الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-صورة من زيت وماء - قصة قصيرة

ايناس البدران

2006 / 12 / 12
الادب والفن


كانت امواج البشر السابح في عرقه تندفع طوابير ساحبة جسدها المهدود باتجاه الغرفة المظلمة المختبئة آخر الرواق . عندما وقعت عبنا الموظف المسؤول عليها كأنه لايراها ، وفيما يداه تقلبان اوراقها ( الاصلية والمصورة ) تناهى اليها صوته متسائلا :
- صورة من هذه ؟
- صورتي . ردت بثقة
اتخذ هيئة العارف ببواطن الامور وهز رأسه نفيا ليقول كمن يحدث نفسه :
- - انها لاتشبهك .. هذه ليست انت .
كتمت بسمة كادت تفلت من بين شفتيها وحدقت في الصورة كأنما لتتأكد ثم قالت :
- انها صورتي يا سيدي
- لعلها قديمة
الزمت نفسها الهدوء قمعا لأي توتر قد يتسرب من نبرة صوتها يمكن ان يؤدي الى سوء تفاهم ينسف مجهود ايام قضتها في الدوران حول المكاتب بين صعود ونزول استجداء لتواقيع واختام حتى صار كل شيء يدور بها وحولها . وقالت بصوت خفيض :
- بل هي حديثة يا سيدي
النسوة حولها يتبارين في تقديم اوراقهن له . ينشغل عنها بالردود والاستفسارات للحظات .
انتابها شعور مثير للقلق بأن مصيرها معلق بكلمة منه وقالت في سرها :
- في النهاية ما نحن الا مجموعة اوراق متسلسلة اذا ضاعت ضعنا معها ، ان اوراقي هي الدليل على انني موجودة . حتى الصورة التي التقطتها منذ اقل من شهر لايمكن الركون اليها .. القانون لايحمي المغفلين .. اين سمعت هذه الجملة ؟
كم ودت مع نفسها بصدق لو انه يحميهم فالاقوياء الاذكياء ليسوا بحاجة فعلية له.

ترمق الموظف وهو يقلب اوراقها بعصبية فيما ظله ينعكس على الجدار المتقشر ، يحاكيه تماما .
في سرها قالت متعجبة :
- ما اشد الشبه بين الانسان وظله .. انه هو ولكن بلا رتوش تماما مثل ( نجاتيف ) الصور الفوتوغرافية ، ننكره بالرغم من انه الأصل فيها.
هكذا تحل صفحة جديدة محل اخرى نقيضها في حياتها ، لتنزع عنها شرنقتها القديمة ، التي ضاقت عليها وبها وتحلق بجناحين باهرين نحو سماء اخرى صاخبة . الموظف ينهض فجأة يتبادل الاشارات مع زميل له ، يشير الى ساعته ثم يلتفت موجها الكلام اليها :
- - انتظريني
- نظراتها تتابعه ، تحمل طعم الرجاء . ودت لو قالت :
- - ولكن يا سيدي لقد انتظرت اكثر مما يتحمل العمر ، وصبرت حتى نفد مني الصبر . لكنه كان قد غادر على عجل ، لحسن الحظ ، اذ من يدري لربما اغضبته كلماتها .. تنهدت بارتياح فقد قطعت حتى الآن شوطا لايستهان به في رحلتها لاجتياز بوابات الشمس . حقا قد يسعى المرء سنين طوال أملا في بلوغ لحظة بعينها ، لحظة تؤكد تحوله الى الانسان الذي يريده ، ليغادر شخصا كانه ، تخلصا من حياة لم تكن حياته فعلا ، لعله كان فيها مقلدا منقادا او كالسائر في نومه
وما زالت تتلمس الطريق الى أناها الجديدة كمن يعبر نفقا سرابيا مزروعا بعظام الموتى وتكابد ولادة اخرى ، لكنها حقيقية هذه المرة ، للذات التي طالما امعنت في طمسها وتجاهلها ، ترقبها وهي تشق كفن الحياة الاولى كبذرة عنيدة ، وتنأى بكبرياء عن كل ما اشترطته المرحلة السابقة . تتسلل الى اطراف اصابعها ، تتلصص بخبث طفولي من فتحات الابواب على هذه الانسانة الجديدة الغريبة عنها ، وان كانت منها ، والتي تثير دهشتها وقلقها بجرأتها وتشكلاتها المتمردة .
وفي خضم هكذا مخاض لابد ان يأتي الحب كطوق نجاة ، جحيم سرمدي ، ليحرق كل تجذرات واحراش الخوف ، يقطع بسكينه تمددات شرايين ماض باهت بلا ذكريات .. ليمد جسورا بين الحاضر والحلم الآتي .
هكذا يشهد العقل احتفالية اعادة رسم خرائطه بألوان قزحية من زيت وماء ، في رقصة انتشاء صوفية صانعا حالة من الهدوء الظاهري المغلف بهستيريا ظمآى للتلاشي . نعم لقد اضاعت نفسها طويلا داخل حدودها المزعومة المفترضة ، فلا يحق لها اليوم ان تلوم ألا نفسها لقد تعلمت الدرس جيدا ، ولن تنتظر من يمنحها الحقوق ، لذا خرجت بمعية حقيبتها المثقلة بالاوراق والأدلة الدامغة لتثبت لنفسها انها ليست قطعة أثاث محنطة ، او قطة مدجنة او متوحشة معروضة للفرجة في حديقة الزوراء ، في تلك اللحظة شعرت بأنها نمرة متنكرة بزي امرأة .
اجل ما فائدة العقل اذا كان سيقيدنا بالخوف ، وما نفع الارادة اذا كانت ستنهار امام اول طرقة قوية على بابها ؟
آن الأوان لاعادة برمجة خلايا مخها بما يتناسب ونسبية الاشياء وتحولها الدائم .. الآن لم يعد أي شيء كما كان فالنهايات مآل كل الحكايات ، والنهايات كلها حزينة كالذكريات ، لذا ليس هناك من مسوغ للتساؤل عن الأحلام التي تساقطت ، والعمر الذي سرق ، وعما هو كائن وما سوف يكون ، وعما سوف يأتي وما سوف لن يأتي .. أيقنت اخيرا ان اللحظة الراهنة في رهانها الاخير .
صوت غريب لرجل معجوز ينتشلها من افكارها قائلا :
- ياسيدة .. الكل خرج .. الدوام انتهى ، عودي غدا .
- نهضت دون ان تنبس ببنت شفة .. وفيما هي تغادر المبنى القديم ، لوت شفتيها بلا مبالاة وهمست في سرها قائلة :
لعل الصورة لم تكن صورتي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي