الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب التجارية – السيارات الكهربائية

الطاهر المعز

2024 / 5 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


تمكّنت شركات صناعة السيارات اليابانية (تويوتا ومازدا وداتسون وهوندا )، وكذلك العديد من شركات التجهيزات الإلكترونية، خلال عقْدَيْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين من منافسة الشركات الأوروبية والأمريكية لصناعة السيارات في أسواقها، بسبب جَوْدة الصّنع وانخفاض السّعر وانخفاض استهلاك الوقود، فانخفضت حصة الشركات الأوروبية والأمريكية، وتحالفت السلطات السياسية ونقابات أرباب العمل ونقابات العُمّال ضد "الغَزْو" (الصناعي) الياباني، واتفقت سلطات "مجموعة السّوق الأوروبية المُشتركة" (الإتحاد الأوروبي لاحقًا) والولايات المتحدة وبريطانيا على تحديد حصص استيراد السلع اليابانية، من سيارات وتجهيزات إلكترونية وحواسيب وغيرها، أي انتهاج سياسات حِمائية ضد "الحليف الياباني"، بالتوازي مع إجراءات أخرى أُطْلِقَ عليها مُسَمّى "المُرونة" و "خفض التّكاليف" بهدف "استعادة القُدْرة التنافسية" لقطاع السيارات الأوروبي والأمريكي، ما أثار ردود فعل عُمّالية سلبية تجسدت في إضرابات عديدة، تم قَمْعُها بوحشية...
لم تستعد اليابان أيدًا مكانتها كثاني أكبر اقتصاد عالمي، ولم تتمكن من غَزْو أسواق أوروبا وأمريكا الشمالية، منذ "العقوبات" الأمريكية، غير إن الصّين التي تبنّت الرأسمالية تمكنت من غزو الأسواق الإفريقية والآسيوية بسلع لا تُنافس الشركات الأوروبية والأمريكية، إلى أن صلب عودها، فانتَمتْ إلى منظمة التجارة العالمية بدعم أمريكي (بعد عشر سنوات من الإنتظار والمُماطلة) ولما أصبحت مُنافسًا عنيدًا للشركات الأوروبية والأمريكية في مجالات عديدة، ومن ضمنها التقنيات المتطورة، تتالت العقوبات والإجراءات الحمائية ضد إنتاجها وتتالت "العقوبات" وقرارات الحَظْر وحتى الحِصار العسكري من قِبَل البحرية الأمريكية التي يدعمها حلف شمال الأطلسي، ونستعرض فيما يلي جانبًا من "الحرب التجارية" بين الولايات المتحدة (ومعها أوروبا) والصين، يتعلق بصناعة وتسويق السيارات الكهربائية، بعد مرور أكثر من أربعة عُقُود على الحملة ضدّ اليابان...
قبل حوالي أربعة عُقُود، كان الإنتاج الصناعي الصيني تقليدًا رديئًا للسّلع اليابانية أو الأوروبية، وكان تسويقها مقتصرا على أسواق البلدان الفقيرة وكانت الدّولة والشركات الصِّينية تحرص على عدم لفت الإنتباه وعلى عدم منافسة شركات الدّول الرأسمالية العريقة، وفي الأثناء رفعت الدّولة ميزانية البحث العلمي وأنشأت مصرفًا لدعم التّصْدير واشترطت على شركات التكنولوجيا شراكة تُمكّن الصين ومُهندسيها وفَنِّيِّيها من اكتساب الخبرة والمهارات التقنية، وبعد حوالي عِقْدَيْن أصبحت الشركات الصينية – بدعم قوي من الدّولة - تُنافس شركات أوروبا وأمريكا الشمالية في عقر دارها، بمنتوجات عالية الجَوْدَة في مجالات الألواح الشمسية والطاقات المتجدّدة وفي مجال الحواسيب والهواتف المحمولة وتفوقت الصين على اليابان لتصبح أكبر مُصدّر عالمي للسيارات، وخصوصًا في مجال السيارات الكهربائية، حيث جَمَعَت سيارات شركة ( BYD ) الصينية بين الجودة والسّعر "التّنافُسي" لتتفوق سنة 2023 على شركة Tesla الأمريكية التي يمتلكها إيلون ماسك، بإنتاج ثلاثة ملايين سيارة كهربائية، أو بزيادة 64% عن سنة 2022، وأصبحت شركة ( BYD ) الصّينية مُسَيْطِرَة على سلسلة الإنتاج بالكامل ــ مستفيدة من ديناميكية نقل الأعمال إلى الخارج والتعاقد من الباطن ومن الإعانات الحكومية من الدولة الصينية، وأصبحت السلطات الأمريكية تعتبرها منافسًا خطيرًا، ولذا فرضت عليها – بالإتفاق مع الإتحاد الأوروبي - حصارًا مُحْكَمًا، بذريعة "إغراق الأسواق" وفق الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، وبذريعة "التلاعب بالسُّوق" وفق رئيسة المُفَوّضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي أعلنت إن الدّولة الصينية تدعم شركاتها، وكأن دول أمريكا الشمالية واليابان وأوروبا لا تفعل ذلك !!!
كانت شركة - BYD – مُتخصّصة في صناعة البطاريات الكهربائية، قبل أن تُراجِعَ استراتيجيتها بهدف السيطرة على "سلسلة الإنتاج والقيمة" من تكنولوجيا البطاريات والرقائق الدقيقة وحتى ملكية مناجم الليثيوم وسفن حاملات السيارات، فضلاً عن الدّعم الحكومي والإستغلال الفاحش للعُمّال، ما مَكّن الشركة من خَفض التّكاليف ورفع الإنتاجية وتسريع ابتكار المكونات الرئيسية، رغم الحصار وحَظْر الولايات المتحدة تصدير أشباه المواصلات (الضرورية لتصنيع الرقائق) منذ العام 2020، وعملت أجهزة الدّولة الصينية على تجاوز العقبات من خلال تشجيع "التكامل الرأسي"، أي السيطرة على كافة مراحل الإنتاج، على المستوى الوطني، ضمن خطة " صُنِع في الصين 2025" التي تعمل على تخطيط التنظيم الاقتصادي والسياسة الصناعية، مما ساعد شركات السيارات الكهربائية (وشركات أخرى في مجالات مختلفة) على التّحكم في نحو 80% من سلسلة قيمة السيارات الكهربائية داخل البلاد، وبذلك تمكنت الشركات الصينية من تهيئة الظروف لتعزيز التفوق التكنولوجي طويل المدى، خصوصًا في مجال صناعة السيارات الذي يتطَلّبُ استثمارات كبيرة في المصانع والآلات، وخبرات ومهارات في مجلات الصناعات التكميلية، وقطاعات التعدين والكيماويات والصلب والإلكترونيات...
تأسّست شركة BYD لصناعة البطاريات الكهربائية سنة 1995 ثم استثمرت – بدعم من الدّولة - للتحكم في إنتاج وتجميع خلايا البطارية، وتصنيع أشباه الموصلات والوحدات الإلكترونية، وحتى استخراج الليثيوم، واستثمرت في بناء 24 مصنع ضخم لإنتاج البطاريات ومختلف أجزاء السيارات والمكونات الحيوية الأخرى، ولتجميع السيارات، في الصين وخارجها، مع تقسيم خط التجميع إلى وحدات إنتاج منفصلة عن بعضها، تحت إشراف فريق من الفَنِّيِّين لتحسين الجودة وخفض التكاليف، ما ينسف العمل النّقابي، وهي طريقة من استنباط الشركات اليابانية، وتُشَغِّلُ شركة "بي واي دي" 570 ألف عامل سنة 2023 (670 ألف عامل في فولكس فاغن و 370 ألف عامل في تويوتا)، وكان إنتاج البطاريات هو النشاط الأساسي الأصلي لشركة - BYD- وتُعتَبَر البطاريات العنصر الأكثر أهمية والأكثر ابتكارًا في المركبات الكهربائية، ثم أنشأت العديد من الشركات الفرعية التابعة لها لكي تتمكن من التّحَكُّم في تعدين الليثيوم وفي إنتاج الرقائق الدقيقة، والأجزاء المعدنية والبلاستيكية الخاصة بها، وبذلك سيطرت على دورة الإنتاج الخاصة بها، باستثناء صناعة الإطارات، وقدّر تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز( 12 شباط/فبراير 2024) أن شركة ( BYD ) تُنتج داخليا ثلاثة أرباع المكونات، مقارنة بالثلث فقط لسيارة فولكس فاغن الكهربائية المماثلة، مما يُخفض تكاليف إنتاج سيارات الشركة الصينية بنسبة 35%، فضلا عن إشرف شركة - BYD – على المبيعات والشحن وتسليم المنتجات...

