الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة النثر بالعربية: إضاءات من زوايا شخصية

خلف علي الخلف

2024 / 6 / 8
الادب والفن


كان قد توجهت عبر موقع جدار الثقافي باستطلاع رأي الى شعراء قصيدة النثر، أولئك الذين يكتبون بالعربية، وإذ أشار لي أحد الأصدقاء إلى ضرورة حذف الباء التي تسبق العربية معتبراً أنها لا معنى لها، إذ إنها توحي بكونية (قصيدة النثر) وتطابقها في العالم ويبقى الفارق بأي لغة تُكتب. ورغم أن القول محق في جانب منه، إلا أن الباء كانت للخروج من عنصرية عربية لا يُنتبه لها أو مقصودة لدى البعض، ورغم حذري الشخصي الدائم حول هذا الأمر إلا أن شيوعه يوقعني فيه كثيراً، ونقصد هنا نسبة من يكتبون بالعربية وهم من غير العرب إلى العرب، فالكتابة العربية شيء والعرب شيء آخر لا يتطابقان.

المسألة الأخرى التي يمكن ملاحظتها من خلال الردود التي وصلت إلى جدار هي ضعف الإقبال بشكل عام رغم العدد الجيد للمشاركات التي وصلت حتى الآن، وكذلك النسبة المرتفعة (للشباب) المشاركين، والخوض في هذه النقطة شائك.

وقد بدى لي وأنا أتأمل طويلاً المحاور الممكنة لهذا الاستطلاع (الشهادات) أني قبضت على ما هو إجرائي | عملي، و أقصيت الى حد كبير ما هو عام، إلا أن ذلك يبدو من خلال الإجابات التي نشرت والتي ستنشر محض ادعاء فقد كنت أنحو باتجاه ما هو شخصي | نقدي في قصيدة النثر وأبتعد عمَّ هو تنظيري عام، يمكن أن ينطبق على كل ما هو أدبي. إلا أن الخط العام للإجابات ابتعد (لأسباب عديدة) عن إعطاء تصور شخصي واضح لكيفية التعامل مع شعرية هذا النص أو ذاك أو الإقرار بها من عدمه. مما يبدو في بعض الأحيان أن منبته عدم الوثوقية بتصور الشاعر|ة لتعامله مع النص سواء كان نصه أو نص غيره.

فالسؤال الأول كانت صيغته بالنسبة لي تتيح شهادة شخصية عن العلاقة مع قصيدة النثر. بينما السؤال الثاني هو سؤال إجرائي محض عن ماهية وطبيعة الأدوات النقدية التي يلجأ إليها الشاعر|ة وهو يقرأ قصيدة نثر تركها عابر على طاولة ما في مقهى دون إسم أو بين دفتي كتاب أو في أي مكان نشري، ما الذي يستدعيه (كقارئ هنا) من أدوات ليقيم هذا النص. والقول باللجوء إلى الذائقة الشخصية هو قول نقدي لكنه غائم فالذائقة ليست مطلق متعال عم شكلها وبالتالي يستلزم بالضرورة توضيح المنابع والأسس التي تقوم عليها هذه الذائقة وماهية ادواتها وآليات عملها مع النص لتعطي (علامة) لما تقرأه. وقد كان السؤال الثالث هو تطبيق للإجابة عليه على المنجز الشخصي لكل شاعر.

وهكذا يبدو لي إن عدم تحديد و(قوننة) الأدوات فيما يخص الحكم على نص شعري هي مفتاح "التسيب" وترك الأمر لرؤية كل قارئ وفق تصوره عن ماهية الشعر إذا كان له ماهية!

من وجهة نظري (وآخرين) أن كتّاب قصيدة النثر هم الاكفأ في التعامل النقدي معها إلا أنه وحتى الآن فالأمر خارج المعايير التي يرى البعض أن قصيدة النثر هي أساسا خروج على المعايير القياسية.

في القسم الأخير من هذا الملف الذي نشر في حينه في أربعة أجزاء، تنحو الشهادات | الاجوبة باتجاه التاريخ الشخصي للعلاقة مع القصيدة في الغالب.

وكان جدار قد نشر في الشهر الأخير من عام 2006 إعلاناً عن الاستطلاع في أغلب المواقع الالكترونية العربية وحدد العينة المستهدفة للمشاركة بـ"الاستطلاع موجه لكتاب قصيدة النثر فقط، ممن لديهم دواوين مطبوعة أو مخطوطة" ورغم رجائنا بأن لا يتم "اللجوء إلى الكتابة الشعرية لخلق تهويمات نقدية غير واضحة” فكما سوف نلاحظ أنه لم يلتزم الجميع بهذا. و نؤكد على ما نشرناه في نص الإعلان بأننا"لا نلتزم بنشر كل الاجابات التي تصلنا” ورغم تحديدنا أول عام 2007 كآخر موعد لتلقي المشاركات إلا أننا سنجعله مفتوحاً حتى إشعار آخر. بقي أن نشير أن ترتيب نشر المشاركات يخضع لترتيبات فنية ليس إلا.

نص الاستطلاع

مازال هناك جدلٌ سمج في بعض أماكن النشر والحوار التي بالعربية حول حق قصيدة النثر بتسميتها قصيدة، أو هل هي شعر أم غير ذلك! بالرغم من أن هناك الآن منجز (بالعربية) لقصيدة النثر وهناك تراكم للنقديات حولها، ولها، سواء المترجمة أو تلك التي كتبت بالعربية..
كشاعر|ة يكتب قصيدة النثر:
– كيف تلقيت قصيدة النثر، من الذي جرَّ خطاك أو قلمك أو كيبوردك إليها، هل هو تطور ذائقتك الشعرية عبر القراءة الشعرية؟ أم أنك انتبهت إليها وجئتها من حقل النقد الذي رافقها خصوصا في البدايات؟
– الكل يشكو من غياب النقد المرافق أو الموازي لتجارب الأجيال اللاحقة لجيل الرواد في قصيدة النثر، وفي ظل هذا الغياب الذي أدى في مفارق كثيرة لاختلاط الغث بالثمين، وأدى الاحتجاج ببعض الثيمات النقدية إلى تسويغ تجارب تشكو الهزال (الفني – الدلالي – المعرفي – اللغوي كذلك -…) ما هي المعايير التي تلجأ إليها كشاعر في تقييم نصاً نثرياً؟
– كيف ترى إلى منجزك الشخصي وسط هذا الكم من النتاج الشعري فيها، وماذا تعتقد أنك أضفت للقصيدة النثرية عندما تقرأ ما تكتبه بعين ناقدة منفصلة عن عين الشاعر؟

فرج بيرقدار
شاعر سوري مقيم في السويد

تسمية قصيدة النثر تنطوي على تناقض دلالي

حين قرأت كتابات نازك الملائكة عن شعر التفعيلة، لفت انتباهي أنها تسميه “الشعر الحر”. كان هذا قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت حينها قد انتقلت من كتابة القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة.
كنت أدرك أن لشعر التفعيلة ضوابطه وقيوده. لم يكن شعراً حراً، وإن كان أكثر تحرراً من كثرة القيود التي يقتضيها الشعر العمودي. في ذلك الحين بدأت أتخيل الممكنات لكتابة جديرة بأن تسمى شعراً رغم تحررها من أية ضوابط لا تنبع من داخلها، غير أنني لم أجرؤ على الدخول في التجربة، أو حتى على الركون إلى قناعة راسخة بإمكانياتها.

قراءتي للشعر المترجم كانت تحبط عندي الأمل بإمكانية شعر عربي حر أو نثري، إلى أن قرأت جاك بريفير، فعادت المسألة تراودني. ولكن النقلة الحاسمة في هذا الميدان جاءت لاحقاً مع قراءتي لبعض المتصوفة ولا سيما النفَّري. شعرت أن كتاباتهم لا تقلُّ، عمقاً وإلماحاً وبلاغة ورهافة، عما في عيون الشعر العربي قديمه وحديثه.

نقطة واحدة كانت تؤرقني قبل أن أحسم رأيي في مشروعية الشعر الحر، أو ما يسمى اليوم قصيدة النثر، وهي تسمية تنطوي على قدر كبير من التناقض الدلالي والمنطقي. تلك النقطة هي الموسيقا. إذن كان علي أن أستقصي ما يقدمه النقد والدراسات بشأن موسيقا الشعر والإيقاع، وما تعنيه الموسيقا الداخلية حروفاً وتراكيب وتوزيع أشطر وتضاد وتدوير ومعمار وتدرُّج وبياض وسواد. كما حاولت استقصاء العلاقة بين المقامات الموسيقية والميلودي والتقاسيم، إلى أن وجدت نفسي مهيأ للتعاطي مع القصيدة، حين تحضر، على النحو الذي تحضر فيه. ثمة مواضيع وثمة أبنية لها إملاءاتها. ما أكتبه من قصائد نثر لا يمتلك عندي قابلية لكتابته على التفعيلة، والعكس صحيح أيضاً. تنبع القصيدة من الداخل ثم تختار مجراها الذي تريد. كل ما أحاوله معها هو مراعاة اقتصاد الجريان بعيداً عن العقبات الخارجية وبأقل ما يمكن من الهدر.

وإذا كانت قصيدة النثر متأبية، حتى الآن، على أية معايير أو روائز ثابتة ومتفق عليها، كما هو الحال مع بعض المعايير المتعلقة بالعمود أو التفعيلة، فإن القارئ المتذوق لا يعدم معيار الحساسية الداخلية في تمييز طبيعة الأثر أو الصدى الذي يتركه النص، ليقول بعدها: هذا شعر أو قريب من الشعر أو لا علاقة له بالشعر. بالنسبة إلي هناك معايير إضافية مستبطنة في كامل تجربتي مع الكتابة الشعرية على اختلاف أنواعها أو أشكالها، وهي على أية حال معايير شخصية لا أدعي أنها نهائية أو قابلة للتعميم، ولكنها تمكنني من أن أميز إذا ما كان صاحب القصيدة متمكناً من أدواته الفنية أم لا، وإن كان أحسن استثمارها في قصيدته أم لا، تماماً كما يستطيع الموسيقي أن يميز العازف الحقيقي أو الموهوب من غيره، مهما كان نوع العزف، إيقاعياً أم تقاسيم حرة وارتجالية.

ولكن المفارقة المحزنة أن عدداً ليس قليلاً من شعراء قصيدة النثر في هذه الأيام، ممن لديهم مجموعات مطبوعة وكتبت عنها دراسات نقدية تقريظية مطولة، لا يدركون الأصول ولا الفوارق بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، فتراهم يزوِّقون قصائدهم النثرية ببعض القوافي السجعية!
يبدو لي أن مجمل الحال خلال العقود القليلة الماضية أخذ يميل إلى السباحة في المياه الضحضاحة. بدأ الانحطاط في السياسة والاقتصاد والأخلاق والتعليم، وأخيراً وصلت العدوى إلى الثقافة والنقد والآداب والفنون بصورة عامة، ولا يغير من ذلك بعض الاستثناءات هنا وهناك وفي هذا الحقل أو ذاك.
بالطبع لا أستطيع وربما لا أرغب في الإجابة عن الشق الثالث من السؤال. ذلك يحتاج إلى درجة من النضج والعمق والموضوعية لا أدعي بلوغها. أستطيع الاشارة فقط إلى اعتقادي أن ما أنجزته من قصائد نثر لا ينفصل عما أنجزته من قصائد تفعيلة. هي تجربة شعرية متضافرة، تحاول أن تقول صاحبها كما هو، بتشابهه أو تقاطعه مع الآخرين، وبتمايزه عنهم في آن معاً، وبغض النظر عما إذا كانت ستضيف شيئاً مهماً لقصيدة النثر أم لا.

فتحي أبو النصر
شاعر يمني مازال مقيماً في اليمن

له نسيانات أقل قسوة 2004
موسيقى طعنتني من الخلف- قيد الطباعة

قصيدة النثر شاعرها مهووس

فجأة وجدتني فيها كما فجأة اكتشفتها داخلي.
عبرها أستطيع الإمساك بي حين عني أضيع ومعها فقط أكون أرافقني تماما.
تطهو لي ابعادي فأشربها كإكسير.
في الزحام تكون وحيدتي والجميع نيام يمكنها أن توقظني أيضا.
نمارس معا ضدية الضد ونتخلق.
أقيمها بلا تحديد. أي بانبساطها فقط.هذا الانبساط يحوي الطلاقة والإصرار وبالغ الإغواء والاندفاع.
المشاغل النقدية تجاهها لازالت متخلفة إلا فيما ندر وفي مجمله مازال النقد مصابا بفوبيا قصيدة النثر. انه ضد فتوحاتها في الغالب.يتقاعس في ولوج أدغال جماليتها المتقدمة وكما يمتلك أقفاصا لإذعان حريتها فإنه المخلص للمكرورات مستعيدا بخبث لجماليات بائدة منعدمة النهوض ألان.
إنها الذائقة النقدية المخبولة اليعاني وعيها من القحط والمغاير يستفزها.استثني بالطبع تلك المجهودات الفريدة والمائزة اليقدمها -على سبيل المثال- كل من محمد العباس و حاتم الصكر.
أطروحاتهما الاستقرائية لقصيدة النثر مجبولة إذ لا تسهو عن الجديد المتحفز كما تطلق العنان لفتنته مدعومة برقي الحس و النضج المعرفي وشكيمة الاقتحام.
فيما قصيدة النثر جديرة بهذه الحياة أو لأقل أن الحياة جديرة بها.لكن شاعرها مهووس وبقدر ماهو في القوة بقدر ماهو في الذعر.
تسفك قصيدة النثر جراحات المعنى وتداويه وهي للانفصام وللرجاء العصبي كما لفردسات الجحيم ولعدم الشفقة وللمكابدة كما للون الحليب في فم الرضيع ولانهداد الشفق في نظرات العشاق.
إنها لاتعني بالتسميات فنحن من عنينا بتسميتها.لي أن أسميها صيادة العمق أو ثمرة الشعرية البشرية لكني بذلك سوف أعمل ضدي و ضدها.
نعم.لندعها كما هي أي باستطاعتها الخلاقة الخاصة فلا نأبه لمقذوفات النقد السيئة في الغالب ولا بالتسميات ولنكتب فقط.اقصد ولندع قصيدة النثر تكتبنا.
هكذا أراهن عليها ومهولا من حبي لها فإنني العنها.
أحبها لأنها تغوص أعمقا فأعمق والعنها لأنها غير مسقوفة ولا حدا لها فيما لاترحم وطأة اندفاع شاعرها فيها.
إنها تتسلط عليه.تعلقه من ياقة مخيلته وتقذفه إلى شهق أبعادها وأسرع فأسرع يظل لايصل.
ترى هل في هذا تكمن عظمتها وهي الرجيمة ؟.
إنني اشعر بلمسة جمرتها ألان صارخا في صمتي وأنا اكتب عنها بينما يأخذني مجرى الهلع الرائع.
إنني خدر بشفافيتها اللاذعة وارجف لكنها وحدها العناء الذي يقلل من عنائي وكل التداعي المتساقط من حولي يعاود علوه كحلم وأنا في سبيلها.
إنها فوضوية نبيلة فلندعها في رقتها تلك.غير رسمية وغير جامدة.ترفض و تخفق وتحقق نزواتنا وعبثيتنا وعدم تمهلنا في استكناه الخلاص.
تفسح قصيدة النثر مجالا لتحققات الذات ولاترتاح في المرتقى ويمكنها أن تحيا في الممات أيضا.
تأخذ بيد تاريخ اللحظة وتستوي على عرش الزمن.توقظها الجزئيات و تنام على الكليات.
لكأن تفاصيلها هي الأكوان وهي بذلك سعادتي غير النسبية التي تمكنني من التمشي في طول الإدراك وعرضه.
من فكرة اللافكرة تبدأ وتبدأ لافكرة الفكرة صغيرة ثم تنفرط كرة الخيط ولافتتها الدائمة غزل الذات ونسجها.
إنها جانب السلب في الإيجاب وايجابية السلب. تقوى على تحريك الساكن وكلما نبشتنا وكشفتنا أكثر كانت الأفضل.
كمن يؤطر غصته بالريح أرى إلى منجزي فيما الضحك من مفردة منجز يتملكني لان قصيدة النثر كما افهمها ضد المنجزيات أساسا ذلك أن منجز شاعرها الذي يتوجب هو الذي لم ينجز بعد.
اقصد اللامنجز كتحقق مباح وحقيقي للإنجاز.اللامنجز كاستمرار لايحصى في الإنجاز. اللامنجز كاقتحام لما لازال محصنا من الإنجاز. اللامنجز كهواء مفتوح بلا غطاء الإنجاز. اللامنجز كضراوة باهرة لاجتراح الإنجاز.
نعم. سأخون نفسي إن طالبت بنظام للفوضى فيما مرة حاولت أن أكون عقلانيا فتيقنت أن قصيدة النثر غير عقلانية أبدا.
فقط يتوجب الهدم من اجل المواصلة فلاثوابت كتابية ولاعقائد مبرمجة سلفا وهذا هو اللب ما اعرفه وماعلمتني إياه قصيدة النثر.
وفيما الاستهتار باليقينيات والمروق صيغتان لن تجعلنا نشك بنا تأتي قصيدة النثر أشد بهجة حين حزنها يشتد وهي شديدة الوجع جراء حنانها الشديد.
رائعة و علوية وسافلة ومتسخة ومحظوظة بخذلان. تحتمل كل شيء ولا يحتملها أحد.
كلما اقتربت لاترى وكلما ابتعدت لمست.
بارعة المزاج غير بائتة الحس تترنح وتمتع و كذلك هو خارجها يأتي داخلها حين تلقي بنفسها داخل الخارج دائما.
إنها المطلق دون تنقيح إذ ينبثق من شوائب النسبي.الوحشة الأثيرية والغروب شروقا كحب وحطام الشروق في الغروب أيضا. عارية ترتدينا وصيغتها الذهاب في الأصل.
كل شيء تم بالنسبة لها وكل شيء لايزال. بلهاء مستخفة ومضاءة بهالة من موسيقى الازرقاق السري.
إنها اللقطة المستدقة للمخفي وللمجهول في الكائنات والأشياء وبالأمس حضرت للغد وبالغد ستحضر للأمس وبالآن ستصالحهما معا فيصفق الزمن لضياعه الأنيق بين جروفها.
يقرأها الجميع ولا يقرؤنها ففيها الاكتفاء وفيها الماقبل.
لاتروض إلا بالخشية فيخشى منها شاعرها حتى ولسوف تلتهم كل شيء فيما ستبقى ذلك الرضيع الجميل.
لها دقة اللاوعي ووعي اللااتجاه.
ثاقبة ونافذة.
ملآى بالفراغ وفارغة بالامتلاء.
عاجزة وتستطيع.
تتلوى نسيانا واهاتها الذاكرة.
شاحبة توهجنا.
متناقضة جدا وتضبطنا بثبات الكينونة.
مقيمة في اللاجدوى وعابرة في الزوال.
تتغذى على اللحم النيئ لشاعرها.
تتعدى الإشكال وبحيوية تتجاوز.
مثل ملاك غير ممجد هي ومثل شيطان غير مخذول.
بيتي سخريتها و شعرها المنكوش مظهري في العدم ونظراتها القاسية والحزينة ضميري ورأسها الشامخ إصابتي المنكسة في الوجود.
متواضعة لا تنسلخ عن كبريائها وتجس اليأس أملا.
انفعالية بلا تقاديس.
بريئة فاسقة.لاتبلى وتترك علاماتها أولا بأول.
إنها معجزة الغموض ببساطة وضوحها.عليك أن تحددها كأنك تحدد التصاقك بذاتك كيما تتضمن فيك بثبات.
مجنونة غير مهلهلة ومصونة بلا نشاز.
عزيزة على كثير من معاناة شاعرها ووحدها من تقبر أضرحته إذ يبتسم
مخبولة فائرة تلقي نظرة أخيرة على النظرة الأخيرة.
لاتداهن وإنما تفضح.
أسلوبها اللا أسلوبي لايقاوم.
تستفز المكرور وفي أحشائها معبد للشياطين الذي يخبئون في قلوبهم ملائكة حائرين.
كأنها المحرقة الجماعية للذات وهي الجديرة الوحيدة بإنقاذ هذه الذات من الذات و بالذات فقط.
ليست رتيبة و تتجدد باستمرار.
خلاقة جذابة نضطر للاعتراف بين يديها غير منفصلين عنا ومنفردة وحشية تحيط باللغز ومن المستحيل إرضاؤها.
اليوم تقف قصيدة النثر على فرادة الساحة بتركيبها الماورائي الحاذق.
فيما في أعماق كل الأعماق تكمن قصيدة النثر. حالمة ساخطة مباغتة على الدوام.متألقة المرونة.تسدد حساب الذات للذات و لبلوغ القادم تكابد.القادم الذي هو عنوانها الديمومي.

