الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النبوءة والتجليات الملحمية في رواية الأجيال رواية / تاج شمس/ للكاتب المصري هاني القط أنموذجًا دراسة تقنية ذرائعية مستقطعة بقلم د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 5 / 31
الادب والفن


إغناء
هناك علاقة بين الرواية المعاصرة والملحمة، بوصفهما جنسين أدبيين مستقلين، الأول سردي والثاني شعري، تتجسّد هذه العلاقة بما يسمى (رواية الأجيال).
الملحمة: قصة بطولية شعرية طويلة قد تصل إلى آلاف الأبيات مليئة بالأحداث الخارقة للعادة أي الغرائبية، غالبًا ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه، وتُنظَم بأسلوب قصصي، وتتضمّن الحكايات الشعبية المغرقة في الخيال.
من أبرز الملاحم : الألياذة والأوديسة ل هوميروس، وملحمة جلجامش العراقية.
أما رواية الأجيال: فهي التي وجدتُ أنسب التعريفات وأدقّها ما قدّمه الدكتور زهير محمود عبيدات في كتابه رواية "الأجيال في السرد العربي الحديث" بأنها:
" الرواية التي تركّز على تعاقب الأجيال في إطار أسرة، تبدأ بداية غامضة أو من أصول بعيدة، ثم تصعد هذه الأسرة إلى قلب الأحداث، تتفاعل مع المتغيرات التاريخية التي تمر بها، فتعكس في الأساس اهتمامات الطبقة الوسطى، إذ تعدّ رواية أجيال، والتي يطلق عليها أيضًا الرواية النهرية ورواية الحقبة والرواية الانسيابية، المعبّر الأبرز عن أفكار الطبقة الوسطى، إذ يعبّر الروائي عن أزمة الفوضى التي يعيشها مجتمعه، فيعود إلى التاريخ ويحاكمه من جديد على أساس من أزمة حاضره".
نشأ هذا النوع الروائي في البداية، بديلًا للملحمة، في أوروبا، في القرن التاسع عشر على يد ليو توليستوي في رائعته ( الحرب والسلام)، ثم عبر إلى القرن العشرين على يد توماس مان من خلال رائعته ( آل بودنبرك)، ليتحوّل بعدها إلى تيار عالمي تبارى إلى الانجراف فيه معظم كتّاب العالم، ليتبلور بنموذجه الأشهر عند ماركيز في روايته ( مئة عام من العزلة ) في أمريكا اللاتينية.
وأول ظهور لهذا النوع في الأدب العربي كان في العام 1944 على يد عميد الأدب العربي طه حسين، في رواية " شجرة البؤس"، إلا أن ذروة نجاح هذا الفن كان على يد تلميذه النجيب عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، حيث تبلور مكتملًا في العديد من روائعه، منها الثلاثية " بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، و"ملحمة الحرافيش"، و" حديث الصباح والمساء"، وهو الذي عبّد الطريق للكثير من الأدباء العرب للسير في الدروب المتشعبة لهذا الفن، فجاءت "ثلاثية غرناطة" و"الطنطورية " لرضوى عاشور، و" مدن الملح" بخمسة أجزاء، ل عبد الرحمن منيف والتي وصف في جزئها الأول بالتفصيل بناء المدن الجديدة، والتغيرات القاسية على المستوى المكاني وخاصة الإنساني، وفي جزئها الثاني عرض لتصوير أهل السلطة والسياسة، وفي جزئها الثالث تحدّث عن جذور العائلة الحاكمة وسنوات الصراع القبائلي.
وأجد الرواية التي بين أيدينا، والمعنونة ب ( تاج شمس) للكاتب المصري هاني القط، على تناص كبير مع هذه الرواية – "مدن الملح"- مع مراعاة متطلبات العصر الحالي الذي لا وقت فيه لقراءة أجزاء بمئات الصفحات، بمعنى أنها رواية مكثّفة، طوى فيها الكاتب الكثير من السرد بين ثنايا جمل مقتضبة ومختزلة، دون أن تتفلّت منه الحُبك السردية الكثيرة.
تجنيس العمل: عمل فني أدبي من جنس الرواية، النوع : رواية أجيال.
السيرة الذاتية للمؤلف :
اسم الكاتب/ هانى عبد الرحمن القط
كاتب مصريي يكتب في الدوريات والمجلات المصرية ومنها( القاهرة- الأخبار - المساء- الأهرام - الجمهورية - الثقافة الجديدة - سطور - أدب ونقد - المقال - الدستور- الثقافة الجديدة..
كتب في الدوريات والمجلات الثقافة العربية ( ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان – مجلة نزوى العمانية- المجلة العربية- مجلة قوفل- الفيصل - الجسرة - جريدة الفنون الكويتية- العربي الكويتي - مجلة الكويت - بيت السرد - مجلة تراث- مجلة دبي الثقافية – الشارقة الثقافية- الرافدـ-...)
صدر للكاتب :
1- سيرة الزوال (رواية /دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة طبعة أولى)(الهيئة العامة للكتاب طبعة ثانية)
2- مدن الانتظار(قصص/ مؤسسة أخباراليوم/ سلسلة كتاب اليوم)
3- سماء قريبة(قصص/ الهيئة العامة لقصور الثقافة)
4- تحت سماء الله قصص للأطفال (دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة)
5- شىء فى المدى(قصص/ الهيئة العامة لقصور الثقافة)
6- ترجمت له إلى اللغة الانجليزية AS You Would Like it To Be
7- رايات الموتى رواية دار روايات احدى فروع دار كلمات الامارتية
8- تاج شمس رواية عن دار بيت الحكمة 2024
9- كتب السيناريو لثلاثة أفلام تسجيلية هي (الفواخرية/ العازف / ظل النخيل)
10- (أنا هويت) سيناريو فيلم طويل في طور الانتاج.
11- له بعض القصص فى شبكة الازاعة البريطانيةBBC
12- (الوطن السعيد) رواية لليافعين / دائرة الثقافة بالشارقة
13- العربة الزمنية (مسرحية للأطفال) صدرت عن جائزة قطر لأدب الطفل
الجوائز التى حصل عليها:
1- جائزة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت
2- جائزة الشارقة للابداع العربى فى الرواية وأيضًا في قصص الأطفال
3- جائزة دولة قطر في أدب الطفل عن مسرحيته (العربة الزمنية)
4- جائزة دبي الثقافية في القصة عن مجموعته أتقبل التعازي
5- جائزة مؤسسة أخبار اليوم فى القصة القصيرة عن مجموعة مدن الانتظار
6- جائزة الثقافة الجماهيرية فى القصة عن مجموعة سماء قريبة
7- جائزة الثقافة الجماهيرية فى الرواية عن رواية أنهار متوازية
8- جائزة الشارقة في الرواية عن روايته (سيرة الزوال)
9- جائزة ساقية الصاوى فى القصة لعدة دورات متتالية
10- جائزة ساقية الصاوي في المسرح
11- جائزة عبد الرحمن الشرقاوي
12- جائزة أدب الخيال العلمي عن هيئة الازاعة البريطانية bbc
سأتناول هذا العمل الروائي بدراسة نقدية تقنية ذرائعية مستقطعة عبر المستويات الذرائعية التالية:
• البؤرة الثابتة Static Core:
تقنية الموضوع أو الثيمة Theme:
ثيمة ملحمية بما انطوت عليه من سمات الملحمة، كالغرائبية والتخييل والشعبية وكثرة الأحداث وتعاقب الأجيال.
لكن الكاتب لم يكتب ملحمة، فهو ليس شاعرًا ملحميًّا، وإنما بدأ بداية ملحمية ثم انتقل إلى تواصل الأجيال، لأنه تأثر بالنظرية النصية. ومن الضروري جدًّا ربط النص بكاتب النص، وهذا ما يتخالف مع التفكيك وموت الكاتب، والنظرية النصية هي سمة من سمات الذرائعية التي تبحث عن التكامل في مستوعباتها النقدية، وتعتبر موت الكاتب حالة سلبية لأنها تسمح للناقد بالتلاعب بالنص.
استراتيجية الكاتب:
نتفق على أن للكاتب نظرة أيديولوجية معينة، أراد أن ينقلها إلينا كمتلقين، حيال الصراع السلطوي الذي شهدته المجتمعات والبلدان العربية بالعموم، والمجتمع المصري بالخصوص، ونتفق معه أنه صراع راديكالي دموي إلى درجة كبيرة، فما هي الاستراتيجية التي اتبعها؟ أي ما هو التكنيك الذي ابتكره ليسوق لنا هذه الفكرة المألوفة؟ لقد استخدم الكاتب:
- تكنيك الثوابت والمتغيرات:
وقام بترتيبها في كل عنصر من عناصر المتن السردي، مثلًا على مستوى الزمكانية، ثبّت المكانية وحرّك الزمن، لكنه لم يجعله زمنًا طويلًا كما هو الحال في الروايات الملحمية أو روايات الأجيال التقليدية، وإنما جعله أزمانًا قصيرة متعاقبة وسريعة، أشبه ما تكون بأزمان الانقلابات السياسية التي حدثت في المجتمعات العربية بعد حروب الاستقلال، ثم ثبّت في المكانية نفسها أماكن بعينها مثل (الربوة والنهر، والبئر والمرسى والصحراء والجبل والمقابر)، والتي استطاع بحنكة كبيرة إحالتها إلى رموز تقنية Allegory، وحرّك باقي الأماكن، مثل دوار العمدة ودور وأحياء البلدة، بالتغيير الحدثي الهدّام، الذي نال من ماديتها سواء بالحرق المتعمّد أو بالكوارث الطبيعية والبيئية مثل العواصف والطوفان أو الفيضان،.
- على مستوى الشخوص:
ثبّت (الجليلة) كشخصية محورية رمزية حمّلها جوهر الهوية وجذور الأصالة والقيم الأخلاقية ورأس الحكمة التي تعطيها مقام القيادة والمراقبة والتصويب، فبقيت حكيمة ورصينة من أول العمل وحتى النهاية، وحرّك باقي الشخوص تبعًا لدرجات مرونتها النفسية على التكيّف مع المتغيرات الحدثية، وتبعًا لقدراتها الفكرية التي تعزلها مع نفسها، بعيدًاعن تلك التغيرات، وبالتالي تبطئ من حركتها وردود أفعالها، فيكون ارتكاسها أفقيًّا حيال صراع راديكالي متصاعد على السلطة، يسعى إلى الهيمنة على رقاب الناس وسلب أرزاقهم ومقدراتهم.
- تتجلى الغرائبية Exoticism :
كتكنيك الاستراتيجي مُعتمد من الكاتب، والغرائبية من أهم التجليات الملحمية التي تتبدّى في رواية الأجيال هذه.

• الخلفية الأخلاقية Moral background :
هي الرسالة التي يضمنها الكاتب في عمله السردي، الموجهة نحو مجتمعه.
اعتمد فيها الكاتب تقنية الرمزية Symbolism، لأنه مثّل لأفكاره المجرّدة بالرمز، فكرسي الجليلة هو تاريخ البلد، وسرقته هي سرقة تاريخ البلد، وتهشيمه هو تهشيم للتاريخ، وإعادة تشكيله سينتج كرسيًّا ناقصًا ومشوّهًا، وبلد بلا تاريخ هو إنسان بلا ذاكرة...
" للكرسي حنين وذكريات: .... يقف شامخًا في مكانه، شاهدًا على كل من أتى ومن ذهب، يؤرّخ لذاكرة البلد، ورفيق انتظارها الطويل".
وظف الكاتب تقنية التنبؤ أو الإنذار المسبق Foreshadowing كرسالة مبطنة ضمّن فيها حقيقة النبوءات المخلّقة في مخابر التنجيم والشعوذة، ودور المأجورين من العرّافين والدجالين بتبليغها للعامة، والتي بقيت متداولة على مر العصور وتعاقب الأديان، مفادها أن التنبؤات ما هي إلا نتاج لعبة ومؤامرة محضّرة مسبقًا من قِبل شخص أو شخوص عندهم نوازع سلطوية، يسعون في سبيلها للسيطرة على البلاد والعباد، عبر العزف على وتر الخوف والقلق والجهل والرغبة الملحة في معرفة المستقبل وتفسير ظواهر الطبيعة الخارقة عند جماعات البشر، والدور الحقيقي للعرّافين هو دور إعلامي فقط، وما يقوله العرّاف ليس أكثر من إعلان عن حدث أو أحداث جرى التحضير لحدوثها مسبقًا، وتجاوزت مرحلة النيّة، لذلك نجد أن للعرّافين مكاناتهم عند ذوي السلطة، كما لهم جولاتهم وصولاتهم في كل زمان ومكان، بالنتيجة، الشعوب هي من تصنع الطغاة، تصنعها بقدراتها الفكرية المشوّشة بالجهل والتجهيل، وبإيمانها العقائدي المزعزع البعيد عن اليقين، وبالفهم الخاطئ للأقدار والعوالم الغيبية، كل من تعاقب على دوار العمدة في قرية تل شمس، مهّد لمجيئه العرّاف المأجور " غريب".
الرسالة الأخرى المضمرة في العمل، هي أن جل الحكام الطغاة هم غريبون أصلًا عن البلد، تسلموا سدّة الحكم بالمكر وقوة البطش، وفي هذا إشارة إلى تعاقب المستعمرين على بلادنا، "راضي" و"الأبيض" و"أبو جميل" وزبانيتهم مثل "بحر" و"غريب"، كلهم ينتمون إلى أصل عائلي واحد من خارج البلدة، يتنازعون نزاعًا سلطويًّا دمويًّا على بلد لا ينتمون إليه بالأصل، فلا يهمهم حرقه وحرق أهله أو تدميره بشتى الوسائل في سبيل انتزاع السلطة والسيطرة على مقدراته وأقدار أهله، حتى "مختار"، رغم أنه ابن" قنديل" ابن البلدة، لكن أمه " أُنس" غريبة، وهو حاقد على البلد وأهلها، ويضمر في نفسه نيّة الانتقام، ثأرًا لأمه التي لاكتها ألسنتهم وأكلتها عيون فجّارهم، ثم اختفت فجأة ولم يعثر لها على أثر، دون أدنى اهتمام منهم لغيابها، ودون أي محاولة للبحث عنها، وهذا إسقاط على ما يحدث فعلًا في الكثير من البلدان العربية التي يحكمها ثلّة من الحاقدين الذين لا يبدون ولا يضمرون إخلاصًا لبلادهم، ولا اهتمامًا بشؤون شعوبهم.
حملت نهاية الرواية رسالة فيها بارقة من الأمل والترجّي، مشوبة بقلق الانتظار، مفادها أن : ( دوام الحال من المحال)، وأن ( الليل مهما طال هناك فجر سيبزغ في أحلك لحظة من عمر الليل)، وأن البلاد محروسة بإخلاص وحكمة من يحفظ تاريخها وذاكرتها، والحرص على توريثها لشخص من الجيل الفتي، قوي حكيم يصون الأمانة ويحفظ العهدة، في حاضر غريب محاصر بالاغتراب والفقد، يأكل ناسُه مرَّ انتظار الفرج الذي طال وطال.
إشارة حذقة من الكاتب أن يكون هذا الدور الجليل منوط بالنساء، فهنَّ الأقدر على حفظ الماضي في حكايات، تركة جداتهنّ والجدة الكبرى شهرزاد، فها هي "الجليلة" تكلّم "فرحة" في فجر اشتعل ليله بنيران أكلت دار الجليلة، لم تمسهما النار، والنار لا تحرق الأصوات، صوت " الجليلة" كان قادمًا من المجهول مودعًا، لتنتقل العهدة من السلف الجليل إلى الخلف المعقود عليه الأمل المعلّق بين السماء والنهر، والمنتظر بالفرح والفرج:
" نهار يشرق، وليل يغرب، فصول تتوالى، سنون تمر، و"فرحة" تجلس طوال النهار على المصطبة الطينية فوق الربوة العالية ل" تاج شمس" كأنها وحيدة في هذه الحياة، ترفع رأسها وهي تمسك بوداعة عصا تشبه عصا الخليلة ....... وأمامها يترفع النهر عن براح لين آنس بالحكايات، وغناء النسيم، وصلصلة الموج، وسكرة الفقد، وكلما لاح شراع أو تلاشى، تطل بعينيها تقرأ وجه السماء وصفحة النهر، وتنتظر.
لم أجد في الرواية أي لفظ نابي، كما لم أجد فيها إلّا دعوة للتحلّي بالأخلاق والحفاظ على القيم، ودعوة للذود عن الحق والوطن ضد كل باطل ومغتصب، والانتصار للعدل وإعادة حقوق الشعوب بخيرات أوطانها، ورفع الظلم والطغيان عنها، وإن الظلم والاستبداد لا يدوم حينما تملك الشعوب إرادة التغيير.

• المستوى البصري:
العنوان : تاج شمس
يكشف المتن السردي أن (تاج شمس ) هو اسم مكان، اسم لقرية مصرية متخيّلة، يمكننا أن نقف عليها كدلالة سيميائية كعنوان مكاني وكفى، لكن رمزية الجملة الإسمية تحيل إلى الكثير من المعاني الإيحائية، فمثلًا المفردة الأولى (تاج) تشير إلى إكليل من الذهب والجواهر يوضع على رؤوس الملوك، ويدل على الملكية، وهذا التاج قابل للتوارث كما أنه قابل للتداول، فيرمز تقنيًّا إلى ملكية أو سلطة متداولة بين مجموعة من الشخوص، وهذا الموضوع الأساسي الذي دارت حولة الرواية.
بينما أخذتني اللفظة الثانية ( شمس) للبحث عن رمزية الشمس، التي ارتبط بها البشر منذ فجر التاريخ، فكانت الإله المقدس الأول عبر الحضارات تاريخيًّا، وهي النجم الذي يضيء العالم ويمنحه الخير والسكينة والقوة والطاقة، حتى أصبح عدم سطوعه فأل شؤم، وهناك مدينة " أون" وتعني مدينة الشمس بالمصرية القديمة، أو هليوبوليس كما أسماها الإغريق، كانت مركز عبادة الشمس، مدفونة تحت ضاحية عين شمس، وكل هذا يتفق مع السياق الأسطوري والمعتقد الحضاري والمقدس في الرواية.
وأرى أن الكاتب في كلا المعنيين -السيميائي والإيحائي- موفق في اختياره.

• المستوى اللساني والجمالي:
من يطلع على العمل لن يخفى عليه إن للنيل ضفتين شرقية وغربية لبعض الناس، وشمالية وجنوبية للبعض الآخر، لكن ما بين الضفتين هو تاريخ مصر، الماضي والحاضر والمستقبل، يجري باستمرار وشموخ دون توقف، وهو يشير للقاصي والداني بما حدث ويحدث وما سوف يحدث من جمال وقبح، وهذه هي الذرائعية حين تعطي وجهة نظرها، تكون بشقّين، جمال مرئي كدلالة شامخة منتصبة غاب مدلولها الثقيل بين طيات الزمن المتعرج، وهي تخبر بإيحاء مشهود عليه بحجم الاهتمام الكبير والدقة المتناهية التي أولاها الكاتب للقالب اللغوي الإيحائي الذي حمل مضامين وأفكار وعناصر المتن الروائي بالمجمل، ابتداء من انتقاء الألفاظ الكفوءة القادرة على استيعاب الحمولات الإيحائية والرمزية والفلسفية المفرداتية التي يحتاجها البناء الجمالي في عمل تخييلي لا مجال للغلط فيه، رغم أن الكاتب استخدم أسلوب السيناريو، وهو أسلوب مباشر، في رسم مشاهد كثيرة، إلا أنه لا مجال لقطع تقريري يقف حجر عثرة تعيق تدفق سيل التخييل والخيال الروائي. وطالما أن الراوي واحد، يملك الكاتب التحكم بوحدة الأسلوب، وهذا يضعه في مواجهة مع متلقٍ أتاح له مسبقًا المجال للوقوف على كل تفصيلات النص الروائي، فالتحدي بين الكاتب والمتلقي كبير، تحسمه جماليات النص التي يجب أن تحقق جماليات التلقي.
هناك تقنيات أسلوبية حرص الكاتب على توظيفها في الإكساء الجمالي لهيكل المعمار الفني، سأعدد بعضها:
تقنية التوازي: Parallelism
تقنية اللغة المجازية أو التصويرية Figurative language بأنواعها :
"مختار ابن الليل والأرق، ابن التشرد والجوع، ابن الذل والمهانة"
تقنية التشخيص Anthropomorphism/Personification :
"الصبح يتنفس ويخلع الظلام عن الأرض"
تقنية الجناس Alliteration :
"الليالي سامرة ساهرة"
تقنية التناقض اللفظي Oxymoron
تقنية السجع:
" وما علموا أن البساط قد انطوى، وكلٌّ قد ضل وغوى، ومال عن الصراط واتبع الهوى.
كما وظف الكاتب أبياتًا من الشعر الشعبي:
"إن كان بدك تصاحب حر، اسقيه بعد الحلاوة مر
وإن لقيته للود القديم صابر، سبل رموشك فوق عيونك، وقول:
الصاحب الجد، ينفع على طول الزمن ما يضر".

• المستوى المتحرك:
وفيه سندرس هيكلية البناء الفني السردي للرواية عبر دراسة التقنيات السردية الموظفة، والأدوات السردية المستخدمة في هذا البناء:
تقنية هيكليّة البناء السردي :Structure

اعتمد الكاتب في بناء الهيكل الفني للعمل الروائي على الحبك الفرعية المتداخلة أو المركبة، والتي تأخذ في الغالب نوع الحكاية، ويمكننا أن نعتبر هذه الرواية من الروايات الإطارية، التي تُروى في إطارها العديد من الحكايات، ويمكننا أن نشهد ذلك في النقلات الدرامية المتداخلة، ضمن الإطار الكبير للحبكة الرئيسية، حيث جعل الكاتب في كل نقلة صراعًا دراميًّا يتكامل مع صراعات النقلات السابقة، وكأن الصراع ينقّل خطواته السريعة من حكاية إلى أخرى عبر زمكانيات مختلفة.
من عتبة العنوان، يوظّف الكاتب تقنية الزمكانية Setting بشقها المكاني، نهر ويفصح عنه في الاستهلال، قرية مصرية متخيلة، لها مرسى على نهر، في زمن ماضٍ متخيّل، ليس ببعيد كثيرًا.

تبدأ الرواية باستهلال مشهدي وصفي، يكشف فيه الكاتب، كما أسلفنا، دلالة العنوان المكانية، ويقدّم مكانين من الأمكنة المحورية التي دارت فوقها الأحداث ( المرسى – الربوة) :
" يدنو المركب إلى مرسى " تاج شمس"، يهبط منه أناس يحمل بعضهم أجولة ثقيلة على الأكتاف، وآخرون يقبضون على صرر أمتعتهم وما بقي من الزاد، يعبرون المدق الوعر ويرتقون الطريق الضيقة الموصلة إلى الربوة".
تبدأ الحكاية الأولى، مؤطرة بإطار صغير، تحكي حكاية الجليلة منذ النشأة، عبر تقنية الإسترجاع Flashback، بأسلوب أدبي لا يخلو من توظيف التقنيات الأسلوبية البلاغية وجماليات علم الجمال، غرائبية تقترب من حكايات الندّاهة:
" تهل النسائم بالذكرى، الماضي يتجسد، يعيدها صغيرة بضفائر، تخرج من الدار مشدودة إلى نداء ساحر كأن الريح أتت به، تنسى كل شيء ـ أمها وأباها ودارها، وما كانت تصنعه ـ وتمشي تحدق في النهر مغوية...."
