصال بين المواطن والدولة، اقترح القيام بخصخصة موازية بمجال الدين وهو مايعرف بالادبيات الاجتماعية "خصخصة الدين" بمعنى حجب الرموز الدينية عن المجال العام سواء الصور او الطقوس خصوصا في مؤسسات الدولة (باستثناء الطقوس العامة مثل ولادة النبي، راس السنة المسيحية، 10 محرم) وحتى الطقوس العامة تخضع لضوابط عامة، ويجب تمويل الحكومة لمجمعات مختلطة من اديان ومذاهب مختلفة او تقدم للمهجيرين والكفاءات المهاجرة تعويضات ومبادرات مالية تحفزهم على العودة الى مناطقهم والى بلدهم، لان الاختلاط الاجتماعي بين المكونات خطوة ضرورة جدا لتجاوز الانقسام الاجتماعي وتجاوز التصورات المسبقة السلبية المضادة بين المكونات، واكبر جريمة ارتكبت بحق المكونات هو التهجير الطائفي والديني والخرسانات التي وضعت بين المناطق للفصل المذهبي. ويجب ان يرافق ذلك تجريم الطائفية قانونيا على وسائل الاعلام او وسائل التواصل او المكان العام.
كذلك ان المجتمع المدني خطوة اخرى لتجاوز العشيرة والطائفة، ان اي تجمع طوعي بحسب المصالح الجماعية المشتركة هو خطوة للارتقاء فوق الانتماءات الاولية البدائية لان هذه المصالح المشتركة هي من تؤسس للامة السياسية.
اذن مفتاح التعايش هو الاختلاط الاجتماعي يرافقه تشريعات تدعم الاندماج وتحضر الاحزاب الدينية والطائفية واعتبار اي ترويج طائفي في مجال الاعلام محضور.
وكانت افدح كارثة نووية للمجتمع العراقي حين تم تقنيين الانقسامات في الدستور، والعمل وفق هذه الانقسامات في توزيع الوزارات الحكومية والوظائف العامة، حتى صار هذا عرفاً يتم العمل به بدون الاحساس بأي بوجود خطأ.
وختاما يجب علي ان اصدم القارئ ان كل هذه الحلول رغم وجاهتها المفترضة هي حلول غير قابلة للتطبيق في الوضع العراقي، ليس من حيث التطبيق ولكن من حيث الامكانية وذلك بسبب الحالة الهجينة التي تعيشها الدولة العراقية حيث تسيطر قوى اللادولة على الدولة وتسيرها وفقا لمصالحها الحزبية والخاصة والاقليمية، والتي لن تسمح بوجود سلطة سياسية خارج سلطتها المسلحة، ولذلك تبقى مجرد طروحات نظرية بعيدة عن حقيقة مصادر القرار والاطلال المباشر على المشكلة العراقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات تشريعية في فرنسا: اكتمال لوائح المرشّحين وانطلاق ال


.. المستوطنون الإسرائيليون يسيطرون على مزيد من الينابيع في الضف




.. بعد نتائج الانتخابات الأوروبية: قادة الاتحاد الأوروبي يناقشو


.. ماذا تفعل إذا تعرضت لهجوم سمكة قرش؟




.. هوكشتاين في إسرائيل لتجنب زيادة التصعيد على الجبهة الشمالية