فاطمة الشيدي
شاعرة عُمانية

لها: خلاخيل الزرقة / دار المدى دمشق/ 2004
* هذا الموت أكثر اخضرار/ الرؤيا للنشر/ 1997

جئت الى قصيدة النثر من منطقة الهجوم الشرس عليها

– في البدء وكمشاكسة لاأعتقد أن النقد أو التظير المرافق لفن ما، كتابي أو حتى غير كتابي، يكفي لأن يكون محرضا حقيقيا على اقترافه، أو شفيعا لتحويل النظر أو الذائقة نحوه، لأنها حالة تقوم في الأصل على تفنيد أو تقويض الرؤية لفن ما، أو لتحليل تجارب محددة، وفي حالات قليلة جدا “كالبدايات” تقوم على التعريف والطرح له كـ فن جديد ولملامحه الفنية وإشكالات حلوله، وتبايناته مع الأشكال السابقة عليه، كما أنه في الغالب فإن القراءة في الفكر النظري أو التنظيري تنطلق من المساحات المعروفة والمهمة للكائن، أو للتجربة إذا كان هذا الكائن كاتبا أو ممن يناوشون حقول المعرفة والفن، لذا فمن لايكتب قصيدة النثر قد لا يقرأ تنظيرا ونقدا حولها، بشكل كاف لتحويل مساراته الكتابية إلا في حالة وجود حالة بحث وتقصي للفكرة بغية استيعابها أو تبنيها.
إن الفكرة باختصار كما أعتقد تكمن في البدء، في الاستعداد الذهني للتغيير، وحرية الفكر، وعدم تبني الأشكال الفنية بالنسبة للكاتب، إنها حالة من عدم التشبث بنسق كتابي محدد كالقصيدة العمودية، أو قصيدة التفعيلة أو حتى بين الشعري والسردي، حالة من التجرد من تملك الأشكال، والحيادية في التفكير والرؤية، حالة من القلق وعدم الثبات.
أما عني فقد جئت إليها من منطقة موازية لها تماما، وهي منطقة دحرها والهجوم الشرس عليها وهي ضدها بالضرورة، فالقلقلة والجدل السلبي الذي صحب موجة ظهور قصيدة النثر هو الذي قادني إليها، ولعل الأمر في مجمله يعود لعدم الجاهزيه الفطرية الشخصية لدي للتسليم بآراء الآخرين كالتأسيس المعرفي القائم على ملامح تراثية امتدت حتى آخر سنوات الدرس الجامعي، وآراء الأساتذة التي تقوم في أغلبها على رفض قصيدة النثر، والتبشير بذلك ضمن فعلهم المعرفي الخطير في تشكيل عقول الطلاب، والكتابات المغرضة التي ألحقت بهذا الاتجاه الشعري الكثير من النقد الشخصي والتجريح الخاص وموجة التكفير، والتسفيه التي كانت مشتعلة باتجاه الرواد، خارج القراءات الفنية للنصوص. كل هذا كان دافعا لبدايات تماسي النسبي مع هذا قصيدة النثر.
لذلك كانت البداية بقراءة الأعمال التي كانت تتصدر قائمة الإصدارات الشعرية من حيث غزارة النشر، وأهمية الأسماء، لأصدم (في التسعينيات من القرن الفائت) بثقل معرفي رهيب لهذا الفن، مما أنتج عندي استهجان لرفض الذهنية العربية أو جدلها العقيم حول فن أدبي كتابي متحقق أصلا بامتداده الزمني، والمعرفي، وبوجود عدد هائل من النصوص والمجموعات الشعرية والمجلات والكتب المنظرة للتجربة، ومن هنا تكونت لدي قناعة خاصة بأهمية هذه الطفرة الفنية الشعرية واستيعابها لفكرة التجديد اللازمة للشعر العربي، الذي بدأ يدور في نفس الفلكية والمدارات، كما بدأت تتشابه ملامح النصوص المنظومة بشكل حرفي جاف، وقف دون تداعي فيوضه سمت القصيدة العمودية بأوزانها وقوافيها، كما أن غنائية قصيدة التفعيلة أسهم في خلق نسخ متكررة من نصوص السياب في الوجع، فنزار قباني في الغزل، فمحمود درويش في القضايا الوطنية، وهذا لايعني بالضرورة حكما بقصور هذين الفنين الشعريين عن خلق إبداع شعري، فهناك الكثير من النصوص التي يكتبها حتى اليوم شعراء مبدعون ضمن القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة متحققة الشعرية وتشكل إبداعا متجددا، ولكن يعني فتح المجال لدخول فن جديد دون قدسية للأشكال السابقة عليه.
ثم جاءت أهمية التجربة، وحلاوة التجريب التي اقتضت مداعبة الفن الجديد ومناوشته في محاولات متكررة، وربما متعثرة في بعض الأحيان بغية التيقن من إمكانية التعامل مع هذا الفن الشعري لتشكيل نصها الخاص وهي محاولات لا تزال مستمرة.
– الذائقة الخاصة هو ما ينطلق منه القارئ لإصدار حكم سواء أكان بينيا يعني داخلي أو خارجيا ( شفهيا أو مكتوبا) على نص ما، ولكن ما مؤهلات تربية هذه الذائقة هذا هو الذي يرشح رأيا لأن يكون متقبلا من قبل القراء، أو حتى صاحب النص.
و المقاربات المعرفية التي تتناول النقد وآلياته الفنية كثيرة في مختلف اللغات وهي في شكلها التنظيري الأبعد أداة مناسبة للحكم على نص ما، ولكن مدى تبني القارئ لهذه المقاربات تحكمها الذائقة أيضا لذا نجد قارئا يميل للنص الواضح، وآخر يميل النص المعتم، وهناك من يميل للنص الكلاسيكي ومن يميل للنص الحداثي إلى غير ذلك من التعددية المرجعية في الحكم على النص والتي هي مشروعة ضمن الفهم الواعي للأطر العامة لعملية القراءة الناضجة والمبنية على أسس منهجية، فالعملية متوازية الحكم، فالذائقة تربيها النظرية المعرفية، والنظرية المعرفية تحكمها الذائقة.
والحقيقة أن النص الشعري لايطلب منه بعدا معرفيا، لذلك فهذا خارج مناطق الحكم على النص الشعري، ويبقى البعد الفني بما يحمل من مناطق تأويلية دلالية وسيميائية بعيدة وموغلة، والبعد اللغوي بما يحمل من أبعاد تركيبية تشمل جوانب سلامة اللغة، وصحة التراكيب، واستقامة البنى الصرفية، وأبعاد أسلوبية تشمل مناطق الصورة الشعرية، والانحرافات الأسلوبية التي تميز الإبداع، بالإضافة إلى البعد النفسي والعاطفة الشعورية التي تمرر تيارا متقدا في مناطق النص تجعله يصل للمتلقي بعمق، هي مناطق حكم أي متذوق للنص الشعري.
هذا بشكل عام ووفق التنظيرات النقدية لقراءة نص ما وإصدار حكم عليه، أما ذائقتي الشعرية فتعتمد ثلاث زوايا تشكل لذهنيتي ملمح جماليات النص بشكل إجمالي ومن أول قراءة، هي الزوايا الثلاث تتمثل في : ندرة التقاط الصورة الفنية كأساس لبناء وتحريك النص، ثم مدى توظيف اللفظ الطري اللين في تشكيل تلك الصورة، مع التماع حدة حالة العاطفة في النص بشكل مبهر وقابض على إحساس المتلقي، سواء كانت حالة وجع أو عشق أو حتى فرح.
هذه الزوايا الثلاث مجتمعة ومتلاحمة تشكل لدي حالة الحكم والتقييم على نص ما.
– بتواضع جم، وإذا كان هناك معنى أبلغ إمعانا في التحجيم فهذا هو، لازلت بعيدة عن تحقيق فكرة منجز شخصي فكيف لي بتقييمه سيما إنني من الكائنات التي تنظر بحيادية للأشياء، وتنظر إلى الانتفاخ على أنه علة، وإلى المغالاة في تقديم الذات على أنها مرض.
من ناحية أخرى فإن النتاج الشعري الحديث ( الكمي) غير صالح للمقايسة والموازنة أصلا، لأن الكثير منه خارج الشعرية فلا يصح استخدامه معيارا، وأعتقد أن مابعد انقضاء عمر الكائن الشعري،( بالموت أو نضج التجربة تمامابحيث تتشكل ملامحه خارج مناطق التجريب المستمرة مع عمر الكائن الشعري) فقط هي ما يمكّن من تقييم منجز شاعر ما، من قبل قارئ نزيه ( ناقدا أو أديبا) وليس هو( أي صاحب التجربة)، لأنه الفرد بالضرورة رهين سياقين في الحكم على نتاجه الخاص، إما التواضع الناتج عن غرور الكائن الشعري الداخلي برغبته في النص الذي لم يكتب بعد، أو الغرور الناتج عن ضعف الكائن الشعري الداخلي. وأتمنى أن يتهيأ لي هذا القاري النزيه بعد انقضاء عمري الشعري الذي لازال في بداياته وقد لا يكتمل.
وعن الجزئية الأخرى من السؤال والتي تدور حول ما أضفته للنص الشعري، فتحديدا أعتقد أني أضفت ملامحي الخاصة الداخلية والخارجية، أناي الوفيرة التي أكتب من خلالها، ولا أظنها كانت سابقا موجودة في نص شعري، ولن تكرر ضمن فكرة وحدة الكائن وفرديته الخاصة، فعندما تقرأ نصي أنت تقرؤني وفق رؤية إحالية للداخل ( داخلي) فكري، شعوري، حزني، غضبي، عشقي، وجعي، طفولتي، أنثاي، رجلي، أطفالي، أصدقائي، أعدائي، أماكني التي أثثت الذاكرة، جغرافيتي الخاصة والمتعددة أحيانا، تاريخي، أحلامي، وفوضى أمنياتي، وكل هذا متغاير مع الآخر ( المكتوب نصا)، أو رؤية إحالية (خارجية من خلال الداخل) أي لما مربي ( لموقف خاص مررت به وقد يمر به سواي، غير أن ردة فعلي الخاصة لن تشبه ردود فعل الآخرين ).
هذا عن إضافتي ضمن الحيز الشعوري و المعنائي للغة، وهي بؤرة مهمة لتبيانات الأعمال الفنية ولكنها مؤطرة أيضا بالبؤرة الجمالية الفنية، المتمثلة في البلاغة وجماليات اللفظ والصورة الشعرية، إلى غير ذلك من العناصر الجمالية البنائية للنص، وهنا لا أعتقد إن الإضافة تكون واضحة جدا لدي ولدى الكثير من الشعراء، بحيث يمكن الاعتماد عليها كمرتكز مفصلي لتمييز خصوصية شاعر عن آخر، كمبدع أضاف إبداعا جديدا ( كالمتنبي في عصره مثلا)، أو تغايرا فنيا عميقا وجارحا في الذاكرة الشعرية الجمعية، أو حتى فرز مجموعة أسماء من الوسط الشعري ( خارج منطقة الرواد) يعدون علامة بارزة في جبين الشعر المعاصر بحيث يشار إليهم بالبنان.

إبراهيم حسو
شاعر سوري مقيم في القامشلي

له كتاب شعري مطبوع 2004 (الهواء الذي ازرق يليه تتمة الجمهرات) عن دار عبد المنعم ناشرون حلب
سيطبع له قريبا عن دار التكوين (الضباب بحذافيره) 2007

ما أكتبه لا يمكن وضعه تحت مسمى كتابي

– كانت بمقدور الشعرية العربية البحث عن مكوناتها البنائية في المعطيات العامة التي كانت تنتجها، وتعمل على إعلاءها نظريا وكانت لابد لهذه المعطيات الجديدة إنتاج نوعين من الإبداع، الأول إبداعي شعري و الثاني أبداع معرفي، يمكن البناء عليهما و الارتكاز على مصادرهما، لان الشعرية العربية لم تكن يوما مصدرا إبداعيا صرفا إلا في ألتحاقاتها بمصادرها التراثية و التحامها فيما بعد و في أوائل القرن العشرين بالشعريات الأجنبية الوافدة و المستوردة خاصة الحداثة الفرنسية بالذات عقب فترات مرحلية متلاحقة، و كانت الشعرية في أوروبة تمتحن مبدعيها و تفرزهم وفق (الحداثات ) التي كانت تظهر بين سنة و أخرى في إعطاء التجربة حقها في الدفاع عن مكوناتها و تمايزها المرحلي، و لكوني أريد شعرية أخرى قادرة على منح المعرفة كنتاج عقلي في درجة أولى و قادرة على منح الجمال كنتاج بصري ذهني في درجة ثانية ألتجأت إلى قصيدة النثر التي وسعت ليّ الطريق أمام معرفة ذاتي و معرفة الجمال الذي فيّ، و لم يكن يهمني السير وراء الاتجاهات النقدية المرافقة لهذه القصيدة أو تلك، فقصيدة النثر هي الوحيدة التي لم تدجن و لم يكن لها حراس كما كان لقصيدة التفعيلة و القصيدة العمودية فهي حرة بكل معنى ابتداء بمظهرها كشكل إبداعي فريد و انتهاء بفضاءاتها التي لا حدود لها، و ستبين الشعريات التي ستلاحق قصيدة النثر كم كانت هذه القصيدة مظلومة من قبل جيل كامل من نقاد الذين مع الاسف معظمهم خريجي قصيدة التفعيلة و كم هو اسفنا عظيم لانه حتى الان لم يظهر ناقد كبير كانت بدايته الشعرية قصيدة النثر.
– ما أكتبه لا يمكن أبدا وضعه تحت مسمى كتابي معين، بل يمكن وضعه ضمن كتابة هي أشبه بكتابة هذيانية مريضة، تكون عالية هنا و منخفضة هناك، ساطعة هنا مشرشرة هناك، قوية البنية هنا ضعيفة الشكل هناك، ما اكتبه نوع من أنواع الكتابة الآلية التي لا يمكن ضبطها ضمن حدود و لايمكن الأخذ بها كنوع أو شكل كتابة نثرية مع أنني أجد و اقرأ كل يوم نماذج كتابية تشبه ما اكتبه تحت اسم قصيدة النثر، ما اكتبه تشويه صارخ لمشاعر منسابة و جارفة لا أستطيع مقاومتها أو ترويضها ضمن قالب شعري معين، بل لا يمكنني أبدا أن أضع حدا لهذه الكلمة و حاجزا لتلك المفردة في سبيل ( الانسيابية ) أو ( الغنائية) أكره القصائد الغنائية التي تترك كل شئ في سبيل ضبط ( المفاعيل ) و صفط فعولن فعولن مستفعلن ضمن بركة قصيدة التفعيلة، اكره التفعيلة و لا اعرف كيف تكتب قصيدة التفعيلة و لماذا تكتب بهذه الصرامة و هذه الاتكيت الشعري الرصين. ما اكتبه أكثر من قصيدة النثر أو أقل لا فرق عندي طالما غايتي ليست شكل الكتابة وحدها بقدر كيفية الكتابة كنص أبداعي حقيقي، و اعتقد أن المستقبل لقصيدة النثر التي يكتبها جيل لم يكن له امتداد شعري مثلما لبعض شعراء كانوا يتحصنون ضمن قصيدة التفعيلة و فجأة تحولوا إلى كتابة قصيدة النثر بين ليلة و ضحاها و هؤلاء تحولوا فيما بعد إلى نقاد لهذه القصيدة و مربيين أفاضل لجيل سيمتد أكثر من الأجيال التي ظهرت فيها باقي الإشكال الشعرية الأخرى.

– كتابي الأول ( الهواء الذي ازرق يليه تتمة الجمهرا ت ) مازال في صدارة أردئ كتاب شعري سوري على الإطلاق، و قد احترت لماذا لم احرق الكتاب قبل نزوله رغم إيماني العميق بأنني كنت متسرعا إلى درجة الجنون في طباعته، لكن الأصدقاء ( الله لا يسامحهم ) كانوا يربتون على قلبي و يقولون لي كل يوم لماذا لا تطبع كتابك انه رائع جدا سيكتب النقاد ما لم يكتبوه عن شوقي أبي شقرا و أندريه بريتون ؟ و مازلت انصاع إلى كلامهم و أنا ادفع رماد الكتاب الذي أحرقته و سحبت الجزء الكبير من الأسواق إلى جوف عيوني نادما على كوني شاعر حداثوي من طراز أول، أقول الله يسامح النقاد الذين لم يكتبوا كلمة عن هذا الجيل الشعري الجديد الذي يسير نحو بناء قصيدة النثر الجديدة.


