الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف والتحولات العمرية

صالح سليمان عبدالعظيم

2006 / 12 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


يعاني الكثير من المثقفين في العالم العربي الآن من سيولة في التحولات الفكرية، حيث القفز من توجه لآخر، ومن موقف لآخر، تجاه القضية ذاتها، وتجاه الموقف نفسه. ورغم أن التغير سنة الحياة إلا أن ما يحدث مع هذه النوعية من المثقفين العرب، إذا جاز وصفهم بالمثقفين، هو أقرب ما يكون إلى السيولة والاهتراء، والقدرة على التشكل والتلون مع كافة التحولات والمعطيات الجديدة. وهو ليس تشكل وتلون ناجم عن قدرات ابداعية ذاتية بقدر كونه ناجماً عن حالة تحلل قيمي وأخلاقي مرتبطة بالمصالح الآنية الوقتية الضيقة، وليس عن مواقف فكرية مجتمعية واضحة تبتغي المصلحة العامة. فالكثير من المثقفين العرب الآن يطرحون أفكارهم وتوجهاتهم وفقا لأهواء ورغبات السلطة، ووفقاً لمشروعاتها، بدون أن يكون لديهم القدرة على نقدها، ناهيك عن الاشتباك معها ومواجهتها.

ومن خلال ملاحظة العديد من الحالات الخاصة بالمثقفين العرب يمكن القول بأن الكثيرين منهم ينهون حياتهم على العكس والنقيض تماماً مما بدأوه. فالبعض قد انتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، كما أن البعض الآخر قد انتقل من تبني مبادئ الاقتصاد المركزي إلى أقصى تطبيقات الخصخصة ووصايا البنك الدولي الليبرالية، بل إن البعض منهم قد وجه قبلته من الكرملين إلى البيت الأبيض ببساطة شديدة وبدون أدنى قدر من الحياء.

وما يعيب هذه الانتقالات والقفزات هو درجة التحول المرتبطة بها، حيث يتحول المرء موجهاً سهام نقده إلى ما كان يتبناه سلفا، وكأنه لم يكن يوماً من الأيام من دعاته ولا ممن يتبنوه. فما يحدث في الواقع هو أن يشطب أياً من هذه النوعية من المثقفين من خطابه كلمة الاشتراكية ويضع بدلاً منها كلمة الرأسمالية، أو يشطب كلمة الماركسية ويستبدلها بالإسلام، وهكذا يتحول الخطاب من توجه إلى آخر ببساطة شديدة يبدو معها تغيير الأفكار والتوجهات والأيديولوجيات والمواقف أقرب لتغيير الملبس والمأكل والعلاقات اليومية البسيطة. واللافت للنظر هنا أنه في ظل حالة السيولة المجتمعية العامة، لم تصبح مسألة الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن أيديولوجيا إلى أخرى، ومن موقف إلى آخر تسترعي انتباه أحد.

ولا يغيب عن الأذهان هنا هؤلاء الذين ينتقلون من موقع مهاجمة السلطة والاشتباك معها إلى موقع مهادنتها والارتماء في أحضانها والاستمتاع بعطاياها. فالكثيرون قد غيروا مواقعهم من الهجوم على السلطة ورفض طروحاتها ومشروعاتها المختلفة إلى ترويج مشروعاتها والعمل من أجل انجاح مخططاتها. وتحولوا من موقع المفكر المشتبك المنحاز اجتماعيا إلى موقع الموظف الإداري المرتبط بماكينة السلطة وقدراتها الهائلة على القولبة والتدجين. والغريب في الأمر أن هذه النوعية من المثقفين لديهم القدرة الهائلة على تبرير تحولاتهم الموقفية من معاداة السلطة إلى مهادنتها، ومن الاشتباك معها إلى الانضواء تحت لوائها، ومن الدعوة لتغييرها والإطاحة بها إلى العمل من أجل تلميعها والمساهمة في تأبيدها.

وهناك العديد من العوامل المجتمعية والذاتية التي تدفع المثقف لمثل هذا التذبذب والتحلل والاهتراء بخصوص المواقف والتوجهات الفكرية المختلفة التي يتخذها ويتبناها. وسوف نقف هنا على التأثير العمري على تحولات المثقف وانتقالاته وقفزاته الفكرية والأيديولوجية. فمما لا شك فيه أن التقدم العمري يلقي بظلاله المختلفة على المثقف سواء من خلال الخبرات المختلفة التي يكتسبها، إن بالسلب أو بالإيجاب، أو من خلال ذلك التدهور الصحي المرتبط بتقدم العمر، والذي تظهر تباشيره بشكل واضح مع مطلع الخمسينيات من العمر، أو من خلال تعاظم المتطلبات الأسرية وتضخم سلطات الزوجة وهيمنتها وربما قمعها له.

