الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألكسندر بوشكين : محاكاة الإلهام للعرب والمسلمين .

عبدالله عيسى

2024 / 6 / 6
الادب والفن


يكاد يكون الشاعر ألكسندر بوشكين من أكثر شعراء العالم ترجمة وقراءة في العالم العربي ، سيما في السنوات الأخيرة ، إثر تقارب يشتد عمقاً وإلحاحاً بين روسيا والدول العربية ، خاصة على خلفية الصراع في أكرانيا . وينبغي الإشارة إلى أن أعماله الأدبية من أقدم الآداب الأجنية التي ترجمت للعربية ، وكذلك لا بد من ذكر أن أول من ترجم أعماله هو خليل بيدس (1874-1949) ، وهومن اوائل خريجي المدارس الروسية في فلسطين .
كما يزداد الإهتمام بحياة وإبداعات بوشكين في الوقت الذي يسعى فيه متطرفون قوميون في أكرانيا إلى تدمير تمائيله ( في الأشهر الأولى للعملية العسكرية الروسية في أكرانيا تم إزالة حوالي ثلاثين تمثالاً ) ، أو فرض حصار على تدريسه وقراءته ، أو نقله للثقافات الغربية سبيلاً لمحو اثره ، عبثاً ، من المشهد الثقافي الإنساني .
والمفارقة المدهشة أن ثمة تكهنات بأن الأوساط الثقافية الغربية ، وكذلك في بلدان أوربا الشرقية ، أخذت تتجه أكثر ، بعد استشراء الدعوات هذه ضده، لقراءة منجزاته الإبداعية ، وإعادة اكتشاف المضامين الإنسانية التي جسدها، الأمر الذي ينسف الرؤية الغربية التي مفادها أن العالم يتجه نحو التفاهة ، ويؤكد أنه –أي العالم- يتمسك أكثر بالقيم الروحية والإنسانية ، بما فيها تلك التي جسدها بوشكين في سيرته ومسيرته الإبداعية ، ناهيك عن الثراء الأدبي والغنى الروحي والدور الإستثنائي الذي قام به في تطوير اللغة الروسية ، والتعددية الثقافية ، والحوار والتآخي بين الحضارات والثقافات ، سيما الروسية والعربية والإسلامية ، ليظل ملهماً لمستقبل أجيال متعددة من الإنسانية ، والعربية خاصة .
أ- شكل مفهوم الحريّة التي جسدت أبرزملامح حياة وإبداعات الشاعر ألكسندر بوشكين عنصر إلهام حقيقي للشخصية العربية التائقة أبداً للحرية والانعتاق من ربقة السلطة التقليدية الحاكمة ، ذاتها التي نكلت بالشعراء لرفضهم أن يكونوا بوقاً لها . أو الساعية إلى كنس الاحتلال والإستعمار الحديث عن أرضها . فشعره الذي يرفع الحرية إلى مرتبة القداسة ، ومواقفه مع الديسمبريين وانتصاره للشعب، لم يكن إلا انعكاساً لفعل الحرية في ممارساته الفكرية والحياتية ، عبر إعلان القطيعة مع النموذج القديم للسلطة ، القيصرية بما تحمله من مورثات لا تسمح بإطلاق القدرات الخلاقة للشعب وفق رؤاه ، ومع التصورات التي أنتجت هذا النموذج ، وكذلك تثوير اللغة كأداة تعبير وتفكير في أول المطاف .
ومن هنا كانت ثورته على النظام القيصري ،وعلى استخدامه اللغة الفرنسية أو الروسية المطعمة بالفرنسية معاً، ما قاده لخلق لغة روسية في أدبه تتمثل روح العصر و تحولات الحداثة فيه .
لكن خياره العنيد بقبول المبارزة – المؤامرة مع الضابط الفرنسي دانتس ، المدرّب على السلاح والقتل ، كان بمثابة أعلى أشكال التعلق بالحرية ،حيث واجه بالدفاع عن كرامته ،وكرامة روسيا كلها، الموت الأكيد ، في صرخة رفض مطلقة لهذا النظام وأدواته ، وإعلاناً بقرب سقوطه .
