الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرفة أورهان باموك

صبحي حديدي

2006 / 12 / 12
الادب والفن


تقضي التقاليد العريقة السائدة في الأكاديمية السويدية أن يقوم الحائز على جائزة نوبل بإلقاء ما يسمّى «محاضرة نوبل»، وفيها يُنتظر من الفائز أن يقدّم خلاصة تجربته الشخصية في حقل نشاطه الإبداعي أو العلمي أو العملي الذي استحقّ عليه الجائزة، كما جرت العادة أن تحتوي المحاضرة على «رؤيا» فلسفية من نوع ما، تغطّي واقع وآفاق ذلك الحقل من النشاط، وتدخل في أرشيف الأكاديمية الرسمي كوثيقة أساسية.
ويوم الخميس الماضي ألقى الحائز على نوبل الآداب لهذه السنة، الروائي التركي أورهان باموك، محاضرته التي حملت العنوان المفاجىء قليلاً في بساطته: "حقيبة أبي"، وفيها شدّد مجدداً على حاجة الأديب إلى العزلة، حتى كاد أن يجزم باستحالة كتابة أدب حقيقي خارج الانعزال (ويقصد بالضبط: بين أربعة جدران)، بعيداً عن صخب الجموع وضجيج الحياة في الخارج. وهو يكتب: "يحلو لي أن أرى نفسي منتمياً إلى تراث الكتّاب الذين ـ أينما كانوا في العالم، في الشرق أو في الغرب ـ ينقطعون عن المجتمع، ويغلقون على أنفسهم في غرفة، صحبة الكتب. إنّ نقطة الإنطلاق للأدب الحقّ هي رجل يغلق على نفسه في غرفة مع كتبه".
وأمّا حكاية الحقيبة فإنها منتزعة من سيرة باموك، وتروي أنّ أباه أورثه حقيبة صغيرة تحتوي على كتابات إبداعية غير منشورة (كانت للأب محاولات شعرية وأدبية، كتبها خلال أربعينيات القرن الماضي) ومخطوطات ودفاتر مسودات، طالباً منه أن يفتحها بعد وفاته ويقرأ محتوياتها، علّه ـ وهو الروائي المكرّس ـ يجد فيها ما يصلح للنشر. لكن الابن تردد طويلاً في فتح الحقيبة لأسباب عديدة، بينها إشفاقه أن لا يجد في النصوص ما يرضيه، وخشيته أن تبرهن النصوص على أنّ الأب لم يكن يأخذ الأدب على محمل الجدّ، وخوفه أن يعثر فيها على تفصيل خفيّ صاعق يخصّ حياة والده... وحين قرّر فتح الحقيبة، فإنّ الابن لم يتجاسر على قراءة كلّ ما خلّفه الأب، واكتفى بالنزر اليسير قبل أن يغلق الحقيبة مجدداً.
والحال أنّ المحاضرة لا تنطوي على أية إشارة إلى أيّ نوع من القضايا السياسية أو الاجتماعية ذات الإشكالية، سواء على صعيد تركيا ذاتها (مذابح الأرمن واضطهاد الأكراد مثلاُ... بوصفهما في رأس لائحة الأسباب غير الأدبية وراء حصول باموك على الجائزة)، أو العالم بأسره (العراق، الإمبراطورية الأمريكية، إضرام نيران ما يُسمّى "صدام الحضارات"، الشرق والغرب، الجوع والتخمة...). وليس في وسع المرء أن يدفع التناقض المذهل بين محاضرة هذا العام غير المكترثة إلا بغرفة الكاتب المغلقة، ومحاضرة السنة الماضية التي ألقاها المسرحي البريطاني الكبير هارولد بنتر، وكانت بمثابة قبضة جسورة رُفعت في وجه الهيمنة الأمريكية، وانحياز شجاع إلى ضحايا هذه الإمبريالية الغربية الوحشية، وإلى معذّبي الأرض هنا وهناك.
ولأنّ جائزة هذه السنة كانت مسيّسة (كما كانت جائزة السنة الماضية في الواقع، والكثير من جوائز الأكاديمية السويدية خلال العقد المنصرم، ولست شخصياً أجد الأمر غريباً أو فظيعاً أو مستنكَراً)، فإنّ من حقّ المرء أن يبحث عن السياسة في محاضرة باموك، وأن يفتقد على وجه التحديد القضيتين اللتين وضعتاه على كلّ شفة ولسان في الغرب: المسؤولية التركية عن مذابح الأرمن أوّلاً، وقمع الأكراد ثانياً وبدرجة أقلّ. وبالطبع، ليس كلّ حائز على الجائزة مضطراً للخوض في السياسة، ولكن حين تكتنف السياسة حيثيات الجائزة على نحو مباشر أو غير مباشر، فإنّ غياب السياسة عن المحاضرة يصعب أن يمرّ بريئاً من المغزى المضاد، أي التعامي القصدي عن السياسة بقصد طرد تهمة الحيثيات السياسية.
كذلك يصعب على المرء مقاومة إغواء المقارنة مع سنة أخرى سابقة كانت فيها السياسة طافحة في ملابسات منح الجائزة، واضحة في حيثياتها وصريحة في سياقاتها التاريخية، أي سنة 1997 حين ذهبت نوبل الأدب إلى المسرحي والممثل والكاتب والكاتب الإيطالي داريو فو. الأكاديمية قالت الكلام التالي، المدهش تماماً، عن الفائز: «اقتفى خطى مهرجي الملوك في القرون الوسطى، وألهب السلطة بسوط النقد، مستعيداً بذلك كرامة المهانين والضعفاء (...) بمزيج من الضحك والرصانة فتح أعيننا على مفاسد المجتمع ومظالمه، وكذلك على المنظور التاريخي العريض الذي يمكن أن تُوضع فيه. وإنّ استقلال رؤيته وصفاءها دفعاه إلى مجازفات خطيرة، عانى مباشرة من عواقبها، ولكنها في الوقت ذاته كفلت له استجابات هائلة في أوساط عريضة مختلفة».
كيف انسجمت محاضرة داريو فو مع هذه الروحية السياسية والاجتماعية الطاغية على بيان الأكاديمية السويدية؟ بدل المحاضرة الموعودة، وصل فو إلى ستوكهولم متأبطاً 25 رسماً كاريكاتورياً، أنجزها بنفسه على طريقة الرسوم المتحركة، واختصر فيها مراحل حياته الفنية، ومواقفه الأخلاقية والفلسفية، والمحطات التي مرّ بها وهو يشيّد أركان تجربته الفريدة كمسرحي مهرّج، ساخر من «بَلاط» المؤسسة على اختلاف أنماطها. وفي مساء المحاضرة الموعود وزّع الفائز الرسوم على أعضاء الأكاديمية بوصفها... محاضرة نوبل للآداب!
لسنا متأكدين، مع ذلك، أنّ المهرّج الكبير رسم تلك المحاضرة وهو حبيس جدران أربعة، والأرجح أنه كان في الحال النقيضة تماماً: أقصى الصخب، وأعلى الضجيج، وأشدّ التهريج!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق