الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في معنى المثقف والثقافة

واثق غازي عبدالنبي

2024 / 6 / 7
الادب والفن


تمهيد

إن أول من أدخل كلمتي مثقف وثقافة إلى اللغة العربية هو الكاتب المصري الكبير سلامة موسى (1887-1958)، فقد ذكر في كتابه (مقالات ممنوعة) (وقد كنت أنا أول من استعمل كلمة "ثقافة" بمعناها العصري، وكان ابن خلدون هو الموحي إليّ به)، وكان ذلك في مقالته المعنونة (ابن خلدون والعرب). ولا يكاد يخلوا كتاب من كتب سلامة موسى من تأكيد على أهمية الثقافة وضرورة التثقف، وقد برز هذا الاهتمام في كتابة (التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا). وفي جميع ما كتب عن الثقافة، أكد على أن الثقافة مرتبطة بالفكر وليس بالسلوك أو العمل. لذلك، كان حريصاً على القول (أن الثقافة هي ما نفكر به والحضارة هي ما نعمل به). ومنذ أن صاغ سلامة موسى كلمتي مثقف وثقافة ولغاية كتابة هذه المقالة، ظهرت العديد من التعريفات والتفسيرات والشروحات المختلفة والمتباينة لمعناهما، مما أدى إلى لبس كبير وخلط كثير في مفهوم المثقف والثقافة. هذه المقالة هي محاولة لترتيب الأوراق ووضع النقاط على الحروف، عَلّها تكون محاولة ناجحة.

تعريف المثقف والثقافة

المثقف هو الشخص الذي يملك آراء مدروسة أتجاه قضايا الحياة المهمة. وبالتالي فأن الثقافة هي مجموعة الآراء المدروسة التي يملكها الفرد أتجاه قضايا الحياة المهمة. تعمدنا في هذا التعريف أن نطلق كلمة (آراء) بدلاً من (حقائق) على النتيجة الفكرية التي يتوصل لها المثقف، وذلك للابتعاد عن دائرة احتكار الحقيقة. أما كلمة (مدروسة) فالمقصود منها اتباع مناهج التفكير العلمي، وهي التفكير المنهجي والنقدي والابداعي، لأنه بدون هذه الطرق الثلاث لا يمكن أن نصف الرأي الذي تم التوصل اليه على أنه (رأي مدروس). أما عبارة (قضايا الحياة المهمة) فهي تعبر عما يراه الشخص نفسه من أهمية. فليست كل القضايا مهمة لجميع الناس. فما يراه البعض مهماً قد لا يكون كذلك لغيرهم. فهي قد تكون مهمة لأنها تنسجم مع اهتمامات الشخص وامكانياته العقلية والمعرفية. يضاف إلى ذلك، ما تمليه طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فضلاً عن ذلك كله، فأن سنوات العمر البشري محدودة ولا تسمح للإنسان بدراسة جميع قضايا الحياة. ولكن هذا لا يمنع من وجود قضايا يمكن الاجماع على أهميتها، كما سيتم ذكره لاحقاً.
من هذا التعريف نتوصل إلى عدد من الاستنتاجات. أولها، إن كل شخص منا هو مثقف بالقدر الذي يملكه من آراء مدروسة اتجاه قضايا الحياة المهمة. ثانيها، إن الشخص قد يكون مثقفاً في قضايا موضوع ما وغير مثقفاً في قضايا موضوعات أخرى. ثالثاً، أن موضوعات الثقافة هي اختيار شخصي قبل كل شيء.

أصناف المثقفين

بالاستناد إلى طبيعة القضايا المهمة التي يعمل المثقف على إيجاد رأي مدروس فيها، يمكن تصنيف المثقف إلى صنفين: الموسوعي والتخصصي. المثقف الموسوعي هو الذي يسعى إلى تكوين آراء مدروسة في مجالات متعددة (اجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية وعلمية وغيرها)، وتكون موسوعيته متناسبة طردياً مع تنوع وتعدد القضايا التي كون رأي مدروس فيها. أما المثقف التخصصي فهو الذي يسعى إلى تكوين آراء مدروسة في مجال واحد يتعمق فيه ويدرس أدق تفاصيله. وهنا من المهم التأكيد على أن الصنفين قد يتداخلان، فمثلاً مثقف مختص بعلم الاجتماع الديني، لكنه في نفس الوقت كون أراء مدروسة في تخصصات أخرى عديدة. في هذه الحالة هو مثقف تخصصي وموسوعي في آن واحد.

هل يجب على المثقف أن يكون فاعلاً أو مؤثراً؟

الكثيرون يشترطون في المثقف أن يكون فاعلاً أو مؤثراً في مجتمعه، وإنهم لا يقبلون إطلاق صفة مثقف على الشخص ما لم يكن كذلك. ولكننا، ووفقاً للتعريف أعلاه، نرى أنه لا يشترط في المثقف أن يكون فاعلاً أو مؤثراً في مجتمعه، بل ولا في أي فرد عدى نفسه. يكفيه أن يكون له رأيه الخاص في قضايا الحياة المهمة بالنسبة له والتي يستقطر منها الحكمة التي يعيش بها فترة حياته. الإنسان ينشد المعرفة ومن ثم الثقافة لكي يصل إلى الحكمة، أي سداد الرأي وحسن التدبير، وبتعبيرنا المعاصر (طريقة العيش) التي تحقق له السعادة أو درجة منها. لذلك، فالثقافة هي شأن فردي قبل كل شيء.
مع هذا، فأن هناك من لا يستطيع أن يكون سعيداً لوحده، لذلك هو يسعى إلى أن يَسعد الناس من حوله. ولتحقيق ذلك فأنه يشتبك مع كل ما يعيق تحقيق هذه السعادة. وهذا الاشتباك يكون بوسائل ومستويات متعددة، منها الخطابة والكتابة بأصنافها المختلفة (مقالة، قصة، رواية، قصيدة.. الخ) والفنون (الرسم، النحت، التمثيل، الغناء، الموسيقى.. الخ)، ومنها العمل الحزبي والسياسي (تشكيل الأحزاب والتظاهر والمشاركة في الانتخابات.. الخ). هذه بعض وسائل ومستويات العمل التي يلجأ إليها المثقف لأجل ترقية عيشة الإنسان وسعادته. وهي كلها خيارات شخصية للمثقف، ولا يحق لاحد أن يجبره عليها، في حالة أراد أن يكون مثقفاً غير فاعل أو مؤثر اجتماعياً. ومن الجدير بالذكر هنا، أن بعض المشتغلين في هذه الوسائل قد يكونون من غير المثقفين، وليس لهم هدف أو غاية من القيام بها. هم يؤدونها فقط باعتبارها مهنة لهم يتكسبون منها أو هواية يستمتعون بها.
ولعله من المهم هنا الإشارة إلى طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية السائدة في بلداننا والتي تعمل على كبح رغبات المثقف في ممارسة دوره الفاعل والمؤثر لترقية عيشة الإنسان وسعادته وفقاً لما يراه وبما ينسجم مع الآراء المدروسة التي توصل لها. ففي الكثير من الحالات يتعرض المثقف إلى الاضطهاد والتنكيل وتشويه السمعة وغيرها من وسائل الضغط الاجتماعي والسياسي لغرض اسكاته وتقزيم دوره. وكما أخبرتنا التجارب العملية في وقعنا العربي، فأن الأمر قد يصل إلى حد الاغتيال الجسدي وليس المعنوي فقط، والأمثلة على ذلك كثيرة.

المثقف العضوي

استخدم مصطلح "المثقف العضوي" لأول مرة من قبل الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937). وأعرب عن اعتقاده بأن المثقفين يلعبون دوراً حاسماً في تشكيل قيم المجتمع ومعتقداته. فالمثقفون العضويون هم أولئك المندمجون بعمق في طبقتهم الاجتماعية ويعملون على تعزيز مصالحها.
ويكمن دور المثقفون العضويون في أنهم يعملون كجسر بين الجماهير والطبقة الحاكمة. وإنهم يساعدون في التعبير عن احتياجات وتطلعات طبقتهم وتطوير الوعي الجماعي. كما أنهم يلعبون دوراً رئيسياً في نشر المعرفة والأفكار التي يمكن أن تساعد في تمكين طبقتهم.
أما خصائص المثقفون العضويون فتكمن في أنهم عادة ما يكونون متعلمين جيداً ولديهم فهم عميق لمجتمعهم وتاريخه. كما أنهم متحمسون للعدالة الاجتماعية ويعتقدون أن المثقفين يتحملون مسؤولية استخدام معرفتهم لتحسين حياة الآخرين.
ونحن نعتقد أن المثقفين العضويون يشكلون حاجة ماسة في مجتمعاتنا التي تعاني من الفقر والجهل والمرض، في ظل حكومات دكتاتورية ومجتمعات استبدادية. ولعل إدوارد سعيد (1935-2003) كان يخاطب المثقف العضوي عندما قال: (تكون مثقّفاً عندما يكون لديك منطقك الخاصّ وآراؤك الخاصّة، وألّا تكون منساقاً وراء منطق وآراء الغير، وأن تكون لديك الجرأة والحرية الكافية في اختيار موقفك والتّعبير عنه بكلّ حريّة).

قضايا الحياة المهمة

ذكرنا في تعريفنا للمثقف أنه لا يمكن للإنسان أن يكّون آراء مدروسة في جميع قضايا الحياة، فهذا أكبر من قدرات الإنسان الذهنية والنفسية، والأهم أنه أكبر من سنوات عمر الإنسان. لأجل هذا كان من الضروري التنويه إلى ما نعتقد أنها قضايا حياة مهمة شغلت الذهن البشري منذ بدايات نشأته.
الدين والسياسة والجنس هي ثلاث موضوعات شكلت وتشكل دائرة اهتمام العقل البشري لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسعادته وبطريقة عيشه، على الرغم من أنها اعتبرت محظورات (تابهوات) عبر أزمنة الاستبداد الطويلة. لذلك، كان لازماً على كل مثقف أن يكون لديه آراءه المدروسة حول هذه القضايا الثلاث. ولا يكفي أن يقوم المثقف بدارسة كل واحدة منها على حدة، بل الأجدر به أن يدرس العلاقات الظاهرة والخفية بينها.
الاقتصاد هو الموضوع الرابع الذي لا يكاد ينفصل عن الموضوعات الثلاث المذكورة (الدين والسياسة والجنس)، بل هو لصيق بها اشد الالتصاق. فالاقتصاد هو أحد اركان المؤسسة الدينية، وهو أيضاً أحد أهم موضوعات السياسة والمحدد لأهم وأكبر مدرستين فيها وهما المدرسة الاشتراكية والمدرسة الرأسمالية. والاقتصاد أيضاً هو الذي يجعلنا نتعرف على المؤسسات المالية الضخمة المرتبطة بتجارة الجنس وما يترتب عليها من مواقف أخلاقية وإنسانية.
هذه الموضوعات الأربعة بجب أن يتم دراستها وفقا لمنهج علمي قائم على ثلاث أساليب من التفكير هي المنهجي والنقدي والابداعي. ولا يمكن للمثقف أن يجيد هذه الأساليب الثلاث ما لم يدرس علماً من العلوم الحديثة (الطبيعية أو الإنسانية). فالمنهج العلمي هو أهم أداة بيد المثقف والتي بدونها لا يمكن أن يكون مثقفاً، وذلك لأن أي رأي يقدمه المرء لا يمكن وصفه بالمدروس مالم يكن خاضعاً لمناهج البحث العلمي.
ولأن لغتنا العربية وما مكتوب بها من محتوى معرفي محدود قياساً بما أنجزته البشرية جمعاء، فأنه من الواجب على المثقف العربي أن يتعلم لغة غير اللغة التي نشأ عليها، حتى يفتح لنفسه أبواب معرفية جديدة. وأهم اللغات في هذا المجال وأكثرها نفعاً من وجهة نظرنا هي اللغة الإنكليزية، وذلك لغزارة المحتوى المعرفي المكتوب بها. فبها يمكن أن تنفتح أبواب معرفية واسعة لا حدود لها للمثقف. من خلالها يمكن أن يكّون آراء مدروسة في موضوعات مختلفة بناءً على معارف جديدة ما كان له أن يطلع عليها لو اكتفى بتعلم لغته الأم. ومن المهم أن نذكر هنا دور الترجمة في توفير هذه المعارف، فكلما زادت الترجمة كماً ونوعا قل العبء على المثقف في البحث عن المعلومة في لغتها الأصلية.
باختصار، الموضوعات الأهم التي يحتاج المثقف أن يكون رأياً مدروساً فيها هي الدين والسياسة والجنس والاقتصاد والعلم. ولكي يحقق أعلى مستوى من المعرفة التي تؤهله بتكوين هذه الآراء المدروسة عليه أن يتعلم لغة من اللغات غير اللغة التي نشأ عليها، وانفع تلك اللغات هي اللغة الإنكليزية.