تقنية الثنائيات البارادوكسية ) (Paradox كانت أيضًا حاضرة وبقوة في التكنيك الاستراتيجي للكاتب، وزّعها ورتّبها فوق مسرح العمل، رابطًا الشخوص بالأماكن، بما يناسب أطيافها، فالصحراء والجبل، خلافًا لما هو مألوف، لم يجعلها ملجأ المطاريد الأشرار، وإنما ملاذَ الشخوص الحائرة، مثل "عطية الكاتب" و"قنديل" و"خليل" و"بحر" و"حسونة"، باحثةً عن مواطن الخير والحكمة فيها، متطهّرة من آثامها، تاركةً تكالب شخوص الشر على موائد الخمر وتداول السلطة في دوار العمدة، الربوة يمرّ بها الغرباء العابرون، يشربون من زيرها، عليها بيت الجليلة الذي يؤمه الطيبون الحائرون، يطلبون النصيحة والرشد، يلعب في باحته الأطفال ويمرحون، بينما بيت "كوكب" و"رضوان" بيت الدعارة والفجور، مشاعًا للانحلال والدياثة، وهذا توظيف مثالي ل تقنية الحالة المزاجية Mood التي تعكس الحالة العاطفية التي يخلقها الوضع النفسي داخل المكان.
الأدوات السردية المستخدمة :
استخدم الكاتب النبوءة الذاتية كأداة أكسبت النص ملامح من فنون السرد الشعبي، والتي تعتبر إحدى التجليات الملحمية: مثالنا
"تميل برأسها لتشرب فيكشف الماء الرائق عن وجه يشبهها تمامًا، يهمس بكلمتين:
- عمرك طويل".
كما أن التنبؤ يعتبر نسيجًا أساسيًا من أنسجة الأسطورة، وهذا توظيف ل تقنية السياق Context التي تميط اللثام عن كمية المعلومات التي تساعد على فهم رسالة النص الأدبي عبر دراسة الحقائق والظروف والضغوط المحيطة بموقف لغوي معيّن، فقد بدأت الرواية بنبوءة ذاتية للجليلة، هي العمر الطويل، وقد تحقّقت، ثم جاءت النبوءة الثانية من العرّاف " غريب"، نبوءة غير سارة، ترافقت مع كسوف القمر واختفائه وراء الغمام، مفادها أن ( الموت الأسود على البلد مكتوب)، نبوءة استقبلها الناس كمزحة، كما فعلت "صفية" و"خليل"، ونهرت "الجليلة" ابنتها "نجاة" لاستقبالها كحقيقة، وحار الناس بين التصديق والتكذيب، لكن الموت فعلًا تنقّل في القرية، لم يوفر حيوانًا ولا إنسانًا، وبات يتربص بالجميع، والسبب الحقيقي هو وباء الطاعون:
"غمام النبوءة ضرب ستائره على كل عين. الجميع يتمنى الإفلات، كل يفكر على قدر عقله".
وتكرّرت النبوءة في الرواية مع العديد من الشخوص، منهم "خليل"، وبوسائل كثيرة، منها- على سبيل المثال- صوت مجهول أو معلوم المصدر، صوت واثق يعلم مشكلة الشخصية وأبعادها والطرق الخلاص منها، كصوت قنديل وهو يستقبل خليل ويدعوه لدخول الكوخ، وكأنه يدعوه إلى الجنة:
انكشف ل "خليل"؛ في قلب النداء حكمة، وفي ضوء النهار رسالة، وبجوف العتمة رحمة، وبالغمام نبوءة، وفي المصيبة لطفًا، فبكى لصفاء ما رأى.
ومرة عبرهاتف خفي في حلم متكرر، كالذي راود " الميت" :
ينتفض " الميت" من فرشته شاعرًا بهاتف خفي يخبره أن الموعد جاء، جسمه دافئ وقلبه فرحان، يهمس – في نفسه- بيقين:
- اليوم تتبدّد لوعة الحائر.
أوعبر صوتٍ نذير في الحلم، كصوت النذير في حلم "الجليلة" حين خالفته وتزوجت فارسها، ومات بعد الزواج بفترة قصيرة.
وكان للسحر والتنجيم وأهله مساحة واسعة في الرواية، فكان العرّاف " غريب" والساحر "أوجا"، وأعمالهما العجائبية المقززة:
"يلبس العراف "غريب" رغيفي خبز كخفين في قدميهن ويدخل بهما "بيت الراحة" ! يتمتم قليلًا، ثم يعلو صوته بتعاويذ مبهمة".
تشتبك هذه الشعوذات مع سلوكيات التعاطي الإنساني مع الظواهرالغريبة للطبيعة، التي تطلق الخوف والقلق من عقال القلوب المحتارة والعقول العاجزة عن تفسيرها، فيربطونها بالجن، من حادثة كسوف القمر أستشهد بهذه الفقرة:
"القمر محبوس خلف الغمام، لا يبدو منه سوى ظل باهت ضئيل، كأنه يستجدي المساعدة من العيون، وتفرق الهمس في البلد هنا وهناك" الجان يخنقون القمر"
الربوة تمتلئ بالحشود. " الجليلة " تجلس صامتة فوق كرسيها، و"كعب الخير " وسط الناس بيدها عصاة تنغز بها الفراغ؛ فيهتز جسمها القصير الممتلئ وهي تصيح بأعلى صوتها:
- ارحلوا يا بنات الحور
- فكوا القمر المأسور
.... أهل البلد يطرقون على الأواني وهم يتابعون عراك القمر والجنيات".
كل هذه الأجواء شكّلت السياق الأسطوري والتراثي والشعبي الذي كان يلف القرية، والفضاء الثقافي الذي كان يهيمن على عقليات أهلها.