أحمد سواركة
شاعر مصري

من أعماله المنشورة:
1- أغادر جسدي – أصوات أدبية سنة 1999
2- أهوال صغيرة – دار الكنوز الأدبية 1999
3- هواء سري – الهيئة العامة لقصور الثقافة

أرض جديدة

الجدل البيروقراطي لابد وأنه أصبح ضعيفاً من حيث أن هناك قصيدة نثر أم لا، بدليل أن كثيرين ممن يكتبون شعراً الآن لايكتبون إلا نثراً، وكثيرين ممن كانوا يكتبون التفعيلة تحولوا عنها إلى قصيدة النثر
هذه تُحسب لقصيدة النثر، لكن الذي أود أن أشير إليه أن الجدل هذا شابه بعض اللبس، حيث يعتبر من يعتبر أن قصيدة التفعيلة تطور للشعر العمودي وقصيدة النثر تطور لشعر التفعيلة، وهذا ما أراه معيقا حيث أن قصيدة النثر كونها ذاتية فهي جنس لايتبع إلاّ نفسه كما أنه لايجب أن تكون لها مرجعية غير مرجعية كاتبها وإلا سيحدث لها نوع من التعليب المؤسساتي الذي جعل من شعر العمود والتفعيلة واجهة إحتفالية ليس إلاَّ، فليس من مهام قصيدة النثر أن تكون جماهيرية بالمعنى الذي يطارد قصيدة التفعيلة ويكاد يجعلها تتماهى مع البورنو كليب.. فلتكن غير شرعية، لتكن بلا جذور أو لقيطة، ولا أجد مبررا لبحث الكثيرين لها عن أب؛ فلتكن بلا حراسة، فليست هي نظرية علمية في الفلزات ولا في اللسانيات بحيث لا تنطلق إلا من مقدس ( معرفي) يضفي عليها ماهيتها.. يقينها الحرية الداخلية لكاتبها وتضيق ضرعاً بأهل البيت، والمربي والمدرسة. نعم لا أعرفها، لكن أتعثر فيها وأحبها لأنها غير متاحة إلا في المناطق التي لا تملك اليقين، ليست لها هندسة ولا يتدرب عليها أحد، كما أنها لاتتطور إلا بقدر تطور وعي كاتبها لأنها لا تستفيد من النصيحة.
ليس لها أرشيف يمكن الرجوع إليه بل هي بيت بلا جدران، ولاتجد من يصفق لها في الحفل، لذلك لا يجب أن تفكر في الاستقرار. لاتعترف بأن العقوق صفة غير أخلاقية بل تعتبره مثل أعراض الحب والتدخين.
***

ولأن الفن في الأساس فردي، فقصيدة النثر لا يجب أن تُطرِق السمع للإعلام إلا بقدر تحرره من كارثية الأنماط. طبعا مشهد قصيدة النثر – في رأيي – صاخب وثري ومن يرى غير ذلك يكون إما متحاملاً أو يشتكي من شيء غير الشعر. لماذا صاخب وثري؟
لأنها قضية تعدد أصوات تحدث ليس على مرجعية واحدة ولا نمط واحد، مجموعة ذوات تتوتر في فضاء الشعر، وهذه الأصوات لايجمعها مفهوم واحد عن الشعر مثلما يحدث في الغالب عند الكثير من شعر التفعيلة. وبالتأكيد، هناك مآزق وليس مأزق واحد أمام هذا الصخب، أذكر منها:

1- المفهوم
فمفهوم الشعري من اللا شعري عند كثير من الكتاب ناهيك عن القراء- إن وُجدوا – مازال مفهوماً نمطياً يستمد وعيه من مرجعية لا تخضع حتى لإعادة النظر. هنا نتفاجأ بما يشبه المقدس عن مفهوم الشعر وحتى عن الذات الشاعرة وهذا يدعوني لطرح نموذج المتنبي مثلا حيث أن الذات والموضوع عنده لا تناسب قصيدة النثر ومن هنا لا يستطيع المرء أن يصاب بالصدمة لو وجد أن شاعراً يكتب قصيدة نثر لا يستطيع أن ينسجم مع المتنبي – مع التقدير طبعا لعبقريته وموهبته وعظمته – أو ليس على المرء أن ينتظر أنه لو كان المتنبي بيننا سينسجم مع من يكتبون النثر. هنا يبدو الأمر كما لو كان قطيعة بين شيئين، ربما، ولكن هذا يثير جدلا كبيرا وهو ما يلزم للحياة أن تُعاش. فما بالك بالقراء! أعتقد أن القاريء مازال ملبوسا بمفهوم واحد للشعر والشاعر وليس لديه استعداد للتعامل مع قصيدة النثر إلا باعتبارها شيئا ممنوعا أو مهربا أو غير شرعي وهذا يجب أن لاتنزعج منه قصيدة النثر فهو حقيقي وغير جائر.

2- الريادة
تبدو قصيدة النثر كونها فضاءا جديدا للكتابة مثارا لشهية الريادة وهو ما يفصلها عن ماهيتها إذ أن مفهوم الريادة في رأيي لايناسبها حيث أنها يجب أن لا تعيد إنتاج ما رفضته. فالشعر هنا والذات الشاعرة لاتخضع إلا لمفهوم الجمال، وكما تراه، بصرف النظر إن كان مريحاً حتى للذوات الأخرى التي تتحرك في فضائها. فوثنيتها تضايق كل الآلهة، وكل بطريرك يحاول غزوها سيجد أنه ليس إلا شرطي مرور في شوارع ليس لها إتجاهات.

3- النقد
أعتقد أن النقد تابع للأعلام وهذا يضعفه لأنه تحول إلى شكل من أشكال الأعلان الصحفي، والناقد مازال يحيل كل شيء إلى قواعد يمارسها على فنون الشعر جميعا وبذلك يبدو كموظف أوقاف يدرس علم الفيزياء، لذلك أعتقد بأن عددا غير قليل من شعراء النثر عليهم أن يهتموا بالنقد حيث أن ناقدها لابد أن يكون متورطا في النسق وليس طارئا عليه، على الأقل يضمنوا عدم إحالتها لأبو تمام. الناقد يغامر في المعروف فقط ويدعي غير هذا في حين أنه مشغول بأهل البيت والوطن والملتيميديا التي خذلت الجميع. أعتقد أن قصيدة النثر أرض جديدة ومغرية للمغامرة معها، لكن لن يحدث ذلك إلا من داخلها.

4_ المتلقي
كتاب قصيدة النثر لاينزعجون من غياب المتلقي، وحتى عندما يوجد هذا المزعوم لايكون همه إلا مطابقتهم على الأنماط الشعرية الأخرى، لذا، لايمكن إنكار هامشيتها وتهميشها وهذا يجعلها طاقة غير مستعملة، يجب أن نسعد بذلك.
***

المشهد الشعري لقصدة النثر صاخب وثري، لكنه ضعيف لكونه لم ينتج جنرالات!
***

يجب أن ننتهي من رطانات كثيرة وكذلك ما يسمى بالرواد وكذلك الإعلاميون الذين تحولوا إلى شعراء والعكس. فقد جاء إلى قصيدة النثر تفعيليون ينشدون نثرا، وشعراء عامية وجدوها سهلة.. جاء تعبيريون وقصاصون تحت مانشيت اليومي فسقط الشعر..
جاء كناسون فتمسكوا بالزبالة
جاء مدرسيون ولجموها باللغة
جاء إليها بورنوبنات
جاء محنكون، وتجار قايضوا عليها
كتبها كثيرون هندسيا، فاضطروا لشراء نماذج
لكن هناك هامشيون لهم طاقات شعرية تتفجر دائما بشكل حر وتستطيع إعلان الشعر.
***

الحرب حالة مخيفة، لكن أعتقد أن كل الحضارات احتاجت إليها، أما التماهي فيجلب العار، فالآخر لا يقبل اختلافك معه، إنه لا يقبل إلا التماهي.
***

الشعر في بلادنا غير حر.

عصام عيسى رجب
شاعر سوداني

جئت إليها من بوابة التفعيلة

ليست إذاً صُدفة أني كتبت قبل أيّام في معرض قراءتي لكتاب “كافكا في النقد العربي” إعداد المترجم السوري “إبراهيم وطفي” ما يلي:
[… أمّا في المجلد الثاني وفي الدراسة الثانية، من عشرين دراسة أخرى تلي ترجمة “وطفي” لـ “المحاكمة”، وهي بعنوان “المفقود في المجتمع الصناعي” لمارتن بفايفر و جان – ماري شتراوب، يكتب الكاتبان: إن المدهش في كافكا هو أنه كان ٍالشاعر الأول (وحتى الآن الوحيد على الأرجح) لما يسمّى المجتمع الصناعي. وإضاءةً لهذه الجملة يكتب “وطفي”: تستخدم كلمة “شاعر” في هذا الكتاب بالمعنى الأوروبي: مبدع أي أدب رفيع، موزوناً كان أم منثوراً، روائياً قصصياً كان أم مسرحياً.
وأقول هنا، مازال بعضنا في عالمنا العربي يعترك حول “قصيدة النثر” و... و...]
* أورَدني “قصيدة النثر” ما أوردني الشِّعر، ببساطة لا أحس حين أكتبُ قصيدة النثر أنّي أكتب قصيدة تختلف عن أي قصيدة أخرى، مهما “اختلف” شكل كتابتها، ما ينفع قلبي هو أن أكتب شعراً، أما المسّمى فهو عندي محض زبد.
هذا أيضاً منظاري إلى ما أقرأ مِن شعر سواي. أجل، أنا واحد مِن كثيرين جاءوا إلى “قصيدة النثر” من بوابة “قصيدة التفعيلة”، أي أني كتبت بدءً الثانية ثم نادتْ علي الأولى بعد حينٍ مِن الشعر، ولكني ما زلت أكتب القصيدتين معاً، مع تأكيدي، بل ويقيني أني أكتب قصيدة واحدة وإن اختلف المسير إليها.. لا أرى مبرراً لموت أو قتل قصيدة التفعيلة لتحل محلّها قصيدة النثر، قصيدة النثر ليست في حاجة لذلك ليخلو لها الجوُّ فتبيضُ وتصَفْر.. قريباً جدّاً تعرفّت إلى شاعر جميل هو “عبد القادر الحصني” فصعقتني تماماً قصائده التفعيلية، مِن يدر ببالهِ أن ينسب قصيدةً مثل “ماء الياقوت” لأي جنس شعري وهو يبحر فيها ما شاء له الماء وما شاء له الياقوت، وقبل ذا وذا ما شاء له الشعر! ذات الإحساس يعتريني كلما قرأت قصيدةً لشوقي بزيع، خُذْ مثلاً قصيدته “كم أنتِ أجملُ في الحنينِ إليك”، خُذ درويش ونزيه أبو عفش، بل حتّى وأدونيس في قصائده التفعيلية التي في ديوانيهِ الأخير “أول الجسَد آخِرُ البحر” و “تنبأ أيها الأعمى”.
لكن مثلما أغراني بكتابة الشعر مئات الشعراء قبلي مِن لدُن طرفة بن العبد إلى آخر شاعرٍ سيأتي ولو بعد ألف سنة، أغراني محمد الماغوط ونزيه أبو عفش، وجميلون وجميلات آخرون وأخريات لا شك، أن أقرب نهر “قصيدة النثر”
كي أقيّم، ولأقل كي أتذوّق أي عمل أدبي أو فني أو لابدّ لي أن أحس وأنا أقرؤه بتلك الرجفة الداخلية التي لا وصفَ لها، مثلها مثل إحساسك وأنت تكتب قصيدتك، ذاك الإحساس الذي يجعلك تتململ في مقعدك، ولا تستطيع سوى أن تأتي بشئٍ ما يخفّف عنك وطأة ما تقرأ وتحس، كأن تقوم مِن محلّك، أو تدندن لحناً لا تدري لماذا تدندنه هو دون سِواه أو تهرع إلى هاتِفك وتنادي أحد أحبابك ليحملَ عنك بعضاً مِن وِزْرِ نشوتِك. قال لي صديق أنه كان يقرأ قصيدةً ما، فبلغ مرتقىً فيها فما أحسّ إلا وهو يقذف بقلمٍ كان يحمله بعيداً في الهواء، وحكت لي صبيّةٌ أنها كانت تقرأ أخرى فبالكاد أمسكت روحها أن تجري لا تدري أين..
أظنُّ أن الفكرة التي أحسّها في قصيدةٍ ما، هي التي تقرّب تلك القصيدة دون غيرها مِنّي، أمّا تلك التي لا أجدُ أو أحسّ أن فكرةً ما وراءها، وأن شاعرها كتبها هكذا ليكتبَ والسلام، فلا أطيق صبراً أن أُكملها، على عكس القصيدة الأولى (ذات الفِكرة) التي أعيد قراءتها لأتشرّب أكثر فأكثر فكرتها. ومقابل الفكرة عندي تقوم الصورة، تأسرني الصورة في القصيدة، شيءٌ لا يذهب بعيداً عمّا أسماه نزار قبّاتي قديما “الرّسم بالكلمات”. أحبُّ أن أرى القصيدة ترسم أمام عيني عوالمها، عوالم أكاد ألمسها بيدي، لا حشرجات ضبابية لا أدري ماذا فيها ولا ما تقول.
في ظني أنّنا معشر القادمين إلى قصيدة النثر من التفعيلة أو سواها (مع تكراري للمرّةِ الألف أني ضد هكذا تفرقة) لم نجئها عُراةً من قصائدنا التفعيلية، على العكس تماماً جئنا ودواخلنا وذاكرتنا معبّأةٌ بمسيرتنا غير القصيرة مع الإيقاع والجِرس، لذا تجئ قصائدنا النثرية وبها كثير مِن الموسيقى التي لم تفلح استدارتنا عن إيقاع التفعيلة في الهروب مِن أسرِها. هنا أرى، ملمحاً مِن إضافةِ كتيبتِنا لقصيدة النثر، ولكن ما آمله حقّاً أن تكون إضافتنا على مستوى الفتوحات الشعرية وأن نأتي، ولو مِن بابِ التمّني، بما لم يستطعه سِوانا مِن النثريّين والنثريّات.

خلات أحمد
شاعرة سورية

إحساسي بالقصيدة هو مقياسي الأول

- يقول بودلير”من منا لم يحلم، في لحظات الطموح، بمعجزة نثر شعري، موسيقى بلا وزن ولا قافية، طيع ومتقطع بما يكفي ليتوافق مع الإختلاجات الغنائية للروح، وتموجات الأحلام، وقفزات الوعي المفاجئة”
لقد حلمت بهذا قبل ان أعرف بودلير وقصيدة النثر، حلمت به منذ أن كنت أقرأ قصيدة العروض منذ المعلقات حتى أحمد شوقي، ومن بعدها قصيدة التفعيلة بدءاً من السياب وصولاً إلى محمود درويش.كان لإكتشافي لقصيدة النثر بعد بضع سنوات انقطعت فيها عن متابعة الأدب، ما يشبه أن يكتشف طائر ما أن له أجنحة يستطيع الطيران بها.لم أهتم كثيراً بالجدل النقدي الدائر حول صحة تسميتها بقصيدة أو لا. قصيدة النثر بالنسبة لي موجودة وهي الشكل القادر على احتواء جموحي الداخلي وكفى. أعتقد أن مشاعر الإنسان الحديث هي من التعقيد بحيث يصعب احتواؤها في غير قصيدة النثر.
يقول أوكتافيو باث ”أن عيوب النقد الحديث ليست أدبية فقط، بل هي أيضاً ثقافية وأخلاقية. ولكي يحكم على عمل ما، يعتمد الناقد المعاصر على ما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، وإنطلاقاً من تفاسيرها المختلفة، يوزع أحكامه معتقداً أنه يعرف عن العمل أكثر من كاتبه نفسه، ومن خلال علم الإجتماع يتسنم عرش الكلام والعلم بكل شئ، وبواسطة علم النفس وعلم اللغة يتحول كل أستاذ إلى أرسطو جديد ممزوج بفرلين”.

- بالنسبة لي فإن إحساسي بالقصيدة هو المقياس الأول، أعتقد أن إحساسنا بالقصيدة يتطور بتطور تجربتنا والتنامي المطرد لمعرفتنا ومنه نستطيع أن نستشف الخيال الشاعر المستند إلى خلفية معرفية تمنح القصيدة عمق مدلولاتها وتخلق فضاءً غنياً بتصويره الفني، حيوياُ بالمشاعر التي يغدقها الشاعر/ة على لغة قصيدته / ها في اختيار مفرداتها وصياغة جملها وتراكيبها، وتبقى”الدهشة” التي يمكن أن يهديها هذا الخيال الشاعر المتأمل الهبة الأسمى والأكثر جدارة بالشعر التي أنتظرها من القصيدة التي أقرأها. القصيدة | الكتابة ”التي تحاول أن تحرر الحياة من تلك الأشياء التي تسجنها” كما يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز.
– لا أعلم إن كان ثمة شاعر/ ة يملك شجاعة أن يقول أنه أضاف شيئاً إلى قصيدة النثر أم لا، لكني شخصياً لا أملك تلك الشجاعة. كما أنه من الصعب علي أن أنظر إلى نتاجي بعينٍ ناقدة منفصلة عن عين الشاعرة، لحميمية ارتباطي بما أكتب وإدراكي النسبي لتفاصيل قصيدتي ومرجعياتها ومكافحتي إلى الشعر فيها. يقول لوران غاسبار ”إذن؟ علينا أن نلقي بأنفسنا وراء كل ما يصمد أمامنا لكي نتمكن من أن نعبر حدودنا” هكذا أفكر كلما نظرت إلى منجزي.

بلال المصري
شاعر لبناني

دخلت إلى حديقة الشعر من بابها

بالطبع قرأت الكثير من المجموعات الشعرية لشعراء كثر كتبوا هذه القصيدة النثرية التي كانت في ذلك الوقت مثيرة للجدل، كان الأقرب إلى قلبي الشاعر الثائر محمد الماغوط رحمه الله، أقول الثائر بكل معنى الكلمة، وجدته في كتاباته ثائراً على كل القواعد الفنية لبنية القصيدة، ثائرا بكل ما حملته قصائده من أفكار وصور جديدة غير مطروقة فتمكن من تحقيق بصمته الخاصة في ملكوت الشعر..
عندما كتبت أول قصائدي النثرية لم أكن قد تعرفت بعد على الشاعر محمد الماغوط، كنت أكتب بفطرة الشاعر الموجود في كل إنسان منا و كنت اسأل نفسي بعد كل محاولة كتابة هل كتبت الشعر حقاً؟
حتى اللحظة هذا السؤال لا يفارقني ومازال يقلقني، قمت بقراءات لكتب نقدية متعددة لكن ليس بشكل معمق إلا أنني تمكنت من تكوين تصور حول قصيدة النثر و هذا ساعدني في فهمها بشكل عام وساعدني في تقييم كتاباتي بشكل خاص.
من خلال قراءاتي لقصائد النثر والحالة النقدية التي رافقتها في البدايات، انتبهت إلى أن أهم سماتها الأساسية قدرتها الكبيرة على أن تكون الساحة والمساحة لخلق مجال حر ينعكس مردوده الإيجابي على كل مفاصل الحياة اليومية دون أي ضوابط أو شروط مسبقة لتبنى عليها الأفكار والأخيلة، لذا اعتبر أن قصيدة النثر هي حاجة وضرورة لا سيما في منطقتنا العربية التي تخضع للكثير من الضغوط والضوابط والشروط المسبقة على بناء أي عمل إبداعي، كما أن قصيدة النثر تمنح قراءها قدراً كبيراً من المتعة ومن الإحساس بقدرتهم على إعادة صياغتها كما يحبون وبهذا تمنحهم عالماً حراً متخيلاً صلته المميزة بالواقع ذلك الشعور بالغبطة عند القارئ الذي يبدأ كتابة هذه القصيدة بعد قراءة أول نص جميل قرأه ومن هذه اللحظة يتحول من قارئ إلى كاتب.
إذن هي القصيدة التي تخلق الشعور عند الجميع بإمكانية كتابتها لكن الذين ينجحون في هذا قلة و لا ينجون من هذه اللعبة الممتعة بين حافتي الهاوية وهم من نسميهم اليوم شعراء الحداثة الكبار.
بإمكاننا القول أن ما جرني إلى قصيدة النثر قدرتها الهائلة على منحنا الحرية والمتعة وأنا كان لي تجربتي الخاصة عبر مجموعتي الشعرية عتم المرايا.