القراءة والثقافة

القراءة هي إحدى وسائل الحصول على المعرفة، وبالتالي هي مصدر المعلومات التي يحتاج إليها الفرد ليصل إلى رأي مدروس في قضايا الحياة المهمة وتحقيق شرط الثقافة. ورغم تعدد مصادر المعرفة في زمننا إلا أن القراءة تبقى هي الأهم. وحتى مع ظهور الكتاب الصوتي أو المسموع، فأن كلمة قراءة ما تزال هي الصحيحة في الاستخدام. الفرق أن هناك من يقرأ لك بدلاً من أن تقرأ أنت بنفسك. لذلك تجد من يقول (اقرأ بإذنيك). يضاف إلى القراءة، ذلك الكم الهائل من الندوات والمحاضرات والأفلام الوثائقية وفي مختلف التخصصات والتي أصبحت مصدراً لا غنى عنه في زيادة معارف الفرد. ومع ذلك كله، فأن الفرق بين المثقف والقارئ يبقى قائماً. فليس كل من حصل على هذه المعارف صار مثقفاً. فشرط المثقف هو امتلاك الرأي المدروس كما ذكرنا. لذلك، يجب التفريق بين القارئ وبين المثقف. فنحن نقول فلان قارئ جيد وفلان مثقف جيد. وليس من الصحيح إطلاق كلمة مثقف على القارئ حتى ولو كان نهماً، مالم يتوصل إلى آراءه المدروسة الخاصة اتجاه القضايا التي يقرأ فيها.

التعليم والثقافة

وما يقال عن القراءة، يمكن أن يقال عن التعليم. فمهمة التعليم هي تزويد المتعلم بكم من المعارف في مجالات مختلفة في مراحل التعليم الأساسي وفي مجال محدد في مراحل التعليم الجامعي. وفي كلا الحالتين يجب التأكيد على أن التعليم لا يعني الثقافة. وأن كثرة المتعلمين في مجتمعاتنا لا تعني كثرة المثقفين. وهذا الأمر يجب التأكيد عليه خصوصاً مع تدني مستوى التعليم واعتماده الكامل على التلقين الذي هو وسيلة للقمع. في هذا النوع من التعليم تعلوا ملكة الحفظ على ملكة التفكير. وهذا يقود إلى أن المتعلم يصبح عاجزاً عن امتلاك مهارة التفكير العلمي التي هي الأساس في تكوين الرأي المدروس الذي يحتاج إليه المثقف. لذلك، من المهم التفريق بين المتعلم والمثقف. ومن الجدير بالذكر قبل إنهاء هذه الفقرة، القول إن هناك مستوى أدنى من المتعلمين ظهر في مجتمعاتنا هو مستوى حملة الشهادات. فهناك من يحمل شهادة ولا يحمل معارفها. فهو جاهل بها رغم امتلاكه وثيقة تؤكد حصوله عليها. وهذه هي إحدى مهازل التعليم في عاملنا العربي.

المثقف والمفكر

إذا استطاع المثقف أن يجمع ويحلل ما توصل له من آراء مدروسة في موضوع ما، وتوصل إلى رأي أو موقف أو فكرة جديدة، فهو بذلك انتقل من مستوى المثقف إلى مستوى المفكر. لذلك، فأن الثقافة هي مرحلة يجب أن يمر بها كل مفكر. فلا يمكن تخيل مفكر يأتي بجديد دون أن تكون له القدرة على التفكير المنهجي والنقدي والابداعي تؤهله لتكوين آراء مدروسة في قضايا الحياة المهمة، وبالتالي التوصل إلى ما لم يتوصل له الآخرون. إذن، كل مفكر هو مثقف، ولكن ليس كل مثقف هو مفكر.

