الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخر في قصيدة (الجن) للشاعر واثق الجلبي

واثق الجلبي

2024 / 6 / 5
الادب والفن


قراءة / أ د مصطفى لطيف عارف
الآخر قد يوظَّف للدلالة على حالة الذات التي تنقسم على نفسها وهي في طريقها إلى تحقيق حلمها في وقتٍ كانت فيه متحدةً مع ظلها ، وبانهيار ذلك الحُلم لم يعد بمقدور الذَّات المحافظة على ذلك الاتحاد بينها وبين ظلِّها فتبتعد عنهُ، ولذلك يعمدُ الشَّاعر (واثق الجلبي ) أحياناً إلى عَرض نصِّهِ الشِّعري برمزيةٍ معينةٍ تُحيلُهُ إلى دَلالاتٍ شعريةٍ متنوعةٍ تختزنُ بداخلها تأويلاتٍ متنوِّعةٍ لها وَقْعُها الخاص في نفسهِ , وتُشعِر المتلقَّي في الوقت ذاته بأنَّ مثل هذهِ الدلالات تعكسُ صراعاً داخليَّاً للذات بتآلفِها معهُ إيجابيَّاً عندما يكون ملازماً ومُواسياً لهُ ، وأحياناً يكونُ هذا الآخر غريباً تجدُ الذَّات صعوبةً في التَّوافق والتَّعاطي الإيجابي معهُ , لذا فان الشاعر (واثق الجلبي) يستبطنُ معاني الخشيةِ والخوفِ , وينتقلُ في عَرض أفكارهِ من فكرةٍ إلى أخرى بطريقةٍ غير منتظمةٍ تعكسُ لنا تداعي ذهنيتهِ وأفكارهِ فيقول في نصِّهِ ( الجن ):
ضاع من عندي الجَملْ يا ترى ماذا حصلْ
ورصدتُ خاتما لسليمان البطلْ
جاءني الجنُ ومن عشرة كان الأجلْ
لعبوا حتى أتى ملك الجن وطلْ
قلتُ أين أمُكم قال عند المغتسلْ
قلت ماذا تبتغي قال سكناك الأملْ
قلت عودوا عالما لكم كان المحلْ
قال دعواك لنا قلت زورا مفتعلْ
لم أنادي الجن أو أطلب سحر الأملْ
إذ يفتتحُ الشاعرُ قصيدتَهُ بإدراكٍ ذاتيٍ لطبيعتهِ وكينونتهِ الإنسانيةِ , إلَّا أنَّهُ يُحيطُ نفسَهُ بمصادر القلقِ والتَّوجُّسِ النَّاتجِ من هذا الظِّل الغريب ( الجن) , فدلالةُ الجن أنَّهُ يمثِّلُ ملازماً وجوديَّاً لحقيقة الإنسان , ولا يبعث على الرَّيبةِ أو الشَّكِ , إلَّا أنَّ خوف الذات منهُ يمثِّلُ توجُّساً مرحلياً يترنَّحُ بين الوعي واللاوعي كاشفاً عن عدم التَّوافق معهُ , كما يدلُّ ذلك في حقيقتهِ عن وجودٍ قهريٍّ لدلالة (الجن) يعيشُ تحت وطأتِها الشاعر الجلبي , فهو من جهةٍ يُدرك أنَّ ذلكَ الظِّل خطرٌ على كيانهِ وحُريتهِ ، إذ أمسى شيءٌ مرعبٌ يخلقُ لهُ الأزمات , ويعيشُ على حطامِ أمانيهِ ورغباتهِ , ومن ثَمَّ فإنَّ من شأنِ ذلكَ الألم والشَّقاءِ النَّفسي أن يوقظ الوعي الذاتي للشَّاعر وإجبارِهِ على التفكير والتَّخلص من هذا القمع والاستلاب النفسي والخوف من المصير المجهول فنراهُ يقول ً:
فأرادوا هجمة كنت منهم في وجلْ
فقرأتُ السر حتى واحد منهم سألْ
قال أطلب قلت كلا قال أعطيك المُقلْ
قلت ربي في ضميري وأنا عبدٌ أفلْ
قال أعطيك حياة حلوة بلا عملْ
وأدور الكون لمحاً فتراءى لي زحلْ
أجلب المال واني لقوي ذو عضلْ
قلت لا أفعل هذا وأنا أعطيك حلْ
أمضِ في دربك إني ناقمٌ حدّ المللْ
صارت الإنس مزيجا من غباءٍ ودغلْ