دُرُوس من السياسة الصناعية للصين
أصبحت الصين مُهيمنة على مبيعات السيارات الكهربائية في العالم، وهي كذلك أكبر سوق للسيارات الكهربائية في العالم، مما يُشير إلى التقدّم الذي أحرزَتْهُ في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، وارتفعت مبيعات سيارات الركاب الكهربائية بنسبة 34% خلال الربع الأول للعام 2024 وحده، لتصل إلى 1,8 مليون وحدة، في حين انخفضت مبيعات السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي بنسبة 10% خلال الفترة نفسها، وأصبحت السيارات الكهربائية تُمثّل حوالي 40% من السيارات المباعة في الصين، بفعل جودتها وانخفاض سعرها (مقارنة بأسعار السيارات الأوروبية والأمريكية واليابانية)، ما يجعل منها أكبر سوق عالمية للسيارات الكهربائية، وفقا لوكالة بلومبيرغ التي تتوقع أن تبلغ مبيعات السيارات الكهربائية في الصين 10 ملايين وحدة سنة 2024، وهو ما يمثل نموا سنويا بنسبة 20% (بلومبرغ 24 نيسان/ابريل 2024)، بينما تراجعت مبيعات شركة تسْلاَ في أوروبا خلال شهر نيسان/ابريل 2024، بنسبة 2,3% رغم زيادة بنسبة 14% في مبيعات السيارات الكهربائية، وفق رابطة مصنعي السيارات الأوروبية (23 أيار/مايو 2024) وبذلك تفوقت الشركة الصينية " بي واي دي" ( BYD ) على تسلا منذ سنة 2023، وتتوقع وكالة "بلومبرغ" ( 23 أيار/مايو 2024) أن تطلق "بي واي دي" ( BYD ) سيارتها بأوروبا سنة 2025 بسعر يَقِلُّ عن 21 ألف دولار أو عن عشرين ألف يورو، في حين لا يقل سعر الطّرازات المُماثلة من السيارات الأوروبية والأمريكية عن 26 ألف دولار، وهو سعر الطراز الرفيع لسيارات الشركة الصينية التي تعتزم طرحها في أوروبا سنة 2025، واستبقت الولايات المتحدة الأحداث فَفَرَضَتْ زيادة كبيرة في التعريفات الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية لحماية سوقها...
يندَرِجُ نجاح شركة BYD وشركات صينية أخرى ضمن نتائج السياسة الصناعية المستدامة للنظام الحاكم في الصّين الذي صَمَّمَ برنامجًا مُكلفا وطويل الأمد لتحقيق "التنمية المكثفة" في الطاقات البديلة وتكنولوجيا الإتصالات وصناعة السيارات، بعد دراسة تجارب دول آسيوية أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية، والإستفادة منها للانتقال من التصنيع منخفض الجودة إلى التصنيع المتطور الذي يولي أهمية خاصة ل"التكنولوجيات الخضراء"، منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، حيث صنّفت الخطة الخمسية العاشرة (2001-2005) طاقة الرياح والشمس ك"صناعة استراتيجية ناشئة"، وتعزّز هذا الإتجاه خلال الأزمة المالية 2007/2008، ثم سنة 2015، بمناسبة إقرار خطة "صنع في الصين 2025" التي اعتبرت "التصنيع هو جوهر الاقتصاد الوطني"، وتم إقرار عشر قطاعات رئيسية من بينها تكنولوجية "الدوائر المتكاملة" ومعدات الطيران والمواد الجديدة، وبخصوص السيارات الكهربائية تنص الخطة على أن يكون مصدر 80% من جميع عوامل المدخلات الضرورية لصناعة السيارات الكهربائية في الصين لضمان درجة عالية من "الاستقلال" في إنتاج المركبات الكهربائية، وتُسيطر الشركات الصينية على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الليثيوم وأكثر من 60% من إنتاج الكوبالت و70% من المواد الأرضية النادرة، وتستورد كربونات الليثيوم من شيلي والأرجنتين والكوبالت من الكونغو، فيما تمثل الصناعة الصينية أكثر من 70% من مكونات خلايا البطاريات وإنتاجها لِيَتِمّ إنجاز ثلثي الإنتاج العالمي للبطاريات في الصين، ما سمح للصين بتطوير سلسلة قيمة مستقلة ومكتفية ذاتيا، وبالتالي القُدْرة على مواجهة المنافسين...