إن قصائد الحرية التي الهمت الروح والفكر العربي ،متعددة في شعر بوشكين ، وتتعمق دلالاتها بتحولات تجربته الداخلية والمعيشية ، لكن سحر هذه الكلمة يتردد في مجمل أعماله الشعرية والسردية ، كما في حنينه السري لإفريقيا عنواناً للانعتاق من النظم البشرية المستبدة والأطر الزائفة ، أو عبر حياة الغجر كونهم يتمثلون فطرة الطبيعة بحياتهم التي تتكثف فيها معاني الحرية الخالدة ( ألكسندر بوشيكن. الغجر. أبناء الطبيعة ، وعشاق الحرية. جسن حميد . مجلة الأداب العالمية . اتحاد الكتاب العرب . سوريا .2014) ، إضافة إلى لجوئه لايقاعات الطبيعة لاستلهام معاني الحرية والانعتاق في وقت كان فيه العالم ضيقاً على الروح تحت وطأة حكم أنطمة سياسية وتقاليد إحتماعية مفروضة تقتل ملكات الشعب المضطهد ، وهنا يكمن فعل التوحد بالطبيعة ، ولهذا كان لجوء بوشكين في قصيدته " إلى البحر " (1824) مجازياً لما يرمز إليه من حرية لا تحدها حدود" ، وليس هرباً بالذات من واقع أليم ، كما يذهب أوميد عبد الكريم ابراهيم في مقالته " إلى البحر لبوشكين . الأمواج تهدر بالحرية " ( القدس العربي . 27مايو 2020). وهكذا، فإن الحرية التي قدمها بوشكين في إبداعاته شعراً ونثراً ليست أغنية للماضي فحسب ، بل نشيداً للمستقبل .
ب- لم يرتبط عصرٌ ما بشاعر، كما ارتبط العهد الذي عاش فيه بوشكين باسمه ، فقد سمي " العصر الذهبي " للشعر كونه خلق أدوات تعبيرية خضوصية للتعبير عن رؤى جديدة للإنسان الروسي ، وللمجتمع الذي يتحرك بإيقاعات شديدة الخصوصية والحساسية ، ( سهيل فرح . بوشكين الأب الروحي للشعر الروسي . لينان 2011) .
كما سمي عصره بعصر النهضة ، " بعد أن أعاد للغة الروسية وجودها كلغة أمّ بعد أن انتشرت الفرنسية بين المثقفين ، فاستحق أن يلقب بأمير شعراء روسيا " ( جابر بسيوني .ألكسندر بوشكين . أمير شعراء روسيا . ميديل ايست . 26تشرين أول .2020) .
وبفضل بوشكين أصبحت اللغة الروسية أشبه باللغة اليونانية ، من حيث ثراء التعبير ،ووفرة القاموس والدلالات ، وقوة المعنى ، وجمال النبرة ، و مقدرتها على استيعاب كافة أشكال التعبير والفنون والعلوم .
وتأسيساً على ذلك ، وفي مجرى تعزيز مفاهيم التنوع اللغوي و التلاقح الثقافي في إطار مبادرة الأمم المتحدة " تم التأكيد على أهمية أعمال بوشكين في تاريخ وثقافة العالم خلال الدورة التاسعة والعشرين (1997) للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونيسكو) الذي عزم على المشاركة بشكل مباشر في الاحتفال بمرور 200 عام على ولادة الشاعر" ، كما أخذ المختصون باللغات المتعددة بالأمم المتحدة يلجأون لقراءات متعددة لبوشكين ، ذلك أن بوشكين ، كما وصفه ، مترجم أعماله إلى الإنكليزية الشاعر الإنكليزي جوليان هنري لوينفيلد أن بوشكين، مثل هوميروس أو شكسبير، ينتمي إلى العالم كله. ولا يحتاج المرء إلى أن يكون روسياً حتى يفهمه ويحبّه . وبالنسبة إلى لوينفيلد، يعتبر بوشكين "ترياقاً روحياً" يعالج "الاكتئاب والتشاؤم والشعور باليأس".