كما استخدم الكاتب أداة القطع المتعمد cut intentional وهو أسلوب إجرائي متّبع في كتابة السرد، بالأخص السيناريو، يستخدم كأداة لتقوية ودعم وتشديد التشويق تحت ضغط توق المتلقي لمواصلة السرد من قبل السارد، و للانتقال من مشهد إلى آخر، بمعنى أنه يروي حدثًا ثم يقطعه فجأة بطريقة غامضة، ويروي حدثًا آخر بزمكانية أخرى، ويقطعها بغموض أكثر، وهكذا، ثم يكمل الحدث الأول في صفحات أخرى، فنشعر أننا حيال نقلات سريعة أو مقاطع يلفّ نهاياتها الغموض، وهذه حالة إبداعية لزيادة فعالية تقنية التشويق Suspense، يلعب فيها الكاتب على تحفيز المتلقي وإثارة تساؤلاته حيال تسارع الأحداث ومصائر الشخوص.
كذلك استخدم الكاتب المزج كأداة لدمج مشهد مع المشهد الذي يليه مع استمرار الحدث، وأحيانًا لاختزال زمن قصير ربما، فمثلًا، مشهد جنازة "نجاة" الذي افتقد فيه الجميع وجود خليل :
- أين خليل؟!
عيون الناس تسأل، والنعش يخرج من الدار محمولًا فوق أكتاف الرجال.
- أين خليل؟!
الشوارع محتشدة بالرجال المنتظرين في صمت، مستغربين من غيابه.
- أين خليل؟!
.
.
يتبع هذا المشهد العديد من المشاهد على عدد كثير من الصفحات، لا يظهر خليل في أيّ منها، ثم فجأة يظهر مشهد يعيدنا إلى "خليل" قبل الجنازة، يبرر اختفاءه في أثناء الجنازة:
قبل أن يترك " خليل" الدار الكبيرة طبع قبلة ممتزجة بالدمع على جبين " نجاة" البارد وغادر، مشى في الصحراء هائمًا تائهًا! حتى اقترب من الكوخ وسمع "قنديل" يناديه:
- أقبل.
فطرق الباب بمحبة وقال بشوق :
- افتح.
في هذا المشهد السريالي، يبدو قنديل وكأنه حارس الجنة يدعو خليل لدخولها.
كسر أفق التوقع من ضمن التكنيكات الاستراتيجية التي اعتمدها الكاتب في هذه الرواية، مستفيدًا من منهج جمالية التلقي، يفعّل الكاتب العلاقة بين المتلقي ونصّه، ساعيًا لجعلها علاقة تبادلية تفتح النص على آفاق واسعة من التأويل، وتعطي للمتلقي حرية الممارسة النقدية وإنتاج المعنى متحررًا من سلطة المؤلف ومن هيمنة المعنى النهائي القصدي، من خلال المشاركة الفاعلة بينه وبين النص ذاته، في مشهد الجنازة التي تخرج من بيت "الجليلة"، هذا المشهد كان مسبوقًا بفقرات سردية عديدة متناثرة بين مقطوعات النص كقطع البازل، على المتلقي أن يجمعها لينتهي به التوقع إلى موت "الجليلة" التي كان في حالة تشبه طور الاحتضار، وأن الجنازة والدفن كان للجليلة، لكن الموت كان من نصيب ابنتها "نجاة" التي ماتت موت فجائي :
" ... الدار الكبيرة ساكتة والكل يترقب صرخة العويل الأخيرة التي سينقضي بها كل شيء، ويبهت الجمع الملتف من الأقارب على يد الجليلة تتحرك وظهرها ينتصب، تتكئ إلى حرف السرير بوهن، وتتلفّت بعيون شبه ناعسة مستغربة الواقفين؛ تسأل بصوت من صحت من نوم طويل :
- ما الوقت الآن؟!
يستفيق كل الملتفين حولها من ذهولهم، ويجنح الفرح، ثم ينظرون إلى بعضهم بعضًا حائرين، كيف يخبرونها بموت ابنتها نجاة المباغت دون علة؟!"
هذه المفاجأة كانت بمثابة الصفعة للمتلقي الذي انقاد لسرد الكاتب، ليبقى في حال تحفز دائم، فلا يركن للمتوقع الذي يخدعه به الكاتب، وإنما يفتح ذهنه على كل الاحتمالات، المتوقعة وغير المتوقعة.
تقنية وجهة النظر السردية Point-of-view :
رغم كثرة الشخوص، وما يُفترض أن يترتّب عليه من تعدّد المواقف الفكرية واختلاف الرؤى الإيديولوجية، ورغم استعمال فضاء العتبة وتشغيل الفضاءات الشعبية الكرنفالية، ورغم توظيف وحدة الزمكانية إلى حدّ ما إلا أني لم أجدها رواية بوليفونية، أي أنها ليست رواية أصوات، فلا تتعدّد فيها الضمائر السردية، وذريعتي أن الكاتب وظّف وجهة نظر الراوي العليم كلّي العلم الذي يرجّح كفّة السرد الحدثي والوصفي على حساب الحوار الخارجي والمنولوج، والذي يمارس سلطة عليا على مسار السرد والحكي، بهدف التأثير على المتلقي، ويقلّص مساحة النقاش إلى الحد الأدنى، مما ينتج عنه محدودية في الكشف عن الآراء والاتجاهات الأيديولوجية، وهو الصوت الوحيد الذي يجبر المتلقي على تقبّله كسارد واحد لا شريك معه، برؤية سردية واحدة، وأسلوب لغوي واحد، إلا أنه ينقل بحيادية نسبية المنظورات الأيديولوجية للشخصيات، بأسلوب لا يخلو من الهيمنة.