خاتمة
تُشكل الحرب التجارية الحالية صراعًا حول السيطرة الإقتصادية على العالم، لأن صناعة السيارات الكهربائية أو وسائل توليد الطاقة مثل اللوحات الشمسية، تُخفي صراعًا حول التفوق في الإبتكار والإبداع والملكية الفكرية، وسَخّرت الحكومة الصينية موارد هامة لتشجيع العلوم والتكنولوجيا، فكانت وزارة العلوم والتكنولوجيا داعمًا كبيرًا لقطاع السيارات الكهربائية، ولعمليات نقل التكنولوجيا من الشركات الأجنبية، وَقُدِّر إنفاق الحكومة الصينية بنحو ستين مليار دولارا لدَعْم السيارات الكهربائية، بين سنتَيْ 2009 و 2022، فضلا عن استخدام السيارات المصنعة محليا في أسطول سيارات الأجرة المحلية وما إلى ذلك
إن تبني السياسة الصناعية الموجهة من قبل الدولة والإنتاج المتكامل رأسيا من قبل شركة "بي واي دي" والحكومة الصينية على نطاق أوسع يعكس اتجاها عامّا داخل الاقتصاد العالمي، فالإتحاد الأوروبي واليابان والولايات المتحدة وجميع الدّول الرأسمالية المتطورة تدعم القطاعات التي تعتبرها استراتيجية، من خلال المنح والقُروض الميسرة وحماية الحدود (بزيادة التعريفات الجمركية على الواردات)، ومع ذلك فإن هذه الحرب التجارية والإجراءات الحِمائية قَدْ تُعَرقل تطور التكنولوجيا والصناعات الصينية، لكنها لن تتمكّن من القضاء عليها، وتُدْرِكُ الحكومات المتعاقبة للولايات المتحدة ذلك، ما جعلها تلجأ إلى الإستفزاز العسكري، بعد زيادة الإنفاق الحربي وفَرْض زيادة حصة الإنفاق العسكري لأعضاء حلف شمال الأطلسي، وهذا أحد جوانب عَسْكَرَة السياسة الخارجية الذي تفرضه الإمبريالية الأمريكية على العالم وعلى حُلفائها الذين تورّطوا في عدد من الحروب العدوانية ومن المناورات العسكرية الإستفزازية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات تشريعية في فرنسا: اكتمال لوائح المرشّحين وانطلاق ال


.. المستوطنون الإسرائيليون يسيطرون على مزيد من الينابيع في الضف




.. بعد نتائج الانتخابات الأوروبية: قادة الاتحاد الأوروبي يناقشو


.. ماذا تفعل إذا تعرضت لهجوم سمكة قرش؟




.. هوكشتاين في إسرائيل لتجنب زيادة التصعيد على الجبهة الشمالية