2
باعتقادي لا يمكن خلط الغث بالثمين، فان ماء النهر لا يختلط بماء البحر وان تداخلا.
فمهما حاول بعض القائمين على بعض الوسائل الإعلامية تعويم أسم معين فأنه سيكون من الصعب الاستمرار بذلك خصوصاً إذا كان هذا الاسم لا يملك الموهبة الحقيقية، ومهما حاول البعض التعتيم على موهبة حقيقية فإنها ستضيء في العالم بقدر ما في سراجها من زيت الشعر المتوهج.
أما ما هي المعايير التي ألجأ إليها كشاعر لتقيم نصاً نثرياً.
أولاً أحاول التواصل مع الموسيقى الداخلية للنص، أذا شعرت أن النص يسرقني باتجاه عالمه، عبر شريط من الصور التي تمكن الشاعر من إقناعي أنه التقطها من زاويته الخاصة، متكئاً على رمز يعرفه القاصي والداني، موفراً بذلك لذاكرة جماعية وعياً شعورياً حول قضية ما يطرقها النص وتركها تستغل الشاعر إلى أقصى الحدود عندها أشعر أنه بإمكاني القول أنني قرأت نصاً نثرياً جميلاً وخيالاً ممتعاً ومفيداً.
إذا تواجدت كل هذه العناصر في نص فهذا يعني أنني أمام نص نثري قيم يدخل في ملكوت الشعر.

3
لست راضياً حتى الآن عن كتاباتي بشكل كامل، أقول هذا بقناعة تامة، وفي الحقيقة لم أفكر من قبل بتساؤلك هذا ولكني كنت دائما أسعى لتحقيق إضافة على نفسي وأظن انه أذا نجحت في ذلك سيكون من أهم المنجزات التي يحققها أي شاعر في الطريق إلى تحقيق إضافة إلى النص النثري بشكل عام وبالنسبة لي بعد تجربتي الأولى "عتم المرايا" أجد من المبكر الحديث عن مثل هذه المنجزات التي عاش شعراء كبار وعرفهم العالم وماتوا ولم يتمكن بعضهم من تحقيق إضافة حقيقية إلى النص النثري.

فرزند عمر

ناقد وشاعر سوري
لا يوجد في قصيدة النثر معيارية قياسية

بداية و لندخل من باب الجدل المثار حول قصيدة النثر و خاصة ضمن الأوساط الأدبية العربية و أعتقد أن هذا الجدال ليس ممحوراً حول وجود أو عدم وجود هذا الكائن ضمن الحركة الأدبية العربية إنما الجدال الحقيقي يتمحور حول ماهية هذا الكائن.
و إن وجود أو عدم وجود قصيدة النثر لم / لن أخوض هذه التجربة على اعتبار الخوض في مناقشة كهذه تعتبر ضرباً من المراهقة الفكرية لأن عدم الوجود يحتم بالضرورة عدم تناول الموضوع بالأساس.
و إننا لسنا ممن يحاربون أو فلنقل يقفون موقف الضد من هذه الجدالات القائمة إلى يومنا هذا حول مفهوم وماهية هذا الجنس الأدبي وذلك لسببين:

السبب الأول وهو الأهم برأينا أن هذا الجدال و الذي سيستمر إلى وقت ليس بالقريب يؤكد أن قصيدة النثر مازالت حية فهي لم تمت كما الأجناس الأخرى (قصيدة الشطرين والتفعيلة) لأنها غير مكتملة بعد أو لم تأخذ حدودها القانونية و من هنا يبدو لنا الجدال حول ماهية هذه القصيدة مبرراً لأن الغيب يشكل قسماً من ماهيتها.
لكن ما لا نفهمه محاولات إعادة الحياة لما هو ميت و هذا ما قد لا نجده في الثقافات المغايرة (الغربية تحديداً) إنما الجدال حول ماهية قصيدة النثر و الذي مازال موجوداً في كل أنحاء المعمورة إنما يؤكد على الطبيعة الحية لهذا الكائن.
و إننا هنا نؤكد على موت قصيدة الوزن أو الشطرين ليس كما يشاع مع بدايات القرن العشرين عندما ولدت قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر – هذا التصور في رأينا كان من أهم الأسباب لنشوب الحروب بين مدافعي كلا النمطين إذ يعطي هذا التصور حق الثأر (حسب التقاليد العربية) لمدافعي قصيدة الوزن على أن قصيدة النثر هي من أجهزت على هذا النوع الأدبي -و أعني بها قصيدة الشطرين- ولكن الوفاة حدثت يوم وضع أبو الخليل الفراهيدي الأوزان العروضية و التي كانت الحدود القانونية لتلك القصيدة و إن الإحاطة التامة بالشيء و معرفة خباياه و وضع القوانين النهائية له تؤدي بالضرورة إلى الاكتمال الذي لا يتوافق مع الحياة
و في تصورنا كان لزوماً أن تأتي قصيدة التفعيلة بعد وضع تلك القوانين بفترة وجيزة لو أرادت الحياة إنما على ما يبدو أن قصيدة التفعيلة تعرضت لحمل مديد مما أدى إلى موتها أثناء الولادة.

السبب الثاني أن هذا الجدال يؤكد الطبيعة المنافسة لهذا الكائن ضمن جنسه الأدبي و إن المنافسة لا تتم ضمن حقلين متخالفين فكيف يمكننا تخيل المنافسة بين الهندسة و الطب مثلاً على سبيل المثال ضمن المشروع العقلاني اللا أدبي و من هنا نرد على كل تلك الأقاويل التي لا يروق لها بتسمية قصيدة النثر تلك التسمية و أعني بها (مصطلح القصيدة) نظراً لأن القصيدة مرتبطة بالأوزان الخليلية كما يراد قوقعتها من قبل المدافعين عن قصيدة الوزن و إن كل تلك الحروب التي نشبت و التي ستنشب إنما في تصورنا تؤكد الطبيعة الشعرية لقصيدة النثر.

أما بالنسبة لكيفية تلقي قصيدة النثر من قبلنا فإننا نؤكد على انتفاء الطبيعة السلبية لذاك التلقي بالمعنى الدلالي المجرد المراد من الكلمة حيث أن طبيعة المنهاج المدرسي (سوريا تحديداً) و الذي من المفترض أن يكون متوافقاً بأدنى مستوياته مع ما هو موجود و مطروح لكن للأسف لا يمكن تلقي الخيارات المطروحة بأكملها ضمن المنهاج المدرسي فكان الطالب السوري لزاماً عليه أن يطالع قصيدة الوزن على أنها الخيار الوحيد للشعرية و إننا نظن أن باقي الدول العربية تنحوا نفس هذا المنحى لأنها تشكل أيضاً في تصورنا أحد أهم الركائز بالإضافة لما سردناه للحروب التي نشبت بين المدافعين عن قصيدة الوزن و قصيدة النثر.
إن هذه الطبيعة قادت إلى خلق ما أسميه بالمتلقي الإيجابي الفعال ضمن الأوساط الثقافية العربية و الذي بالضرورة يقوم بالبحث عن البدائل إذ أن قصيدة الوزن لا تفي أو لا تتوافق مع الحياة المعاشة فالمتلقي ضمن هذه الأوساط قام بالضرورة بالبحث و التقصي إلى أن اكتشف أن هناك قالب إضافي للشعرية المرهونة مدرسياً للوزن العروضي.
إن هذا التلقي الإيجابي والذي قاد أغلب إن لم نقل كل المشتغلين على قصيدة النثر ضمن الأوساط الثقافية العربية إلى بذل جهود مضنية لاكتشاف قصيدة النثر و هذا ما جعل المدافعين عن هذا الكائن (قصيدة النثر) شرسين في معاركهم مع الطرف الآخر (قصيدة الوزن) وهو ما ينفي الطبيعة التي تقوم عليها قصيدة النثر إذ أن الحرية هي أولى القيم التي يجب على من يكتب قصيدة النثر امتلاكها لكن على ما يبدو أن المدافع عن قصيدة النثر إنما يزود و يحارب عملياً عن ذاك المجهود المضني الذي عانه للوصول إلى الحقيقة فهو لا يستسلم أو فلنقل لا يروقه أن يأتي من يقول له أو يشكك في ماهية قصيدة النثر.
بالنسبة للنقد فإننا لا نرى أن الرواد حظوا بمعالجة نقدية تليق بالمنتج المقدم و مع ذلك فإننا نؤكد بالوقت ذاته أن ما أنتج من مشاريع نقدية آنذاك قد لا يصله ما ينتج الآن و نعيد ذلك لعدة أسباب تعود إلى بنية المجتمع العربي الفكرية ككل إذ أن النهضة العربية التي كانت في بداياتها الجنينية زمن الرواد الأوائل تم الإجهاز عليها خلال العقود الثلاث الماضية من قبل المشاريع الفكرية الوهمية التي قادت المنطقة برمتها إلى الدخول في حالة مرضية ناجمة عن التضخم الأيديولوجي الذاتي الذي اقتصد التجربة الإنسانية ضمن بوتقة الدفاع عن تلك الأنا الجمعية المريضة.
و إن ما قد يبدو أحياناً من تضخم الهوة القائمة بين النتاج الإبداعي والنقدي في أيامنا المعاصرة يرجع لندرة النصوص الإبداعية بالدرجة الأولى إضافة لبنية العملية النقدية التي تتأثر بشكل مباشر بالحالة الفكرية الجمعية أكثر من بنية الحالة الإبداعية التي تتأثر بشكل غير مباشر.
في الشعر تحديداً لا يروق للكثيرين و من بينهم نحن مبدأ المعيارية القياسية فكيف إن كان الحديث عن قصيدة النثر التي تكتنفها الغيب كما أشرنا فيما سبق و الناجمة عن حيويتها بالتأكيد كما أسلفنا و حتى نفهم إمكانية التعامل مع قصيدة النثر يتحتم علينا أن نتعلم كيفية التعامل مع البنى الحية.

إن الحياة قائمة أساساً على قوانين الفوضى التي تخلق نظاماً لذاتها و ندرج هنا مثالاً لتقريب وجهة نظرنا. فلو تساءلنا عن عدد حوادث الطرق التي يمكن حدوثها في بلد ما في عام 2007 سوف نصل إلى نتيجة مفادها أنها ستكون قريبة أو مطابقة عدد الحوادث في عام 2006 مع زيادة طفيفة جداً تفرضها أحياناً الزيادة السكانية وزيادة عدد الآليات بالتالي؛ إن حصولنا على الرقم بدقة قريبة من الحقيقة لا يعني بأي حال من الأحوال أننا درسنا الحركة الممكن حدوثها و أننا كنا نعلم بمواعيد حدوث تلك الحوادث بناءً على قوانين فيزيائية تحدد ساعة و توقيت الحدث لكن من خلال ما يسمونه العلماء بدراسة الفوضى نستطيع التنبؤ بموعد هطول الأمطار و أحياناً الزلازل و إلى ما هنالك من ظواهر تستند في أساسها على قوانين الفوضى لأن الفوضى تخلق أنظمتها مع مرور الزمن و التي تختلف كلياً عن قوانين القياس الفيزيائي و هو ما نسميه بعلم الحياة.
إن قصيدة النثر تستند إلى قوانين علم الحياة و بالتالي تستند شرعياً إلى قوانين الفوضى فمن غير الجائز بل من المجحف أن تخضع قصيدة النثر لقوانين الجماد السابقة على المنتج كما هو الحال في قصيدة الوزن. لكن هذا لا يفسر بأي حال من الأحوال أن تنحدر قصيدة النثر باتجاه اللامعقول و الرث و الهزال و يكون التفسير أن لا قوانين تحدها. لذلك في رأينا من الواجب أن نبحث ضمن كل قصيدة عن قوانين تلك القصيدة و التي تكون مقترنة بالضرورة بما جاء قبلها و ما جاء بعدها من قصائد على لسان الكاتب أولاً وعلى لسان من يوازونه بالكتابة مستندين على الذائقة المشكلة استناداً إلى القراءات المتعددة كي نقوم بالتنبؤ لهذه القصيدة أو تلك على أن الزمن كفيل أن يقر هذا التنبؤ أو يخرجه من دائرة الطاعة. أن تنظر إلى ذاتك يعني أنك تقر بخلل ما فالعارف لذاته كالمولود من رحمه يود لو يصدقه الجميع على أن الانفصال قد تم.
15/12/2006

فاطمة ناعوت

شاعرة مصرية
الشعر هو الحصان فيما النقد هو العربة

ربما سيكون غريبًا وطريفًا أن أعترف أنني تعلمت قصيدة النثر من أستاذ نظريات العمارة في كلية الهندسة. طبعا دون أن يقصد وعلى نحو غير مباشر. وكان أن دخل قاعة الرسم يوما وأعطانا اختبارا مفاجئا quiz طالبا منها تصميم “بوابة جهنم”. بدأ الضحك والضجيج يسري في القاعة ظنًّا منا أن الدكتور يمزح. لكنه كان جادًا فبدأنا نُخرج أدواتنا ونفرد لوحاتنا ونعمل. بعد ساعتين راح الدكتور يمرُّ بين طاولاتنا ويشطب بقلمه الأسود الغليظ على كل التصميمات الجميلة المتسقة التي (لا غبارَ عليها). واختار تصميما عجيبا (غبارٌ عليه) لم يحترم أيا من أساسيات العمارة وعلوم الاتزان وقوانين الإنشاءات التي درسناها في السنوات السابقة. وبدأ يشرح لنا بعض التيمات الجديدة التي نسمعها لأول مرة. جماليات التنافر- التشظي- التركيب والتعقيد- استاطيقا القبح- سقوط السُّلطة- محاكاة العالم في تناقضاته وفوضاه وتمرده وعبثيته- نثرنة الوجود- تحطيم القوالب- كسر القانون الخ. كان هذا هو مدخل الأستاذ ليشرح لنا الخطاب ما بعد الحداثي في العمارة. هل يمكن أن تحترم بوابةُ جهنم السيمترية والهارمونية والاتساق اللوني والجماليات المعتادة؟ كنت وقتها أكتب القصيدة العمودية والتفعيلية. وفي طريق العودة إلى البيت رحتُ أفكر في قصيدتي التي تنتظرني على المكتب لكي أتمَّها! على البحر الوافر: مفاعلتن //ه///ه. لكم بدا لي الأمر شاذا وخارجا عن الزمن الآن! لَكَمْ يبدو صوتُ توقيع الخيول والنوق على رمال الصحراء غريبا بانتظامه ورتابته وإتقانه. ما هذه الاتساق الصوتي المنفرّ النشاذ الدخيل على أذُنٍ تعودت على صوت الكلاكسات والمدافع وأزيز الطائرات في صخبها وفوضاها ولا انتظامها! قصيدة النثر؟ نعم، أظنها هي الأنسب للحظة الآن، وإلا ما معنى درس اليوم في الجامعة؟ شرح لي معلم التصميم المعماريّ قصيدةَ النثر من مُدخلات العمارة دون أن يعي أنه يشرح بامتياز درسًا أدبيًّا نقديا جماليًّا.

لا شك أن غياب النقد أزمة كبرى تحياها القصيدة الراهنة. لكنني أرى أن الشعر هو الحصان فيما النقد هو العربة. معنى أنه تالٍ للقصيدة. شأنه شأن كل نقد فني يلي قطعة الفن ذاتها. الناقد الراهن مازال سلفيًّا ينظر بريبة إلى القصيدة الجديدة باعتبارها رجسًا من عمل الشيطان أو كائنا وحشيًّا غير مستأنس فيقبع له خلف الشجر يناوشه بالسهام كي يرصد ردّة فعله ويسجلها في دفتر ملاحظاته. وفي هذا يسلك الناقد أحد مسلكين: إما أن يعالجها بحقيبة بوقراط الأزلية التي يحملها معه منذ مدارس الشعر الكلاسيكية، فيخرج لنا بقطعة نقدية أشبه بالكوميديا. أو أنه يقرُّ منذ البدء أن أدوات علاج هذا النص غير موجودة في حقيبته فيقصيها من دائرة الشعر هربا من وجع الدماغ. القلّة من النقاد هم من يذهبون إلى وجع الدماغ بأرجلهم فيحاولون كسر محارة هذه القصيدة ورؤية ما بداخلها من كنوز وحيوات وأسرار. هؤلاء من نراهن عليهم. ولأنهم غير موجودين أو قلّة نتحول نحن المبدعين إلى نقّاد فنقارب النصوص الجميلة ونسلط الضوء عليها. أميل للنقد الذي يكتبه مبدع. ليس فقط لأنه متورط في ورشة العمل ويدرك آليات الصَّنعة. لكن لأنك لو لم تفز بقيمة نقدية حقيقية لن تعدم في الأخير قطعة أدبية جميلة. أنا أكتب ولا أنتظر أن يقيم النقاد كتاباتي. لأنني في الواقع بنتٌ عصية عنيدة لا تسمع الكلام. ولذلك لن يغير ما يقولون شيئا في طريقة كتابتي. سأغير طريقتي حين أشعر بضرورة هذا. النقد وغيابه لا يؤرقني. صحيح أن غيابه ملأ الساحة الشعرية بأشياء مضحكة لا تعرف هل تسميها خاطرةً أم نجوى أم بكاء مستطيل أم نكتة. وصحيح أن عدد الشعراء (بين قوسين) الآن غدا أكثر من عدد القراء بسبب غياب ضوء يُسلَّط على التجارب الراهنة ويفرزها، لكن النص الضعيف ضروري لأنه يضيء النص القوي ويبرزه. ثم أنه في كل عصر كان هناك متشاعرون بالمئات وشعراء بالآحاد. هل تعرف كم شاعرا جايل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم؟ عشرات كثيرون. سقطوا ليرفعوا شوقي وحافظ فوق جثثهم. ذاك أن مصفاة التاريخ معصوبة العينين مثل ماعت ربّة العدالة، وقاسية لا ترحم مثل هتلر حين أراد تنقية العِرق.

ماذا أضفتُ لقصيدة النثر؟ سؤال نقدي بامتياز. سؤال صعب. ذاك أن نقد المرء لنفسه هو شيء يشبه الانتخابات في دولنا العربية. مضحك. زائف. لكنني مع هذا سأقول لك إنني حاولت أن أكتب قصيدة تمسُّ ولا تغرفُ. تمسُّ تخومَ الحسيّةِ ولا تغرق في لُجّتها. تمسُّ تخومَ الفكرِ ولا تغرف من بحاره. تمسُّ تخومَ العلمِ ولا تنسحق تحت آلته. تمسُّ تخوم السياسة ولا تُؤدلَج. معنى أنني أعوّل كثيرا على قارئي (الذي لا أعلم أين هو). أعوّل على ذكائه وعناده وكبريائه. لا أراهن إلا على القارئ ذي الكبرياء الذي يرفض أن يقبل النص السهل المأكول والمقروء سلفا. النص الذي يعطيك نفسه في لحظة دون مراودة وعناد ورفْضٍ وتدلّل شأن المرأة الجميلة التي عرفت مكانتها فتدللت. أرفض بحسم أن ألقمه نصًّا كاملا ليغدو هو- القارئ- كقطعة الإسفنج الكسول التي تمتص كل ما يردها دون إعمال عقل أو إرادة. أحترم قارئي جدًّا للحد الذي أجعله فيه ضالعا معي في كتابة القصيدة. أبني له ثلاثة حوائط ليكمل هو الحائط الرابع وربما السقف أيضا. هل هذه تعد إضافة للقصيدة الجديدة؟


عدنان المقداد
شاعر سوري

كتبتها متأثراً بملحق الثورة الثقافي

قرأت قصيدة النثر – مع تحفظي ”السمج” على التسمية – في فترة مبكرة من حياتي، فكتبتها في السادسة عشر، متأثراً بانفعالاتي بما كان يكتبه الشعراء السوريون في السبعينات في ”ملحق الثورة الثقافي” أمثال : سنية صالح، و حامد بدر خان، و أدونيس، و عائشة أرناؤوط، و غيرهم، و هي الفترة نفسها التي تعرفت فيها إلى ”جماعة شعر”، و كان أنسي الحاج، والماغوط، و مجلتا ”مواقف” و ”شعر” و مجموعات شعرية، و مصادر أخرى، كل أولئك، ما ورطني بها، و كان للتنظير المرافق لها آنذاك تأثير بالتأكيد. بعد سنوات قلائل وجدت أن هذا النوع من الكتابة بحاجة إلى نضج أكثر، و تجارب أكثر، أعني تجارب في القراءة و تجارب في الحياة، وهذه بعض العناصر –برأيي– التي تزداد قيمة النص، معها، طرداً. و هكذا وجدتني أترك كتابتها فترة طويلة، حتى بدا لي أنني صرت أكتبها بتأثير الحاجة إلى كتابتها، تعبيرياً، و كان هذا دليلاً عندي على أن أوان كتابتها قد حان، حقيقة هذه المرة، و ليس انفعالاً بأي مؤثر آخر، و مع ذلك فما زلت أكتبها على استحياء. إذا يمكن القول إن التغير، الذي انتظرته في ذائقتي، كان هو سبب كتابتي مؤخراً.

ملاحظة: اعتراضي على تسمية قصيدة النثر هو اعتراض ذو صفة نقدية، له علاقة بكون المصطلح”يتمسح” باسم الشعر، ها هنا، ليعطي لنفسه اسماً، و لكني استسلمت للاسم الشائع على أية حال، لم يعد ذلك مهماً.

الإشكال هنا من شقين: الأول يتعلق بكون جزء من النصوص يكون بادياً للعيان هزاله و ضحالته، و أحياناً يكون ”متفقاً عليه” أو، على الأقل : ”اتفق عليه الشيخان”!، و لا يمكن للمرء أن يخوض نقاشاً مطولاً في تحديد لماذا كان هذا النص رديئاً.
والشق الثاني هو كون قصيدة النثر وجدت أصلاً لتكون ”حرة” بمعنى الكلمة، فهي : لا طويلة ولا قصيرة، ولا فلسفية، و لا وجدانية، و لا وصفية، وهي قد تعتمد على الصورة الجزئية، أو الكلية، أو لا تعتمد الصورة، و قد تكون ملحمية أو لا تكون.. إلخ.. كل هذه الاشتراطات لا تلتفت إليها قصيدة النثر: أليست.. ”حرة”؟ وبالتالي يمكن الاعتماد على ناقد واحد : هو الزمن.. فلقد رمى كثيراً من الأوراق من قبل، و سيرمي كثيراً غيرها. نعم يمكن لأي واحد منا أن يقول إن هذا النص لم يعجبني للأسباب التالية، لكن من غير المنطقي – براغماتياً على الأقل – أن يقنع كل الناس بشئ من هذا، و هو أمر خطأ في رأيي. و جلّ ما هنالك أن يقول أحدنا بأكبر قدر من التهذيب ”لم تعجبني هذه القصيدة” و قد يزيد على ذلك بإيراد الأسباب، دون أن ينسى ذكر كلمتي ”في رأيي” بين كل جملة و أخرى.. حتى لا تثبت عليه شبهة ادعاء المطلق في رأيه!
بالنسبة للناقد: لي رأي هنا يتعلق بما سبق: لم يعد للناقد وجود في هذه الحالة.. إن قصيدة النثر هي مثل ”لحظة الانفجار العظيم”: تنهار عندها كل القوانين الفيزيائية، و لا تعود تنطبق عليها.. ليس أكثر من أن يكون ثمة ”قارئ” للنص و حسب. لكنني أثق بأمرين أثناء قراءتي يجليان لي موهبة الكاتب : اللغة – و لست أعني ”جزالة اللغة” بطبيعة الحال، والأمر الثاني هو ”الصدق” و قد أغض النظر عن الأول إن كان الثاني أكثر نفوراً.
– لا يمكنني أن أقيم ما كتبت، أولاً بسبب قلته الكمية، و ثانياً لأن الانفصال الآني عنه صعب، و لكنني كلما مرت فترة أمزق بعض ما كتبت : و هكذا يكون الزمن و التمزيق هما عكازتاي في هذا التقييم، بالإضافة إلى بعض الأصداء التي أثق ببعضها، و أحياناً أعتبر أن انفعالها كان مبالغاً فيه..فلا أثق كثيراً بما كتبت.. أظن ثقتنا بمن يقرؤنا ينبغي أن يكون لها دور في الاحتفاظ بما نكتب، أو برميه.

جاكلين سلام
شاعرة وكاتبة سورية مقيمة في كندا

المخيلة رحم القصيدة

كنت أنزف حتى الموت
وكانوا يقولون هذا ليس شعراً، هذه قصيدة نثر
وهكذا، متُ أنا” لويس دوديك- شاعر كندي راحل
المخيلة رحم القصيدة ولا قرار لها. سيرة الشعر كما الحب من أعمال الروح ولا تخضع لثوابت ومقاييس. الحديث عن خياراتي في الكتابة ملتبس ويتقاطع مع خياراتي في الحب والتي لا تفسر بدقة وموضوعية إلا بالقدر الذي أحاول شخصياً أن أحدد لها المنطلقات والمخارج والتأويلات.
حين أعود إلى ذاكرتي لا يمكنني معرفة أين بدأت قصة الحب تلك، ومتى انتهت ولماذا انتهت! وفي نفس الوقت تتوارد في ذهني رغبة كامنة في أن أفتح باب السؤال وأعد (ملفاً عن أسباب الحب ونتائجه) تماماً كما ملفات قصيدة النثر التي لا تصل إلى قرار.
ولكن كيف وقعتُ في شباك وغرام هذه القصيدة وذهبتُ إليها بصدق ورغبة وشغف؟!
فلاش باك: أبي فلاح نشيط، أمي خياطة فنانة في مقاييسها، لاعلاقة لي بأجواء المثقفين، لا أصدقاء يتحدثون عن الكتابة وعن الكتب بشكل عام، فما الذي جعلني اقرأ طلاسم السريالية وفلسفتها وأشخبط بقلم الرصاص تحت الكلمات والسطور وكأنني أبحث عن ثروة، عن كنز مفقود!
الوقوف على شباك الذاكرة اليوم يأخذني إلى بيتنا في المالكية لأستعيد بعض الصور وأنا في مرحلة الدراسة الثانوية. أجدني ذاهبة إلى أول معرض كتاب أحضره في صالة المركز الثقافي وأشتري بعض الكتب. الكتاب الأول وهو الآن على طاولتي بعنوان “بيانات السوريالية/ أندريه بروتون/ ترجمة صلاح برمدا / السعر 350 ق.س) والكتاب الثاني كان بعنوان “فلسفة السريالية” والكتاب الثالث عن الآثار والتاريخ بعنوان “إيبلا منعطف التاريخ” فأي حكمة في هذا الخيار وهل كان مفتاحاً لدخول المتاهة وعوالم قصيدة النثر؟

لم ينقطع عشقي للكتابات الأثرية والآثار وأساطير الشعوب، لم تأخذ كلماتي قالباً محدوداً ومجرباً كوصفة جاهزة لاختبارات الروح والذهن والمخيلة التي لا ترتهن لمقياس. بعدها كانت المرحلة الجامعية و الانتقال للدراسة في مدينة حلب، كلية الهندسة الكهربائية، بداية الثمانينات، وهناك كان الحراك الثقافي طبيعياً وسط الطلبة من جميع الجهات و الانتماءات والتوجهات الفكرية والفلسفية والأدبية. وكان الحب والبحث والعطش إلى المعرفة معرفة الذات والمجتمع.
كان العشق إلى جانب الخصام والجدل الذي لا ينتهي حول فلسفة المادية التاريخية، فلسفة السريالية، الفن لأجل الفن، الفن لأجل الشعب. وهذه حالة لمسها أي مثقف(ة) سوري في تلك المرحلة. كان هناك رفض للشكل الجديد من الكتابة المسماة قصيدة النثر، رفض لمدارس الفن والرسم الحديثة، رفض للحداثة والكتابة خارج الواقعية الاشتراكية. ولكن هذا لم يمنعني من تذوق قصيدة النثر الجديدة، الماغوط، رياض الصالح حسين، نزيه أبو عفش، والأسماء اللبنانية المعروفة.

كنتُ أستمتع بقراءة الشعر، النثر والسرد و روائع الأدب العالمي المترجم. أقرأ مجلتي الناقد والكرمل على سبيل المثال. وكنت قد بدأت ألتمس وقع ذلك على روحي ومحاولاتي الأولى. كنا نهدي بعضنا مقالات ونسخاً مصورة من كتابات متفرقة ونتبادل القصائد والمجلات. كل ذلك وأنا في طور البحث والإطلاع والكتابة (الشخبطة!) بصمت في دفاتري الخاصة التي لم يطلع عليها إلا أقرب الصديقات والأصدقاء، من غير الشعراء.

وهكذا كانت قصيدة النثر الخيار الأول والمنتصر حتى الآن، وهي حالة تشبع روح تلك الفتاة التي بدأت تمارس حرياتها الصغيرة وخياراتها في الحياة. كان ذلك مترافقاَ مع تغيرات مرافقة في وسائل العمل والآليات. انتقل الفلاحون من مرحلة الحصاد بالمنجل، إلى استخدام الآلة الحاصدة. حلّ التلفزيون الملون محل التلفزيون- الأبيض والأسود. كان الجينز الضيق موضة وخياراً، وكنت سعيدة أن أقص شعري قصيراً و أتمرد على تلك الضفيرة الطويلة، رغم أن أبي لم يعجبه الحال، وأعتقد أن أمي لم تقص شعرها طوال عمرها، بل تضفره وتجمعه مثل “الكعكة” وتثبته بالدبابيس إلى الخلف. وفي ذلك الوقت كنتُ قد بدأت أشلح الأقراط الذهبية التي وضعوها في أذني منذ الولادة، رغم أنها كانت ناعمة وحلوة، مصممة على شكل وردة وفي داخلها فص أزرق.

مادخل هذا بخيارات قصيدة النثر أو التفعيلة أو الموزون؟ بالنسبة لي الصلة قائمة في العمق. وهكذا الثوابت في حياتي قليلة ولست منشغلة بثوابت الآخرين و أولوياتهم. أشتغل في قصيدتي على امتداد خريطة محاورها الحب والجمال والإنسان، وقصيدة النثر لا تبخل على عشاقها بهذه الروح والأريحية.
إحداث تغيير في أسلوب القصيدة وشكلها لايأتي سريعاً. نصف قرن مضى ولم نشهد سوى قصيدة النثر، لم ينقطع “العراك” والسجال بخصوصها، وما تزال موضع رفض وقبول. وقد نحتاج إلى نصف قرن وأكثر كي نحسم هذا السجال. ويبدو لي عالم الثقافة والنقد اليوم في ركود شرقاً وغرباً. الجولة الآن بيد صانعي الحروب وأدوات القتل. الجولة الآن بيد “الانتحاريين” الذي أسبغوا على أفعالهم مفاهيم جديدة. الجولة الآن للموت الممتد في العيون والشوارع والدفاتر.
وأختم هذه الورقة الشخصية بصورة عاشق كان يهدد بالانتحار، ويؤجل كل مرة كي يوصل إلي آخر ما كتب من غرام “سألتُ الروح من في الجسم أبقاكِ/ فقالت لي وقد ضحكتْ/ رويدك إنها جاكي”

زياد عبدالله
شاعر سوري مقيم في الامارات

معياري هو الجميل المدهش

– أعتقد أن الأمر يتخطى المسمى، قبل التورط بأي شيء، وتحديدا إن كان الحديث عن قصيدة ونثر أيضاً، ولعل الأمر أشبه بالانصات إلى ما أنا عليه، فإذا بي “غير منظوم” دون أن يكون هناك من شكلٍ عليَّ التمرد عليه، ذلك أن المحيط الكامل الذي قادني إلى لعنة الشعر لم يكن في وارده الحديث عن تفعيلة وموزون، الأمر الذي كنت أعاوده في أثر رجعي. ولعل أبي هو الأقرب، ذلك أن مكتبته محتشدة بترجمات لهولدرلين وروبرت فروست وكتاب الشعر الأميركي ترجمة يوسف الخال، وأعمال شوقي أبي شقرا المدوّخة، والتي أحببتها أكثر من أعمال صلاح عبد الصبور وحجازي، و الأعداد الكاملة لمجلة شعر التي تفوقت بذائقتي المتشكلة في حينها على أية مجلة أخرى، الأمر الذي كان يمشي بموازاة فضول ديني دفعني للتورط في النصوص الموغلة في اللغة ولعل القرآن واحدا منها، ولكم أن تتخيلوا هكذا تناقض وصراعات كيف يكون أثرها على الصعيد اللغوي فقط، متجاهلاً كل الأصعدة الأخرى، وأي قالب أو شكل له أن يستوعب حياة من ولد في عام 1975 وأضاف إلى ما تقدم دراسة الأدب الإنكليزي والهوس بتشارلز بوكوفسكي وروبرت كريلي وأودن ومروين والقائمة تطول مما امتزج ومازال مع نثرية حياتي التي تجبرني يوميا على قيادة السيارة لساعتين على سرعة 140 كم/ساعة أو أكثر وبكثير برفقة أغاني جانيس جوبلين وبوب ديلان، ومشاهدة أربعة أفلام كل أسبوع.

معيار بسيط يحكم تقيمي يتمثل بما قاله بودلير عن الشعر الذي يحب “الجميل المدهش” ولا أزيد لئلا استرسل إلى ما لانهاية في وصف حساسيتي المفرطة اتجاه كتابة الوصفات الجاهزة، أو الخزعبلات اللغوية التي لا تقول شيئا ً أبدا، أو لعنة المضاف إليه على سبيل المثال والإبهام الخادع الذي يسببه في أحايين كثيرة “أشرب ظلام النور”.. أستدرك وأتوقف وأقول يفضل أن يبقى النقد غائباً، وأرجو من كل قلبي أن يبقى كذلك، طالما أنه يفتقر أدواته المعرفية الحقيقية، فهو جزء من انعدام الأصالة النقدية، وتسيد النسخ المنسوخة عن نسخ مشوهة. ثم إن امتزاج الغث بالثمين أمر طبيعي ما دام جزءا من حالة عامة.

أؤكد على هذا التمني أمام أن يأتي أحدهم ويهم بـ “حفريات المعرفة” أو البحث عن “الدال والمدلول” وما بينهما، والبحث عن البياض والعتمة في القصيدة، بدل أن يضعك في سياق اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، أو مشكّلات جيل. وأن يكون الناقد قادماً إلى النص من باب مكوناته الطبيعية، لا الفضائية التي لا يعرفها هو نفسه صارخاً بأشياء تدفع للرثاء والضحك مثل “حداثة” وما بعدها رغم استهجانه أن يكون للنص مساحة تجريبية، أو أنه يجهل التجريب والانقضاض على قيم جمالية رغم هذيانه في الوقت نفسه بمصطلحات أكبر منه بكثير، تلقفها خارج سياقها التاريخي الأوروبي، فقرأ نتفا من هذا وذاك وجاء ليقحمها بدل أن يستثمرها في مكانها الصحيح وفق احتياجاتنا العربية الملحة.

عرفت النقد الأصيل من خلال مهدي عامل، سمير أمين، عبدالله العروي، الذين لم يكونوا على علاقة بقصيدة النثر أو التنظير لها، بل كانوا في صدد التأسيس لمفاهيم عربية إشكالية وصدامية مع السائد والجامد، أو أن نخرج من “في الشعر الجاهلي” لطه حسين الذي لم نتجاوز أسئلته بعد رغم مرور أكثر من سبعين سنة على صدوره، ومن ثم يمكنني تمني غير ما تمنيته في البداية.

– ثمة في هذا الخصوص معايير جد شخصية، وعقاقير ذاتية عليها أن تكون فعالة دائما لأتمكن من المواصلة والإضافة على ما ارتكبته من قصائد، ومزج الواقع بالحياة المتخيلة وبالعكس، مع الهضم الشعري لكل المتغيرات الحياتية والمعرفية والاستجابة اللغوية لها، ومتى كان ذلك بخير فأنا بخير، وعليه فإن مجموعتي التي صدرت منذ عشرة أيام “ملائكة الطرقات السريعة” كانت مستوفية لكل ما تقدم بالمقارنة مع مجموعتي الأولى “قبل الحبر بقليل” حيث يمكنني أن أقول بأنني بعد الحبر بقليل، حبري أنا وبالتالي فإن كان في ذلك من إضافة على صعيد قصيدة النثر العربية فأنا متأكد ما دمت واثقاً من ذلك على الصعيد الشخصي فقط لا غير.

بله محمد الفاضل
شاعر سوداني

قصيدة النثر لم يكتمل هندامها

“أنظر إلى الكتابة والشعر في غرتها كفيض مشاعر وأحاسيس أودت بمن تتناهبه لبراحات البوح ولها حق التشكل كيفما اتفق وللقارئ زوايا تأويله الخاصة”. من هذا المنطق والمنطق فإن ملامسة الكتابة –وأخص غرتها- بها ما بها من أريحية وتساؤلات دؤوبة، ولعل قصيدة النثر بانفتاحها اللامتناهي تندرج أعلى رسم البوح ولا أنظر لمسماها برعبٍ بقدر ما أنظر إلى محتواها فلا قديم البوح –بمسمياته- التزم بخطٍ واحدٍ منتصباً بقوامه في قوالب أعِدتْ لتأطيره وتقنينه حيث لا يليق به ذلك (من حيث أنه الإمعان في العسف) بل مال في اتجاهاتٍ شتى وعبر مراحل عدة محلقاً ومتنصلاً من القيود مندغماً بغياهب وحشته ومتحديا إلا النظر، ومن حيث أن الكتابة على شاكلة قصيدة النثر هي فسحة لإعمال العقل لا خموده وصب الجاهز في براحاته المتوثبة –إن جاءت الكتابة فيما عداه صنعة وتصنعا لا تلثم الحس- وفسحة لتفتح الكتابة ذاتها ورشقها في بياضٍ لا يستهزئ ما يفعله بعقولٍ مستنيرة.

لكأني بالكتابة بين حناياها تجرجرك فكلما مضيت تنامت على إيقاعات روحك وما يتطاير في فضائها من أوجاع مستشرية وآهاتٍ مستفحلة ومدارات لا تنضب، كالوثب كلما تمرن جسدك عليه أتقنت التوغل في فضاء أوحش، بها تحريك الراكد وإخضاع اللاممكن وتطويع الملتبس. وفيما يبدو فإني انحاز كلية للكتابة وأنظر للدلالات التي تبثها من ثقوب تسبح بالكاتب والقارئ على حد سواء في أبعاد نائية.

وعلى أني أنظر –من زاويتي الخاصة- إلى أن قصيدة النثر لم تتمخض بعد في تمام هندامها، فلا زال يعترينا/يصطحبنا الميل جهة الإيقاع والقافية وسواها من أشكال القوالب ومستلزماتها، وبذا أرى أننا لم ننهض بقصيدة النثر من مقصلة التاريخ لنلوذ بذهابنا نحو القصي منها ونكتب ما يمكن إضافته إليها، لا زال زخم من داعبتهم الحروف يرجنا وذا لا يجعلنا في كامل التحرر للدخول في صومعة قصيدة النثر بل ويمكنني القول بأننا في حال ميل عظيم لكن بإذعاننا الفارط ولا أزعم أن ذلك يشوه القديم أو يضيف للحديث لكنه منطقة وسطى بها شبهة الخيانة.

وبينما هناك بعض التجارب الرائعة في هذا الدرب إلا أن شبهة الخيانة لابد أن تلوح هنا أو هناك، وعلى إنها تحمل عبقاً يربك الروح ويحلق بها بسماوات ظليلة إلا أن هذا يجعل قصيدة النثر لدينا بأبنية خاصة وقد يصعب عليّ حصرها.
بذا أراني أكتب من منطقة شائكة –فلا لهذا أميل ولا لذاك أجنح- فتحملني رغبة عظيمة في اصطحاب موسيقى جارحة وفوضوية بينما تترصدني الكتابة، كما وبي رغبة مضادة وأكيدة في التحلل مما يمكن إرجاعه إلي، وبين النقيضين تتخلق مناطق وعرة أزعم أنها سهلة الارتياد بسرياليتها وتراص حروفها في جبن إذ تندغم بالأبواب المطروقة آنفاً ولا تندغم، وبتراكيبها الغرائبية وبانطلاقها حيناً وتمنعها أخرا [أو هكذا يخال إليّ].
بالإجمال فإني أنظر إلى ما ساقني في دروبٍ مرتبكة كابتسامات صغيرة قد لا تعني أحدهم بقدر ما تعني بالنسبة لي من أفراح ضنينة وأوجاع متباينة لا تحدها كتابة، إلا أنها قد تعني شيئاً يوما ما، والتقييم عندي لا يحسن أن يقدمه ناقد لذاته فالاكيد إن له أو عليه مجروح.

عبد الوهاب عزاوي
شاعر سوري

أرض جديدة

أعتقد أن قصيدة النثر حصيلة طبيعية للتغيرات الطارئة والمتسارعة على الشعر خاصة أن نصف القرن الماضي شهد كثافة مدهشة من التغيرات على مستوى العالم تعادل ثلاثة قرون تقريباً. ولا بد أن أوضح أولاً أني أرفض وضع قصيدة النثر في موضع الاتهام الذي يحتاج الدحض وبالتالي أؤمن بضرورة الكتابة عن قصيدة النثر وتحليل ملامحها وآلياتها ومميزاتها وما تمتلكه من أجوبة على أسئلتنا الأكثر إلحاحاً وليس الدفاع عنها، ذلك أنه من غير المنطقي أن تلغي أسلوباً شعرياً جميلاً “قصيدة نثر” لوجود أسلوب شعري ثانٍ جميل أيضاً “قصيدة تفعيلة ” ولو فعلنا ذلك في الفن التشكيلي والموسيقى أو المسرح لكان ضرباً من الجنون، وفي النهاية الصراع حول كونها شعراً أم كلاماً فنياً كالخلاف حول شكل وألوان ثياب المحكوم بالإعدام فالشعر كله يسير نحو الهاوية والأسماء تفقد أهميتها في مثل هذه الحالات ويبقى الفن نفسه كقيمة مطلقة،وفي النهاية الزمن وحده سيقوم بالفرز وتحديد ما يقبل الحياة.

بدأت حساسيتي للشعر منذ الطفولة وبدأت أسئلتي حول الشعر وسماته عن طريق القصائد المغناة والتي اكتشفت أن موسيقاها تكتسب بعداً آخر أوسع من الوزن الذي تحمله هذه القصائد عبر الموسيقى المرافقة للنص حتى أنها قد تتغير بتغير الملحن ولاحقاً اكتشفت أن موسيقاها تتغير بتغير مزاج المتلقي وطريقة تفاعله مع النص ولعل طرق تجويد القرآن دليل كثر تداوله حول غنى وتعدد أوجه الإيقاع للنص الواحد، ولكني أجد أمثلة أخرى لذلك مثل الأغاني الشعبية التي تعددت طرق غنائها وإيقاعاتها حتى اعتبرت نوعاً يحمل ألواناً من التنويعات ”أغاني الدلعونة التي تؤدى بست طرق على الأقل والأغاني التراثية”.

وبعد فترة من الزمن بدأت أفكر في الكثير من وسائل الإيقاع التي يمتلكها النص الشعري والتي تتجاوز حدود الوزن المخنوقة بمساحة ضيقة من الجوازات إلى فضاءٍ أوسع يستثمر الإلقاء ومساحات الصمت، وإيقاع الفكرة، وإيقاع السرد والحوار وتعدد الأصوات في النص الواحد، والتوازن ما بين الحروف وبشكلٍ خاص حروف العلة، والتكرار و التدوير و..وهنا يصبح الوزن عنصر من عناصر الإيقاع المتحرك والمركب ولعله أسهلها فعلاً، وأستطيع القول إن معظم الناس لا يميزون الوزن ولكنهم يميزون الإيقاع ويتذوقونه بطرقهم بل ويندمجون معه لحدود النشوة.

وافترض أن شعر النثر فتح باباً أوسع للتجريب والبحث عن وسائل تقحم المتلقي بالعمل الإبداعي، والمنجز الشعري النثري واسع عبر تجارب مختلفة لدرجة التنافر ولكني أعتقد أن أمل الشعر في الحياة والحفاظ على دفئه وحيويته القديمتين جاء عبر تجارب في شعر النثر خاصة، نابضة وصاخبة بكمون حسي عالٍ بعيداً عن النخبوية والأدلجة ومن ذلك شعر محمد الماغوط ورياض صالح الحسين على سبيل المثال، وهذا لا يلغي أهمية التفعيلة أبداً التي تلبي أحياناً ضرورات يفرضها تطور النص أولاً وهذا ينطبق على نصوص تعتمد على إبراز الوزن كعنصر أساسي فاعل وليس مجرد قالب للقصيدة ونجد هذا في العديد من نصوص التفعيلة المهمة في شعر درويش مثلاً.

ورصد تجربة النثر على اتساعها أمر بالغ الصعوبة ويحتاج لعمل مؤسسي ولنقاد مؤهلين لذلك، وبغض النظر عن التراكم النقدي الواسع لا أعتقد أن النقد يتجاوز مستوى النقد الانطباعي إلا عند عدد قليل من الأسماء، فالنقد عموماً يعتمد على تكرار عدد من العبارات التي تصلح لكل النصوص بحسب تصنيفها ما بين شعر رؤيوي وشعر شفوي أو شعر أنثوي أو إيروتيكي أو..، فلكل نمط قالبه وهذا النقد البائس يسيء للشعر كثيراً، والأسوأ أن عددا كبيراً من النقاد شعراء أو العكس عندما يقرر النقاد أن يصبحوا شعراء وهنا يتماهى النقد مع التجربة الشخصية ويصبح مجرد دفاع عن الأسلوب الخاص في معظم الحالات، ولن أعرض هنا رأيي في أزمة الشعر فقد كتبت عن ذلك في مقال طويل سابقاً.

بالنسبة للذائقة الجمالية أعتقد أنها تراكم للكثير من المشاهدات الحسية والخبرات والثقافة المكتسبة بكل صنوفها ومنها التفاعل مع العديد من التجارب الإبداعية السابقة وصهر كل ما سبق مع الروح الخاصة لكل منا وبالتالي هي عنصر متطور بتطور الإنسان نفسه، وهنا تأتي أهمية تربية العقل على الحس النقدي وهو ما يغيب عن مؤسسات التعليم عندنا التي تختصر النقد الأدبي في الشهادة الثانوية مثلاً إلى ديباجة سخيفة ومفرطة الغباء والتسطيح يحفظها الطلاب رغماً عنهم ليلصقوها بكل القصائد والتي تتفاوت بمستواها بشكلٍ كبير فكل النصوص فصيحة وجزلة لمجرد وجود شدة فوق أحد الحروف مثلاً وكل التراكيب متماسكة مهما كان النص ضعيفاً والأسوأ هو شرح البيت التي يقتصر على البحث عن المترادفات الغبية وهنا يتحول الأدب لقالبٍ جامدٍ إجباري بعيداً عن تجارب الحداثة والتفاعل معها عبر طرح أسئلة مشاكسة وحادة وجريئة.

وتأخذ المشكلة أبعاداً أوسع في كليات الأدب العربي التي تبتعد عن الحداثة ويقتصر الشعر الحديث فيها على أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وفي الحدود القصوى تصل لمحمد عمران مع إهمال مخيف للشعراء الآخرين من جيل السبعينات وغياب مطلق عما تلاهم من الشعراء ورفض شديد ومتوحش لفكرة شعر النثر شكلاً ومضموناً ولو تابعنا قليلاً نرى أن الفكرة تتكرر بشكلٍ أو بآخر في قنوات التلفاز والملاحق الثقافية للصحف وهي سلطوية بطبيعة الحال تعمد لتغييب العقل النقدي.
والنتيجة الطبيعية هنا هي قولبة الذائقة الجمالية باتجاهٍ وحيد وضيق وهناك العديد من العوامل الأخرى بالتأكيد تسهم في ذلك منها الموروث الديني والاجتماعي الذي يفرض قيوداً إضافية ولكن العامل الأهم برأيي هو غياب الحراك السياسي والاجتماعي الذي يجابه أسئلة وقضايا المجتمع الأكثر إلحاحاً والذي يخلق هامشاً واسعاً للأدب ليتفاعل معها ويقدم أبوابا للإجابات بمدىً واسع يمتد ما بين الجمالي والصدامي والمباشر، وعلينا أن نتعرف أن معظم الشعراء المهمين في جيل السبعينات كانوا مدعومين من حراكات ومؤسسات سياسية وحزبية ولم يتقيدوا بأفكارها بالضرورة ولكنهم صعدوا على أكتافها، وفي مثل هذه الظروف يصبح الشعر بعيداً عن الناس وعن ذائقتهم الجمالية الجمعية إن صح التعبير إلا في حالات مرضيّة فما زلنا نشاهد جمهوراً واسعاً لشعر نزار قباني ولكن الكارثة تكمن في أنه جمهور بلا ملامح فهو نفسه يحب نزار قباني بصفته شاعر الحب والمرأة وخرق الحواجز الدينية حول جسد المرأة، ويحب نانسي عجرم وهيفاء وهبي ويستمع بحماس لعمرو خالد.

أول تجارب النثر التي اطلعت عليها كانت لمحمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس و.. والتي تركت أثراً كبيراً في روحي عبر شعر الماغوط امتزج مع تأثري بشعراء آخرين أولهم محمود درويش وأتاح لي ذلك البحث بطريقة مختلفة في الشعر وجمالياته عبر الصورة المحملة بالكمون الحسي المدهش والصدق المخيف لدرجة الجنون، وفي المقابل كانت علاقتي سيئة مع شعر أدونيس مثلاً والشعر مفرط النخبوية، وبعد فترة بدأ اهتمامي بتجارب عدد من الشعراء أهمهم رياض صالح حسين وعباس بيضون وسيف الرحبي وحالما تواجدت الإنترنت وقفت أمام بحر من الشعراء المهمين برأيي، ولم يكن النقد عاملاً جاذباً بالنسبة لي في أغلب الأحيان بل التفاعل الشخصي مع النص وإعادة خلقه والبحث فيه بهدوء أي تقديم قراءة شخصية فيه، ولا أستطيع أن أسمح لنفسي بالتنظير لآلية تلقي النص ولكني أقوم بقراءة النص على مراحل عبر قراءته عدة مرات أولها قراءة حسية بحتة ثم أقوم بالبحث في طبقاته تدريجياً مركزاً على الجماليات والكثافة الشعرية وتعدد الأصوات والإيقاع وتكنيك الشاعر إن صح التعبير واللعب على ما لم يقل بعد وتوازن الشكل عبر توازن الأبيض والأسود، وعموماً النص نفسه يفرض عليك مستوى التفاعل بمعنىً آخر مقدار غنى النص يحدد مدى متعة البحث فيه، فهناك نصوص لا أتمكن من إكمالها بسبب ضحالتها وأخرى أعيد قراءتها كل فترة، أعلم أن هذا الكلام لا يأخذ معناه إلا بنماذج أقدم فيها قراءات لبعض النصوص وهذا ليس مناسباً هنا، والأهم أني لست مؤهلاً كناقد، وأخيراً عدم وجود مخطط نهائي لتلقي الشعر لأن هذا يرادف وضعه في قوالب.

وبالنسبة لتجربتي أفضل أن يتحدث سواي عنها وأفترض أن فيها جديداً ما ومحاولات للوصول إلى أساليب جديدة عبر التفاعل مع الفنون الأخرى والاستفادة منها وبشكل خاص الموسيقى ثم تقنيات المسرح والحكاية والفن التشكيلي وقدمت عددا من التجارب في هذا المجال وهناك عمل جاد على تطوير أدواتي مع الكثير من التجريب فهناك النصوص التسجيلية التي وفقت في بعضها وفشلت فشلاً ذريعا في أخرى والنصوص التي تعتمد على مساحات الصمت و التي تعتمد على إقحام المتلقي ليقول ما لم أقله وحتى هذه اللحظة لم أقم بنشر هذه النصوص لرغبتي في إعادة النظر فيها لأهميتها على مستواي الشخصي والتجربة ككل تتطور فمن الصعب إطلاق حكم قيمة نهائي فيها.
وأعود للقول ليست مهمتي أن أكون ناقداً أمام الآخرين رغم أن أنقد نفسي بوحشية وأقول صادقاً أن تجربتي تغيرت عدة مرات في السنوات الماضية وبشكلٍ أدق أنا نفسي تغيرت ولا أستطيع تحديد موقعي على خارطة المنجز الشعري ولا أهتم لذلك حقيقةً فالزمن سيحدد ذلك على المدى الطويل والأجمل دائماً بالنسبة لي هو الشعر وكتابته وليس نقده رغم أهميته.

فرات إسبر
شاعرة سورية مقيمة في نيوزيلندا

الشعر لا يحتاج إلى فلسفة إنه الغامض المدهش

قصيدة النثر، جاءت بعمقها وعفويتها،من اللغة.
اللغة تحيىّ وتنمو،من خلال الناطقين بها، والمتعاملين معها بشفافية عالية.
اللغة ينابيع الماء، لابد من الكشف عنها،كطفل يبدأ في تعلم الحكاية، هو يحاول أن يقول شيئا لا تفهمه. كل يوم يكبر ويتعلم،وبعد ذلك يأتي النطق بطلاقة.
قصيدة النثر جاءت من خلال التطور الذي رافق اللغة منذ ولادتها إلى اليوم.
عندما أكتب نصا لا أنظر إليه بوصفه نصا نثريا أم لا، لا أنظر إلى الشكل،لا افكر به، كل ما يعنيني هو القيمة في هذا النص، المعنى في هذا النص، اللغة التي جاءت في هذا النص، هل هي من القيمة حتى تمنحني الصفاء الروحي والنفسي الذي أريده.
الشعر لا يحتاج إلى تصنيف، قديم أو حديث.
الشعر يبقى شعرا في قيمته ومعناه وألقه، وليس بتصنيفه.
التصنيف لا يعطيه أي قيمة شعرية.وهذا يرجع لقدرة الشاعر على التعامل مع اللغة وقدرته على الإبحار في مرافئها وبقدر ما تكون متأملا بقدر ما تتسع الرؤية وبقدر ما يصفو الخيال. وبهذا الصفاء تتجلى اللغة لذلك في كل التسميات،ما يفرق شاعرا عن غيره، اللغة التي يكتب بها وأفق هذه اللغة.
هناك من يبدع في أحياء فضاء اللغة وهناك من يكتب بلغة سردية عادية ويومية،ويطلقون عليه أو عليها صفة شاعر أو شاعرة.
اللغة هي التي تعطي المعنى، اللغة الشعرية، هي مرآة عقل الشاعر ومن هنا نجد الاختلاف الذي بين شاعر و آخر وكلاهما يكتب بنفس اللغة الأم، واقصد هنا اللغة العربية،وهي مثل أي فن من الفنون قابلة للتطور والتحول من جيل إلى جيل بدليل أن كل جيل له لغة خاصة به يتحدث بها، حتى الشعراء عبر العصور كان لهم لغتهم الخاصة التي يكتبون بها، فلغة البحتري الشعرية تختلف عن لغة أبو تمام أو لغة عنترة أو أبن زيدون،التطور الزمني واختلاف المراحل واختلاف الأحداث واختلاف طبيعة الحياة ساهم في تطور اللغة.
بكل الأحوال مهما اختلفت التسميات حول قصيدة النثر هناك مقومات اساسية لاغنى عنها، الخيال، والتخيل، والموهبة،هي جوهر العمل الشعري،بدليل أن هناك أشخاصا يحصّلون شهادات علمية عالية ولكن أفقهم الشعري ضيق والخيال محدود.
اللغة تتسع باتساع أفق الشاعر وخياله واستخداماته لها وهو احيانا يتجاوز قيود اللغة ليسمو بالخيال الذي يتمثل بالصورة الشعرية،وكل التسميات التي تطلق على الشعر، والتى برأيي لن تغير من الفكرة الأساسية حول مفهوم الشعر والقيمة الشعرية بدءا من “هوراس “إلى “بودلير” إلى شعراء الحداثة اليوم.
كل شئ مرهون بالحداثة وخاضع للتغيير.وبما أن اللغة هي علم فهي مرهونة بهذا التغيير، ومهما تغيرت، يبقى الشعر كما ذكرت خارج كل التسميات لا يحده قيد ولا يقف في طريقه تسميات بدليل أشعار هوميروس، إلى نصائح “هوراس" في كتابه فن الشعر، ما زالت إلى الآن هي الجوهر والأساس في الكتابة الشعرية.
النقد مات، لم يعد هناك من نقاد حقيقيون، لأن الجميع يبحث عن العلاقات الشخصية والاعتبارات القائمة على التبادل، النقد أصبح الآن بلغة السوق الاقتصادية عبارة عن عملية تبادل تجاري
والصورة واضحة تماما والكل يعرفها بدليل أنك ترى أسماء ظاهرة تضج بها الصحافة بفرعيها ولكن من خلال الدراسة العميقة لمفهموم الشعر فانك لن تجد سوى سرد يومي لحكايات يومية. لا شئ يقتل الشعر مثل السرد،كانت هناك أسماء مهمة في النقد.
النقاد يذهبون إلى المكتبات، ويشترون الكتب، ويتابعون ما يصدر باستمرار ويكتبون من أجل الأدب وقيمته.
أما اليوم فهذا مختلف بدليل يعرفه أي شاعر غير معروف يرسل قصائده ودواوينه إلى أي أسم من الأسماء المعروفة اليوم والتى تحتل المناصب كسلطة، لا كثقافة، فلا أحد يمر بها ولو مرور الكرام.
يجب أن يؤسس مدرسة جديدة لإعادة النظر فيما يقدم اليوم وفيما يمتدح من دون أي قيمة. كم هو جميل أن يخرج النقاد في مظاهرات ويهتفوا : ”توقفوا أيها الكتاب أنكم تسيئون للأدب”
الحقيقة عندما اقوم بنشر نص على مواقع النت،وشكرا لهذه المواقع، التي فتحت آفاق واسعة للتلاقي والتعارف وساعدت في ظهور أسماء رائعة وجديدة وتقدم نصوصا ممتازة إذ نحن محظور علينا الاقتراب من السلطات الورقية التي لا تتوانى عن محاربة السلطات السياسية ولكنها أشد فاشية منها.
أخاف وارتجف عندما أنشر نصا لأنني أقرأ بالمقابل نصوصا لن أقول عنها رديئة، فأنا أحترم حرية الكاتب في التعبير عن ذاته بأي لغة يختارها.
الشعر هو قراءة وكشف للروح الانسانية ومن هنا أنظر إلى نفسي بعين ناقدة، احب ما اكتب احيانا واحيانا اشعر بعصبية مما اكتب لذلك تراني سريعة في الحذف وعندما أقرأ النص الذي اكتبه أراه بعين المحب والعاشق، هذا بداية،وظهر في مجموعتي الأولى “مثل الماء لا يمكن كسرها” ولكن في “خدعة الغامض” أختلف الأمر فيها تماما، اكتشفت أن لغتى وتعبيري وحتى المضمون الشعري يختلف عنه في المجموعة الأولى.

باسم الأنصار
كاتب عراقي

غالب الشعراء العرب يجهلون شروط قصيدة النثر

حينما كتب الشاعر الفرنسي (برتران) مجموعة قصائده النثرية اليتيمة (غاسبار الليل)، لم يكن يعلم بأنه من الممكن أن يُكتب الشعر من دون اوزان جاهزة، ولهذا فهو ربما لجأ إلى النثر لتفريغ شحناته الشعرية المنفلتة من قيود تلك الأوزان. أي بمعنى، أنه لم يفكر بالخروج والتمرد على قصيدة التفعيلة في شكلها المعروف في زمنه حينما كتب قصائده النثرية. أي أن وعيه الشعري لم يسعفه في أكتشاف الشعر المتحرر من الأوزان في السياق الشعري الخالص، لذلك راح يبحث عنه في سياق النثر العام. وسقط ( بودلير) بالقصور ذاته، حينما لجأ إلى النثر لكتابة شحناته الشعرية الثرية التي لا تقبل التأطير في أطار الأوزان الشعرية التي كان يسير على منوالها.

أي أن (بودلير) لم يكن يعلم بأنه كان بالإمكان كتابة الشعر الموسيقى اللاموزون ضمن سياق الشعر الخالص ومن دون الحاجة الى اللجوء الى النثر، مثلما صنع الشاعر الأمريكي والت ويتمان حينما كتب تنهداته الشعرية المنفلتة من الأوزان (اوراق العشب) ضمن أطار الشعر وليس النثر. بحيث صار (ويتمان) الرائد الاول للقصيدة الحرة التي ظهرت نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة.

ولكن هل أن عدم اكتشاف بودلير مثلا القصيدة المتحررة من الأوزان والمتمثلة (بالقصيدة الحرة) هو السبب الوحيد أو الدافع الحقيقي الذي دفعه لكتابة قصيدة النثر ؟ وكيف سيكون الحال، لو افترضنا مثلا أن (بودلير) قد توصل الى قناعة (ويتمان) في كتابة القصيدة الحرة، فهل ان هذه القناعة ستبقى رغبته في كتابة قصيدة النثر؟ الإجابة على السؤال الأول برأينا ستكون: لا. بينما إجابتنا على السؤال الثاني ستكون: نعم. وذلك لان بودلير لجأ الى قصيدة النثر ليس هربا من قيود الأوزان فقط، وإنما لأنه أكتشف أمكانية أستخراج الشعر من السياق النثري (وهذا مانعتقد أنه السبب الدفين من قبل بودلير في كتابته لقصيدة النثر). أي أن الهرب من الأوزان كان الحجة الظاهرة لكتابة قصيدة النثر، بينما الحجة أو الدافع الحقيقي لكتابتها هو قدرة النثر على إنجاب القصيدة.

والشئ الذي يرسخ قناعتنا هذه هو أن بودلير لم يقصد في كتابته لقصيدة النثر، التخلي عن قصيدة التفعيلة التي كان يكتبها وكتبها في مجموعته الشهيرة (أزهار الشر). وهذا يعني أن قصيدة النثر لم تظهر نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة، مثلما حدث مع القصيدة الحرة، وإنما للسبب الذي ذكرناه قبل قليل.

فقصيدة النثر بأختصار لا تنتمي إلى السياق الشعري الخالص، وإنما هي تنتمي بالأساس إلى السياق العام للنثر اولا وللسياق الشعري العام ثانيا، بفعل إدخال الأدوات الشعرية الاساسية عليها. وأيضا يمكننا القول ان قصيدة النثر ليست مزجا بين الشعر والنثر كما يعتقد البعض، وإنما هي خارج هذه المعادلة تماما، على اعتبار أن المزج بين الشعر والنثر يؤدي بنا إلى ما يسمى (بالنص المفتوح).

قصيدة النثر بأختصار، هي نثر غايته الشعر.

سأوضح الأمر بطريقة أخرى: حينما نتحدث عن الشعر العمودي الكلاسيكي، فإننا لا نتذكر شعريته فقط، وإنما نتذكر الأوزان التي تتحكم به. لذا حينما برزت الحاجة الى قصيدة التفعيلة، فأن هذه الحاجة أتت من خلال رغبة الشاعر بالخروج عن قوانين الأوزان التقليدية. أي أن قصيدة التفعيلة نتجت بسبب جدلها مع القصيدة العمودية. وهذا الحال ينطبق على القصيدة الحرة، التي نتجت من حاجة الشاعر إلى الخروج على أوزان قصيدة التفعيلة المعروفة، أي أنها ظهرت نتيجة جدلها مع قصيدة التفعيلة.
أما قصيدة النثر، فأن بروزها على الساحة الشعرية لم يكن نتاج جدلها مع القصيدة الحرة ولا مع قصيدة التفعيلة ولا مع القصيدة العمودية، وإنما هي نتجت بسبب رغبة الشاعر في استخراج الشعر من سياق النثر. أي ان قصيدة النثر، تجربة شعرية متنوعة ومتحررة آتية من سياق آخر غير السياق الشعري المتعارف عليه.
ولهذا السبب، احتفظ الشعراء الفرنسيين والاوربيين والامريكيين فيما بعد على القوانين الأساسية لقصيدة النثر في كتابتهم لها على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على ظهورها. أي أنهم لم يتجاوزوا شروطها الاساسية لكتابتها الا وهي (الاختزال، التكثيف، اللاغرضية، وشكلها المقطعي).
وحينما حاول البعض منهم إضافة بعض اللمسات الفنية عليها، فإنهم لم يفكروا بتحطيم شروطها الأساسية المذكورة أعلاه، وإنما فكروا بإجراء بعض الاضافات على الشروط الاخرى التي تتحكم بها. ولهذا ظهرت لنا أشكال وأساليب جديدة في كتابتها ودُبجت تحت تسميات مختلفة مثل (قصيدة النثر السريالية، قصيدة النثر المفتوحة، قصيدة النثر التكعيبية).
فعدم خروج شعراء فرنسا وامريكا مثلا (وهم روادها القدماء والحديثين) على شروط قصيدة النثر الاساسية ليس نابعا من عدم ديناميكتهم، وإنما نابع من إيمانهم بأن الخروج عليها معناه خلق نص شعري مغاير ومختلف عن قصيدة النثر، وبالتالي يتحتم عليهم أطلاق تسمية أخرى على هذا النص، غير تسمية قصيدة النثر.
وإذا انتقلنا إلى التجربة العربية في كتابة قصيدة النثر فإننا نرى أن بعض الشعراء العرب البارزين، ألتزم بالقوانين الاساسية المتحكمة بقصيدة النثر بحكم استيعابهم لها بشكل صحيح، ولكن الغالب الأعم من الشعراء العرب لم يلتزم بهذه القوانين، ليس رغبة منهم بالتمرد على الشكل الأساسي لها، أو رغبة منهم بإجراء الإضافات عليها، وأنما بسبب سوء فهمهم لشروط قصيدة النثر. فصار البعض منهم مثلا يشيع مصطلح (قصيدة النثر المشطرّة) وهو مصطلح (مع اعتزازنا وتقديرنا لمن أطلق هذه التسمية) ليس تمرديّا أو نابعا من رغبة حقيقية لخلق خصوصية عربية في كتابة قصيدة النثر. فهذا المصطلح ظهر بعد أن كتب الكثير من الشعراء العرب قصيدة النثر بشكل خاطئ. أي أنهم كتبوا قصيدة النثر على طريقة الشطر بسبب سوء فهمهم لها وليس حبا منهم للمغايرة. ومن أطلق هذه التسمية كان يريد أن يغطي على تنظيراته الخاطئة بعد أن أكتشف خطأها، ولكنه لم يصرح بذلك لأسباب لا علم لنا بها.
فكل من يفكر بالتمرد على حالة ما موجودة من أجل خلق المغاير والمختلف عليه أن يوضح لنا شيئين:
الاول: لماذا يتمرد على الشكل السائد؟
والثاني: ماهي الاضافة التي يريد إضافتها على الشكل السائد؟
وكذلك هناك نقطة اخرى في غاية الاهمية مرتبطة بنفس القضية، ألا وهي أن من يتمرد على شكل فني او شعري ما عليه أن يستوعب أولا حد التخمة هذا الشكل الفني او الشعري قبل أن يتمرد عليه. والسؤال يبرز هنا تلقائيا: هل أن الشعراء العرب هضموا و كتبوا قصيدة النثر بشكلها المتعارف عليه في اوربا وامريكا حد التخمة لكي يظهر لديهم مبرر التمرد عليها ؟ وهل أن خروجهم على قوانين قصيدة النثر الاساسية نابعة من رغبة حقيقية لخلق شكل مغاير لها أم أنه تمرد ناتج من سوء الفهم لها ؟
نحن نظن بأن قصيدة النثر العربية المشطرة خاطئة لأنها خرجت أولا على واحد من أهم شروط قصيدة النثر، ألا وهو شرط شكلها المقطعي، وهو شرط لم ينتج اعتباطا ولم يوضع لكي يتميز بشكله عن شكل قصيدة التفعيلة في زمن نشوئها فقط، وأنما هو شرط نابع من طبيعة شكل النصوص النثرية الذي تنتمي إليه قصيدة النثر.
وكذلك هي خاطئة بسبب نسيانها دوافع التشطير في الشعر. فتشطير القصيدة، يعني وجود ايقاع وموسيقى داخلية أو خارجية مفروضة عليها من قبل النظام الذي تكتب به (كقصيدة التفعيلة) وأحيانا من قبل الشاعر الذي يكتبها (كالقصيدة الحرة). بمعنى أن حجم وشكل الشطر الشعري يتبع شروط الأسلوب الشعري الذي تُكتب به.
ولهذا نقول بأن بناء الجملة في القصيدة الحرة أو شكلها العام لم يظهر اعتباطا بشكلها المشطر. فعلى الرغم من أن شكل القصيدة الحرة لايتبع الأوزان المعروفة، إلا أن هندستها بالشكل المشطر ظهر بسبب الإيقاع أو الموسيقى الشعرية التي تملى على الشاعر من أعماقه في لحظة كتابته، وهي إيقاعات مستمدة بالأساس من مزاجه النفسي والذاتي ومن المزاج العام الموضوعي المحيط به، أي من طبيعة حركة وإيقاع الحياة المحيطة بالشاعر، غير أن الفرق بينها وبين ايقاعات قصيدة التفعيلة، أن الاولى تكتب من دون إطار محدد مسبقا لموسيقاها وايقاعاتها، بينما الثانية تُكتب حسب أطر إيقاعية مسبقة و ثابتة. ومن يدري ربما سيظهر لنا (فراهيدي) آخر في زمن ما، ويحدد للشعراء طبيعة الإيقاعات التي كتب على غرارها شعراء القصيدة الحرة.
والشيء الآخر الذي يدعونا للتحفظ على قصيدة النثر العربية المشطرّة، هو تجاوزها على الشكل العام للقصيدة الحرة ولقصيدة التفعيلة أيضا. فلايجوز مثلا أن نقول عن القصيدة العمودية بأنها قصيدة تفعيلة سيّابية مثلا، وكذلك لا يجوز أن نقول عن القصيدة السيّابية أنها قصيدة حرة، مثلما لا يجوز أن نقول عن قصيدة التفعيلة أنها قصيدة نثر، وهكذا. فلكل هذه الاشكال الشعرية شروطها وقوانينها الاساسية التي خلقتها ومن ثم خلقت تسمياتها.
أن مايكتبه الشعراء العرب بشكل عام هو القصيدة الحرة وهو النمط الشائع الآن تقريبا في اوربا وامريكا وربما في العالم. ولكن تسميتهم لهذا النوع الشعري خاطئ. ففي غالب الأحيان يطلقون هذا المصطلح على قصيدة التفعيلة، وأحيانا أخرى يطلقون مصطلح قصيدة النثر على القصيدة الحرة، إلى الحد الذي أوصلنا إلى عدم تناول مصطلح القصيدة الحرة في الشعر العربي المعاصر مع أن الكثير منها ينتمي إلى سياقها.
قد يظن البعض أن قضية التسمية والمصطلحات ليس لها أية أهمية تذكر، بل وليس لها أية علاقة بشعرية النص الشعري. ونحن نقول أن هذا التصور خاطئ أيضا. لأننا حينما نكتب قصيدة نثر، فإنه سيتبادر إلى أذهاننا أن بناء الجملة فيها وبنائها العام هو بناء نثريا، أي أن اللغة المستخدمة فيها في الغالب وليست دائما لكي نتوخى الدقة في الكلام، هي لغة نثرية بالأساس أكثر مما هي لغة شعرية. بينما لغة القصيدة العمودية والتفعيلة والحرة، هي لغة شعرية بالأساس ونثرية احيانا قليلة. ولهذا فحينما يكتب البعض قصيدة حرة بلغة غير لغتها، أي بلغة قصيدة النثر مثلا، فإنه يُحدث خللا لايستهان به في شعرية القصيدة الحرة، وهنا مكمن الاساءة إلى الشعر بشكل عام.
حينما يكتب شاعر ما اعتقادا منه بأن قصيدة النثر هي الشكل الاخير للشعر (وهي ليست كذلك طبعا)، ولاعتقاده بأنها نتاج السياق الشعري الخالص فإنه سيكتب الشعر وخصوصا القصيدة الحرة بلغة النثر أكثر مما يكتبها بلغة الشعر. أي انه سيجعل الجملة وسيلة توصله إلى الصورة الشعرية، أكثر مما هي كائن مستقل يمكن استخراج السؤال والرؤى والتصورات الشعرية منها.
الشئ الذي نود قوله أن الخلط بالتسميات للأشكال الشعرية ليس هينا وليس عابرا، لأنه يؤثر بشكل أو بآخر على شعرية القصيدة. فقصيدة النثر ليست الشكل الاخير للشعر، وإنما برأينا أن (القصيدة الحرة) هي الشكل الشعري الأخير النابع من السياق الشعري الخالص.
وحتى هذه اللحظة فأن الكثير من شعراء اوربا وامريكا والعالم يكتبون القصيدة الحرة بالدرجة الاساس على اعتبار انها الشكل او القالب الاخير في كتابة القصيدة الشعرية الذي يناسب إيقاع العصر وموسيقاه ويناسب مزاج الشاعر النفسي في الوقت ذاته. بينما تأتي كتابتهم لقصيدة النثر لأنها تستوعب شحناتهم الشعرية الانفعالية المتشكلة على هيئة النثر في أعماقهم وليس على هيئة الشعر المعروفة.
فكما هو معروف أن النثر سلسلة متواصلة من الجمل، وهذه السلسلة تكون مترابطة عبر أدوات النثر المألوفة، بينما جمل الشعر المشطرة غير مترابطة أو متواصلة بطريقة النثر، على الرغم من ترابطها وتواصلها الظاهر والباطن. وسبب اختلاف شكل الشعر عن شكل النثر برأينا هو بسبب أن الأول شعر، وأن الثاني نثر. أي أن سبب أختلاف الشعر عن النثر، ليس بسبب تحكم الأوزان التقليدية به، وأنما لانه شعر قبل كل شئ. والشعر، لا يختزل الأوزان والايقاعات، وإنما هو اكبر واوسع من هذا الجانب. ومن هذا المنطلق نقول ان الشعر يكمن في كل شئ في الوجود، بما فيه النثر.
الشئ الذي نود قوله أن قصيدة النثر بالأساس لم تظهر لكي تزيح شكلا شعريا سابقا لها، وإنما ظهرت لكي تصبح إضافة فنية راقية للأشكال الشعرية السائدة، كالاضافة الشعرية الجميلة التي ستنتشر بالمستقبل أكثر من قبل والمتمثلة (بالنص المفتوح) أو (النص متعدد الأجناس) كما يحلو لنا التعبير عنه. حينذاك سنجد أن الشعراء سينشغلون بهذا النوع الكتابي أيضا وسينشغلون بالتنظير للشعرية الكامنة فيه، وهي موجودة طبعا، ولكن ليس ليثبتوا أنه الشكل الشعري الاخير لانها ليست كذلك برأينا، وإنما لأن النص المفتوح سيكون مؤهلا لاستيعاب الشحنات الشعرية والنثرية أكثر مماتستوعبه قصيدة النثر أو القصيدة الحرة، مثلما لايستوعب النص المفتوح الشحنات الشعرية لقصيدة النثر وللقصيدة الحرة. ومن هنا نصل الى قناعة ان ضرورة قصيدة النثر نابعة من كونها تستطيع استيعاب الشحنات الشعرية الكامنة في أعماق الشاعر التي لا تستطيع استيعابها القصيدة الحرة، مثلما لا تستطيع قصيدة النثر استيعاب الشحنات الشعرية التي تستوعبها القصيدة الحرة.
فالعلاقة بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة، علاقة قائمة على المودة والصداقة وليس على النزاع والصراع، لسبب بسيط جدا هو لأنهما يسيران بخطين متجاورين وليس متصادمين. إذن لندعهما هكذا ولنبعد عنهما شروط الصراع لأن الشعر لا يصارع نفسه ليقهرها وإنما ليجعلها تتوهج أكثر فأكثر كتوهج النار في المواقد القديمة.

سعود السويدا
شاعر وكاتب سعودي

النص سلوك لغوي

حين قرأت قصائد نثر للمرة الأولى، وربما كان ذلك بداية التسعينات، لم أكن أتوقع ان يكون هناك أي خلاف دائر حول شعريتّها، بدا لي حينها الشعر غير الموزون شيئا شديد البداهة. الأرجح أن فرصة لقائي بأصدقاء كانوا يكتبون قصيدة النثر بحماس، متحولين عن التفعيلة، كأحمد كتوعة وعلي العمري، هو الذي نبهني الى الإشكالات التي تثيرها فكرة “قصيدة نثرية”.
***

سأحاول بداية تناول الموضوع من زاوية تجريبية. الذي يحدث عادة عند قراءة قصيدة نثرية (أو أي نص أدبي) له علاقة كبيرة بظروف قراءته. عادة ما أقوم بقراءة مسحية سريعة لما تشاء الصدف أن يعبر أمامي من نصوص منشورة إلكترونيا، أو ورقيا. إذا، نجح النص في استبقاء اهتمامي للقراءة الأولى، أعيد قراءته أو أحفظه لقراءة لاحقة. بين القراءتين علاقات تشابه واختلاف. ولا تقودان دائما إلى نفس النتيجة.
انتظر من النص أن يخفي آثاره. تأثراته المفترضة أو تأثيراته التي يطمح لها. أن لا تكون لعبته مكشوفة. الأمر يشبه حكاية (السفينكس). يطرح عليك الفينكس سؤالا تكون أنت جوابه. الشعر الجيد هو ما يجعل مني جوابا جيدا. أي قارئا جيدا. النص الجيد هو ما يعيد الغازي (بكسرة تحت الهمزة التي تحت الألف) أمام ذاتي، يعيد الغاز العالم ويعيد الغاز الشعر. لو حاولت ترجمة هذا الكلام الى لغة أكثر “دقة” أقول: ان النص هو سلوك لغوي. على هذا الأساس انتظر منه ان يكون مهذبا إزاء القارئ، محترما لشكوك القارئ، ومحترما لحرية القارئ في تحديد المسافة التي يريد تركها بينه وبين النص. يمكنك ان تشتم القارئ وتظل مهذبا معه. هذا يعني أن تحترم ذكاء القارئ و ان لا تغرقه بالعاطفة. العاطفة الوحيدة المشروعة في الأدب هي عاطفة القارئ وليست عاطفة الكاتب. لا يمكن أن تفرض على القارئ (ايماناتك) باللغة، بالشعر، بالحب، بالقضية !
من الواضح هنا أنني أتجنب وضع قواعد كـ (الإيجاز) (الكثافة) الخ لأن ذلك لن يفلح ببساطة. سيكون هناك نصوص جيدة تخرق هذه القواعد دائما، وهذا من باب الرحمة.
أيضا، لا يمكنني أن أقبل “اختبار الزمن”! لأنه،ينطوي على دوغمائية فرحة بذاتها. ما هو اختبار الزمن؟ لا يعدو الأمر التهديد بدخول الشاعر “الرديء” النار أو مزبلة التاريخ! ما فائدة هذا الكلام حين لا أكون موجودا. أيضا لا يمكن اللجوء إلى الصدق، والمعايير النفسية..
ما تثيره خاطرة هزيلة، في وجدان مراهق، هو حقيقي، بنفس الدرجة التي يثيرها شعر "عظيم" في قارئ ذواق.
***

لا أنظر بإعجاب إلى منجزي الشخصي. ويشغل القليل من تفكيري. هذا لا يعني أنني غير راض عنه. حين أعود لأتأمل تجربتي الوحيدة المنشورة والنصوص القليلة التي كتبت بعدها، أظنها تحمل قدرا معقولا من الوجاهة ! وإن لم ترد من جهة الواقع (المكرسة للخسة والدناءة، كما يقول سركون بولص) الكثير من ردود فعل التي تؤيد هذا الاعتبار.

مازن المعموري
تشكيلي وشاعر عراقي

هي الأكثر قدرة على احتواء رؤى الشاعر المعاصر

1.

هذا السؤال من الخطورة بمكان بحيث يبدو للوهلة الأولى فخا لابد من تجاوزه، ولكن للإجابة عنه في هذا المجال لابد من الإشارة إلى أن البدايات في أغلب الأحيان لا تتجاوز تاثيرات عمود الشعر وسياقات الدربة الأولى للحصول على الخزين اللغوي وامتلاك أدوات الكتابة الضرورية، ولكن ماذا بعد ذلك ؟ هذا السؤال الذي يطرحه الشاعر على نفسه دائما لتبرير وجوده كشاعر في خضمّ الصراع الثقافي والكم الكبير من الإعلام في الساحة الشعرية العربية، هو ما يجعلني ابحث عن مناطق جديدة لفهم العالم والذات، وهنا يأتي دور الوعي وأهمية ترسيخ وجهات نظر خاصة لا يمكن أن يحققها الشكل الكلاسيكي أو الانماط الاخرى للكتابة القديمة، لسبب جوهري، هو أن قصيدة النثر باتت أكثر قدرة على احتواء رؤى وطروحات الشاعر المعاصر وان رسوخها كبديل للأشكال الشعرية الأخرى يعني أن الشاعر أصبح معنيا بالتفكير وطرح مفاهيم بما هو لغة خاصة به وقادرة على إنتاج واقعه الخاص كذلك، وهذا ما يجعل اختيار هذا الشكل حقيقة متماسكة وقريبة من الذات كوجود محض. اما بالنسبة الى الجزء الثاني من السؤال، فأنا لا انكر اهمية الواقع الثقافي وقدرته على إنتاج شكل الخطاب الشعري والحاجة الماسة لوطء أرض جديدة لممارسة الاختلاف ودخول الصراع باتجاه الآخر.

2.
إنها المشكلة الأكثر حضورا في الساحة الثقافية، لسبب واضح المعالم في رأيي، وهو أن مفاهيم النقد باتت أكثر تشعبا ووعورة في خضمّ الطروحات الفلسفية الغربية والعالمية من مختلف الاتجاهات و المنابع الفكرية، مما أدّى إلى غياب القوانين أو المقاييس الكلاسيكية وأصبح الرأي الشخصي ذو اهمية مضاعفة بسبب غياب السلطة الثقافية وانتهاء الأيديولوجيات المركزية التي ساهمت في صناعة الأسماء والهويات الثقافية مع مطلع القرن الماضي، بل إن الكثير من الاسماء اصبحت مجرد صدى في ذاكرة المتلقي الجديد، وهو متلقي من طراز خاص بسبب انتشار الوعي اللازم لتقييم نص ما أو شاعر ما، وانتشار ثقافة الانترنيت التي سمحت للهوامش أن تأخذ فرصتها الكاملة وربما المساحة التي غطت على مجمل الحضور الفعلي للحركة الشعرية والثقافية بشكل عام.
اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار مفاهيم التفكيك وعصر ما بعد الحداثة، فسوف يكون المشهد أكثر وضوحا، لأن الهامش أصبح، لاشك، قادرا على استباحة المركز، وحصوله على السلطة الكافية لخلخلة تمركزات الآخر، ولذلك نجد ان الجامعة اصبحت سيد الموقف، وان الدراسات الاكاديمية محطّ انظارنا لأنها تمثل الدرس الفكري والثقافي بعد ان كان الوسط الثقافي خارج الاكاديمية هو من يصدر المفاهيم ويقلب المعادلة لصالح المبدع الوحيد.
أما المعايير التي ألجأ اليها حين اكرس نفسي لهذا العمل، فهي قيمة النص الفكرية والفلسفية ومدى حصولي على قراءة مختلفة تتيح فهما جديدا لذاتي وذات المنتج أيا كان، واشتباك كل من القاريء والمنتج في حوار داخل النص لفهم الوجود من خلال اللغة.

3.
لا أعتقد أن إجابتي ستكون لصالحي تماما، خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار تجارب مهمة ما زالت حاضرة ولها تاثيرها الفاعل، لكنني بالتأكيد سوف أتشبث بنرجسيتي وانا اقول انني موجود ولتتكلم نصوصي.

معتز طوبر
شاعر سوري

حررتني بمجانيتها من عبء الأفكار الكبرى

إنها سعي لتحويل دمائنا إلى حبر، تتلوى داخلنا ونتلوى داخلها، تبطن ما لا نحتمله، وتحتمل عنّا ما لا نقدر على عبء ثقله. تشي بنا وقت حياتنا، ضوؤها لا يراعي نومنا. وحياة مثيلاتها تضج بها، كما العتمة عندما تضج بالضوء. إنها ضالة الحبر. ضالة الكتابة. ضالة الشعر وضالة المنثور بحجمه الكبير ضالة الإنشاد والتغني. روح منصبة على تلافيف حياتنا.

إنها قصيدة النثر.

هذا الاسم أصبح يحيلني كما يحيلني اسم شخص إلى صورته وصوته وصدى ترجيعه الفيزيائي والسلوكي. فـ”قصيدة النثر“ باسمها، لها حقلها الدلالي بإيحاءاته وتورياته ودلالته ومطموراته ومواربته. و يحيلني الاسم الى كتلة مادية بطاقة مكثفة من الانفعال و الأحاسيس والمشاعر وغيرها. دون الوقوف –طبعا– عند مشروعية اسمها أو وجودها ( بل ربما وقفت الى مشروعية وجود غيرها (العمودي – التفعيلة) إذا ما نظرنا إليها خارج التراث ). ودون الوقوف حول الجدل الدائر حول تسميتها او مشروعية انتمائها لثقافة فئة دون غيرها. وأنت تجد معي بأن أغلب الصفحات الثقافية (الالكترونية والورقية) مفعمة وضاجة بقصيدة النثر وأقول بأن العتمة تضج دائما بالضوء. ومما لاشك فيه بأن حياتي كانت مثقلة وبثقافة أولى، نشأت و بدأت في الثمانينات وقامت على ما وصلني من كتب التراث وكتب الماركسية وغيرها من الكتابات المترجمة شعرا ورواية.

وكانت مثقلة بانفعال متوار ٍفي الظل، له تخلخلاته واضطرابه وفوضاه وكنت اصطدم دائما بكيفية إزاحته عني فكانت تخرج منه أجزاء مع فوضاي في هذه الحياة إلى أن صبت حياتي بمنثورها في شكل أزاح عني ثقل الأفكار والهموم وأنا القائل ”سيء جدا أن تحمل كل المبادئ الثقيلة”. وأقول بأن قصيدة النثر حررتني بمجانيتها من عبء المبادئ تلك والأفكار والقيم الكبرى التي طالما كانت دريئة للمبتذل من الكتابة. وسؤالك الآن يعود و يذكرني بالشاعر علي العمري عندما سألني مرة وفي لقائنا الأول على ما اعتقد (أحكي لي ما قصتك مع قصيدة النثر)، ثمة بوح شديد في جواب السؤال هذا، لقد قدمت إليها من فضاءات وعوالم أخرى، فأنا المشغول أبدا بمتابعة آخر تطورات الفيزياء وبحلول ”فيرمي” العبقرية للفضاءات الهندسية وغيرها، لقد قدمت بذهنية مغايرة للكثيرين وبتصور مختلف عن الإمكانيات العقلية التي يمكن أن أصبها في قصيدة النثر أو التي من الممكن أن تأخذني إليها لغتها، فما زلت الهث وراء احتمالات اللغة وشدة تحولاتها وإمكانياتها. جئت إليها من انفعال وكبت أصبح طليق اللسان، لأنها طليقة اللسان. بكاءة وتحتفل بالحياة، مخادعة، لطيفة، عاشقة ووقحة، موارية ولكنها ليست مرائية. وهي حياة مستلقية على عمري كله. صـُبّت علي بمشيئة الصدفة و قانون الصدفة، عرفتها مغامرة شقية، مع أشجار الحور و الاكاسيا وأصوات الطبول وحقول الحنطة والذرة ونهر طويل يسمى “العاصي” بمياهه القليلة والمناسبة للسباحة. ملونة بتفاصيل أنفاسنا. شدني إليها دماثة خلقها وحسن سلوكها، طريقها الوعر والصعب والشائك. مسلكها الضيق بزاروبه الطويل وهو يقودني الى ذاتي. وبدأت معها عندما بدأت أخربش في ذاكرتي فعرفت أن مصيري زائل إليها لا محال. وما إن بدأت أتخبط بالضوء وأتلمس بحواسي وقع الأشياء واللون وأتحسس ذراته و غباره وارتكب الحماقات وأفعل ما لا يُفعل،إلا وقد عرفت أن مصيري زائل إليها. وما إن بدأت أضل وانحرف حتى عرفت بأنني أتيقن النثر في حياتي. أفلت من هواجسي وأحاكي تفاصيل الحياة وانسحب على متحول تنسحب هي عليه حتى خمنت بأنني ارتكبها وأخونها وأتسلل إليها من ثقوبها السوداء تلك فكانت لي وكنت لها. عرفتها مطرا بخيوطها المشدودة تلك من السماء الى الأرض وصدى خبط مائه على قلبي. عرفتها ثلجا أثلج روحي ببياضه وبرده. جئت إليها من تخييل الأمكنة، من بطانة نومي وبرودة الجسد، جئت إليها عبر جسمها لأرقد في رقاده. وبنيتها عسل مائع يتدفق من أطرافها، أطرافها النبال التي تغرز في أطرافي.

– تذهب سوزان برنار إلى أن قصيدة النثر هي ”قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة مضغوطة،كقطعة بلور.. خلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجا عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”.
ثمة فراغ في النقد كما أرى. لم أقرأ نقدا حقيقيا وكاملا حول الشعر سوى تهويمات وتنظيرات حول قصيدة النثر، لكنني أحببت منها تنظيرات الشعراء لكتاباتهم أدونيس وأنسي الحاج وغيرهم. وأحببت في قصيدة النثر مجانيتها وتوهجها وايجازها، أحببتها حرة طليقة بثوب فضفاض غير مثقلة بقيم وأفكار كبرى. مكتفية بلغة طرية جذابة واضحة وآنية. غير مترعة ببلاغة ولا نحت ولا تفصيل. تلقائية في عبورها وفي هدرها وفي اكتفائها وانكفائها، عصية على أسلافها. أحببت فيها أنها تخلصت من أسلافها لا بل أنها قتلتهم، وأصبحت عارية مجردة جريئة لا تخيفها نظرات ولا هلوسات في التعليق والتوبيخ. أحببتها، قصيدة عارية مشاهدة،لا مبالية بأحد،سريعة في قرارها وبطيئة في حلولها،لا بل أنها لا تقترح حلولا ولا تبني فضاء. إن جُلّ ما أرى فيها، هو الهدم بقصد الهدم وإعلاء ما كان مهمشا وتهميش المتن. ثقيلة بخفة أحمالها.
وأتذكر مرة عندما سألني الشاعر أحمد الملا (عندما التقينا أول مرة عبد الله السفر وأحمد الملا وأنا في مقهى البحيرة على كورنيش الخبر) عن سبب اختياري لوحة سلفادور دالي للغلاف الأمامي لكتابي ”الفراغ كلب نربيه في البيت” مع أن قصيدة النثر أتت في مرحلة لاحقة من السريالية ولم يكن لدي آنئذ جواب شاف له، سوى إنني أحببت سلفادور دالي دون النظر إلى تاريخ المدرسة السريالية، و انتمائه إليها أم لا. وما يتقاطع معه من كتاباتي، هو معيار الجمالية فقط، تماما كما كتبت قصيدة النثر دون معيارية مرسومة وواضحة في الكتابة. سوى أن تذوقي لها هو مجانيتها العالية ولغتها البسيطة الشفافة المدهشة.التواقة إلى الانفلات والهدم، هدم ما كُرّس عبر قرون. قصيدة النثر التي قتلت الأسلاف وانحرفت بأخلاقية جديدة عن أخلاقية موتاها. وبتضادات مع رموز موتاها وعناصره. إنه زمن عبورها بمتحولاته وتراكيبه وهيجانه وهوسه، زمن قلب الحقائق والموازيين وكشف المطمور منه لترجح كفتـُها.

قصيدة النثر، الكلام المطمئن التواق للغة مطمئنة. الكلام الحريق في الماء. والماء العطش للماء. قصيدة بثقوب سوداء عالية الجاذبية وعالية الضجيج وعالية الامتهان. وعالية ٌ بسحر لونها الأسود، التي تعتم حوله و فيه الألوانُ وتزيّف. والتي يضجّ في لجتها العميقة البياضُ. قصيدة نثر بثقوب سوداء ولون مطلق يمتصُ الضوء وهو ساقط عليها بفعل ثقل فوتوناته وجاذبيتها ونـُمتص نحن بفعل غريزتنا الساقطة في لجتها. إنها صندوق لا يمكن التخمين بحياة ما بداخله، سحر فيه، وتخييل للذاكرة يعج فيه، وانعطاف وانقلاب و انحراف كوني في فضاء كوني. صندوق يبطن احتمالات وتقصيا وتشظيا كونيا آخر.

أذكر بأنني التصقت فيها وألفت حياتها كما ألفت بقربها حياتي. تسللت إليها، وخنتها بأنني سيدتها على الجميع. محوت وتهت فيها. حبوت معها. ربيتها وقمت أحيانا للخصام معها في بيتها. فكنت ارتضي بقليلها واصفّ إلى صف ملائكتها، إلى أ ن تفعل فيّ سحرها، فأرميها رمية نرد لأنها تبطن كل احتمالات السحر والكتابة واللغة. لأنها مفتوحة على كل الارقام بطاقة لا نهائية من العزيمة والتربص. لأنها ضربة حظ نتعثر بها وكل قربان ينحر لأجلها يكون من دمي وكل مطر هو من رذاذها الخفيف يرقد في ذاكرتي.
لا أقف عند تجربتي في الكتابة كونها أضافت أو لم تضف شيئا الى الشعرية العربية المتمثلة في قصيدة النثر حصرا، ولكن مقاربتي للأشياء بلغة بسيطة وإدراكي الحقائق بحواسي الخمسة وهي عارية وبالية ومستقيمة وخاطئة، جعل قصيدتي هي واحدة من آلاف القصائد التي أحدثت انقطاعا في تكامل القصيدة العربية، وبدأت من جغرافيتها في الصعود، وخلق متنفس جديد لذائقة جديدة، وحياة جديدة لقراء جدد، وبذلك لعلها اضافتني إلى القليل من ملائكتها.

زهير الجبوري
ناقد عراقي

التجربة الشعرية ليست خطابا نقديا

1.
إن من دواعي الأخذ بموضوعة الشعر يترتب بوصفه القضية الكونية وما ترتبط به من تأثيرات ميتافيزيقية.. فحين نضع الشعر بقوالب الطرح، فأن تلك الميزات تحتم عليه تحديد توجهاته.. من هنا يجب ان نتعامل بكونه حقيقة مفتوحة أمام هذا الكون، وعليه لا يمكن أن يحدد بأطر مقولبة (وزن وقافية). وحين ننطلق بالشعر بمفهومه المفتوح نسير نحو الخوض بالأفق العالي المتلألأ..لنمسك خلالها الكثير من الشفرات الدلالية للشعر
فقصيدة النثر تحتفظ بكل المقومات هذه، بوصفها تحمل اللغة المفتوحة والقابلة للتشظي (ان صح التعبير).
وبذلك ومن منطلق مقولة (الشعر مادة الخيال)، نجد هذا الانفتاح الكبير واللغة المتعالية أمام الأشياء لم يؤثره الشعر (قصيدة النثر) بالذات، لأنها تحمل الأبعاد الدلالية لثنائية (اللغة والمعنى)، ثم إنها تحيل الادوات الشعرية الى آليات مستحدثة، أي أنها تتلاعب بجسد القصيدة وفق مهيمناتها المعرفية، وهذا ما نجده في تجارب شعرية كبيرة عند أدونيس و خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وسليم بركات وجمال جمعة ومحمد بنيس وعبد القادر الجنابي ومن الجيل الصاعد مازن المعموري وباسم الانصار وولاء الصواف وباسم فرات وخالد البابلي، وغيرهم.

2.
التجربة الشعرية ليست بالضرورة ان تكون خطابا نقديا، لأنها بالذات تشكل اختراق وقطيعة مع الذائقة النقدية السابقة، لهذا هي بحاجة الى التأسيس الابداعي | الجمالي كنصوص شعرية أو سردية، ثم يعقبها مشروع نقدي يقوم بتصويب او خلق مساحات جمالية جديدة اكتشفها الناقد داخل النص الإبداعي، لأن النص الإبداعي بالدرجة الأساس ثم يليه النص النقدي بعده، وهذا أمر واضح على مستوى المعاصرة سواء كان ذلك الأمر في مجال الشعر أو في كافة فروع الإبداع.
بهذا الجزء نقفل هذا الملف معتذرين من الأصدقاء الذي لم تنشر مساهماتهم. وسننتقل قريبا إلى ملف آخر عن قصيدة التفعيلة تاركين لشعرائها فرصة نهش النثريين الجدد والقدامى وقصائدهم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فى ذكرى وفاته.. محطات فنية مهمة للفنان هيثم أحمد زكى


.. محمد إمام يحقق بفيلم اللعب مع العيال أعلى إيرادات مشواره الف




.. مجدي الهواري: السينما حاليا بالاشتراك مع والمنافسة أصبحت مقت


.. كم تقاضى حسن حسني في فيلم الناظر؟




.. النجمة سوسن بدر تتألق بالزي البحريني في ختام مهرجان البحرين