إن اعتماد الكاتب وجهة نظر الرواي كلّي العلم، واختياره الدقيق للكلمات بما في ذلك اللغة التصويرية، كذلك بنية الجملة وطولها هو توظيف ل تقنية الإيقاع العاطفي في السرد Tone، العاطفة التي يسعى الكاتب لغرسها في المتلقي، وهذا الإيقاع هو في الواقع تقنية تستخدم لإنشاء الحالة المزاجية، واستخدام المؤلف أو الراوي لمشاعره الخاصة لنقلها إلى المتلقي. وهنا نتأكّد من قصدية المؤلف بالسيطرة على النص.

الشخوص:
شخوص واقعية، تعيش في زمانها المضغوط فيما لا يتعدى عقدين من الزمن، تحاول فهم العالم التخييلي الأسطوري الذي ألقاها فيه الرواي أو الكاتب، وتبذل جهدها لتكون فاعلة ومؤثرة، يؤدي دورها على مسرح العرض الروائي بكل الحمولات الرمزية الملقاة عليها، إضافة إلى حمولاتها الإنسانية.
عبر توظيف تقنية شخصية البطل في الرواية: Protagonist :
" الجليلة" هي الشخصية الوحيدة التي ثبّتها الكاتب على كرسيها بمهابة، تحرس مسرح الأحداث، وتضبط إيقاع السرد، مكتملة فنيًّا، معفية من إثم الشك، منعمة باليقين بأن " لكل شيء أوان":
"... تجلس على مقعدها العالي بمهابة، وحيدة ناعمة بدفء يسلمها إلى ذلك الشرود الجميل، تحجب الشمس كلما قاظت بكفها المخطوطة من ظاهرها وباطنها، كأنها نقش يؤرخ للأبد ... تطل بقامتها السامقة، تقرأ وجه السماء وصفحة النهر وتنتظر ....
توظيف ل تقنية توصيف الشخصية كنموذج أخلاقي: :characterization
- هذه جليلة صاحبة البركة والنبوءات! بركة هذا البلد التي بنظرة منها تتكشف لروحها أسرارهم، لكنها لا تبوح بشيء ولا تفضح سترًا.
ثم يعرّفنا برمزيتها عبر هذا التلميح:
" يحمل الغرباء أجولة بضائعهم ويتفرقون كل إلى مقصده، تاركين دار " الجليلة" وحيدة فوق الربوة العالية تطل على البلد وكأنها الحارس الحاني ".
والملاحظ أن الكاتب اهتم بتقديم شخوصه من بعديها النفسي والاجتماعي، أي من الداخل، وقلّما قدّمها من بعدها الجسدي الخارجي، إلا بما يخدم جوهر الهدف الذي يحرص على تحقيقه من البداية وحتى النهاية، وهو بناء علاقة قوية وعميقة بين المتلقي والنص الروائي، دون أن يكتفي بتحقيق جماليات التلقي، وإنما يريد من المتلقي أن يتعرّف على جوهر شخوصه، مخبوءاتها الانفعالية النفسية، الوعي واللاوعي، تقلباتها المزاجية، نوازعها الخيرة والشريرة، همومها، هواجسها، أفكارها، ميولها، عواطفها، أحاسيسها،.... لكي يستطيع أن يفهم سلوكياتها، ويفسر ردود أفعالها، أراده أن يقترب منها إلى مسافة تجعله يتنبّأ بما يمكن أن تقوله أو تفعله، وأن يسقط ما يتلقاه من شخوص النص على محيط مجتمعه.
كثرة الشخوص، والتي فاقت الخمسين، لم تنل من قدرة الكاتب على إنتاج العالم الروائي التخييلي الذي أراده، بكل عناصره، مكان متخيّل، زمان متخيّل، أحداث متخيّلة، مجتمع إنساني متخيّل، وكان الأسلوب الغرائبي هو الأسلوب الأمثل لخلق هذا العالم الروائي، وهو الأسلوب الذي سيقبله المتلقي الذي يعيش في هذا الحاضر الذي فاقت فيه غرائبيتُه واقعيتَه، لذلك سنجد أن الغرائبية هي السمة التي تجمع شخوص هذا العمل، من هذه الشخصيات:
رضوان:
وجدته شخصية مكتملة فنيًّا، وثابتة أيضًا، لكن لا يمكن ولا ينبغي أن نقارنها ب " الجليلة"، لأنها شخصية متشربة بالدياثة، يعرف أن بيته يتحول ليلًا، في أثناء مناوباته الليلية كخفير للعمدة، إلى وكر دعارة يرتاده أول من يلج الباب الموارب، فلا ينتفض ولا يعترض ولا حتى يعاتب، لكنه يحرص على الظهور بمظهر المغفل الذي لا علم له بعهر زوجته كوكب، بل ويحرص أيضًا على تطبيبها حينما أصابها الاكتئاب من إعراض "الميت " عنها، وهو أيضًا خفير العمدة الذي ينطبق عليه وصف ( عبد مأمور)، مؤمنًا بمقولة: (كل من يتزوج أمي، أقول له يا عمّي).
خليل :
شخصية ثابتة نوعًا ما، نامية ببطء باتجاه إيجابي، راهنت على قوة العقل والمنطق، تحرّرت من تشرذمها العاطفي، على امتداد الخط الزمني للرواية حتى وصلت إلى استقرارها بعد موت الزوجة " نجاة"، في معتزلها السريالي وسط الصحراء.
"الميت" أو " عبد الحي":
شخصية مركبة، يتصارع فيها قطبان متنافران ومتطرفان، ثنائية بارادوكسية بامتياز، اسمه الحقيقي " عبد الحي" لكنه عاش معظم عمره باسم " الميت"، وهو اسم أطلقته عليه أمه "شرقاوية" لينجو من الموت الذي التهم أخوته قبله، وكانت قضيته في الحياة أن يعرف سر الموت، فطوّع حياته في دفن الموتى، شكله القبيح جعله منبوذًا، ترفضه النساء، إلى أن أجبرته أمه على الزواج من ابنة أخيها "سيسبان"، ولم تكن جميلة، والمفاجأة أنه أمتعها جنسيًا لدرجة أنه صار محطّ شهوة النساء، بعد أن أخبرتهم "كوكب" عن فحولته، صار شهوانيًّا إلى حدّ الهوس، ثم فجأة يطرده ابنه "مبروك" من البيت، ليقيم بين القبور، يتحوّل باتجاه القطب الروحاني العرفاني، حينما تواجه مع الموت ونجا، فصار يأنس بالموتى.
"الميت" إنموذج عن الصوفي الذي تحرّر من ماديته وحيرته الوجودية، وتبع باليقين قلبه.
مبروك :
ابن "الميت"، أيضًا شخصية مركبة ونامية من ذات ضعيفة وضيعة مهانة التي تركلها الأقدام، وتقذفها الألسن والأفواه بالشتيمة والإهانة والتعيير بسمعة أبيه، إلى ذات عاقّة، ثم إلى ذات قوية مهابة الجانب، ثم إلى ذات قاتلة لا تكتفي بالانتقام تحقيقًا للعدل، وإنما مجرمة سفّاحة إمعانًا بالشر.
"مبروك" كان أنموذجًا عن الإنسان الغوي الشقي السيكوباتي.
قنديل:
شخصية متحولة تحوّلًا أسطوريًّا، من رجل سكّير معربد ديّوث، يتعرض للموت، ويخرج من القبر، يحترق داره وهو فيه، ويخرج من دائرة النار سليمًا هاربًا إلى الصحراء، لائذًا بمقام "عطية الكاتب"، ليعيش هناك في عالم فردوسي.
قنديل هو رمز للإنسان التائب الذي اجتاز معبر الموت، إلى قيامة، وحساب، وعقاب وتطهر بالنار من الآثام، ثم دخول الجنة.
مختار:
وظفه الكاتب عبر تقنية الشخصية الخصم Antagonist:
شخصية نامية سلبيًّا، مقنعة في بنائها الفني، فهي قادمة من طفولة بائسة، مُغتالة بالضياع والحيرة، معجونة بالحقد على كل أهل البلد الذين تغافلوا عن تقصي اختفاء أمه أو موتها، وتجاهل أبيه، رغم أن الدنيا جادت عليه بيد حانية، يد "الجليلة"، وأب موازٍ " خليل"، لكن الأخير كان الإبرة التي تنخز ظنونه، من أنه ابنه من الزنا، لكن، الحقد أقوى، وحين تُسلّم مقاليد السلطة لشخص حاقد فلن يثمر في النفس إلا البطش والطغيان، ولن ينمو في القلب إلا الكره والبغض، ولن ينشط في العقل إلا الشك والظن، ولن تحمل اليد إلا سكينًا تجز بها رقاب المتآمرين الذين تصورهم له بنات ظنونه، ولم يوفّر حتى "خليل" الذي كان بمثابة أبيه، فقام بصلبه وجلده، حينما تصدى له متمردًّا على بطشه وحيدًا بعد أن خذله أهل القرية بخنوعهم وانقيادهم لعصا السلطة كالعبيد، كما يصلب صديقه ومساعده "جليل"، ويحبس زوجته " فرحة"، ويسرق ويحطم كرسي "الجليلة" ويحرق دارها التي آوته أيام كان صبيًّا يتيمًا منبوذًا، وينتهي مقتولًا على يد مبروك.
مختار أنموذج للحاكم الطاغية الذي لا يحد إجرامه حد.
وأترك لكم الاطلاع على باقي الشخصيات، راضي، الأبيض، أبو جميل، بحر، صفية، حسونة، أرزاق، كوكب،

• المستوى النفسي:
تنظر النظرية السيكولوجية بمنظور ذرائعي إلى الأعمال الأدبية على أنها تعبيرات عن ذات الكاتب المبدعة التي تكشف سمات شخصيته وأعماقها الخفية، وتساعد سيرة الكاتب الإبداعية والشخصية على تفسير النصوص الأدبية في ضوء مخزونات الكاتب الداخلية، حيث يرى علم النفس أن استكشاف نفسية الكاتب يفيد بالضرورة علم النقد، وعندما قام النقاد الانكليز بتحليل الأعمال الروائية والشعرية توصلوا إلى اكتشافات غريبة، منها أمراض سيكولوجية كعقدة أوديب، لذلك، النقد النفسي يمكن أن يعطل فهم القرّاء للعمل الأدبي‘ ويصرفهم عنه تفاديًا للمشاكل التي تنعكس من شخصية الكاتب، لكننا لم نجد عند مبدعنا إلا مخزونات تساعد في فهم شخصيته الإيجابية، ويمكن أن تكون كتاباته عبارة عن وثائق تقريرية مثيرة للاهتمام، ومع ذلك، من الضروري النظر إلى هذه الأعمال على أنها كيانات حية نابضة بالحياة تمتلك طبيعتها النفسية وقيمتها الفنية والأدبية، وإن حكم الناقد وتقييمه للعمل أمر ذاتي، حيث لا يمكن تحليل العمل الأدبي على أنه أقل موضوعية، فإن حدث ذلك فيكون أحد أخطاء النظرية النفسية.
حفل العمل بالتناصات البلاغية والحدثية، وخصوصًا قصص القرآن، والأساطير، كما تناص الكاتب مع كل من سبقه من الأدباء الذين كتبوا الرواية النهرية أو رواية الأجيال. وطرح العديد من الأسئلة الوجودية، وأجرى الحكم والمواعظ على ألسنة العديد من شخوص الرواية.

د. عبير خالد يحيي 29 مايو 2024 الإسكندرية – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقطات من عرض أزياء ديور الرجالي.. ولقاء خاص مع جميلة جميلات


.. أقوى المراجعات النهائية لمادة اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية




.. أخبار الصباح | بالموسيقى.. المطرب والملحن أحمد أبو عمشة يحاو


.. في اليوم الأولمبي بباريس.. تمثال جديد صنعته فنانة أميركية




.. زوجة إمام عاشور للنيابة: تعرضت لمعاكسة داخل السينما وأمن الم