يرسمُ لنا الشَّاعر الجلبي دلالةً مُخيفةً عن ذلكَ(الجن) أو الظِّل , ثمَّ يستطرِدُ بعيداً إلى ذكرِ ما لديه من حوارية معهم, وهذا يدلُّ على التزامهِ بالتَّسلسلِ المنطقي لعرض الأفكارِ , فهذا الأسلوب يقعُ ضمن الأساليب التي يسلكها تيَّارُ الوعي , ويتمُّ عن طريق إحضار الشاعر الجلبي كثيرٍ من الأفكارِ بحسب ما يَتَدَاعَى في ذهنهِ , ومن غير أيِّ التزامٍ بالتسلسل المنطقي لحكاية الجن , لهذا نرى الشاعر ينتقلُ بقصيدتهِ من موضوعٍ إلى آخر , ومن فكرةٍ إلى أخرى , وغايتهُ في هذا إخبار القارئ بكُلِّ ما يدورُ في ذهنهِ مع أخذهِ بنظر الاعتبار وجود السَّامع أو المتلقِّي ، إذ تَتَداعَى الأفكار في النَّفس البَشريَّةِ بشكلٍ غير مرتَّبٍ , وغايتُهُ الرئيسةُ من ذلك بثُّ الأفكار المختلفة للسامع أو القارئ وشد انتباه المتلقي , ويعودُ مرةً أخرى لإثبات طبيعة الجن / الآخر التي سلبت كيانه, ووجوده , ويقرُّ بوجودِهم حولَه فنراه يقول:
عاد أمر الناس كذبة وهراء من جدلْ
واستعانوا بالأحاجي وبعفاريتِ الدولْ
وطغى الجنُ علينا من تعازيم الهَبلْ
وأماتَ الناسُ دينا واستعانوا بالحيلْ
غادرَ الجنُ وطاروا فتنفستُ أجلْ
لمحُ دخانٍ تلاشى في طريقٍ مختزلْ
فمحوتُ الرهط منهم وتعوذتُ بقُلْ
نام قلبي في هدوءٍ وتفاديتُ الخطلْ
فاعملوا آل ترابٍ واتركوا دربَ الكسلْ
من أراد السحر دربا نادما منه قفلْ
وابتغوا الحق سبيلا واتركوا درب الخبلْ
إنما الأمر إليكم وسعيدٌ من وصلْ


إذ يوظِّفُ الشاعر الجلبي الرمزية الظِّلَّ/ الجن هنا بتقنيتهِ وتقرير عدم مُفارقة الظِّل لصاحبهِ , إلَّا أنَّهُ يعيشُ تَغريباً بينهُ وبين ظلِّهِ , إذ يصرُّ على استنطاقهِ وانقاذ الشاعر من مواقفٍ معينةٍ , وهذا يدلُّ على رغبة حضور الظِّل واتِّحادِهِ مع صاحبهِ ؛ لتجاوز حالة الانشطار الثُّنائي التي كانت سبباً في عزلِ الشاعر عن ظلِّهِ , ومُناجاة الشاعر لهُ كانت دليلاً واضحاً على تلكَ الرَّغبة , فهو يهدفُ إلى تقريبِ هذه الثُّنائية بين الإنسان وظلِّه (الجن) إلى نفسِهِ ، وإدراكهِ في الوقتِ نفسِهِ أنَّ التَّفريقَ بينهما ضربٌ من الخيال , لذلكَ عمدَ إلى معاتبةِ ظلِّه واسترقاقِهِ مع أنَّ المحاولة أتعبتهُ , وأفضت بهِ إلى مهاوي العَذَاب والإرهاق النَّفسي , ونلحظ أنَّ هذا النص لا يهتمُ كثيراً بتحديد النَّهايات في النص ,وإنَّما ترك تحديد بقايا الصُّورة للمتلقِّي وهذا أمرٌ يُحسَبُ كثيراً للنصوص المنحازة وهي دلالة إيجابية تتجلَّى في الاستعانةِ بهِ ومعاتبتهِ , ودلالةً سلبيةً تقودها رغبةُ الإنسانِ في الانفصالِ عن ظلِّهِ , أمَّا سبب هذا الشُّعور السلبي فهو حدوثُ تموجات نفسيَّةٍ أدت بالشاعر إلى استشعارهِ خطر الجن المُحدقِ بهِ , مع أنَّ الجن لا يتحكَّمُ بأفعالِ الإنسانِ فهو لا يعدو أن يكون كياناً صامتاً لهُ أفعالٌ تلتصقُ بأفعالِ صاحبهِ , وهذا ما يفرضُ على الشَّاعر في نهايةِ الأمرِ أن يعود إلى حقيقته ويكون الأمر مجرد حلما أو خيالا أراد الشاعر الجلبي توجيه رسالة قيمة من خلال نصه الشعري الذي يحمل دلالات كثيرة رمزية وحقيقية .
ما يميز الشاعر المبدع (واثق الجلبي) في قصائده بصورة عامة , وفي هذه القصيدة على وجه الخصوص تجري الألفاظ فيها على نسقٍ تأمُّلي , يُريد أن يجعل منه متنفَّساً لفلسفةٍ خاصةٍ غرضُها محاكمةُ نقائض عصرِهِ , لذا فهو يسمح للغموض أن يتموضع داخل نصِّهِ الشِّعري , كما يعمد إلى قلب سياق بعض المفردات الإنشائية , التي تنفتح على عوالم لانهائية , فالتعابيرُ حُبلى بشتَّى المعاني التي تنتظر مَن يسدل الستار عنها , ويتكشف دلالاتِها الإيحائية المختلفة , وهذا بطبيعته يرجع إلى ثقافة المبدع الجلبي وطواعية لغتِهِ , والرغبة في الانسياق إلى الجديد وترك الألوان الشعرية القديمة , لتأتي صورتُهُ الفنية مستنفذةً جميعَ الوسائل التي تُحقِّق له سُبُلَ إيصال الموضوع الشعري؛ بُغيةَ التفاعل معهُ والإحساس به من قبل القارئ/ المتلقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ


.. جامعة كاليفورنيا في ديفيس تفتتح أول مركز أكاديمي لأبحاث وفنو




.. تفاصيل جديدة في واقعة مشاجرة إمام عاشور بالشيخ زايد..«مراته


.. فوق السلطة 394 - اتّهام جدّي لمعظم الفنانات بالعمل بالدعارة




.. ادعوا لطلاب الثانوية العامة بالتوفيق.. آخر الاستعدادات لامتح