من خلال جملة العديد من المشاهدات والتحولات الخاصة بالكثير من المثقفين العرب، يشكل العقد السادس منعطفاً هاماً للتغيرات والتحولات الفكرية، وربما الاستقرار في رحاب توجه ما، ومصالح خاصة بالمثقف. فما بدأه المثقف من تمرد واصطدام بالسلطة يتحول مع العقد السادس إلى نوع من الخضوع والخنوع والتعامل مع هذه السلطة، التي تدرك تماماً أنها قد نجحت في تدجين هذه النوعية الصدامية من المثقفين عبر أشكالها العقابية المختلفة. فالسلطة تعلم تمام العلم أن هذه النوعية من المثقفين، التي أثارت العديد من المشكلات في فترات زمنية ماضية، سوف تعود مرة أخرى وعبر جزرة السلطة نفسها للعمل في رحابها والاستفادة من خيراتها وعطاياها.

بالطبع يتفاوت المثقفون في درجة ارتمائهم في أحضان السلطة، وفي المدة الزمنية التي يتعاملون من خلالها مع هذه السلطة. فالبعض منهم يختار هذا الطريق منذ بداية حياته، لا يغامر أو حتى يفكر بالاصطدام بالسلطة. وهذه النوعية لا تسبب للسلطة أية مشكلات من أى نوع، لكنها تضفي قدرا ما من البلادة والخمود على السياق العام من ناحية، وعلى السلطة ذاتها من ناحية أخرى. فالسلطة، وإن كانت تستفيد من هذه النوعية الخانعة المستسلمة منذ البداية، فإنها تحتاج أيضاً إلى النوع الصدامي الآخر، الذي يمكن من خلاله أن تكشف السلطة عن أن لديها أنياباً يمكن استخدامها، كما تكشف في الوقت نفسه عن أن لها منافع وعطايا وخدمات يمكن أن تمنحها.

وهناك نوعية أخرى، وهى التي تعنينا هنا، بدأت حياتها بالإصطدام مع السلطة، معارضة لها، ولتوجهاتها. وكانت دوافعها إما ناجمة عن إيمان فكري وتوجه أيديولوجي معين، وإما عن رغبة في تغيير المجتمع، وبشكل خاص في مستوياته السياسية، وإما عن اندفاعات شبابية غير مقدرة للعواقب والنتائج. وبغض النظر عن هذه الدوافع المختلفة والمتباينة، فإن هذه النوعية من المثقفين قد دفعت ثمناً ما لهذه المواجهات والاشتباكات مع السلطة، قد يبدأ بالنبذ والتجاهل والحرمان وقد ينتهي بالسجن. وفي غمرة العقد الثالث أو الرابع لا تهتم هذه النوعية من المثقفين بما حدث، تملؤها مشاعر الفخر والاعتزاز بأنها لم تنساق في ركاب السلطة مثلما فعل الآخرون، ويملؤها الأمل بأن التغيير قادم لا محالة، وأن المبادئ والأفكار التي يروجون لها سوف تقود المجتمع إن آجلا أو عاجلا إلى التغيير والنمو والتطور. لكن بمرور الوقت تخبو هذه المشاعر، وتنطفأ جذوة الأمل، خصوصا مع قدوم عقد الستينيات، ذلك العقد المباغت في حياة المثقفين.

مع قدوم الستينيات، وفي ظل المكاسب الكثيرة التي يتمتع بها من يهادنون السلطة ويروجون لخطابها، تنشأ العلاقة من جديد بين السلطة من جانب وبين هذه النوعية من المثقفين من جانب آخر على أرضية العطايا والمنح والامتيازات. وللعلم فإن الغزل الذي يحدث لا يتم فقط من جانب المثقف للسلطة، لكنه يتم أيضاً من جانب السلطة للمثقف، حيث تعلم السلطة تمام العلم أن فترة التدجين اللازمة قد أُنجزت، وأن صدام هذه النوعية من المثقفين قد أصبح من أطلال الماضي البعيد، وأنه يمكن التعامل معهم على أسس جديدة تفرضها السلطة، ويقبلها المثقفون. في كل الأحوال، لا يفرض المثقفون قواعد وأسس التعامل، بقدر ما ينصاعون للقواعد والأسس التي تضعها السلطة الأكثر دراية ببنياتهم وتشكيلاتهم النفسية.
تزداد هذه التحولات مع قدوم العقد السادس لأسباب عديدة ليست لها علاقة بالتحولات الفكرية والأيديولوجية قدر ارتباطها بالتحولات السياقية المحيطة بهذه النوعية من المثقفين. فقدوم العقد السادس من الحياة معناه الاقتراب من نقطة اعتزال العمل، ورغم أن المثقف رهن بانتاجه ودوره الفكري، فإن حرمانه وعزله والتضييق عليه من قبل السلطة قد حرمه من فرص الترقي اللائقة به خلال العقد الخامس من حياته. لذلك فهو يجد أن إعادة التعامل مع السلطة التي اصطدم بها في الماضي هو أقصر الطرق التعويضية بالنسبة له ولمستقبله، مردداً في الكثير من الأحيان أن العمر ليس به بقية، وأن الأوضاع لن تتغير، وأن الكثيرين قد سبقوه بسبب آرائه ومناطحاته الماضية للسلطة.

إضافة إلى ذلك، يرتبط العقد السادس بالأعراض المرضية التي لا تمنح المثقف القدرة على مواصلة اشتباكاته مع السلطة، سواء أكانت أمراضاً عضوية جسمية، أو أمراضاً نفسية مرتبطة باليأس والإحباط وربما الملل. فمع قدوم العقد السادس تظهر أمراض السكر وضغط الدم والأزمات القلبية وغيرها من أمراض العقد السادس التي تقلل من عزم المثقف وتقيد من مساحة معاركه واشتباكاته مع السلطة.

يتضافر مع هذا الهجوم المرضي، زيادة أعباء الأسرة، ومتطلبات الزوجة، خصوصاً إذا اتسمت بالنكد والكآبة وبالتطلعات الحياتية المعاصرة وبالنظرة التقليدية المحافظة والأخلاقية للعالم. فالأسرة العربية المعاصرة تمثل أكبر الكيانات الاجتماعية محافظة وتقليدية، وهو الأمر الذي ينقل المثقف من خانة التحديث والتغيير والصدام مع السلطة إلى خانة التقليدية والخنوع والتطلعات المادية الجديدة التي لا تنفك الزوجة تتحدث عنها ليل نهار أمامه.

وللأسف الشديد فإن الكثير من المثقفين تتم إعادة صياغتهم، بشكل كبير، من خلال مؤسسة الأسرة، ومن خلال تصاعد هيمنة الزوجة، التي يقابلها في الوقت نفسه، تدهور نفسي ومعنوي وفيزيقي من جانب الزوج. وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحول العديد من هذه النوعية من المثقفين إلى صورة كربونية من توجهات الزوجة في أكثر تجلياتها محافظة وتقليدية. وللذين يندهشون من التحولات المختلفة التي تصيب بعض المثقفين، عليهم أن يفتشوا عن تلك التحولات التي أصابت الأسرة العربية في العقود الأخيرة، وعن العلاقات التقليدية المحافظة التي تهيمن على بنية هذه الأسر، وعن الدور المركزي الذي تلعبه الزوجة في إعادة تشكيل الزوج.

من المؤسف أن عالمنا العربي يشهد هذه التحولات بدرجة كبيرة بين المثقفين، وهو الأمر الذي يحتاج إلى اجراء المزيد من البحوث الأكاديمية الجادة على مستوى واسع للكشف عن طبيعة تحولات المثقفين في عالمنا العربي، وحقيقة الأسباب التي تؤدي إلى هذه التحولات، مع التركيز على العقد السادس وتأثيراته. اللهم نجنا من مصائر وتحولات العقد السادس، وامنحنا القدرة على عبوره بأمن وسلام!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل: نتانياهو يناشد غانتس عدم الاستقالة من حكومة الحرب


.. إعلام إسرائيلي: غانتس سيعلن استقالته من مجلس الحرب اليوم




.. سلاح إسرائيل «الفتاك» بغزة.. ماذا نعرف عن القنبلة الأمريكية


.. اللحظات الأولى للقصف الإسرائيلي الذي استهدف مخيم #النصيرات و




.. بودكاست تك كاست | ينهي إدمان الشاشات.. الخاتم الذكي يستبدل ا