كما أكد ذلك قيس جركس من خدمة الترجمة العربية . لقد اكتشف جركس أهمية بوشكين منذ أكثر من 50 عاماً في مسقط رأسه في سوريا ، وقرأه بالروسية في سان بطرسبورغ ، فشعر بالدهشة من قصائد بوشكين "الغنائية للطبيعة، وبهجته الخفية بالجمال والآثار الفلسفية العميقة لعمله" ، وهكذا فقد ساهمت قراءة أعمال بوشيكين في توسيع آفاق جركس شاباً ، كما يشير ، " عندما اكتشف عدداً وافراً من السلوكيات المصورة بوضوح، ومبادئ الحياة والعادات الأصلية لمختلف الشعوب، بما في ذلك سكان القوقاز وشبه جزيرة القرم وسواها ، مفتوناً بالتنوع اللامتناهي للشخصيات، اعتمد قيس على روايات بوشكين متعددة الثقافات، والتي حددت في النهاية اختياره ليصبح مترجماً في منظمة دولية متعددة اللغات".( موقع الأمم المتحدة . عندما يأتي بوشكين لإنقاذ الموقف : التعددية اللغوية كمبدأ للتعاون المتناغم. 6 حزيران يوليو يوم اللغة الروسية).
ج-تحوّل بوشكين ، بحد ذاته ، بما يحمله إبداعه من قيم إلى قيمة كبرى . كما أن تقديمه لهذه الإبداعات بأنماط فنية خلاقة عكست ، بمقدرة استثنائية ، حياة الشعب الروسي بمعتقداته وهمومه ، وتفاعلاته الفلسفية والوجودية ، وكذلك نظرته إلى الوجود في كافة مراحله التاريخية ، حرضت الباحثين في حقول الآداب على تقصي حركة التاريخ وتطلعات الإنسان الروسي من خلال أعماله ، بوصفه يرسم " بانوراما المجتمع الروسي ، بمختلف طبقاته في تلك المرحلة الصاخبة سياسياً واجتماعياً من تاريخ الإمبراطورية الروسية من نهاية القرن الثامن عشر وحتى الثلث الأول من القرن 19"( الغلاف الأخير.الأعمال القصصية بوشكين . دار جامعة حمد بن خليفة للنشر) .
كما أن الأدب مع بوشكين يصبح بمثابة " انفتاح على الأدب الإنساني كله ، وفي الوقت نفسه نفثات قومية تركت تأثيرات قوية على الأدب الروسي ، شعره ونثره" ( حسب الشيخ جعفر.بوشكين . قصائد مختارة . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . 1981).
ولأنّه أعلى من شأن القيمة الإنسانية ، اصبح لا شك شاعراً كونيّاً ، بمقدور أي شعب أو إنسان أن يكتشف فيه انعكاسات لهويته وتطلعاته . ومثل كل شعراء الإنسانية العظام فقد أقام عالمه الإبداعي ، شعراً ونثراً، على تجليات المضيء في الثقافات الإنسانية ، وتكثيف طاقاتها الإنسانية عبر التاريخ .
وبهذا ، أبدع بوشكين في التعبير عن معاني الحب ، وإعلاء شأن المعايير الأخلاقية ، وتكريس مفاهيم البطولة والتضحية والإيمان ، وكأنه سعى لإعادة الروح إلى أصلها : حرة وكريمة ونظيفة .
د- من المؤكد أن الاهتمام المتزايد بترجمة أشعار بوشكين إلى العربية كامن أيضاً في مقدرته الخصوصية ، والاستثنائية ، في التعبير عن مكامن الروح الإنسانية بما تتجلى فيه من أحاسيس إنسانية عميقة ، فتضيف إليها مضامين جمالية وروحية جديدة .
وإذ يُتّفق على أنه ليس بالضرورة أن تكون روسياً لتفهم أشعار بوشكين ، إلا أن التدفق المدهش والطاقات الخلاقة وحساسية وجمالية التركيب والبناء اللغوي، والرؤى الّتي تقود المضامين ، بأشكال تعبيرية تتجدد مع كل قراءة ، إلى آفاق جديدة من التأمل والإنعتاق ، تشكل أحد أشكال عبقريته الخالدة ، ما يجعل ترجمته إلى العربية ، كما أية لغة أخرى ، اشبه بخيانة للكلمة والروح الشعريين . ذلك أنك حين تقرأ " بوشكين باللغة الروسية ستجد ذلك التدفق والسلاسة والتراكيب اللغوية والموسيقية التي تأسرك بالكامل، أما حين تترجمه فلا يبقى منه سوى معان بسيطة شاحبة أقرب للنثر، كأنك جردت طائرًا من جناحيه وتريد أن تراه محلقًا" ( أحمد الخميسي . عاشت الترجمة ومات النص. ترجمان . 31 أكتوبر 2020). ومن هنا ، اتجه المترجمون العرب أكثر إلى نتاجاته السردية ، ذلك أن "القصص المترجمة فتعكس عبقرية بوشكين، فهو مثل غيره من كبار الشعراء أبدع في النثر بقدر لا يقل عن إبداعه في الشعر"( عبدالله حبة . ألكسندر بوشكين . رحلة الى ارضروم . دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع. 2016).
ويشير باحثون إلى أن بوشكين مارس بشكل أو بآخر التعرف على لغات أخرى أو دراستها لتطوير ملكاته الإبداعية ، بما فيها العربية ، حتى وصل عدد " هذه اللغات التي يتقنها او التي تعرّف على خصائصها العامة (16) لغة وهي – الفرنسية / و الفرنسية القديمة / والايطالية / والانكليزية / والالمانية / واليونانية القديمة / و اللاتينية / و الروسية القديمة / والسلافية الكنسية / و الصربية / والبولونية / والاوكرانية / والعبرية القديمة / والعربية / والتركية ، الا ان بوشكين كان يتقن اللغة الفرنسية بشكل متميّز قبل كل اللغات الاجنبية الاخرى ، ثم تاتي الانكليزية ثانيا ، اما الالمانية فقد أشار بنفسه الى انه كان يتعلمها ثم ينساها وقد حدث ذلك عدة مرات في حياته". لكن بوشكين "لم يذكر في كتاباته انه قام بترجمة نصوص من لغات اجنبية الى الروسية كما يفعل المترجمون عادة، ولكنه اقتبس بعض المضامين و المواضيع من النصوص الاجنبية وقام بصياغتها من جديد بلغة روسية مدهشة الجمال والوضوح ،لدرجة ان القارئ الروسي وحتى الآن لا يمكن ان يتصور ان هذا النص قد اقتبس بوشكين مضمونه من لغة اجنبية او كتبه نتيجة محاكاة لتلك النصوص الأجنبية"(عبدالله حبة . بوشكين بين الترجمة والاقتباس . دار المدى .21فبراير 2017). وهذا أيضاً احد أسرار عبقرية بوشكين ، وروحه المبدعة في تكثيف الثقافة الإنسانية ونقلها بأساليب فنية متطورة .
وهذا ما تجلى بصورة أخاذة في علاقته مع قيم وجماليات الثقافتين العربية والإسلامية ، مثالاً لا حصراً.
لكن بوشكين ظل ،وعياً وممارسة ، مثل " حارس "الروح الروسية" المتغلبة على "التأثيرات الأجنبية" ، وعلى الرغم من تميزه بالتواصل مع لغات وثقافات متعددة ، وإعادة صياغة الرؤى والمشاعر والقيم المكثفة فيها ، إلا أن "أدب المُثل" احتل " صدارة الوعي العام، باحثاً عن العزاء والأمل في النتاج الأدبي" . ونتيجة لذلك يبقى إبداعه حيوياً وملهماً طالما "عبّر عن هذا المثال الأخلاقي بشكل ثابت وراسخ. وفي فضاء الثقافة، تصبح الحياة والمصير وكلمة الشاعر هي المعيار: "دع القلب للبطل. من سيكون بدونه؟"، كما أن سر ذلك يكمن في التكامل المتناغم لنظرته تجاه العالم.( عماد الدين رائف. الميادين . 6حزيران .2020).
وبهذا أراد بوشكين أن يجعل دور المبدع محاكاة لرسالة النبيّ أو المرسل ، ليس فقط في تفسير العالم أو المشاركة في تغييره ، بل بث روح الحياة والجمال فيه ، ليصبح أجمل في رفضه للقبح والإلغاء والظلم وغيرها من اشكال تدمير القيم الإنسانية .
وبهذا جسد في كل أعماله حقيقة أن الإنسان هو الأسمى ، وأن الهواء الفاسد يقتل من أفسد هذا الهواء ذاته ، وهكذا لا يلتقي الشر و العبقرية ، فهما ضدّان لا يجتمعان ، كما يتجلى مثلاً في مسرحية موتزارت وساليري ، حيث يدس ساليري السم ليقتل موتزارت ويحتل مكانه في سلّم الفن الموسيقي .
وكما في كل أعمال بوشكين المسرحية يضع بوشكين القارئ أو المشاهد مباشرة في قلب الفعل المسرحي أسير عمق تحولات التجربة الإنسانية وكثافة معاناتها ورؤاها في العوالم الداخلية لشخصياته. والغريب أن ثمة ما يوحي برابط سري بين بوشكين وموتزارت ، فكلاهما قضى في زهرة العمر ( بوشكين 36 عاماً وموتزارت 35عاماً) لكن كل منهما قامة إبداعية لا مثيل لها عبر التاريخ الإنساني .
ر- لم يرتبط اسم مبدع روسي بالشرق كما ارتبط بوشكين .ولا بد أن القارئ المتعمق لإنجازاته سوف يكتشف طغيان الحساسية الجمالية والإنسانية في استخدام بوشكين لمفردات وعوالم الشرق ، رمزاً مثل رسلان ،لودميلا، وكليوباترا ..الخ ، أو أسطرةً مثل " ليالي مصرية " بما تحمله من مصادر تخييلية وقيمية استلهمها من " ألف ليلة وليلة" ، أو موقفاً رؤيوياً كما في " إسطنبول " بما تعلن عنه من قطيعة مع الماضي القائم على الاستبداد ، ورفض أي اعتداء على حرية الإنسان بوصفه القيمة الاسمى .
والمدهش حقاً أن الأساليب الفنية في التعامل مع الرمز والأسطورة كانت جديدة ومبدعة في نتاجات بوشكين ، فيما هذه الأساليب أخذت بالتبلور في العالم العربي في خمسينيات القرن العشرين مع ظهور حركة الشعر الحديث ، بالتعاطي مع الرمز والأسطورة بوصفهما عنصرين ضروريين لشحن النص بإيحاءات ودلالات تمنح العالم الشعري المقدم آفاقاً من التأويل والأبعاد.
ووفق هذه الرؤية تعامل كثيرمن الباحثين العرب مع استخدام بوشكين للرموز والأساطير والحكايات الشرقية .
وهكذا ، يغدو المنجز الإبداعي " رسلان ولودميلا "الذي "استلهمه بوشكين من عملين أدبيين فذين هما ألف ليلة وليلة واسطورة يوليسيس" عالماً فنياً " ليصوغ اسطورة روسية خالدة محتشدة بالمكر من جهة وبالنبل والفروسية".( حسن حميد ، الدبان الذهبيان بوشكين وتشايكوفسكي . الثورة . سوريا . ٢٢ سبتمبر 2015).
فيما استطاع بوشكين " في ليالي مصرية " ، مثالاً، أن يعيد صياغة تجليات منابع تخيلاته ، وينابيع المعرفة التي يستقيها من إيحاءات الشرق ، حداً استطاع فيه " أن يحقق فيها نوعاً من المزج بين عنصرين أساسيين من العناصر التي طبعت الإبداع الاستشراقي، الاهتمام بالتاريخ المصري من ناحية، وبحكايات ألف ليلة وليلة من ناحية أخرى. العنصر الأول من خلال حكاية كليوباترا التي كانت على الموضة إلى جانب كل ما هو مصري قديم في أوربا. والثاني من خلال مختارات حقيقية، أو تخيلها بوشكين نفسه من تلك الليالي العربية التي كانت تفتن القراء الأوروبيين في ذلك الحين. ولعل اللافت في الأمر هو أن "الحيلة" التي تمكن بها بوشكين من الجمع بين عالمين لم يلتقيا من قبل كانت منطقية ومبررة إلى حد كبير".( إبراهيم العريس . حين وضع الروسي ألف ليلة وليلة والعولمة في خدمة كليوباترا. انديبنتدت عربية .6 أكتوبر . 2021).
الجدير ذكره أن كثيراً من الكتب والدراسات التي ملأت المشهد الثقافي العربي بتأثير الشرق والإسلام على شعر بوشكين ، لكن الجوهري في هذا السياق هو تأكيد حقيقة أن المدرسة الإستشراقية الروسية ،وخلافاً للغربية الإستعمارية ، شكلت مناخاً رحباً لتلاقح الثقافتين الروسية من جهة والعربية والاسلامية منجهة أخرى ، وعلى أساس من خلق جسور التواصل الحضاري القائم على الإثراء الروحي والفكري المتبادل واحترام وقبول الآخر والتعايش مع أفكاره ومعتقداته .
ومن هنا، فإن الأدب الذي قدمه بوشكين لم يكن أدباً يسعى لتجميل صورة الدول ذات النزعة والهيمنة التوسعية من جهة، و تقديم الشرق بوصفه أمماً ومجتمعات غارقة في مستنقعات التخلف ، و تستحق العناية من الدول الإستعمارية المتقدمة باستعمارها سبيلاً لتطويرها .
ومن هنا ، قدم الأدب الغربي هارون الرشيد مثلاً على هيئة ملك ماجن بين الجواري وكؤوس الخمر ، و"ألف ليلة وليلة "أشبه بعالم من السحر والشعوذة والمحظيات ، في حين حرص بوشكين على حضور ندوة أقامها الكاتب العظيم نيقولاي غوغول في سان بطرسبورغ عام 1814عن الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد وعصره ، و رأى في ألف ليلة وليلة مرآة الروح العربية التي أثرت العالم بالإشعاع الحضاري ، وفي هارون الرشيد شخصية تركت أثرها العميق المضيء في التاريخ البشري.
وهذا ما شكل أهم المنابع الفكرية والأدبية لدى بوشكين كما تجلى في أعماله "روسلان ولودميلا" ، و" نافورة باختشي ساراي " ، و" الغجر"، و" أسير القوقاز " وسواها ،كما يتجلى في دراسة " مكارم الغمري .مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي .عالم المعرفة . الكويت . 1991. وفي كثير من قصائده، كما ظهر " الكسندر بوشكين . القصائد الشرقية . ترجمة وتقديم فاروق مردود .منشورات علاء الدين . دمشق . 1991).
ز-لم ينل شاعر أو كاتب ذات التقدير الذي حاز بوشكين عليه في الأوساط الثقافية العربية والإسلامية ، طالما يعج أدبه بالمؤثرات والإيحاءات الإسلامية ، والتي تجلّت بصورة تؤكد بلا لبس تشبعه الخصوصي بمعاني وإيحاءات القرآن الكريم ، كما في عمله الشعري المبدع " محاكاة القرآن "(صدر عام 1824 )، و قراءته العميقة لحياة ورسالة الرسول في " النبي " ( صدر عام 1826) ، في الوقت الذي تعاطت المدرسة الاستشراقية الغربية مع الإسلام بوصفه فكراً يمكن أن يؤول بالاعتداء على منجزات الحضارة الغربية والإرهاب ، وتعاملت بعض رموز النخب العربية التي شكلت جسراً لعبور الفكر الرافض للممارسة الإسلامية بضرورة إعادة النظر بالمفاهيم الإسلامية وتجديد الدين الإسلامي بما يلائم العصر ، مثالاً لا حصراً .
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن تأثر بوشكين العميق هذا بالإسلام دلالة على " إعجاب الشاعر بالإسلام ونبي الإسلام " ، ويشير إلى "احترامه الكبير للثقافة الإسلامية " ، حيث أن بوشكين اعتبر" العرب والمسلمين أمة ذات تراث عريق وأخلاق نبيلة " ( محمد الدريد.بوشكين والإسلام . المجلة العربية . الرياض .21يناير 2015)، واعتبر آخرون أن " محاكاة القرآن" تجسيد لمشاعر القداسة التي أولاها بوشكين للكتاب اكريم ، وعلى المكانة التي أحدثها في مجرى التطور الروحي ،وبهذا يصبح لجوء بوشكين إلى القرآن الكريم " بحثاً عن المثال الإخلاقي والقومي العام،ومن ثمَ فأسباب انجذابه نحو القرآن تكمن في القرآن نفسه الذي بهره بقيمه الأخلاقية التي وجد فيها تجاوباً مع مثاله الشخصي ومرشداً للعلاقة الصحيحة بين الإنسان والدين والآخرين ،والإنسان الوطن" كما تؤكد مكارم الغمري في "مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي".
فيما دافع عن بوشكين آخرون خشية مجرد إمكانية اتهامه بتقليد القرآن الكريم ، وهو ما لم يأت به أحد على مر العصور ، سيما وأن الله تحدى رموز الفصاحة والبيان والبلاغة العربية في عصر الرسول بأن يأتوا بآية مثل آيات القرآن الكريم ، ولن يأتوا بها ، ناهيك عن روح العداء الإسلامي ضده في حال اتهم بذلك .
ومن هنا ، شرع بعض مترجمي " محاكاة القرآن " بترجمة عنوانها " قبسات من القرآن" درءً لأية شبهة ، وتحايلاً على هيئات الرقابة في دول عربية أو إسلامية بعينها.
ووفق هذه الرؤية ، يرد باحثون لبوشكين جميله بنشر الإسلام الصحيح ، بالقول أنه " قد يبدو غريباً أن يحاول أحد تقليد كلام الله الخالق العليم ، ولكن بوشكين بالطبع لم تكن لديه هذه النية على الإطلاق ، بل كانت قصيدته دعوة لأولئك الذين يستخدمون الدين لأغراض شخصية للتوقف عن ذلك ، أما الذين يدينون بإخلاص ويعملون بالخير يستحقون الإحترام " (عزام أحمد جمعة . بعض مظاهر تاثر الأدب الروسي بالإسلام والقرآن الكريم . مجلة فكر الثقافية 29سبتمبر .2023).
والمؤكد أنه ما كان لبوشكين أن ينجز هذه الأعمال الخالدة دون امتلاكه لملكات إبداعية فريدة ، فلا بد أنه بتطويعه اللغة الشعرية تمكن من محاكاة اللغة المقدسة في القرآن الكريم ، بتأويلاتها وتعدد عناصر خصبها الجمالي ، واستطاع بحساسية روحه الشاعرة أن يلامس الإعجاز التخييلي والمجاز اللغوي في القرآن الكريم ، وبخياله الشعري الخصوصي أن يصور الإيحاءات الكبرى في السيرة النبوية كالإسراء والمعراج ، مثالاً لا حصراً .
إنها عبقرية لا تحد ، ولا شبيه لها.

*-شاعر وناقد وكاتب .حاز على جوائز عربية وروسية وأحنبية كثيرة . تخرج من معهد مكسيم غوركي للآداب ، وحصل على دكتوراه في الآداب من معهد آسيا وافريقيا التابع لجامعة موسكوالمركزية ، وعلى عضوية أكاديمية العلوم الطبيعية الروسية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عصام أشهر لاعب فايرووركس: اتحسدت بسبب فرحي ومادف


.. وفاة الممثل الكندي الشهير دونالد ساذرلاند عن عمر يناهز 88 عا




.. الفنانة اللبنانية العالمية ميريام فارس تشعل أجواء كازينو لبن


.. سألنا الناس في مصر: ما رأيك في تصريحات الفنان بسام كوسا حول




.. -خانه التعبير-.. الناقد الفني أسامة ألفا يدافع عن تصريحات ال