التراثية والثقافة والحضارة

التراثية هي مصطلح قدمه عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي (1913-1995) كتعريب للكلمة الانكليزية (culture) والتي عربها كثيرون خطأ على أنها "ثقافة" أو "حضارة" وبهذا نشأ الخلط وسوء الفهم. قدم الوردي هذا التعريب في عدد من مقالاته المنشورة في جريدة الاتحاد خلال عام 1989، والتي تم جمعها فيما بعد سعدون هليل في كتاب بعنوان (علي الوردي.. في النفس والمجتمع العراقي). يُعرف الوردي التراثية على أنها (مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي يتميز بها مجتمع عن آخر، والتي ينشا عليها الإنسان منذ طفولته في مجتمعه المحلي).
إن استخدام كلمة تراثية، بمعناها المذكور أعلاه، بدلاً من ثقافة هو إحدى الوسائل التي تعيننا على الفهم الدقيق لمعنى المثقف والثقافة. فقد وجدت أن الكثير من الكتاب يستخدمون خطأً كلمة ثقافة للتعبير عن مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات السائدة في مجتمعاتنا والتي ورثناها وتربينا عليها دون أن يكون لنا رأي مدروس فيها. لذلك، فهي جزء من تراثيتنا وليست جزءً من ثقافتنا. وهذا لا يعني بالطبع أن نهمل التراثية، فهي إحدى الموضوعات المهمة التي يجب على المثقف العناية بها وتكوين رأي مدروس في كل قضية من قضاياها، خصوصاً وأنها مزيج من الدين والسياسة والجنس والاقتصاد، وهي الموضوعات التي قلنا إنها من أولويات المثقف.
ومن الجدير بالذكر هنا أن كلمة تراثية تتضمن الجانبين الفكري والسلوكي. بعبارة أخرى، أن كلمة تراثية تشتمل على معنى الثقافة (وهي ما نفكر به) ومعنى الحضارة (وهي ما نعمل به). لذلك، نجد أن بعضهم عبر عن التراثية بالثقافة وبعضهم عبر عنها بالحضارة. وهكذا نشأ اللبس والخلط بين مصطلحات الثقافة والحضارة.
وهذا يقودنا إلى موضوع ذي صلة، وهو هل كل مثقف متحضر؟ والجوب هو أنه يمكن للمثقف أن يكون غير متحضر في حالة مارس سلوكاً شخصياً فيه تعدي على حريات أو حقوق الآخرين. إننا نفترض أن لمجموعة الآراء المدروسة التي توصل لها المثقف تأثيراً على سلوكه، وهذا الافتراض قد يكون صحيحاً في الكثير من الحالات، لكن ليس جميعها. لذلك، فأن المثقف ليس بالضرورة أن يكون متحضراً، كما أن المتحضر ليس بالضرورة أن يكون مثقفاً.

تغييب تعريف المثقف والثقافة

لاحظنا أن هناك كتاب عديدون يكررون مقولة أنه لا يوجد تعريف للثقافة أو أنه من الصعب إيجاد تعريف لها. ونحن هنا لا نتفق معهم في هذا الأمر. فنحن نعتقد أن إحدى القضايا المهمة التي يحتاج المثقف أن يكّون رأياً مدروساً فيها هي قضية الثقافة نفسها. فمن واجب المثقف أن يجد تعريف للمثقف وللثقافة. ومن واجبه أن يعرف الفرق بين المثقف والمتعلم، وبين المثقف والقارئ، وبين المثقف والمفكر، وبين المثقف والمتحضر، وأن يعرف الفرق بين الثقافة والتراثية والحضارة، وألا يقع في خطأ الخلط بينها. فإذا كان الحال كذلك، فلماذا نجد من يدعي عدم وجود تعريف للمثقف وللثقافة؟ في رأينا أن هناك سببين لهذا الادعاء، هما:
أولا: إن من يدعي عدم وجود أو إمكانية وجود تعريف للمثقف والثقافة هم بعض المتعلمون وليس المثقفون. وذلك لأن المتعلمون لم يصلوا بعد إلى مستوى يؤهلهم لتكوين رأي مدروس في قضايا الحياة المهمة، ومنها قضية الثقافة، ولكنهم بدلاً من أن يقولوا بعدم معرفتهم بمعنى المثقف والثقافة، يفضلون القول بعدم وجود تعريف لهما.
ثانيا: إن بعض المثقفين يرون في أنفسهم تميزاً عن الآخرين. ولكي يعززوا هذا التميز، فمن الواجب في نظرهم الاحتفاظ بهالة من الغموض تحيط بهم. وأحد صور الغموض هذه هي صعوبة توصيفهم أو تعريفهم. فهم يرون أنهم أعقد وارفع من أن يكون لهم تعريف. فهذا التعريف يحددهم ويحجمهم. وهو ما لا يريدونه. وهم في ذلك يتبنون مفهوم (اسطورة الأدب الرفيع) التي تصور العظمة والتميز بالتعقيد والغموض وليس بالتبسيط والوضوح.
من هذا نفهم أن من يميلون إلى تغميض معنى المثقف ويدعون عدم وجود تعريف له هم في واقع الأمر أما المتعلمون الذين لا يملكون أو لا يعنيهم أن يملكوا تعريفاً للمثقف، أو هم المثقفون أنفسهم الذين يرون في غياب تعريف للمثقف تعقيداً وغموضاً يزيد من التعظيم والتمجيد الذي يحيطون به أنفسهم.
بالنسبة لنا، نعتقد جازمين أن من يبذل جهداً في إيجاد أو تكوين رأي مدروس اتجاه قضايا الحياة المهمة، لا بد له أن كون رأياً مدروساً عن أهمية التواضع في حياة الافراد والجماعات، وعن أهمية الوضوح عبر تحديد معاني الكلمات في تحسين عيشة الإنسان وسعادته. فاللغة هي أداة تفكير، وإذا كانت هذه الأداة غامضة، فعندها سوف يصعب استخدامها ولا تحقق اغراضها. ومن كلمات لغتنا التي تحتاج إلى توضيح وتحديد هما كلمتي مثقف وثقافة. ولأجل ذلك كتبنا هذه المقالة.

الخلاصة

المثقف هو الشخص الذي يملك آراءً مدروسة اتجاه قضايا الحياة المهمة. والثقافة هي مجموعة تلك الآراء المدروسة. والمثقف أما أن يكون موسوعي أو تخصصي. ولا يشترط في المثقف أن يكون فاعلاً أو مؤثراً في مجتمعه، لأن الثقافة شأن فردي بالأساس. ولكن هذا لا يمنع أبداً من القول بضرورة وجود المثقف الفاعل أو المؤثر في مجتمعاتنا وذلك لحاجتنا الماسة له لأجل ترقية عيشة الإنسان وسعادته. إن قضايا الحياة المهمة التي ينبغي للمثقف تكوين رأي مدروس فيها عديدة، وتشمل كل جوانب الحياة، وتحديدها يعود للمثقف نفسه. مع هذا فيمكن القول إن الدين والسياسة والجنس والاقتصاد والعلم هي الموضوعات ذات الأولوية. وأن أدوات المثقف في تكوين آراء مدروسة في هذه الموضوعات هي التفكير العلمي المنهجي والنقدي والابداعي. كما أن المثقف يحتاج إلى اجادة لغة غير اللغة التي نشأ عليها في حال تعذرت الترجمة عن توفير ما يحتاج أليه من معارف. وربما لاحظ القارئ أن هناك مستويات معرفية متعدد تبدأ بحامل الشاهدة، مروراً بالمتعلم، والقارئ، والمثقف، وصولاً إلى المفكر. وأنه من الضروري التفريق بين ثلاثة مصطلحات هي الثقافة والحضارة والتراثية. وأخيراً، يجب الاعتراف بإمكانية وجود تعريف محدد للمثقف والثقافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا