الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعاً عن النظرية الماركسية

فلاح أمين الرهيمي

2024 / 6 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


الإهداء
إلى الشهيد البطل سلام عادل

مدخل : دفاعاً عن النظرية الماركسية
سؤال بقي في النفوس ولد مع ولادة النظرية الماركسية وظل رهاناً وقد برز بشكل كبير بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية وازداد الشك والاتهام للنظرية الماركسية بسبب الكارثة عام/ 1991 التي حلت بالمعسكر الاشتراكي ونهايته.
إن مرجع الماركسية إلى كارل ماركس المضاف إليه أنجلز كجزء عضوي لأنهما معاً أسسا النظرية طريقة جديدة ومنهج جديد بالرغم أن دو أنجلز لم يتجاوز المساعدة ومن ثم شرح لما جاء به ماركس ثم دخله بعد ذلك لينين بسنوات قليلة حيث أصدر كتابه الأول دعم ومساندة لأفكار ماركس (من هم أصدقاء الشعب) ضد الماركسية الشرعية ثم أصدر كتابه الثاني (المادية والمذهب النقدي التجريبي) ضد المنحرفين من رفاقه بالحزب عن الخط الماركسي.
إن الصراع الأساسي عن ماهية الماركسية نشأ منذ ولادة الماركسية في اتجاهين الأول يعتبر الماركسية في الجوهر منهج وطريقة والاتجاه الثاني الذي سار عليه المنحرفين تحويل الماركسية تصور للحياة إلى فلسفة أو إلى نظرية لأن هذا التحول كان يؤدي إلى نتيجتين الأولى قبول جميع نتائج دراسات ماركس ومواقفه التكتيكية قبولاً مطلقاً بدون تمييز التي تؤدي إلى تمذهب في إطار منظومة أيديولوجية بعض ما فيها صحيح علمي وبعضها الآخر افتراضي أي بعضها صحيح في لحظة كتابتها ويمكن أن لا يكون صحيحاً في لحظة أخرى أي بعضها خاص بواقع محدد وربما يستطيع اكتساب العمومية وبعضها لا يستطيع ذلك .. بعضها مبني على معلومات وافرة وبحث عميق وبعضها سريع وصحفي وبالتالي يصبح حدسي أو يستند إلى معلومات غير صحيحة ولا دقيقة وبعضها ناضج وبعضها غير ناضج ومن ثم كان يؤدي هذا التحول إلى إعطاء الماركسية طابعاً محافظاً يؤدي إلى الخضوع لمنطق هيمنة الرأسمالية أو الخضوع لمنطق التنازع القومي كما تبلور ذلك في الأممية الثانية وهذه النتيجة الثانية جعلت الماركسية تفقد دورها الواقعي كقوة تهدف إلى وعي الواقع وتغييره.
كان الغاية من هذا التحليل والشرح هو تفكيك الذهنية وتعيدها إلى حظيرتها الأصلية وتبعد الماركسية عن الفلسفات المسيطرة اللاهوتية القديمة والمثالية الحديثة التي نشأة منذ نشوء البورجوازية وانتصرت بانتصارها وواقعياً كانت تعيد المواطنين إلى رعايا والثوريين إلى إصلاحيين من خلال التناقض بين الطبقة المضطهَدة والطبقة المضطهِدة وهذا هو الطابع المحافظ الذي يلقى على الماركسية ليحولها إلى لون من ألوان الفكر البورجوازي ومن خلال اعتبار كل ما جاء به ماركس كتاباً مقدساً وبالتالي كسر حالة قانون النفي المفترضة لخلق السكون الذي يعني إضافة إلى تناقضه مع الجدل القائم على الصيرورة والحركة وإسقاط الحاجة إلى التقدم النابع من التناقض وقانون نفي النفي من الصيرورة والحركة أي من الصراع الذي كان محرك التاريخ البشري برمته كما توصل ماركس.
هذا ما حاوله أنجلز وهو يحارب المنحرف برنشتاين الداعي إلى تأجيل الثورة الاشتراكية لأن الرأسمالية لا زالت تقدمية .. وهو ما حاوله لينين وهو يحارب الماركسية الشرعية والمناشفة الروسي والمنحرف كاوتسكي ورفاقه في الحزب والأممية الثانية خلال الحرب العالمية الأولى وبعض رفاقه في الحزب بعد ثورة أكتوبر العظمى عام/ 1917 وهو ما حاوله الزعيم ماوتسي تونغ وهو يحاول تمدد واستطالة الستالينية في الصين وما حاوله بعض الشيوعيين الفيتناميين وهم يحاربون الماركسية السوفيتية ومحاولة المفكر غرامشي ولوكاش وآخرين ضمن المسار ذاته لتأكيد أن الماركسية منهجية وطريقة وليست فلسفة.
إذن لابد من إعادة السؤال حول (ما الماركسية) أي حول ماهية الماركسية مع ملاحظة أن مصدر الشرعية قد انتهى والمقصود به الماركسية السوفيتية بانتهاء وتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية التابعة له وهذا يعني انتهت معه كل قوانين (التحريم الكنسي) والهيبة المعنوية والحاجة السياسية ليكون ممكناً تجاوز كل مشكلات الحوار السابقة ولكي يكون ممكناً تحقيق الحوار من أجل أن يصبح السؤال ما الماركسية قيمته الحتمية وموقعها الصحيح ؟. وإذا كانت الماركسية السوفيتية قد تلاشت تبقى المهمة الحاسمة هي في التأكيد على أن الماركسية هي طريقة منهجية وبالتالي في المقدرة على استخدامها كمنهجية ومن أجل أن نصبح ماركسيين ؟ ونتجاوز وعينا التقليدي اللاهوتي النصي والقياسي ونعيد تأسيسه اعتماداً على وعي الواقع وتغييره من خلال الجدل المادي : التناقض والتراكم الكمي الذي يؤدي إلى تغيير نوعي وقانون نفي النفي أي كيف يمكن لدماغنا (عقلنا) أن يكون مادياً جدلياً ويكون الجدل المادي هو وسيلة تفكيرنا.
لقد أجاب أنجلز قائلاً : منذ أن أضحت الثورة علماً أصبح لزاماً علينا أن نعاملها كعلم أي يجب أن ندرسها ولقد استند لينين إلى هذا النص حينما تناول مسألة أهمية الوعي في تحقيق عملية التغيير عندما أراد أن يؤسس حزباً قادراً على تحقيق التغيير وانتصار الاشتراكية ولقد ظل لينين يشدد على هذه المسألة طيلة سنوات نشاطه.
إن الماركسية منهجية / طريقة وإن انهيار النظم الاشتراكية أعاد لهذه الفكرة الجوهرية قيمتها .. فقد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهارت الاشتراكية لكن منطق ماركس لا زال راسخاً ولقد سقطت الاشتراكية لأنها رفضت وعاندت منطق ماركس والذي يدرس منطق ستالين يلاحظ إلى أي مدى كسر ستالين منطق ماركس وكيف حول التناقض ونفي النفي والتراكم الكمي إلى سكون إلى دونما وأعاد إنتاج قياس المنطق النصي باسم الماركسية ولهذا سقوط الاشتراكية يعني سقوط المنطق ما قبل الماركسي وأعاد الروح للماركسية على أنها منهجية وطريقة.
كما أن الأحزاب الشيوعية تعتبر الماركسية نبراس عملها ونشاطها من خلال الاسترشاد بها ولذلك فإن التأكيد على نصوصها الصحيحة هي الأساس والضروري لنشاط الأحزاب الشيوعية والآن في هذه المرحلة يجب الاعتماد على صياغة نصوص ماركسية صحيحة لكي تستطيع التصدي للعولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة وتأثيرات الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي واختراع الرجل الآلي.
يتساءل المفكر مارشال بيرمان (كيف يمكن للماركسية أن تنتهي والرأسمال ما يزال على قيد الحياة ؟).
يقول المفكر الفرنسي غابريل ثوبونودر (1705 – 1785) : إن النظام الشيوعي وجد منذ فجر التاريخ البشري وهذا المجتمع لم يعرف الشرور والأكاذيب إلا مع ظهور الملكية الخاصة.

دفاعاً عن النظرية الماركسية
(الفصل الأول)
كانت سنوات سيطرة ستالين بعد وفاة لينين التي استمرت من 1927 – 1953 (شاذة وعسيرة) في مجال البحث الماركسي لكن التحولات التي شهدتها الدولة السوفيتية وتنامي سيطرة ستالين بدأت تحد من كل ذلك إلى أن حسم ستالين الصراع وفرض رؤية أحادية وأصبحت ملزمة لشيوعيي العالم من مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي عام/ 1934 ومؤتمر الكومنترن عام/ 1935 حيث تحولت الماركسية من نظرية في البحث إلى لاهوت يدعي اكتمال الحقيقة وتجسدها في فلسفة مكتملة مطلقة الصحة ليتحول الهدف من وعي الواقع المتعدد المختلف والمتطور إلى تغييره وفق أسس هذه الفلسفة المكتملة وبالتالي المفروضة عليها من الخارج (الستالينية).
لا شك أن ماركس أكد أن الهدف هو تغيير الواقع لكنه أسس تصوره لتحقيق التغير انطلاقاً من وعي الواقع وليس اعتماداً على تصورات تفرض من الخارج وهذه المسألة جوهرية الرؤية المادية للتاريخ أما ستالين فقد أحدث تحويرين في الماركسية:-
الأول : هو إعلانه اكتمال النظرية الماركسية من أجل صياغتها صيغة شمولية استناداً إلى أفكار ماركس وأنجلز ولينين لكن هذا الاستناد عانى من خلط مزرٍ حيث أجرى اعتبار كل ما قاله هؤلاء صحيحاً مطلقاً في آن معاً مما سهل عليه تحويل الافتراض إلى قانون والنسبي إلى مطلق والخاص إلى عام والخطأ إلى حقيقة ومن خلال كل ذلك جوهر الماركسية ضاعت روحها وتساوى المركزي والفرعي فيها كما تساوى الافتراض والقانون والنسبي والمطلق والخاص والعام والخطأ والحقيقة بتحويلها إلى مركزي وقانون ومطلق وحقيقة ولقد جرى أيضاً تضخيم أفكار وتهميش أخرى من أجل إضفاء طابع التماسك على هذه النظرية / الفلسفة المكتملة وفي هذه العملية انتقلت الماركسية الأصلية (ماركسية ماركس وأنجلز ولينين) وتحولت إلى نظرية مثالية عن جدارة .. ولكن مثاليتها اكتسبت طابعاً لاهوتياً على العموم بمعنى أنها أصبحت رغم أنها نتاج بشر إلى نتائج (قوة خارقة) فوق البشر وتشربت مثالية الاتجاهات الاقتصادية والوضعية والبراغماتية وإن كانت تستند إلى ماركس أو أنجلز أو لينين أو كانت تنطق بكلمات / مفاهيم تبلورت مع ماركس وأنجلز ولينين.

الثاني : يتمثل في قلب المعادلة للعلاقة بين الوعي والواقع من جديد .. فإذا كان ماركس قد أكد على أن الوعي هو نتاج الواقع وتعبير عنه وانعكاس له فهو بهذه الفكرة الجوهرية يؤسس رؤية مادية التاريخ على الضد من الفكر المثالي مما جعل أنجلز يؤكد على أن الموقف من أولويته أحدهما هو ما يميز المادي عن المثالي .. أما الآن فقد أصبحت النظرية / الفلسفة بعدما اكتملت هي محددة الواقع وغدت الماركسية عبارة عن أفكار عامة مجردة يكون حفظها أساس وعي الواقع وتغييره لأنها مكتملة فقد جرى الاستغناء عن وعي الواقع وأيضاً تغييره يصبح فيها الواقع متخيلاً والحلم متحققاً في الذهن فقط .. ولهذا كفت عن أن تكون أداة تغيير وتطوير وارتقاء وغدت منظومة مغلقة وبالتالي محافظة وبدت كذلك بوضوح في الأمم الاشتراكية .. لكنها نتيجة لأهدافها العامة المحولة إلى شعوذات .. بقيت أمل التغيير في الأخرى .. فقد ظلت تحمل حلماً ما وإن بدا في الواقع كوهم نتيجة تحوله إلى حلم طوباوي بفعل إلغاء تأسيسه على الواقع ودمجه في صيرورة واقعية وهو لذلك أسس لشقاء الوعي لدى ماركسي الأمم المتخلفة ولها مشيئتهم في نفس الوقت هذا التأسيس الجديد للماركسية أفقدها كل حيويتها بعد أن أصبحت تسمى وأطلقها ستالين كالماركسية – اللينينية مما جعلها تكتسب جدارة تسمية الماركسية السوفيتية والماركسية الستالينية بعد أن ألغى الأسس التي تجعل هذه الحيوية ممكنة حيث غدت تحدد كل قوانين الطبيعة والمجتمع والفكر وتجعلها مطلقة بمعنى أنها غير خاضعة للنقاش.
لأنها مطلقة الصحة وأصبح الهدف هو تطبيقها فقط لهذا تحولت إلى سياسة مبتذلة وأصبح التكتيك هو جوهر كل نقاش وكل بحث وأصبح التكتيك في ظل التمسك يمثل نظرية مطلقة الصحة تعي الواقع مسبقاً وبالتالي تتجاهل البحث العميق في كل مكونات الواقع الذي يتحول إلى سياسة براغماتية تقوم على المصلحة الآنية مما حول الماركسية إلى أيديولوجيا لتبرير المصالح الآنية المؤقتة وأصبح البحث النظري هو بحث في تبرير مصالح آنية ضيقة الأفق لتبرير التكتيك وأصبحت هذه سمت كل الأبحاث الماركسية في الاتحاد السوفيتي ولدى معظم ماركسيي الأمم الرأسمالية ومنها الماركسية الأوربية بالرغم من تمرد قلة على هذه الماركسية فحاولوا وعي الواقع انطلاقاً من المنهجية الماركسية ماوتسي تونغ وهوشي منه وكاسترو وجيفارا حاولوا تقديم بحث ماركسي جاد في العديد من القضايا الرأسمالية في التخلف والتبعية والقومية وأنماط الإنتاج وعلم الجمال والأخلاق إلا أن هيمنة الماركسية الستالينية كانت تعني تهميش هؤلاء وتضييق الحدود المقيدة على أبحاثهم وفي كل الأحوال كانت تجعل تطور البحث الماركسي أمراً صعباً.
بهذا تشكلت أزمة الماركسية التي قدمت قانونيات عامة لم تتطور ووضعت افتراضات ثبت خطأ بعضها وتجاوز الزمن البعض الآخر لأن الواقع في صيرورة دائبة فقد بدت تصوراتها قديمة كما أنها لم تكن قد أحاطت بغنى الواقع فظلت قضايا كبيرة دون روية وربما كان ماركس وأنجلز ولينين والعديد من الماركسيين الآخرين قد قدموا أفكاراً حولها أو حول بعضها ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى قوانين أو إلى رؤى مكتملة لذلك :
1) لم تتضح التصورات حول مسائل أساسية تتعلق بالواقع والتاريخ والطبيعة والمجتمع والفكر.
2) لم يتحدد بدقة معنى جوهر الماركسية.
3) لم تدرس التطورات التي طالت العالم في الاقتصاد والسياسة والفكر والعلم لتبدو الماركسية في أفضل الأحوال رؤية حالمة لكنها قاصرة على الرغم أنها طورت كل مجالات الفكر البورجوازي.
لقد ظلت تلك النظرية / الفلسفة المكتملة خاضعة لأزمة أخفتها وأحياناً قهرتها حينما قهرت محاولات البحث فيها من أجل تسيدها على اعتبار أنها الماركسية بحق!! ولكن الأزمة كانت قائمة تكبر وتتفاقم وجرى تسييد (الماركسية الستالينية) التي جعلت العودة إلى الأصول تكتسي طابعاً تقديسياً نصوصياً أي لاهوتياً كما بدت آراء ماركس وبالتحديد بعضها كقوانين مطلقة الصحة من جديد وكذلك بدت آراء ماركسيين آخرين (كاوتسكي بليخانوف تروتسكي وحتى برنشتاين) وكأنها الأكثر صحة وبالتحديد الأفكار ذات الطابع السياسي والخاصة بالثورة الاشتراكية حيث أصبحت فكرة ماركس عن الثورة الاشتراكية في الأمم الرأسمالية المتقدمة هي الصحيحة فقط وذلك على العكس من فكرة لينين التي فتحت أفق تحقيق الاشتراكية بعدما تقادمت فكرة ماركس على ضوء تطور الرأسمالية بالذات فغدت فكرة وهمية ونتيجة الشعور بتقادمها استخدمت كنفي لفكرة لينين فقط وجرى خلطها بفكرة برنشتاين عن استمرار الرأسمالية بتجديد ذاتها وبالتالي تحقيق تطور ثوري مما جعل الثورة الاشتراكية سابقة لأوانها مع إيمان بقصورها عن تحقيق تقدم الأمم المتأخرة القائم على أساس انتصار الرأسمالية فيها وفي هذه المسألة بالتحديد جرت العودة إلى المنحرف بليخانوف والمناشفة وإلى الأممية الثانية عموماً وهذا هو أساس نفي اللينينية وتشويه لينين وتحميله وزر التجربة الاشتراكية كلها.
إن الماركسية الستالينية والماركسية السوفيتية هما السبب في ذلك بل إنهما نتيجته نتاج ظروف مجتمع متخلف لأن هذا النمط من الماركسية انتشر في الأمم الرأسمالية عالية التطور كما في الأمم المتخلفة ولم يكن انتشاره قسرياً وقد سكنت وعي عموم الماركسيين لأن هذا الوعي يقبل اليقين ويحتاج إلى الركون إلى مفاهيم وأفكار بدت صحيحة لأنها انتصرت أي في العقل المفرط وفي جموده الذي كان مهيأ لاعتناق المفاهيم المبسطة والمطلقة العقل المقدس.

ما هي الماركسية ..؟
إن السؤال مهم إلى أبعد الحدود وحاسم في الوقت نفسه وإن الإجابة عليه ركناً مهماً من وعي الماركسية ومن التعامل معها :
1) المستوى الأول : تأسس على ضوء الاقتناع بأن الماركسية هي أفكار ماركس وأنجلس أولاً ومن ثم أفكار آخرين (لينين وتروتسكي وماوتسي تونغ وكاوتسكي وبرتشتاين وروزا لوكسبورغ) وهنا يقوم المعتقد على أساس الصحة المطلقة لأفكار هؤلاء وبالتالي فكل ما قاله ماركس صحيح ولهذا تتحول كل فكرة لديهم إلى قانون وكل تصور إلى نظرية وأصبحت الماركسية هي عموم تراث ماركس وأنجلز أولاً ومن ثم لينين وتروتسكي وستالين وبرنشتاين وماوتسي تونغ وكاوتسكي.
2) المستوى الثاني : يبدو ماركس وأنجلز ولينين وبرنشتاين وتروتسكي أوماو كنبي معصوم قدم رسالة ناجزة ومقدسة .. إذن من الذي يمكن أن يشكك في هذه الفكرة أو بما كتبوا ؟ لقد انقلبت المعايير هنا فبدلاً من أن يكون الواقع هو محدد الصحة للفكرة من عدمها أصبح الإنسان هو المحدد وفي ذلك عودة من عصر ربط صحة الأفكار بواقعيتها إلى عصر تم ربط صحة الأفكار إلى فرد مقدس .. ولقد عانت الماركسية من هذا المرض منذ ماركس الأمر الذي دفعه الإعلان بأنه ليس هناك ماركسياً لتصبح الأفكار في هذه الحالة مقدسة ومتعالية ومطلقة. فهل إن كل أفكار ماركس وأنجلز صحيحة ؟ هل هي منسقة مع روح الماركسية ؟ مع البنية العامة للماركسية ؟ هل هي مطابقة للواقع الصائر والمتغير والمتحول ؟ الإجابة قامت على أساس أن كل أفكار ماركس صحيحة ومن هذه الإجابة تأسس اللاهوت الماركسي على اعتبار أن الماركسية أصبحت بصفة مذهب أودين وهل تعتبر على ضوء ذلك أن كل أفكار الماركسيين الآخرين المعتبرين من أعلام الماركسية صحيحة مطابقة لماركس وأنجلز.
إن الإجابة بأنها صحيحة ومطابقة لأفكار ماركس وأنجلز على اعتبار أن هؤلاء مفسرون صادقون للماركسية ومطبقون لها .. وهنا اندمج التفسير باللاهوت ليصبحا معاً اللاهوت لكن اللاهوت وتناقض المفسرين تصبح الماركسية ماركسية لينينية وماركسية ستالينية أو تروتسكية أو برانشتية أو شيوعية أوروبية .. الخ.
إذن هل أن جميع تراث ماركس وأنجلز وغيرهم هو الماركسية ؟ بالمعنى العام .. نعم لأنه نتاج ماركس وأنجلز .. قال ماركس وأنجلز مرة بأن في (البيان الشيوعي) أفكاراً شاخت .. فهل نعتبر هذه الأفكار التي تجاوزها الزمن ماركسية ؟ ويمكن اليوم القول عن العديد من الأفكار شاخت لأن الصيرورة الواقعية تجاوزتها أو أنها أبانت خطلها .. إن الخلط بين تراث ماركس والماركسية يؤسس لقلب الماركسية من علم إلى فلسفة ومن رؤية مادية إلى رؤية مثالية من هذا المستوى تحددت الماركسيات انطلاقاً من فعل انتقائي خاضع لمصالح ضيقة وهي أحياناً مصالح طبقية وأخرى قومية وثالثة إنسانية.
3) المستوى الثالث : تأسس انطلاقاً من تحديد انتقائي للماركسية واتخذ أشكالاً عديدة أهمها الماركسية السوفيتية أي الستالينية وهي تقونن الماركسية حيث حددها بأنها (فلسفة) هي فلسفة الماركسية وأكدت بأنها علم خاص وعلم فلسفي ولهذا أسمتها الفلسفة الماركسية اللينينية وهنا يبرز الضياع بين العلم والفلسفة واضحاً وأصبح منطق هذه الماركسية حيث أسست كتصور فلسفي ومقولات عامة تخص الطبيعة والمجتمع والتاريخ والفكر لكن باعتباره تصوراً علمياً. من أين نبعت علميته ؟ من استناده إلى ماركس وأنجلز فقط أما كونه فلسفة فلا شك في ذلك لأنه أسس لمقولات عامة مجردة صيغت وفق بناء محدد استناداً إلى أفكار ماركس وأنجلز.
وفق منطق خلط نسبي ومطلق خاص وعام الخطأ والحقيقة وبالتالي فقد أسس الفلسفة لأنه جرد المجرد فأبقى الفكر لعبة ذهنية حيث انتفت فكرة ماركس القائلة : الواقع يولد الفكر الذي بدوره يخضع للواقع ليعاد تكريس فكرة الفلسفة القديمة حيث الفكر يولد الفكر وهو الذي يؤسس الواقع وهكذا أهمل الطابع المادي للماركسية واستعيض عنه بتأكيد فكرة علمية هذه الفلسفة بكونها تطابق الواقع لتبزغ فكرة هيغل من جديد القائلة : أن الفكر هو الذي يصنع الواقع بعدما كان ماركس قد هدمها وبهدمها هد منطق الفلسفة القديمة وفتح أفق تأسيس طريقة جديدة تقوم على فكرة أن الواقع هو محدد الأفكار وبذلك أسقط المتعالي ليؤسس المقولة : واقع فكر واقع وهي عكس فكرة هيغل القائلة: فكر واقع فكر في الفلسفة الماركسية اللينينية وأعيد هيغل لكن هيغل الرث (كاريكاتور هيغل) وانتفت الماركسية جراء إحياء الفلسفة القديمة لكن بمقولات جديدة وللأسف تحمل اسم ماركس حيث جرت قولبة أفكار ماركس المنتقاة أو المحورة في بينة فلسفية متعالية لتسود مقولة الفلسفة الماركسية مكررة وبهذا انتظمت الماركسية في صيغة شاملة أعطيت عناوين مثل المادية الجدلية حيث جرى تكرار أفكار ماركس في هذا المجال لكن في قالب ذهني خالص حيث فسرت بطريقة تشكل خلل في طابعها المادي وأحياناً بإسقاط بعض عناصرها الجوهرية مثل إسقاط ستالين لمقولة الجدل الأساسية هي الفريضة / النقيض ونفي النفي ومنها المادية التاريخية حيث صيغ التاريخ وفق صورة ناجزة استناداً إلى أفكار ماركس غير الناجزة والاقتصاد السياسي المستند إلى ماركس في تحليله للرأسمالية لكن بشكل رث والاشتراكية العلمية المستندة إلى أحلام ماركس لكن المنظرة لتجربة الاشتراكية بالأساس وعلم الأخلاق الماركسي وعلم الجمال الماركسي وفي هذه الصيغة الناجزة أصبح لكل مسائل الطبيعة والمجتمع والتاريخ والفكر قوانينها المحددة فتساوى الجدل المادي المسمى المادية الجدلية كمقولة بالمقولات الأخرى وبالتالي أخرج من كونه طريقة للتفكير لنشاط العقل ليتحول إلى زائدة إلى شكل فلسفي بدل أن يكون أداة (طريقة) وعي الواقع وتحويله حيث غدت لكل الفروع الأخرى من بينها النظرية المتكاملة وقوانينها التي لا تحتاج إلى أداة تحليل (منهجية) لقد تحددت في قوانين وبذلك لا يعود من قيمة للجدل المادي في البحث في التاريخ مثلاً لأن المادية التاريخية حددت التاريخ مسبقاً (في صورة سابقة) ليكون الهدف من دراسته هو التقاط ما هو متوافق مع هذه المادية التاريخية وكذلك في الاقتصاد السياسي وفي الاشتراكية العلمية، وفي علم الأخلاق ... الخ وعادت العلاقة بين الفكر والواقع فانقلبت بعدما كان ماركس قد أوقفها على رجليها وهذا ما أشار إليه ماركس حين قال بأنه أوقف هيغل على قدميه بعدما كان يقف على رأسه.
إن نقطة ضعف هذه المنظومة الفلسفية (الفلسفة الماركسية اللينينية) تتمثل في أنها أسست بنية ذهنية مغلفة بتأسيس قوانين الطبيعة والمجتمع استناداً إلى بنية ذهنية هي البنية الذهنية لماركس دون اعتبار للواقع ثم أنها ساوت الجدل المادي بالقوانين الأخرى التي أوجدتها حيث حولت نسبي ماركس إلى مطلق وخاصهُ إلى عام والخطأ إلى حقيقة دون إنضاج البحث في كل المجالات التي بحث فيها والتي لم يبحث فيها.
لقد فصم ماركس إلى نصفين .. ماركس الشاب ما قبل رأس المال وماركس العالم مع رأس المال وبالتالي شطب نصف الماركسية مهملاً كل أفكار ماركس الشاب أي عقدين من نشاط ماركس كونها تنتمي إلى الأيديولوجيا مؤكداً على الطابع العملي (رأس المال) ولذلك فقد استند إلى ماركس الناضج لتأسيس علم التاريخ تتحدد فيه الماركسية بكونها علم التاريخ.
إن الماركسية علم أولاً وليست أيديولوجيا وهي علم للتاريخ ثانياً وبالتحديد لهذا فهي تدرس القوانين الموضوعية لحركة التاريخ والتوسير في هذه النقطة حور المنهجية الماركسية لتصبح منهجية التراكم فقط مما جعل الرؤيا تنتمي إلى الاتجاه الاقتصادي في تحليل التاريخ الراهن وتحديد المستقبل .. لهذا اعتبره المفكر الفرنسي روجيه غارودي مجدد للستالينية .. إنه مجدد النزعة الاقتصادية في الستالينية المستمدة من بعض الاتجاهات في الأممية الثانية التي كانت تفصل في المنهجية الماركسية بين مقولة التراكم الكمي الذي يفضي إلى تغيير نوعي والتناقض والنفي النفي مستلهمة المقولة الأولى ومسقطه المقولة الثانية مما جعله يشط بالتحليل إلى تأكيد إطلاقية القوانين الموضوعية بمعزل عن دور العامل الذاتي (علاقة الذات بالموضوع) وبهذا أصبحت الماركسية هي علم التطور الموضوعي للتاريخ فقط.
على الضد من هذه الفكرة وأساساً على الضد من الستالينية تحددت الماركسية في صيغة تصور (إنساني) وهي بالتالي نزعة إنسانية وليست علماً أو فلسفة أو حتى أيديولوجيا .. وهنا فصم ماركس من جديد ولكن بشكل معكوس حيث أهمل ماركس الناضج / العالم لمصلحة ماركس (الشاب) وخصوصاً بالاستناد إلى الكتابات الأولى له ليتحول ماركس إلى إنساني بفضح اغتراب الإنسان في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية وفي ظل كل سلطة استبدادية (السلطة الاشتراكية بالتحديد) في هذا سقطت البروسترايكا وسقط وجودها حيث جرى افتعال تناقض في الماركسية بين الطبقي والإنساني للتأكيد بأن الميل الطبقي في الماركسية كان على حساب الإنساني وبالضد منه وليبدو الميل الطبقي كقهر إنساني بالرغم من أن الماركسية أكدت بأن صراع الطبقات يهدف إلى إلغاء اغتراب الإنسان من خلال نفي استغلال الإنسان للإنسان وبأن إلغاء الملكية الخاصة الأساس لإلغاء الطبقات يهدف إلى تحقيق الحل الجذري لمشكلة الاغتراب لأنه يهدف إلى إلغاء مبدأ الاستغلال وبالتالي ليس من الممكن فصم الميل الطبقي عن النزعة الإنسانية في الماركسية إلا إذا كان الهدف من هذه المعارضة بين الطبقي والإنساني هو نفي الميل الطبقي في الماركسية لمصلحة إنسانية لا تعني سوى تكريس الاستغلال أي تكريس الميل الطبقي معكوساً بتجاوز الصراع الطبقي والتأكيد على الإنساني بين الطبقات المستغِلة والمستغَلة (المالكة والمنتجة).
4) المستوى الرابع :
الماركسية لم تتشكل من فراغ فقد أفاد ماركس من الأبحاث الاقتصادية البورجوازية وخصوصاً من الاقتصاد السياسي الانكليزي (آدم سمث) ومن الفلسفة الألمانية (هيغل) ومن الاشتراكية الفرنسية (سان سيمون) ومن الفكر الليبرالي البورجوازي (فيما عدا الفكر الليبرالي) هي مصادر الماركسية الثلاثة حسب قول لينين لكن ماركس لم يحقق تراكماً فيها فقط بل حقق تغيراً نوعياً ليشكل منها نظرية جديدة وبالتالي أنتجت هذه المصادر الأربعة بنية واحدة .. كيف تحقق ذلك ؟ لاشك في أنه اعتمد مرتكزاً من أجل تحقيق التطوير فيها يؤهل لتأسيس نظرية جديدة ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذا التغيير النوعي لم يتحقق دفعة واحدة فجأة بل إن ماركس حقق تراكماً في هذه الحقول أهله في لحظة محددة لأن يحقق التغيير النوعي .. وهنا تقع كتابات ماركس (الشاب) ورأس المال هو هذه النقلة النوعية ولاشك .. لكن ذلك لا يلغي التراكم السابق بأي حال من الأحوال ولا يعني أيضاً أن كل ما كتبه ماركس قبل هذه النقلة وبعدها يعتبر صحيح وحين يشار إلى تحقيق هذا التغيير النوعي فهو المركز الأساسي الذي بدونه لربما كان ماركس مفكراً بورجوازياً .. لاشك في أن قيمة هذه المصادر الأربعة تكمن في تأكيدها الشمول في الماركسية بمعنى أنها تبحث في أمور الطبيعة والمجتمع والفكر بصفتها بنية تتجاوز المنطق البورجوازي الذي كان يعتبرها حقولاً متجاورة لكن مستقلة حيث كانت الماركسية تضميناً وتجاوزاً لهذه المصادر في الوقت نفسه .. لهذا فهي تبحث في الاقتصاد السياسي وفي الفلسفة وفي المجتمع وفي الفكر لكنها أيضاً تؤسس مقولات تبحث في هذه المجالات انطلاقاً منها وهنا تقدم الفلسفة لأنها من أم المقولات ولذلك فإن أساس ما ضمّن ماركس فكره هو الجدل الذي يعتبر لب الفلسفة القديمة وقمة تطورها والذي على ضوئه وانطلاقاً منه أعاد صياغة الاقتصاد السياسي والاشتراكية والسياسية والأخلاق مضمناً فكره في الوقت نفسه بما هو علمي فيها وبهذه المعادلة أسقط (التأمل النظري) الذي هو الفلسفة بمعناها القديم وأسس طريقة جديدة تقوم على البحث في الطبيعة والمجتمع والفكر انطلاقاً من ذلك (اللب) الذي هو الطبيعة والمجتمع قبل أن يكون الفكر .. حيث أن كل هذا البحث الفلسفي طيلة قرون من الزمن أوصل أخيراً مع هيغل إلى تحديد قوانين الصيرورة الاجتماعية بشكل مجرد نظري تأملي وكانت الماركسية هي الانتقال من البحث المجرد (التأملي) إلى البحث المشخص وانتقال من الجزئي إلى الشمول مع الاحتفاظ (تضمين) بالمجرد الجزئي) .. إنها بالتالي صيغة تدمر (فصام العقل) بين العقل المجرد (الفلسفة) والعقل العلمي (علوم الطبيعة والمجتمع) دون إلغاء أي منهما إنها صيغة تدمير الفصام بين التجربة القائمة على الممارسة والفكر كذلك وصيغة تدمير الفصام بين العفوية والوعي وهي صيغة البحث في مختلف مناحي المجتمع (الطبيعة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والفكر والدولة والتاريخ والأخلاق والفن) وبذلك تحول الجدل من صفته المثالية إلى صفته المادية وتحول من البحث في قوانين الفكر فقط إلى البحث في قوانين الطبيعة والمجتمع أيضاً انطلاقاً من أولوية الطبيعة / المجتمع.
الماركسية إذن هي الجدل المادي أولاً وبالأساس ودون هذه الأولوية الأساسية تفقد الماركسية طابعها وتساق في نسارب الفكر البورجوازي وتتكيف مقولاتها الأخرى والمنطق البورجوازي ويصبح ممكناً تطويعها وإذا كانت عملية التطويع تطال الجدل المادي أحياناً سواء من خلال التأكيد على الطابع الجدلي وشطب المادية (الجدل الهيغلي) أو من خلال التأكيد على الطابع المادي وشطب الجدل (المادية الميكانيكية).
الجدل المادي هو أساس الماركسية إذن وماديته تنبع من أنه لا يبحث في الفكر المجرد بل في الواقع والطبيعة والمجتمع وفي الفكر عبر الواقع لأنه انعكاس (معقد طبعاً) له ومهمته تكمن في وعي الواقع وتغيير وإنه بالتالي المقولات التي تنظم نشاط (العقل) من أجل وعي الواقع وعياً علمياً (أي مطابقاً) إلا أن البحث في الواقع يوصل إلى مقولات عامة ولكن بالرغم من أنها غدت مقولات فهي لا تجب الجدل المادي بل تلحق به وتعتبر مكملة له ويقود استخدامها دونه إلى شطط وضلال إلى خطأ وريغان وهنا يبدو أن الماركسية ليست الجدل المادي فقط بل كل المقولات الأخرى لهذا تعتبر الماركسية هي أولاً وبالأساس الجدل المادي ولهذا يمكن التأكيد بأن المنهج هو أساس الرؤية الذي يبحث في الواقع لينتج مقولات جديدة لتعود إلى المنهج مركباً ولكن من الضروري تحقيق التمييز الضروري بين المنهج والمنهج المركب حيث يبقى المنهج هو (لب) المنهج المركب والأصل فيه ولأن المقولات الأخرى أكثر تحديداً فهي تلمس حقولاً محددة وبالتالي من غير الممكن تطبيقها على حقول أخرى ومن خلال ذلك بأن الماركسية هي الجدل المادي وبالأساس يضاف إليه مع كثير من الحذر عدد من المقولات وإذا كان ماركس أحال إلى جدل هيغل مع توضيح الخطوة الهائلة التي حققها فإنه لم يقدم رؤيته للجدل المادي موضحاً ذلك في نصٍ خاص وفي رأس المال يبدو استخدامه له واضح وهو يشير إلى ذلك أنجلز في صياغة (قوانين) الجدل المادي مبسطاً اياها في ثلاثة هي : (التناقض والتراكم الكمي المفضي إلى تغيير نوعي ونفي النفي) ولكن لابد من التوضيح بأن أساس مفهوم الجدل يعود إلى هيغل لهذا يجب أخذ قوانين الجدل الهيغلية بعين الاعتبار وبالتالي توسيع الجدل الماركسي بهذه القوانين ورد الجدل الماركسي إليها .. ولهذا تنشأ مقولة التناقض الأساسي والتناقض غير الأساسي ومقولة التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي كما تستدعي مقولات التناقض الأساسي والتناقض غير الأساسي والتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي وتتداخل مقولة التراكم ليبدو نفي النفي كنتاج لكل ذلك وبالتالي فهي أساس كبير لوعي الواقع وتغييره الذي حققه ماركس لتبدو إذن كمقولات فاعلة في تركيب ذهني خصب لأنها بنية معقدة يظل الزيغان ممكناً لهذا اتهم لينين ماركسياً كبيراً هو بليخانوف بأنه لا يعرف الجدل كما انتقد بوخارين الذي أقر له بثقافته الواسعة بأن تحليله يفتقد الجدل كذلك انتقد لينين (الماركسية الشرعية في روسيا نهاية القرن التاسع عشر وأكد لينين على الجدل معتبراً أنه (حجر الزاوية) في الماركسية وربما كان لينين الأكثر تنبيهاً لقيمة الجدل المادي وفي كتابه (المادية ومذهب النقد التجريبي) تحليل لعلاقة النسبي بالمطلق ولا تنسى ملاحظات أنجلز على بعض الماركسيين الذين حولوا العامل الاقتصادي إلى عنصر وحدي في رؤية ماركس.
ما الماركسية إذن ..؟
إنها الجدل المادي أولاً وبالأساس وعدد من المقولات التي تخص الطبيعة والمجتمع والفكر .. وبهذا فليس كل تراث ماركس ماركسية وليست كل الأفكار والتصورات والمقالات الصحفية والملاحظات ماركسية .. إنها افتراضات يجب أن تخضع للتقييم انطلاقاً من الجدل المادي أولاً ومن الواقع ثانياً .. لكي يكون ممكناً التأكيد بأنها ترقى إلى مستوى المقولات والقوانين .. أو إنها افتراضات فقط أو إنها زائفة ينبغي التأكد من أنها كانت صحيحة وفي ظروف أواسط القرن التاسع عشر وبالتالي لا ترقى إلى مستوى المقولات والقوانين .. أو إنها خاضعة إلى تلك الظروف .. وفي كل ذلك مجهود الإعادة تأسيس صياغة الماركسية لإعادة إنتاجها من جديد .. وهذه مسألة في غاية الأهمية حيث تبدو مسألة الإعادة المتكررة لإنتاج الماركسية مسألة لصيقة بها ومن مكوناتها الأساسية أي من بديهياتها ويكمن أساس ذلك في ثلاث مسائل هامة :
- الأولى : تدقيق الماركسية وتنظيمها وتأكيد تماسك بنيتها.
- ثانياً : تراكم المعلومات المتتالية حول المجتمع والتاريخ الذي يفرض الفحص لافتراضاتها ومقولاتها ومن ذلك صيرورة التطور العالمي.
- ثالثاً : المكتشفات العلمية والحقائق التي يتوصل إليها الفكر البورجوازي وهو يبحث في أزمات الرأسمالية ومشكلاتها وممكنات تطورها.
وبهذا فالماركسية (أفق مفتوح) لا تقبل التقولب في صيغة مكتملة ونهائية وترفض التحزب وبالتالي التحول إلى صيغة مبتذلة للصراع الأيديولوجي لتقبل كل الحقائق بغض النظر عن منتجها .. إنها عملية إعادة إنتاج مستمرة استناداً إلى الصيرورة الواقعية .. إلى حركة الواقع الدائبة في الطبيعة والمجتمع والفكر .. لكن ذلك لا يعني غياب (اليقين) .. لقد أكدت أن الماركسية هي الجدل المادي بالأساس وهذا هو اليقين الوحيد أو النقل المطلق الوحيد إلى الآن .. مع التنبيه على فهم الماركسية لعلاقة النسبي المطلق حيث يتحول المطلق في لحظة إلى النسبي بالمطلق حيث يتحول المطلق في لحظة إلى نسبي وفي أخرى لا يتحقق ذلك إلا بتحقيق تخولات عميقة في بنية المجتمع ومنها (العلوم الطبيعية) ولهذا استقر (منطق أرسطو) لما يقارب من العشرين قرناً وبالتالي يجري حول الجدل الماركسي إعادة إنتاج الماركسية بشكل مستمر.

دفاعاً عن النظرية الماركسية .. الفصل الثاني
السؤال المطروح منذ الماضي حيث كان يشق الحركة الماركسية إلى اتجاهات واليوم يعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكية وبالتالي انهيار طريقة في وعي الماركسية جرى الترويج لها من قبل منظري الدولة الاشتراكية ليعود السؤال بشكل أكثر حدة بسبب التحدي الذي نشأ نتيجة عملية الربط الميكانيكي بين الماركسية والاشتراكية المتحققة من قبل الماركسيين أنفسهم كما من قبل المعادين للماركسية والاشتراكية كذلك.
1) ما هي الماركسية ؟ :
الماركسية هي في الجوهر (بالأساس) طريقة وعي الصيرورة الواقعية ووعي دور العامل الإرادي فيها وبالتالي فهي القوانين الأكثر عمومية (تجريداً) والأكثر خصوصية في نفس الوقت.
أي أنها القوانين الأكثر عمومية التي تقضي اكتشاف القوانين الأكثر خصوصية، يقول أنجلز : إن الديالكتيك هو قانون الصيرورة في الطبيعة والمجتمع والفكر المتوافق مع قوانين الصيرورة في المجتمع والذي يقدم مفاتيح أو أساسات اكتشاف الصيرورة في المجتمع هنا يرتبط الفكر بالواقع في الماركسية .. لكن يؤشر إلى أن الفكر يستنقذ الواقع ولا يحدد مساراته مرة وإلى الأبد بل لابد من أن يرتبط بالزمان والمكان وبالتالي لكي تبقى الماركسية حية لابد أن يعاد إنتاجها.
الماركسية طريقة في التفكير منهج بالأساس قبل أن تكون نظرية أو فلسفة أو أيديولوجيا أو علم هذا ما نلمسه لدى ماركس في مقدمة (رأس المال) حيث يشدد على أهمية الجدل المادي وهذا ما يحاول أنجلز توضيحه في (ضد دوهرنج) وديالكتيك الطبيعة وهو ما يعتبره لينين (حجر الزاوية) الذي أرساه ماركس ولينين في كتاب (من هم أصدقاء الشعب) يعلي فيه قيمة الجدل المادي وكتاب (مقدمة رسائل ماركس وأنجلز).
2) منشأ الجدل المادي :
لكي نحدد كيفية تشكل الجدل المادي لابد من العودة إلى الفلسفة الألمانية على وجه التحديد حيث كانت وصلت إلى الذروة الفلسفية مع (هيغل) صانع الجدل استخلاصاً من كل المفكرين السابقين وبالعودة إلى أرسطو وكل الفلسفة القديمة حيث أوصلها إلى منتهاها المحدد في الشكل الأكثر تجريداً (الطريقة) لكن في رهاب متناقض معها (المنهج) وهذا يفرض العودة إلى ديكارت الذي عمل على تدمير المنطق القديم منطق أرسطو من خلال نزعة الشك ثم كانط إلى هيغل قيمة ماركس أنه دمر القشرة التي كانت تغلف طريقة هيغل قد دمر الفلسفة بصيغتها القديمة وفتح الطريق أمام علم جديد لا مكان فيه للتأمل الهارب من الواقع .. لقد قلب ماركس جدل هيغل بتحويله من جدل الفكر إلى جدل الواقع وبضمنه الفكر من خلال تحديده أولوية الطبيعة على الفكر معتبراً أن الفكر هو نتاج الواقع وليس صانعه وبهذه العملية أعلى من قيمة الجدل بعدما غدا مادياً .. وإذا كان منطق أرسطو مطابقاً للعصر الزراعي لهذا ساد طيلة العقود السابقة على الرأسمالية وبدأ بالتفكيك مع تقدم الرأسمالية .. فلم تفعل المحاولات البورجوازية الأولى (ديكارت ، كانط هيغل) سوى تمهيد الطريق لنشوء منطق ماركس المطابق للعصر الصناعي.
ولهذا ظل هو المنطق الوحيد رغم محاولات الفكر الرأسمالي إنتاج منطق خاص به .. لكن نلاحظ أن كل محاولات الرأسمالية إنتاج (فلسفة) أو علم وكل التيارات التي يمكن أن تربط بالفلسفة انطلقت من هذه الفكرة أو تلك من الماركسية دون أن تستطيع تأسيس منطقها الخاص :
‌أ. البراجماتية التي انطلقت من مفهوم المصلحة.
‌ب. الوجودية التي انطلقت من مفهوم الاغتراب.
‌ج. البنيوية التي انطلقت من مفهوم البنية.
وبعض هذه التيارات (اوجودية والبنيوية) يرتبط (ربط نفسه) بهذا القدر أو ذاك بالماركسية. وإذا كان الفكر الرأسمالي ينزع إلى التخصص .. إلى التجزئة على الضد من الشمول فقد تأثرت كل فروعه بالماركسية (علم الاقتصاد) وعلم الاجتماع على وجه التحديد وحتى علم السياسة .. لكن الطريقة (المنهج) ظلت غائبة عن الفكر الرأسمالي.
3) المنهجية والأيديولوجيا :
في الماركسية ثمة منظومتان .. المنهجية والأيديولوجيا .. والمنهجية هي المنطق .. الطريقة .. آليات عمل الفكر .. أما الأيديولوجيا فهي كل التصورات المتعلقة بالواقع .. المؤسسة على ضوء المنهجية .. والمنهجية هي القانونيات المجردة (المطلق) .. أما الأيديولوجيا فهي المتعلقة بواقع محدد .. كما بزمان محدد .. وهي هنا نسبية .. هذا التمييز ضروري بل حاسم في وعي الماركسية لأنه يميز بين الجوهري والعرض فيها لكي لا تتحول إلى (نص مقدس) وهي لا تحتمل القداسة لأنها نص (مفتوح) نص معاد نتاجه عبر الصيرورة .. فإذا كانت المنهجية هي الصيرورة .. هي آليات الصيرورة الواقعية (من هنا يأتي طابع إطلاقها) فإن الأيديولوجيا (متحركة) بمعنى أنه يجب إعادة إنتاجها في الصيرورة عبر المكان والزمان .. وهي عملية تجعلها قادرة على استيعاب الواقع في صيرورته (الاقتصادية/ الاجتماعية/ الفكرية/ السياسة العلمية/ الثقافية) وعبر هذه العملية تسقط أفكار وتنشأ أخرى جديدة .. ولكن أيضاً (تثبت) الأفكار تتأكد كمعالم .. وعلى ضوء ذلك يجب نفض تراث ماركس وغربلته ولكن انطلاقاً من التمسك بالمطلق فيه والمقصود المنطق/ الطريقة أي الجدل المادي – فماركس صاغ تصوراته انطلاقاً من هذا .. وإن كان لم يشرحه بشكل مستقل .. وهو ما حاوله أنجلز في (ضد دوهرنج) والجدل هو ما اعتبره لينين جوهرياً في الماركسية.
4) في الجدل مستويان :
الأول : العناصر الجوهرية .. وهي كما شرحها أنجلز ثلاثة : (التناقض والتراكم الكمي المفضي إلى تغيير نوعي والفريضة والنفي/ نفي النفس) وهذه العناصر بلورها هيغل واعتبرها ماركس لب الفلسفة القديمة وهي جوهر الصيرورة.
الثاني : العناصر الأخرى المكملة لكنها متداخلة مع المستوى الأول وهي موضوعات الفلسفة القديمة لكن أعيدت صياغتها جدلياً بإلغاء التضاد الذي كانت تضعه تلك الفلسفة فيما بينها ومنها الفكر، والواقع وإعادة صياغة العلاقة بينهما لمصلحة أولوية الواقع هي التي أفضت بماركس لأن يوقف جدل هيغل على قدميه بعدما كان مقلوباً على رأسه .. ذلك الشكل والمضمون .. الذات والموضوع المجرد .. والمشخص .. العام والخاص .. النسبي والمطلق .. الجزء والكل .. الوحدة والكثرة .. الممكن والضروري. وكذلك يمكن أن نلاحظ بأن المنطق الشكلي متضمن هنا وكذلك منطق الشك.
هذا المستوى في (العقل المجرد) أما في مستوى (العقل العملي) فإن هذه العناصر تتمظهر في المستويات المختلفة للواقع عبر مفاهيم محددة يفعل الجدل فعله عبرها يمكن تحديدها بالمستويات التالية :
1) التكوين العام للمجتمع حيث يتحدد في بنيتين (تحتية وفوقية) الأولى هي البنية الاقتصادية والاجتماعية والثانية هي البنية السياسية الفكرية.
2) إن البنية السياسية تتكون من الدولة والأيديولوجيا (الفكر والدين والأخلاق).
3) إن البنية الاقتصادية الاجتماعية تتكون من شقين الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية التي تستند إليه وهنا تتعدد المفاهيم الدالة على الواقع (الطبقات) وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج والعمل والأجر والملكية الخاصة وفائض القيمة والنقد والسلعة والسوق والدورة الاقتصادية.
وكل هذه المفاهيم تعبر عن نمط الإنتاج حيث يرتقي المجتمع البشري من نمط إلى آخر .. وهنا يجب أن ننطلق من العام (المجتمع البشري) وليس من مجتمع محدد لأن الصيرورة المجتمع المحدد لا يسير وفق خط صاعد بل إنه يتعرج .. يتقدم وينهار ليبدو الارتقاء البشري هنا لتجريد عام لكنه في كل مرة يتطابق مع واقع محدد.
ما هي مكونات الماركسية ؟
هل يمكن تحديد الماركسية في الفلسفة .. لكن ما الفلسفة ؟ والاقتصاد والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية ؟ وهل المادية نظرة فلسفية ؟ هنا تتحول المادية إلى فكرة فلسفية وبالتالي إلى مثالية وهي في الماركسية الوجود المادي .. أي البنية الاقتصادية الاجتماعية لهذا فإن القول بأن الماركسية مادية يعني أنها تنطلق من أولوية الأساس الاقتصادي وبالتالي فالماركسية لا تتحدد في الاقتصاد السياسي بل تتحدد في الاقتصاد هو أساس بنية لها مستويات عدة .. وهنا يكون اعتبار الاقتصاد السياسي أحد مكونات ثلاثة ابسار للماركسية وتحويل لها إلى ميل اقتصادوي (كما أن تحويل ماديتها إلى فلسفة يشير إلى ميل مادوي) وتجاهل دور المستويات الأخرى التي هي كل موحد متفاعل يستند إلى الأساس الاقتصادي.
وهذا الأمر أفضى إلى تجاهل مستويات عدة منها المستوى الاجتماعي (الطبقات) والمستوى السياسي (الدولة) والمستوى الفكري (الأيدلولوجيات والوعي) وبالتالي تحويلها إلى نتاج ميكانيكي للمستوى الاقتصادي إلى انعكاس صورة.
المناقشة هنا تجري على أرضية الإشكالية التي أسستها الماركسية السوفيتية التي خلطت بين مصادر الماركسية ومكوناتها وبالتالي فصلت بين المكونات ليبدو كل منها مستقلاً عن الآخر وله قوانينه الخاصة .. ولهذا أصبحت المناقشة تنطلق من هل أن الماركسية هي كل المكونات أو أنها أحدها ؟ بينما المشكلة هي وضع الإشكالية ذاتها .. لأن هذا التقسيم وهمي وضار معاً وهو وهمي لأن الماركسية تبحث في (المجتمع) والمجتمع ليس الاقتصاد السياسي بل أن هذا هو مستوى ... وهو مستوى محدد ولكن ذلك لا يعني تجاهل المستويات الأخرى بل يعني تحديد طبيعة العلاقة بينها وهو ضار لأنه يقود إلى تجاهل فعل (الفلسفة) (أي الجدل المادي) في المستوى الاقتصادي كما في المستويات الأخرى وكذلك في العلاقة بينها وبالتالي يفضي بالحتم إلى نشوء الميل الاقتصادي .. إن هذه الرؤية التي أفضت إلى قصور البحث في المستويات غير الاقتصادية (الطبقات الدولة الفكر) وإلى نشوء الميل الميكانيكي في رؤية دور هذه المستويات .. إن مادية الجدل نابعة من تحديده لدور المستويات الاقتصادية في علاقة مع مجمل المستويات.
وهنا ينتهي الطابع الفلسفي للمادية لتصبح رؤية الواقع وتحديداً لعنصر جوهري فيه .. أما الجدل فهو هنا الطبيعة المحددة للعلاقة بين مجمل المستويات وفي إطار كل مستوى عبر الصيرورة. لهذا إن الجدل المادي يتمظهر في الواقع غير الاقتصاد والطبقات والدولة والفكر وكذلك عبر العلاقات فيما بينها وبالتالي يكون الحديث عن مكونين فلسفة واقتصاد سياسي بل عن مستويين للمكون ذاته.
إن الاقتصاد والطبقات هما الموجود المشخص للمادية والقوانين التي تحكمها هي الموجود المشخص لفعل الجدل فيهما وفي علاقتهما بالمستويين الآخرين (الدولة والفكر). إن الجدل المادي هو المتعلق (بالقوانين الأعم لفعل الصيرورة الواقعية إزاء تجريدات أدنى تخص المجتمع مباشرة (مستويات الوجود) كما تخص كل مستوى من مستوياته .. وهي أشكال الانتقال من المجرد إلى المشخص من الصيرورة لتجريد أعلى (الجدل) إلى الصيرورة الواقعية وهنا لا يكون التقسيم سوى تقسيم معرفي أي أنه يمكن (فصل) الجدل المادي عن مجمل (النظرية) بغرض الدراسة كذلك الاقتصاد وأيضاً الفكر والسياسة وهما مستويان جرى إهمالهما في الماركسية انطلاقاً من أنهما (ظل) الاقتصاد السياسي .. لكن وعي الواقع لا يحتمل هذا التقسيم (إلا بشكل جزئي) إن وعي المجتمع يفرض الانطلاق من الجدل المادي كما يفرض وعي مجمل مستويات الواقع والجدل في أساس هذا الواقع لهذا لا يمكن البحث في الاقتصاد السياسي دون الجدل رغم أن للاقتصاد قانونياته الخاصة بمعنى أن الإشكالية التي أسست لها الماركسية السوفيتية هي إشكالية تهديم وعي الواقع وتؤسس لنشوء اتجاهات زائفة هي أساس الميول المادوية والاقتصادوية والميكانيكية إنها تخرج من معطف الماركسية اتجاهات مبتذلة لا ماركسية.
الماركسية السوفيتية :
إن الماركسية طبعت بطابع الماركسية السوفيتية فأصبحت هي الماركسية وإنها لا تختلف عن الماركسية التي انتشرت في أوربا الغربية (من برنشتاين إلى كاوتسكي وبليخانوف) وإنها أكثر سذاجة وعامية ونصية وهي تفكيك للماركسية باتجاهين أو إعادة فكفكة تركيب ماركس إلى عناصره الأولى أي باتجاه (منطق أرسطو) فلسفياً والوده إلى الفلسفة التأملية أي عودة عن لحظة هيغل/ ماركس .. وإذا كانت الماركسية الأوربية عادت إلى مستوى الفهم فإنها عادت إلى الحسية إلى الوعي الساذج البسيط هذا من جهة ومن جهة أخرى باتجاه الوضعية في شكلها الاقتصادوي (وهو مسار تبلور الفكر البورجوازي أصلاً) وهذه بالأساس هي الماركسية الأوربية .. إزاء الفلسفة التأملية منفصلة عن الواقع تحدد نظرياً (بهذا الشكل الساذج والمشوه أو ذاك) قوانين الجدل (المادية الجدلية) وتدرس كمادة زائدة هدفها المعرفة فقط ومفارقة لآلية نشاط العقل كما إزاء تصورات اقتصادوية للتاريخ مصاغة نظرياً بشكل مشوه ولا تأريخي وتحويل للاقتصاد كإله وآلة في الفلسفة والعقل في الفلسفة الحديثة مما يجعل الفكر والسياسة وصراع الطبقات كصورة له كظل باهت (المادية التاريخية) والاقتصاد السياسي مع العلم أن الفارق بينهما هزيل ويتعلق بشرح أوسع للقوانين الاقتصادية الرأسمالية. الأيديولوجيا السوفيتية (الماركسية السوفيتية) هي هذه مضافاً إليها عنصر ماركسي (اشتراكي) هو إلغاء الملكية الخاصة وهي بالتالي تركيب للأيديولوجيا التي كانت سائدة في روسيا قبل ثورة أكتوبر (العريضة) الماركسية (السلب) حيث تضمن (منطق أرسطو) الذي هو أساس الوعي العام في مجتمع إقطاعي متخلف والوضعية في شكلها الاقتصادوي (المعبر عن طموح التقدم) وكذلك العنصر الاشتراكي (أي إلغاء الملكية الخاصة) وهذا التركيب يطابق وضعية الواقع الروسي السائر نحو التطور المتضمن الماضي (كواقع وكوعي) والمتضمن كذلك الميل نحو التصنيع والتحديث كهدفين جوهريين وكذلك المتضمن طموح إلغاء الملكية الخاصة.
إن تحقيق التصنيع والتحديث هما أساس التطور وبالتالي فإن تحققهما افترض تضمن عنصر الأيديولوجي قديم (المنطق وعنصر مطابق (الوضعية) وليبدو العنصر الاشتراكي (إلغاء الملكية الخاصة) كعنصر ضروري لتحقيق التصنيع والتحديث معاً .. إنه واقعه تحققهما وهو كذلك أفق المستقبل لكن يجب أن نلاحظ أن الماركسية التي حققت هذا التركيب هي ماركسية السلب والمقصود الماركسية المفككة إلى عناصرها الأولى في إطار سيادة السلب (أي الوضعية) وربما الماركسية هي التي أعطت الطابع الاقتصادي لهذه الوضعية.
إنها صيغة أيديولوجية هي تعبير عن واقع محدد هو الواقع الروسي تضمنت عناصر ماركسية بعد أن بسطتها وككل أيديولوجية نشرتها في طابع عامي ومبتذل .. والمشكلة تكمن في أنها حجبت الماركسية الأصلية الأمر الذي يفرض تجاوز منطق أرسطو الوضعية معاً لكن تحقق هذين الهدفين (التصنيع والتحديث) أفضى إلى تفجر هذه الأيديولوجيا وأيضاً تفجر التناقض بنشوء ميل لتجاوز منطق أرسطو من جهة .. وهذا ما كان يفاقم النقد ضدها ومن جهة أخرى تصاعد التناقض بين الوضعية والماركسية أي تفجر هذه الأيديولوجيا من داخلها حيث نشأ الميل لانتصار الوضعية بصيغتها البورجوازية كمطابق لمجتمع مصنع كما الميل إلى تحقيق التطوير الاشتراكي على أساس ماركسي وفق كل الأحوال كان يجب تجاوز تركيبها بتجاوز منطق أرسطو وسيادة الوضعية الماركسية.
ولهذا تفكك (الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي) وسادت الاتجاهات الليبرالية (الوضعية) وأصبح لزاماً على كل عشاق ومحبي ومناضلي والمضحين من أجل عدالتها وصوابها إعادة تأسيسها بالعودة إلى الماركسية الأصلية (إلى تركيب ماركس) وأول ما يعني ذلك رفض (المنطق النصي) وتعميم الروح المغذية .. إن العودة للماركسية الأصلية يجب أن لا تعني الالتزام بكل نصوص ماركس بل الالتزام بتركيب ماركس .. لتعاد دراسة الماركسية انطلاقاً منه .. ومن ثم لإعادة تأسيسها كي تكون أداة وعي الواقع في صيرورته وكذلك وعي اللحظة الراهنة التي هي لحظة في الصيرورة ذاتها.
نحن الآن في القرن الواحد والعشرين في المرحلة الأخيرة من عصر الرأسمالية (العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة) ويجب أن تكون الماركسية صراع ونهاية مرحلة العولمة المتوحشة.
إن الماركسية وجدت كنقيض وحفارة قبر الرأسمالية فليس من المعقول أن تنتهي الماركسية والرأسمالية لا زالت حية، إن الماركسية السوفيتية غزت العالم منذ تولي ستالين السلطة في الاتحاد السوفيتي بعد وفاة لينين بثلاث سنوات عام/ 1927 وقد سادت في دول أوربا وثم آسيا وأفريقيا ما عدا كوبا في عهد جيفارا ثم انتقلت جميع دول العالم إلى الماركسية السوفيتية حتى الدول العربية بعد وفاة ستالين عام/ 1953 وبالرغم من تعرض الرئيس السوفيتي خروتشجيف عام/ 1956 إلى جرائم ستالين إلى أنه لم يتعرض إلى دور ستالين في انحراف الماركسية الأصلية وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظم الاشتراكية عام/ 1991.
هذا يعني أن جميع دول العالم كانت تناضل بما هو عكس الماركسية الصحيحة ولذلك فشل سلوك الأحزاب الشيوعية وانهيار النظم الاشتراكية لأنهم ساروا على الضد من الماركسية الصحيحة.
في الستينات من القرن الماضي سافر وفد من الاتحاد السوفيتي إلى جمهورية كوبا وكان مع الوفد صديق لينين الشيوعي القديم (يانوسييف) فالتقى معه أحد الشيوعيين الكوبيين القدامى وسأله قائلاً : رفيق يانوسيف لو كان الرفيق لينين حيا إلى الآن ماذا كان وضع وحال العالم .. فأجابه يانوسيف : لو كان لينين حياً إلى الآن لرأيت العالم غير ما تراه الآن.

الفصل الثالث
في رحاب النظرية الماركسية
ما هي النظرية الماركسية ؟ الماركسية عبارة عن مجموعة منظمة ومنتظمة من النظريات العلمية تم الوصول إليها عن طريق البحث والتحري وتم استخراج قواعد وقوانين عامة منها وقد طبقت بشكل علمي دقيق بعد أن حولها لينين من فلسفة إلى منهجية وطريقة ليست على علوم مجردة تمثل فكر خيالي وطوباوي وإنما حولت إلى واقع ملموس في الصراع الطبقي وحول معاناة الشعب إلى شعارات مطلبية وجسدها وقاد أعظم ثورة في التاريخ الحديث وهي نفسها التي عاشها ونفذها الشعب الروسي والآن في عهد العصر الديمقراطي والصعود السلمي إلى السلطة يمكن تحويلها واستعمالها كبطاقة انتخابية تستعملها وتستغلها جماهير الشعب الواسعة في الصعود إلى السلطة عن طريق الانتخابات وصندوق الاقتراع.

مكونات الماركسية :
تعتبر الماركسية مفهوماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً فهي تعتبر مفهوماً سياسياً لأنها تحدد دور الطبقة العاملة والدولة في بناء المجتمع.
ومن الناحية الاقتصادية فهي تسعى إلى التخطيط والبرمجة وتنظيم الحياة للناس وسعادتهم وإلغاء فوضى الإنتاج والسوق واستبدالها بالإنتاج الاجتماعي والملكية العامة لوسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية الاشتراكية وتعتبر الاقتصاد هو المحرك الوحيد للتاريخ.
ومن الناحية الاجتماعية تعتبر الماركسية هي النبراس والطريق والاسترشاد بها عن طريق معرفة قوانينها الاجتماعية والتحليلية ومفاهيمها والتمييز بين ما هو نظري وما هو واقع موضوعي اجتماعي ومن ناحية اعتبارها مفهوماً فلسفياً فهي تعتبر مفهوماً وفكراً نقدياً ضد الانفلاق والجمود .. ومن ناحية الحرية تعتبر منطلقاً له من خلال الممارسة وتطوير الفكر الماركسي من خلال القوانين الموضوعية العلمية والكشف ومعرفة الرابط والتغيير في أي ظرف بما ينسجم مع تعبير الوعي الفكري وتحرير الأيديولوجيا من جمودها وتحريرها من الأسر التي حبست بها بما ينسجم مع كل ما أنتجه الفكر الإنساني بروح نقديه تتطلع نحو أفق تحرري شامل والاعتماد على روح جدلية الفكر بما يطوره في مجال العلم والمعرفة.
إن الفكر الماركسي أدرك أن الإنسان وجد في هذا الكون ليتعلم ويعلم ولم يوجد جاهلاً وكسولاً مهملاً.
الماركسية والشعب :
الماركسية من خلال معايشة جماهير الشعب والانصهار معها نستطيع أن نعرف وندرس الظاهرة التي يعيشها الشعب وتجسد مفرداتها وآمالها وحاجياتها ومن خلال تلك الطرق والأساليب نستنبط منها التكتيك اليومي الذي يعتبر الشعارات الأساسية التي ترتبط بحياتنا اليومية وصياغتها على شكل مطاليب جماهيرية في سلوك وكفاح ونضال جماهير الشعب.
إن القوى التي تكون بعيدة عن جماهير الشعب ومعاناتها ومطاليبها لا تستطيع أن تترجم الحياة والظروف التي يعيشها جماهير الشعب ولذلك تكون قياداتها وشعاراتها ومطاليب الجماهير خارج منهجية أسلوب النضال والكفاح الجماهيري وخارج إطار الظروف التاريخية الفعلية .. إن البحث بتفاصيل الظروف ومعاناة جماهير الشعب الحسية وآلامها من خلال بناء علاقات حميمة مع جماهير الشعب والانصهار في بوتقة واحدة معها والاندفاع والتعاون معها والاندفاع والتفاني والتضحية من أجلها هو الوسيلة والطريقة التي تستطيع التغلغل في قلوب الجماهير الواسعة وبناء علاقة حميمة ومتينة معها من حيث أن جماهير الشعب بالنسبة لأي حركة أو حزب هو ما يمثل الرئة للإنسان التي يستنشق منها الهواء وفي هكذا حالة هل يستطيع الإنسان أن يعيش بدون رئة في الحياة ؟
كلا لأن الإنسان يعيش ويستنشق الهواء بواسطتها وفي حالة انقطاعه عن استنشاق الهواء سوف يموت .. وهكذا هو الحزب الشيوعي بدون جماهير الشعب تسنده وتدعمه سوف يموت .. كما أن الحزب لا يقاس بعدد أعضاء الحزب وإنما بحجم وعدد جماهير الشعب.
وحدة الديالكتيك :
كان مفكرو الفلسفة يقسمون الفلسفة إلى أجزاء منفصلة :
الأنطولوجيا : مبحث الوجود .. القنوصولوجيا : نظرية المعرفة.
المنطق : علم قوانين الفكر.
انطلق هيغل من وحدة تطابق الديالكتيك : المنطق ونظرية المعرفة وكان هيغل يفهم هذه الوحدة على شكل مثالي فكان يعتبر الروح (الفكر) هو مبدأ كل الوجود وحوله إلى شيء موضوعي واعتبر العالم المادي تجسيداً للفكر المتطور ومن جهة نظر هيغل يعتبر تطور العالم وفقاً لقوانين الفكر ويعتبر الروح الكوني تكشف في مسيرتها عن كل مضمونه من خلال معرفته لذاته وتكون قوانين تطور الروح الكوني قوانين لعملية المعرفة .. وعلى ضوء ذلك يتطابق الديالكتيك عند هيغل من تطور العالم الخارجي وقوانين تطور المعرفة هو الديالكتيك الذاتي على أن ينطلق الديالكتيك من الفكر أي أن الديالكتيك الخارجي (العالم الموضوعي الخارجي) والديالكتيك الذاتي (تطور عملية المعرفة) ينطلق من الفكر.
يعتبر لينين الديالكتيك هو نظرية المعرفة الماركسية .. الفلسفة الماركسية تصوغ مبدأ تطابق الديالكتيك والمنطق ونظرية المعرفة وتعتبر أولوية العالم الخارجي المادي فهو ليس بحاجة إلى روح وإنما يتطور وفق قوانينه الخاصة المأخوذة من عموميتها حيث يستند الإنسان في نشاطه العملي إلى قوانين العالم الموضوعي فيحوره ويغير فيه انطلاقاً من صفات العالم ووفقاً لروابطه فتعطي النشاط الحسي للإنسان العملي فتغدو قوانين العملية المعرفة في سبر أغوار الأشياء وعليه فإن قانون التطور لا يصح على العالم الموضوعي فقط بل على الفكر وعملية المعرفة في صلب وحدة الديالكتيك والمنطق ونظرية المعرفة يتحقق في مجرى التطور المديد لنشاط الناس العملي والنظري.
ماركس وحركة التاريخ :
ما هي حركة التاريخ ؟ ما هي قاعدته الأصلية التي تأسست عليها كل جوانبه المتعددة بشكل نهائي ؟ ما هي العلاقة التناقضية الأولى التي تأسس التاريخ عليها ؟ ما هو محركه ؟
عن هذه الأسئلة أجاب هيغل (إن محرك التاريخ هو الفكرة المطلقة) .. ورد عليه فورباخ (لا .. ليس محرك التاريخ هو الفكرة المطلقة .. هو الإنسان الملموس) .. وقال فرويد (إن محرك التاريخ ليس هو الفكرة المطلقة ولا هو الإنسان الملموس بل هو تسامي الطاقة الجنسية) وقال سارتر (إن محرك التاريخ لا هذا ولا ذاك .. بل هو المعنوي الوجودي) وقال ميشيل (إن كل ذلك مجرد أوهام .. محرك التاريخ الحقيقي .. هو النسق البنيوي) ثم قال ماركس في الأطروحة الحادية عشر لماركس ضد فورباخ (إن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة) .. والسؤال الآن لماذا ذلك التعدد في التفسيرات ؟ لأن كل فيلسوف لا يرى في الواقع الشديد التنوع في خاصيته وجوانبه سوا جانباً واحداً مجرداً .. وحتى مع ذكر تلك الجوانب سوا الذي ركز عليها الفلاسفة أو غيرها فإن ذلك لا يستنقذ الواقع التاريخ في شموليته .. إن الفكر الذي أمسى إليه هيغل لتأسيس منظومته الفلسفية موجود فعلاً في التاريخ لكنه كجانب واحد فقط من ضمن جوانب أخرى لا تحصى وإن الإنسان الذي طرحه فورباخ كبديل لفكر هيغل هو أيضاً موجود على أرض الواقع ولكن جانباً من جوانب أخرى .. ونفس الشيء يمكن القول عن فرويد حول الجنس .. والمعنى الوجودي عند سارتر .. والنسق البنيوي عند فوكو .. وباقي النظريات الأخرى المتشابهة في العلوم الإنسانية.
من هذا نستدل أن الفيلسوف حينما يستبدل نظاماً معرفياً بنظام آخر فإن هذا لا يعني بأنه خرج من فلسفة ليسقط في فلسفة أخرى من نفس الطبيعة حتى لو كانت تختلف عنها في الشكل.
ما هي الطبيعة الجوهرية للأرضية الفلسفية العامة المشتركة بين جميع الفلاسفة رغم اختلافهم ؟
هذه هي الطبيعة لقلب العلاقات الواقعية بمعنى أن الفيلسوف بدل أن ينطلق في تفسيره للتاريخ من العلاقات الواقعية الأصلية التي هي الأساس في كل شيء فإنه بالعكس ينطلق من الظواهر .. التغيرات والتجليات .. الجوانب .. الفروع لتفسير التاريخ .. أن يريد أن يفسر الجوهر الأصلي .. بالتعبير المظهري لذلك الجوهر .. بدل العكس فمحرك التاريخ بالنسبة إليه هو إذن التعبير الخارجي للعلاقات الواقعية .. هذا التعبير الذي يتخذ له شكل هذه المنظومة الفلسفية أو تلك أو شكل هذا النظام الحقوقي أو ذاك أو شكل هذا النسق البنيوي في الفلسفة عند (فوكو) أو في التحليل النفسي اللاوعي عند (لاكان) أو في اثنولوجيا عند (ليفي شتراوس) وغيرها .. فالقول بأن جوهر التاريخ هو هذا الجانب كالقول مثلاً بأن جوهر الكتاب هو ورقه أو شكله أو لونه أو لغته .. الخ فهذه الأشياء جميعها ليست سوى جوانب ثانوية للتعبير عن جوهر أساسي هو العلاقة التناقضية بين القارئ والمقروء وحين يقلب الفيلسوف العلاقات الواقعية (العلاقات بين الجوهر وتعبيراته الخارجية) فإن وعيه نفسه يصبح وعياً مقلوباً والوعي المقلوب هو وعي وهمي ووعي زائف.
إن الوعي المقلوب بالعلاقات الواقعية هي ما يسميها ماركس الأيديولوجيا فالأيديولوجيا إذن ليست شيئاً آخر سوى وعي العلاقات الواقعية وعي العلاقات بين الجوهر وتجلياته .. ولكن بطريقة مقلوبة (تقديم التعبير الخارجي عن الجوهر الأساسي) وحين يؤكد ماركس في أطروحته رقم 11 بأن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تغيير التاريخ بطرق مختلفة فإنه يقصد بذلك أن تفسيراتهم ظلت تفسيرات أيديولوجية أي مقلوبة وهمية زائفة.
لذلك فالمطلوب هو التحرر من الوعي الأيديولوجي المقلوب .. ما هو الطريق إلى ذلك ؟. هو قلب المقلوب بمعنى إقامة علاقات واقعية بين العلاقات الواقعية (الجوهرية من جهة وتغيراته الخارجية من جهة أخرى) وهذا يعني اعتبار الجوهر معطى أول وتعبيراته الخارجية على صعيد الوعي معطى ثاني (وهذا بالضبط هو المقصود بعبارة ماركس الشهيرة) ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ؟ وبهذا القلب للعلاقات الواقعية المقلوبة يكون ماركس قد أحدث ثورة عظيمة في نظرية المعرفة البشرية وعن طريق هذه الثورة المعرفية الجذرية استطاع ماركس الانتقال من دائرة الأيديولوجيا إلى دائرة علم التاريخ – الجدلية التاريخية.
إن علم التاريخ الماركسي جعل التاريخ البشري يقف على رجليه بعدما كان يسير على رأسه .. والمحرك الأصلي للتاريخ الذي سيكشفه ماركس انطلاقاً من نظريته الثورية الجديدة .. هو العلاقات التناقضية الجوهرية على صعيد الإنتاج المادي هي علاقات الإنتاج بمعنى العام مع الطبيعة في مرحلة أولى ومع البشر والطبيعة في مرحلة لاحقة فهي الجدلية التاريخية والجدلية الديالكتيكية.
النظرية الماركسية :
النظرية الماركسية ليست كل ما قاله ماركس فقد عالج ماركس قضايا متعددة وبمستويات مختلفة عبر مراحل وأزمنة متنوعة ومختلفة حيث لم يتم تشكيل النظرية الماركسية دفعة واحدة بل نمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة العلمية والفلسفة والممارسات النضالية والعملية ولذلك جاءت النظرية الماركسية الموضوعية متابعة لتطوره الفكري والموافق بالسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي نشأ وعاش فيها وتأثر بها ماركس ولذلك تعكس النظرية الماركسية القراءة الوصفية للواقع الآني في عصره إلى التحديد العلمي والفلسفي والتوجيه العملي المستخلص من الواقع الموضوعي الذي يعتبر رؤيا شاملة وفاعلية في حركة الواقع في عصره وفي تغييره تغييراً جذرياً .. وهذا يعني أن النظرية الماركسية ذات طابع مستقبلي شامل للإنسانية باعتبارها نسقاً متجانساً ومترابطاً وموحداً من الأفكار التي تسعى لتفسير وحل جميع المشاكل الأساسية التي تعاني منها الإنسانية.
إن النظرية الماركسية تستند على أسس علمية ثابتة لأنها تستمد عناصرها ومعطياتها وقوانينها من العلمية الواقعية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي يقوم على الصراع والمتناقضات في المجتمع إضافة إلى ما تفرضه حتمية التاريخ وحركته وديناميكيته.
كما أن هذه النظرية تمتاز بطابع التغيير للواقع الموضوعي تغييراً جذرياً من أجل إقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الظلم والاضطهاد والاستغلال والفقر والجهل والمرض تتفجر فيه الإبداعيات الإنسانية المكمونة وتتوفر له الحرية الحقيقية.
إن المادية الجدلية والجدلية التاريخية هما توئمان نظريتان أساسيتان في الفلسفة الماركسية لا يمثلان مقدمات مجردة تفرضها على الواقع فرضاً أو تستخلص منها القوانين المتحكمة في هذه الوقائع المجردة وإنما تستخلص منها القوانين المتحكمة في دراسة الطبيعة والتاريخ والفكر لأن النظرية الماركسية هي منهج/ طريقة وكل نظرية يجب أن يكون لها منهج مستمد منها.
إن النظرية الماركسية ليست قوانين علمية مجردة أو فلسفة صرفة وإنما قوانينها العلمية وفلسفتها تتمحور وتتحكم في النماذج والأنساق مع الواقع الاجتماعي الموضوعي الفكري الصراعي فضلاً عن حتمية حركة التاريخ بشكل عام من أجل التغيير لذلك الواقع تغييراً جذرياً وإقامة المجتمع الجديد السعيد حينما يتخلص الإنسان من الظلم والاضطهاد والقهر والفقر والبطالة والجهل والأمية والمرض.
ديالكتيك للمفكر الشيوعي (غرامشي)عن الإنسان والواقع الموضوعي:
إذا كان صحيحاً لا يمكن فهم الإنسان إلا كإنسان محدد تاريخياً أي أنه عاش وتطور ضمن شروط معينة (في إطار اجتماعي محدد أو في مجموعة من العلاقات الاجتماعي المحددة) فهل يمكن فهم علم الاجتماع على أنه يقتصر على دراسة هذه الشروط والقوانين التي تحكم تطورها ؟ بينما لا يمكن استبعاد إرادة أو مبادرة الأفراد الذين يعيشون في المجتمع ... فإنه لا يمكن لهذا المفهوم إلا أن يكون خاطئاً لأننا حينما نأخذ بشكله (العلم) مثلاً .. أليس العلم نفسه (نشاطاً سياسياً) وتفكراً سياسياً من حيث أنه يقوم بتغيير الناس ويجعلهم مختلفين عما كانوا عليه سابقاً.
إن الأيديولوجية الفكرية مبدأ الحزب يجب أن لا يعتبر شيئاً مفروضاً على الأقل بشكل مصطنع وإنما هو شيء يتطور تاريخياً من خلال الصراع يتقدم ولا يتوقف.
إن على الحزب أن يجمع :
1) المبدأ من فعل الإنسان.
2) الطبيعة التاريخية لأعضائه.
3) الحركة التاريخية الحقيقية (من فعل التاريخ التي هي ديناميكية الثقافية الخاصة التي يعمل الحزب من خلالها).
إن العنصرين الأول (المبدأ) والثاني (الطبيعة التاريخية لأعضائه) يمكن السيطرة عليهما بالإرادة المشتركة عن طريق (الحزب).
أما العنصر الثالث (الحركة التاريخية الحقيقية) أي ديناميكية الثقافة الخاصة التي يعمل من خلالها الحزب فإنه يتصارع ويتفاعل باستمرار مع العنصرين (المبدأ والطبيعة التاريخية لأعضاء الحزب) ويسبب صراعاً نظرياً وعملياً لا يتوقف وإنما يفرز نتاجاً جديداً يرفع من خلاله جهاز الحزب إلى وعي جماعي أكثر ارتفاعاً وتقدماً وتطوراً في مستواه.
إذا عجز التطبيق عن متابعة النظرية فلابد من وجود خلل في التطبيق
إن تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظم الاشتراكية حدث بسبب خلل في تطبيق النظرية الماركسية بسبب البيروقراطية وتجاوز الخصوصية للأحزاب الشيوعية في الدول الأخرى وعبادة الشخصية ودكتاتورية ستالين الدموية وغيرها من الأسباب البعيدة عن الفكر الماركسي.
إن النظرية الماركسية وتطبيقاتها يجب أن لا تترجم بشكل كيفي أو حرفياً لأن ما يحدث عادة في التاريخ قد يأتي مخالفاً مع الأهداف والنتائج التي رسمتها القوى التي تصنعها بل حسب المستجدات والمتغيرات بما يتلاءم مع العصر وشروطه المختلفة باعتبار جدلية الفكر الماركسي يقوم على الوعي وعلى التغيير المستمر تكيفاً ومنسجماً مع ضرورات وظروف كل مرحلة جديدة من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية والتي تستوحى من خلالها الغاية والمنفعة وقد يتخطى مقولات ماركس مما يستلزم ويستدعي إعادة النظر والتحليل ومراجعتها أفكاراً ونصوصاً مراجعة مستمرة كي تبقى النظرية أداة منهجية وفعالة في وقائعها ومعطياتها وأن تتخذ من النظرية الماركسية طابعاً تحليلياً عند التطبيق بدلاً من الاعتقاد المطلق بصحة نصوص ماركس التي حللت نصوص النظرية بناءً على معطيات أخرى مختلفة من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية وأوصلته إلى ما استنتج من أفكار ومعطيات توقعها على الصعيد النظري والتطبيقي وهذا يعني أن الفكر الماركسي ليس قميصاً مفصلاً جاهزاً يمكن ارتداءه في كل وقت وكل زمان ولا يحتمل التعديل والتغيير بل من سمات الفكر الماركسي جاء من خلال وعي الواقع وتغييره من خلال الجدل المادي التي من خلال التراكم الكمي والتناقض ونفي النفي.

ماركس والإنسان
إن المسألة المركزية لدى ماركس هي مشكلة وجود الإنسان ككائن فردي واقعي حقيقي يتحدد معنى وجوده من خلال عمله الذي تتجسد طبيعته وتحقق ذاتها في الصيرورة التاريخية ويرى الإنسان في حسيته الكاملة ككائن موجود في مجتمع معطى ومن طبقة اجتماعية معطاة حيث يجري تطويره من خلال المجتمع .. كما يكون في الوقت نفسه أسيراً لمجتمعه ومتعلقاً به لأن الإنسان يمتلك شعوراً واحساس تجعله جزء لا يتجزأ من المجتمع .. لذلك فإن إنسانية الإنسان وعملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده غير منفصل عن عملية وعي وإدراك وجود هذه القوى وعن التغيير الاجتماعي الذي يتأسس على هذا الوعي والإدراك .. لذلك فإن الفلسفة الماركسية تعتبر احتجاج وتمرد متشرب بالإيمان في الإنسان وبقدرته على تحرير ذاته وتحقيق طاقاته من أجل تغيير واقعه المؤلم .. كما أن اهتمام النظرية الماركسية بانعتاق الإنسان كفرد يتجاوز الاغتراب وبالتالي تأمين قابلية الإنسان لأن يتفاعل كلياً مع أخيه الإنسان ومع مجتمعه ومع الطبيعة ومن خلال ذلك أصبحت النظرية الماركسية تتمحور حول الإنسان ومن أجله بعيداً عن الاغتراب والحرمان والاضطهاد والاستغلال.
ماركس والعقل الإنساني :
أكد ماركس على أهمية العقل الإنساني عندما كان الإنسان الأول يعيش في الأدغال ويأكل من صيد الحيوانات ويسكن المغاور ويتكلم بنبرات صوتية تشبه أصوات الحيوانات ثم دفعته الحاجة إلى الاشتراك مع أبناء جنسه كي يشبع رغباته وشهواته ثم أدله إدراكه الفطري على أنه لن ينال ما يشبع فيه هذه الشهوات والرغبات إلا إذا سعى للحصول عليها فجعلت تنمو من جراء هذا الإدراك تلافيف دماغية أكثر فأكثر حتى أصبح يمتاز على أعلى الأنواع الحية بميزته الإدراكية التي تسمى (العقل) المدبر والمدرك والخلاق لجميع مستلزمات الحياة المادية والمعنوية للإنسان ولذلك اعتبر ماركس الإنسان (أثمن رأسمال في الوجود) وهذا العقل إذن وليد المادة الدماغية وهو الذي يستنبط الأفكار تبعاً للحاجة الضرورية وهو يتطور كلما تغيرت الحاجة وهذا العنصر الجديد في الإنسان (العقل) مستنبط كل فكرة سواء كانت دينية أم اجتماعية أم عقائدية ولذلك فإن العقل أصبح هو الذي يرشد الإنسان إلى الحقيقة والمعرفة من خلال البحث والاستدلال والكشف.

النظرية الماركسية :
ليس هنالك خلاف في جوهر الماركسية وإنما هنالك فرق في طريقة تطبيق الفلسفة الماركسية من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية بما يتلاءم ومراحلها التاريخية وظروفها وملابساتها ومشاركاتها فالديالكتيك الماركسي ينبثق من جوهر واحد هو الفلسفة الماركسية والإنسان وليد التطور المادي البيولوجي والوجدان وليد نتيجة هذا التطور والقوى الإدراكية العاملة والصفات والأخلاق أيضاً هي وليدة التطور المادي .. والمعرفة ليست وليدة فكرة مثالية مطلقة بل هي وليدة تطور المادة الدماغية وصقلها وتهذيبها ويتمحور وجود النظرية الماركسية بما يلي :-
1) أن الأشياء وجدت مستقلة عن الإنسان وعن شعوره ووجدانه.
2) لا فرق بين الأشياء وما ينتج عنها.
3) الاختلاف مرهون بما يعرف عن الحقائق وما لم يصل الإنسان لمعرفتها.
4) المعرفة بنت الجدل وهي كغيرها من العلوم ليست محدودة ولا مطلقة بل نسبية وقابلة للبحث والاستكشاف.
5) لا عصمة بالمعرفة أن الجهل بالشيء لا ينفي وجوده ولا صحته.
كما أنها تعتبر المفاهيم التي تبدو ثابتة في المظهر تتغير بشكل جذري في مضمونها عندما تنتقل من سياق تجربة تاريخية اجتماعية إلى سياق تجربة أخرى ولذلك يعتبر الفكر الماركسي يقدم وجود مجتمع وتصور كامل وتام من جميع النواحي بحيث يمكن تطبيقه على كل المجتمعات في كل زمان ومكان بالرغم من أن لكل عصر متطلباته ولكل مجتمع احتياجاته المتجددة باستمرار .. ولذلك ينطلق جدل الفكر الماركسي من خلال نسبية الأفكار التي يعتبرها هي المطلق الوحيد في هذا المجال .. ولنسبية الفكر الماركسي ثلاثة أبعاد :
1) نسبية زمانية : إذ أن ما يكون اليوم صحيحاً قد لا يكون كذلك بسبب تبدل الواقع.
2) نسبية مكانية : فما يصح في مجتمع ما قد لا يصح في مجتمع آخر في الزمان ذاته وذلك بسبب اختلاف الواقع.
3) نسبية شخصية أو فردانية : كل إنسان في الوجود باحث أو مفكر أو عالم أو مجتهد كان سياسياً أن اقتصادياً أم رجل دين يفهم الفكر ويتعامل معه وفق خصائصه الشخصية وتكوينه العقلي والنفسي .. يقول عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي : إن الإنسان الذي ينشأ في بيئة معينة اجتماعية فترة زمنية معينة ويربى على تقاليدها وعاداتها ومقاييسها الفكرية تنغرز في عقله الباطني وتصبح توجه تفكيره وعقله من حيث لا يدري وإن الإنسان في الوجود لا يفهم من الحقائق إلا ذلك الوجه الذي يلائم عقده النفسية وقيمه الاجتماعية ومصالحه الاقتصادية والسياسية التي انغرزت في عقله الباطني وأصبحت توجه تفكيره.
إن نتاج الأفكار والوعي والتصورات مرتبط بالنشاط المادي للإنسان والتعامل الذهني بين البشر الذي هو انعكاس للواقع الاجتماعي ومن خلال ذلك أصبح الإنسان يتعامل مع الأنماط والسياقات السائدة في مجتمعه.
المفكر غرامشي والثقافة
يقول المفكر غرامشي : إن الثقافة والوعي الفكري يمكن أن تتحول إلى أداة للفعل السياسي بالاتكاء على مجمل القوى الاجتماعية الصاعدة التي تتطلع إلى عالم جديد ولابد لها أن تمتلك وعياً جديداً قادراً على صنع التغيير والتحول من مرحلة إلى أخرى .. فالدعوى إلى ثقافة جديدة معناها الدعوة إلى ممارسات ومبادرات من شأنها أن تخلق إنساناً جديداً ومجتمعاً جديداً.
ويقول أيضاً : في ظروف معينة تفرض أحكام الضرورة أن لا يكون هنالك صراع ومعارك بين فئة وأخرى أو طبقة وأخرى مما تفرض الظروف وضرورتها أن تتحول تلك المعارك والصراعات إلى حرب مواقع ثقافية وطبيعة ثقافية عن طريق الصحف والمجلات والأدبيات وغيرها وهنا يصبح الوعي الفكري والثقافة والكلمة هي الفكرة الراجحة في الصراع السياسي وهي الحاسمة في الميدان الرئيسي للصراع.
وعن الأيديولوجيا يقول غرامشي : بأنها الأفكار السائدة التي تشكل (الاسمنت الاجتماعي) الذي يوحد النظام الاجتماعي السائد ويضفي عليه التماسك .. أما الفلسفة فهي ممارسة لأنها تمثل نمطاً من الفكر المتناقض للأيديولوجيا ونوعاً من الفعل الذي ينازع المؤسسات والعلاقات الاجتماعية السائدة.

في رحاب الماركسية
تفسير التاريخ يأتي من خلال طبيعة النظام الاقتصادي السائد في تلك المرحلة من الزمن التي تعكس طبيعة الإنتاج والتبادل التجاري الذي ينبثق عنه التنظيم الاجتماعي الذي ينشأ عليه التاريخ السياسي والفكري لتلك المرحلة.
فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يمتاز بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقة الاستثمار والعبودية التي يفرضها الرأسماليون على العمال وطريقة التوزيع الرأسمالية.
والنظام الاقتصادي الإقطاعي تعكس طبيعة الإنتاج والتبادل التجاري على العبودية والقنانة واستغلال ريعي للإقطاعيات الزراعية الواسعة التي تقوم على السيطرة والاستعباد والاستغلال من خلال طبيعة ذلك النظام الاقتصادي ينشأ الوجود الاجتماعي أي حياة الناس الاقتصادية المادية ولاسيما إنتاج الخبرات المادية والعلاقات التي تنشأ بين الناس من خلال (العلاقات الإنتاجية) أي العلاقات التي تنشأ من خلال عملية الإنتاج وعلى ضوء طبيعة النظام الاقتصادي السائد تتكون وتنشأ حياة المجتمع الروحية والأيديولوجية وآراء الناس وتصوراتهم وتصرفاتهم السياسية والحقوقية والأخلاقية وتعتبر حياة الناس المادية في ذلك المجتمع واقع موضوعي مستقل عن إرادة الناس .. أما حياتهم العقلية أي مجموعة الأفكار الاجتماعية والأديان والسلوك والنظريات والمذاهب الفلسفية هي انعكاس للواقع الموضوعي لوجودهم الاجتماعي من خلال النظام الاقتصادي السائد في تلك المرحلة.
إن ديناميكية الحياة وتقدمها وتطورها تدفع مسيرة التاريخ إلى أمام لأن ليس من طبيعتها الجمود والثبات لأنها حسب طبيعتها وتكيفها بعضها مع بعض بصورة متبادلة تخضع لقوانين موضوعية مستقلة عن إرادة الإنسان وهي تعبير عن الضرورة والحتمية التاريخية وهذه القوانين علمية سواء كانت طبيعة أم قوانين التطور الاجتماعي التي اكتشفتها العلوم الاجتماعية وهي انعكاس عن العلاقات الضرورية بين الحوادث وحركات التطور التي تجري مستقلة عن إرادة الإنسان فالقانون إنما هو علاقة تنبثق من طبيعة الأشياء من سياق حركات التطور أو من سياق الأحداث وقد تكون الصلة بين الحوادث وحركات التطور خارجية عرضية أو ضرورية داخلية أساسية عندما تولد بالضرورة حوادث من الحوادث حادثاً آخر كما يولد السبب النتيجة .. مثال ذلك أن النزاعات والصراعات التي تتطور بين القوى المنتجة (العمال الذين يعملون في أدوات الإنتاج ينتجون السلع والحاجات) وبين (العلاقات الإنتاجية من مالكي وسائل الإنتاج) التي مضى زمانها تصبح في ظروف مجتمع متناقض وتناحري يؤدي حتماً إلى ثورة اجتماعية .. فالقانون العام يعكس العلاقة المتبادلة الديالكتيكية بين القوى المنتجة التي هي (المضمون) وبين العلاقات الإنتاجية (الشكل) فإن أي تغيير يطرأ على الشكل نتيجة تغييرات تنعكس على المضمون ومن خلال تراكم السلبيات والمتناقضات في المضمون مما يؤدي إلى انفجار المضمون وتدمير الشكل والقضاء عليه .. بعد هذه النبذة من الفكر الماركسي والقوانين العلمية التي كان يعتمد عليها من خلال التقدم والتطور والصراع وحتمية التاريخ لابد من وقفة فيها نداء حي واستدعاء صارخ للماضي والحاضر والمستقبل مستنبط من رؤيا الفكر الماركسي العلمي وعلاقته بالماضي والحاضر والمستقبل وما تأثير قوانينه العلمية بعد سيادة عصر العولمة المتوحشة وما رافقتها من تقدم وتطور في التقدم التكنولوجي والثورة المعلوماتية التي جعلت العالم ما يشبه القرية الصغيرة واختراع الرجل الآلي التي رافق ذلك تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية مما فسح المجال للولايات المتحدة الأمريكية أن تصبح القطب الأوحد في العالم وانحسار دور قوة العامل (البروليتاريا) واستبداله بالعامل الآلي وما هلل له (فوكو ياما) بكتابه المشؤوم (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) والآخر (هنغتون) في كتابه المشؤوم (صدام الحضارات) الذي يقول فيه: (لا يوجد بعد الآن صراع بين الشيوعية والرأسمالية بعد انهيار النظام الاشتراكي وسوف يصبح الصراع بين الأمم ذات طبيعة قومية أو طائفية) والآن يوجد سؤال (لمن يكون الحسم في الصراع؟) ومن سوف يكسب التاريخ ؟ الشعوب المناضلة أم أعداء الشعوب في عصر العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة ؟
إن العولمة المتوحشة ظاهرة سياسية واقتصادية واجتماعية وتمثل المرحلة الأخيرة بعد الامبريالية للنظام الرأسمالي المتعفن خلعت ثوبها المشوه القديم وارتدت ملابس ذات الألوان الزاهية وأجرت لوجهها المشوه عملية تجميل لإظهاره بمظهر جذاب جميل وصلت فيه عصر العولمة.
خدعوها بقولهم حسناءُ والغواني يَغرُّهن الثنــــاءُ
العولمة المتوحشة أصبحت المرحلة الأخيرة في النظام الرأسمالي واتخذت من الفلسفة (الديمقراطية الليبرالية نظاماً لها ومنهجاً وفكراً وثقافة من خلال دمج الديمقراطية السياسية بالليبرالية الاقتصادية واتخذ من الديمقراطية كتعبير عن حق المواطن في الانتخابات والمساواة ومرجعية الشعب في الحقوق والواجبات ومن الليبرالية الاقتصادية بعد تحولها ونقلها من الحقل الاقتصادي الاستهلاكي لتأخذ منه طابع فردانية اجتماعية ومن مفهوم التعددية السلعية متحولة إلى تعددية سياسية ومن خلال هذا الدمج تحولت العولمة إلى عقيدة سياسية فلسفية للعولمة المتوحشة من دمج الديمقراطية التي تعود إلى سياق تاريخي مختلف وقديم بصفتها عقيدة سياسية بالليبرالية بصفتها عقيدة اقتصادية فأصبح للعولمة الرأسمالية أطروحة عقيدة سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة أصبحت تعرف (الديمقراطية الليبرالية) إذا كان المنحرف (برتشتاين) قد اعترض على لينين عند شروعه بثورة أكتوبر قائلاً أن الرأسمالية لا زالت تقدمية .. وإذا كان المنحرف كاوتسكي سبق وأن قال: أن الرأسمالية تمتلك امتدادات كثيرة. وإذا خلقت الثورة المعلوماتية والتقدم التكنولوجي الهائل الانترنيت وحساباته والإنسان الآلي مما أضعف الاعتماد على (البروليتاريا) أن تستلم قيادة الثورة ضد النظام الرأسمالي وقد وجدت الماركسية كنقيض للنظام الرأسمالي واعتبرت الماركسية حفارة قبر الرأسمالية هل هذا يعني تصبح الرأسمالية كما قال (فوكوياما) أنها الإنسان الأخير في التاريخ بينما دخلت الرأسمالية في آخر مراحلها بالعولمة المتوحشة ؟

ما هي سلبيات العولمة ؟
1) تدمر الحدود القومية للدول من حيث فسح المجال لرأس المال والقوى العاملة والوسائل الأخرى أن تدخل الدول الأخرى بدون حسيب أو رقيب حسب قاعدة (دعه يدخل ودعه يخرج).
2) سياستها تعتمد على سعر السوق حسب العرض والطلب مما يؤدي إلى تدمير الرأس مال الوطني وإغلاق المصانع في الدول النامية مما يجعل أصحاب الرأس مال الوطني (البورجوازية الوطنية) تعلن إفلاسها وتصطف مع طابور الكادحين والبطالة.
3) يصبح الإنسان في مرحلة العولمة يعامل كالسلعة حسب العرض والطلب ويعتمد على جهده العضلي وعلى قوة عقله والآخرون يهملون.
4) يكون استغلال الدول الرأسمالية للدول الأخرى في البحث على المواد الأولية بشكل تدميري وتخريبي.
5) مصانع الدول الرأسمالية سببت تلوث المناخ والبيئة مما أدى إلى شحة الأمطار وتصحر الأراضي.
6) المنافسة بين الدول الرأسمالية في الحصول على المواد الأولية واستعمار الدول وجعلها أسواق لتصريف بضائعها.
ماذا تكون النتائج ؟
أصبح العداء للعولمة من قبل جماهير واسعة وهم :
أ‌) البورجوازية الوطنية التي أغلقت مصانعها واصطفت مع الكادحين والبطالة.
ب‌) جمعيات البيئة والرفق بالحيوان والإنسان وجماهير واسعة من الكادحين والجياع والفقراء والبطالة وغيرهم.
إن هذه الجماهير سوف تتوسع وتنظم نفسها وتقود ثورة كبيرة عالمية تكون فيها نهاية العولمة ورأس المال العالمي.
العلاقة بين النظرية والممارسة العملية :
حينما نستدل عن العلاقة بين النظرية الماركسية والممارسة العلمية فإن النظرية تمثل العام وهو الذي يعبر عن الواقع الموضوعي في حين أن الممارسة تمثل الخاص (الجزئي كماً ووزناً) وبالتالي فإن العام لا يعكس جميع تفاصيل وخصائص (الممارسة) الخاص الذي بدوره لا يحمل إلا الفكر الأساسي الذي يعبر عنه العام (النظرية) ومن خلال ذلك فمن الطبيعي أن تولد عدم تطابق وتمايز بين العام (النظرية) والممارسة (الخاص) بين الطبيعتين والتفاعل بينهما بل وحتى التناقض والتناحر لأن العملية الاجتماعية معقدة ومضطربة لأنها نتاج تفاعلات أكثر تركيباً وأكثر عضوية وأن إدراك طبيعتها تجري في العقل الإنساني عبر عملية تحليلية وتركيبية بمنهجية خاصة لكل إنسان لذلك فإن الفكر الإنساني الذي يمثل الواقع الاجتماعي هو انعكاس لرؤيا واجتهاد ذلك الإنسان ولذلك من المحتمل بروز الخطأ وعدم الدقة في الممارسة (الخاص) الذي يأتي بشكل مخالف ومتناقض عن النظرية (العام).
كما أن من الخطأ الدفاع عن أي استنتاج نظري طبق كممارسة في الماضي بصرف النظر عمن صاغه لأن جدلية الفكر الماركسي تشير إلى اختلاف الزمان والمكان مع الواقع الموضوعي .. فالذي يحدث قبل شهر يختلف عما يحدث اليوم والذي يطبق في مكان ما قد يختلف عن المكان الذي نشأ به من حيث التقاليد والعادات لذلك يجب دراسة الواقع الموضوعي المادي بصورة ديالكتيكية من حيث ظروفه الذاتية بشكل يؤدي إلى فهم الحاضر واستشراق المستقبل واحتمالاته بصورة علمية.
لينين والأسس التنظيمية :
كان لينين أول من وضع الأسس الراسخة للبناء التنظيمي وقاد أعظم ثورة في العصر الحديث للكادحين والجياع والمحرومين وبناء تنظيم وتأسيس الحزب الشيوعي الروسي الذي تحول اسمه من الحزب البلشفي الذي كان يسمى حزب روسيا العمالي (الاجتماعي الديمقراطي) وأصبح اسمه (الحزب الشيوعي) في مؤتمر عقده الحزب في شهر آذار/ 1918 بعد انتصار ثورة اكتوبر عام/ 1917 بقيادة لينين وتحالف العمال والفلاحين.
لقد بين لينين أن التنظيم يخلق الإرادة والتصميم ووحدة العمل للطبقات الكادحة والمسحوقة والمحرومة ويحقق الأهداف التي ناضل من أجلها وقد بلور لينين هذه الفكرة التي تعبر عن الانضباط والالتزام وتسود في صفوف أعضاء الحزب عن طريق الاصطفاف والتنظيم لأعضاء الحزب في تنظيمات منضبطة وتسودها وحدة الإرادة والتصميم والإصرار والتضحية والتي لا يمكن للحزب الشيوعي أن يحقق أهدافه وطموحه بدون هذه التنظيمات المنضبطة والملتزمة.

الأزمات في النظام الرأسمالي :
تنطلق الأزمات في النظام الرأسمالي من خلال تحليل طور الإنتاج والتغييرات الجارية في البنية الإنتاجية للاقتصاد الرأسمالي ومن خلال تحليل هذا الطور يمكن تعميم صيغة من النتائج المتحصل عليها كأداة معرفية تحليلية لدراسة التطورات في مجال التداول وبحث العلاقات ذات الطابع الجدلي العام ليتم الوصول في نهاية الأمر إلى تشخيص الأزمة المالية بأنها أزمة بنيوية الطابع مرتبطة بعولمة الحياة الاقتصادية من خلال تدويل عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي وعلاقته بالدور المتعاظم للرأسمال المالي الحقيقي والوهمي للشركات الاحتكارية الدولية ذات النشاط في الاقتصاد الرأسمالي والأسواق المالية وما تشهده من تذبذبات واضطراب وعدم الاقتصار على تحديد أسباب الأزمة الاقتصادية الراهنة على المخطط الكلاسيكي لتراكم رأس المال وارتباطه ومتابعته لمسار تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي خلق المقدمات لنشوء هذه الأزمات وتفاقماتها.
إن التراكم الفائض لا يقتصر على وجود قدرات إنتاجية لا تعمل بكامل طاقتها في قطاعات السلع والحاجيات التي تصيبها الأزمات فحسب بل تشمل وبشكل فائض الرأسمال النقدي في الفروع النامية بصورة ديناميكية وبنفس الطريقة تتشابك أزمات الإنتاج السلعية الدورية مع الأزمة المالية في مجال التسليف.
يجب ربط أية ظاهرة في المجتمع بالتطور التاريخي وتحرير المجتمع من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد وذلك من خلال التحليل العلمي الدقيق لقوانين تطور المجتمع والجذور التاريخية لأية ظاهرة في الوجود.
الماركسية والتاريخ :
إن النظرية الماركسية لم تكن مجرد سرد للأحداث التاريخية وإنما استعراض التاريخ كمسلسل من الأحداث المرتبطة بعضها مع بعض ودراسة أسبابها ومسبباتها كمرحلة تكون بدايتها ونهايتها ونتائجها تؤدي إلى خلق نقيض لتلك الظاهرة فيحدث صراع وتناقض بين أصل الظاهرة ونقيضها مما يؤدي هذا الصراع إلى نهاية وموت تلك الظاهرة الأولى مما يؤدي إلى خلق نظام جديد وهذا الجديد يولد معه نقيضه أيضاً ومن خلال هذا التناقض والصراع بين القديم والجديد يسير دولاب الحياة والحضارات بعد أن تتفاعل ديناميكية الحياة ومسيرة وحتمية التاريخ تتواصل مسيرة الحياة الإنسانية وتقدمها وتطورها في الحياة.
كما أن النظرية الماركسية مجموعة منظمة ومنتظمة من النظريات العلمية التي يمكن الوصول إليها عن طريق البحث والتحري وتم استخراج منها قواعد وقوانين عامة طبقت بشكل علمي ودقيق بعد أن حولها لينين من فلسفة صورية وعلوم مجردة تمثل فكراً طوباوياً إلى واقع ملموس في صراع طبقي وحول معاناة الشعب وجوعه وحرمانه إلى شعارات مطلبية وقاد أعظم ثورة في العصر الحديث والآن يمكن تحويل الحقائق التي يتم الوصول إليها عن طريق البحث والاستدلال التي عاشها الشعب الروسي قبل ثورة اكتوبر العظمى.
صعود الماركسية الغربية :
كانت النظرية الماركسية قد وظفت الحركات الماركسية التي تمتد من الاشتراكية الديمقراطية الألمانية حتى ظهور الحزب البلشفي الروسي نخبة واسعة من الشباب المثقف في أوربا انجذبوا للنظرية الماركسية بعد الثورة البلشفية في عام/ 1917 وطوروا نماذج نقدية للنظرية الماركسية وظهر نقاد داخل النظرية الماركسية بين النزعة العلمية للنظرية الماركسية والأفكار (الاوذكروسية) كان ماركس وأنجلز يعتبران القادة الاقتصادية للمجتمع تتجسد في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وتنشأ منها الثقافة والأيديولوجيا كبناء فوقي يضمن هيمنة الطبقة الاجتماعية الحاكمة والقاعدة تمثل الاقتصاد أساس المجتمع وقد قام عدد كبير من الماركسيين الغربيين على تطوير طبيعة البناء الفوقي والقاعدة الاقتصادية واستمالوا نحو منح الثقافة الاستقلالية أكبر أهمية مقارنة مع ما كانت تحظى بها النظرية الماركسية ... أما الجيل الثاني من الماركسيين الكلاسيكيين الذين يمثلون الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان الثوريين (الراديكاليين) والماركسيين الروس فقد ركزوا بدقة أكبر على الاقتصاد والسياسة في القرن العشرين ظهر النافذ الثقافي الهنغاري الأصل (جورج لوكاش) فألف كتب أدبية مهمة ثم اعتنق الفكر الماركسي واشترك في ثورة هنغاريا عام/ 1918 وأصبح ماركسي متطرف بشكل خاص واتجه إلى تطوير ذات أبعاد فلسفية واجتماعية وسياسية للماركسية وذلك قبل أن يعود للتحليلات الثقافية وسافر إلى روسيا وعند ظهور ستالين وسلوكه الإجرامي انسحب من الستالينية وألف عدة كتب استعمل فيها المصطلحات الماركسية مثل نمط الإنتاج والطبقات والصراع الطبقي وتحليل ماركس لرأس المال الذي فسح المجال لدراسات اقتصادية وسياسية وثقافية ونظر إلى التاريخ من خلال توسط وتدخل الاقتصاد والمجتمع وفي كتابه (التاريخ والصراع الطبقي) الذي حاول فيه على أولوية البضاعة والإنتاج الاقتصادي الذي امتاز بمنهجية التحليل النقدي للمجتمع الرأسمالي المعاصر.
المنطق الاستقرائي
يعني الاستقراء بدراسة الواقع الموضوعي للخروج بنتائج قضايا نظرية .. ويقدم بدراسة المجتمعات من الناحية الموضوعية والطبيعية ومن هنا يجب تطبيق المنهج الموضوعي على دراسة الظواهر الاجتماعية على أساس الملاحظة الموضوعية التي يمكن أن تنتهي بعلم الاجتماع إلى قوانين سوسلوجية عامة تفسر الظواهر الاجتماعية من خلال دراسة حقيقية موضوعية من خلال التزام العلم بالوضعية من خلال ذلك يتم المزج بين التجديد الفكري ووضوح التصور والمعالجة الواسعة المدى للأفكار بحيث يجمع هذه الخصائص في تاريخ الفكر الاجتماعي الذي ينبع تجديده للفكر من خلال ترشيد الإحساس الذي يأتي بطريق طبيعي للشخصية العلمية الموضوعية غير العاطفية ويأتي من خلال الوعي العميق بالعمليات التاريخية التي تراكمت وبلغت ذروتها في وضعية العلم وضرورة بناء نسق فكري واقعي مستقل يمكن عن طريقه فهم هذه العمليات والإسهام في تحسين ظروف الحياة الاجتماعية.
إن الحقائق الخارجية موجودة بصرف النظر عن صورها الذهنية عندنا إلا أننا لا نعرف هذه الحقائق إلا على طريقتنا أي حسب طبيعة حواسنا التي هي الوسيلة الوحيدة التي نملكها للمعرفة وأن مصدر هذه المعرفة عند الإنسان هي الحواس فهي التي تقدم لنا المعطيات الأولية وهذه بدورها تبقى فينا على شكل صور وبهذه الصور يتصرف فكرنا بواسطتها ليبني .. فالإحساس يدخل عن طريق الحواس فتحتفظ به الذاكرة وتشكله مخيلة الإنسان ومن ثم تقم هذه المخيلة بترتيب الأحاسيس وعلى ضوء هذه الترتيبات يتصرف ويتعامل الإنسان مع الآخرين.
كارل ماركس في رحاب عبقرية الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام)
وأنا أحلق في رحاب الفكر الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإنساني للإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في مقولته الرائعة التي تجسد كل المعاني الإنسانية حيث يقول : (ليست هناك نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع) وتسير الأيام والسنين وبعد حوالي عدة قرون على تلك المقولة الرائعة يستدل عليها الفيلسوف كارل ماركس ويستنبط منها نظريته الاقتصادية (فائض القيمة) التي أحدث فيها ثورة في علم الاقتصاد وكتابه المأثور (رأس المال) وحفز يقظة ثورية لدى الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم بإدراك حقوقهم وحرمانهم منها من خلال نظريته الاقتصادية (فائض القيمة) وعلى ضوء هذا القانون يعكس كيف يستغل الرأسمالي ويسلب جهد العامل الكادح ويكون الثروة الكبيرة التي من خلالها يوسع معاملة ويزيد مكانته ووسائل الإنتاج وتقوم المقولة (ليست هناك نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع) التي خلقت لدى ماركس نظريته (فائض القيمة) :-
يمتلك رأسمالي مصنع لإنتاج الساعات اليدوية ويعمل في هذا المعمل خمسة عمال ينتج في اليوم الواحد عشرة ساعات يبيع الساعة الواحدة بمبلغ عشرة دنانير فيكون مجموع ما يحصل عليه الرأسمالي (مئة دينار) .. أما أجرة العامل الواحد (عشرة دنانير) فيكون مجموع ما دفعه الرأسمالي (خمسون دينار) يضاف إلى هذا المبلغ نسبة اندثار عشرة دنانير وإيجار المحل خمسة دنانير ومصاريف أخرى عشرة دنانير يكون النتيجة :
أجور العمال خمسون دينار + كهرباء المحل خمسة دنانير + إيجار محل خمسة دنانير ومصاريف أخرى عشرة دنانير = سبعون دينار.
الرأسمالي باع الساعات بمائة دينار إذن :
مائة دينار – سبعون دينار = ثلاثون دينار ربح الرأسمالي التي تعتبر فائض القيمة وهي بالأساس نتيجة جهد العامل وتمثل (الحق المضيع) وعند مقارنة مقولة الإمام علي (عليه السلام) (ليست هناك نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع) .. إن تراكم رأس المال التي تمثل ملكية الرأسمالي هي (النعمة الموفورة) التي تكونت من خلال (فائض القيمة) الذي يمثل (الحق المضيع) الذي هو من جهد العامل، وبتراكم فائض القيمة يتكون ملكية الرأسمالي (النعمة الموفورة).
ماركس وطبيعة المجتمع :
إن طبيعة المجتمع الماثل أمامنا ليس كيفياً وليس هنالك مجال لاستنكاره ونفيه كحالة شاذة منافية لأخلاق المجتمع بل هو نتاج تطور ضروري كان على الإنسانية أن تمر به خلال تطورها وتقدمها بالرغم أن هذا التطور والتقدم يحدث خارج إرادة الإنسان إلا أن الإنسان له دور فعال في مسيرته وقيادته والتأثير عليه بما ينسجم مع مصالحه وطبيعة حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يقول ماركس : (إن الفلاسفة فسروا التاريخ وعلى الإنسان أن يغيّره) .. إن التغيير لا يمكن أن يحدث بدون تدخل الإنسان بعكس التطور الذي يحدث مسيرة التاريخ الذي يكون خارج إرادة الإنسان مثل النضال الطبقي ومسيرة التاريخ العلمي والأدبي والاقتصادي ومستوى نضوج ورقي وتقدم الإنسان إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان ليس له دور في ذلك .. صحيح أن بعض الظواهر تحدث خارج إرادة الإنسان ولكن الإنسان يستطيع أن يحورها ويكيفها حسب ظروفه وحاجاته حتى الأعاصير في الطبيعة والهزات الأرضية تحدث الخراب والدمار ولكن الإنسان لا يقف مكتوف اليدين أمامها وإنما استطاع بعقله وذكائه أن يخلق كل ما هو في مصلحة الإنسان وسعادته ورفاهيته ويكشف مختلف الوسائل والطرق العلمية والتكنولوجية ويسخرها في خدمته ومصلحته.
إن النظرية الماركسية تمتاز عن جميع النظريات لأنها لا تتمحور في حالة واحدة مثل الرياضيات والذرة وغيرها من العلوم بينما النظرية الماركسية تعالج الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما له علاقة بالإنسان وحياته ووجوده متمثلاً في معظم الإنتاج الفكري الوجودي ضد اغتراب الإنسان وضياعه عن نفسه .. كما تقف ضد تشويه إنسانية الإنسان وتخريب وتدمير الطبيعة .. وليست هذه الظاهرة وليدة اليوم وإنما تمتد إلى عملية نشوء وتطور الثورة الصناعية في الغرب منذ القرن الثامن عشر.
إن المسألة المركزية في النظرية الماركسية هي مشكلة وجود الإنسان ككائن موجود فردي وواقعي حقيقي تتجسد معنى وجوده من خلال اعتباره كعامل منتج الذي يتحقق ذلك في الصيرورة التاريخية والنظرية الماركسية ترى أن الإنسان في إحساسه الكامل ككائن موجود في مجتمع معطي وفي طبقة اجتماعية معطاة الذي جرى تطوره من خلال المجتمع.
العلاقة بين النظرية والممارسة العملية :-
حينما نستدل عن العلاقة بين النظرية الماركسية والممارسة العملية فإن النظرية تمثل العام وهو الذي يعبر عن الواقع الموضوعي في حين أن الممارسة الخاصة (الجزئي كماً وزمناً) وبالتالي فإن العام لا يعكس جميع تفاصيل وخصائص الممارسة الخاصة الذي بدوره لا يحمل إلا الفكر الأساسي الذي يعبر عنه العام (النظرية) ومن خلال ذلك فمن الطبيعي أن تولد عدم التطابق والتمايز بين (العام) النظرية والممارسة (الخاص) بين الطبيعتين والتفاعل بينهما بل وحتى التناقض والتناحر لأن العملية الاجتماعية معقدة ومضطربة لأنها نتاج تفاعلات أكثر تركيباً وأكثر عضوية وإن إدراك طبيعتها تجري في عقل الإنسان عبر عملية تحليلية وتركيبية بمنهجية خاصة بكل إنسان لذلك فإن الفكر الإنساني الذي يمثل الواقع الاجتماعي هو انعكاس لرؤيا واجتهاد ذلك الإنسان ولذلك من المحتمل بروز الخطأ وعدم الدقة في الممارسة الخاصة التي تأتي بشكل مخالف ومتناقض عن النظرية (العام).
كما أن من الخطأ الدفاع عن أي استنتاج نظري طبق كممارسة في الماضي بصرف النظر عمن صاغه لأن جدلية الفكر الماركسي تشير إلى اختلاف الزمان والمكان مع الواقع الموضوعي فالذي حدث قبل شهر يختلف عما يحدث اليوم والذي يطبق في مكان ما قد يختلف عن المكان الذي نعيش به من حيث التقاليد والعادات لذلك يجب دراسة الواقع الموضوعي المادي بصورة ديالكتيكية من حيث ظروفه الذاتية بشكل يؤدي إلى فهم الحاضر واستشراق المستقبل واحتمالاته بصورة علمية.


ماركس والوجود
إن كل شيء في الوجود (منحل ومتغير وغير ثابت بعد إزالة أعراضه الثلاثة المادة والصورة والمحرك) وإن الصورة تكتسب صورها المختلفة بواسطة المحرك .. ويقول أنجلز أن على المادية أن تغير صورتها كلما ظهر اكتشاف جديد رئيسي ظاهر الأثر في تاريخ العلوم .. وقال لينين (نحن نعتبر أبداً تعالم ماركس كشيء ناجز لا يمس بل على العكس فنحن على اقتناع بأنها طرحت فقط أحجار زاوية العلم الذي يتوجب على الاشتراكيين دفعه قدماً إلى أمام في كل الاتجاهات إذا كانوا لا يريدون التخلف عن الحياة.
إن ثورة الحداثة قامت من خلال هيكل الوجود لا يترك شيئاً فوقه أو خارجه بين الواقع الذي يمثله الهيكل ومفهوم الإنسان الذي يعيش في هذا الوجود يمثل جدران ذلك الهيكل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
إن التقدم والتطور حدث من خلال الهيكل الوجود الذي لا يترك شيئاً فوقه أو خارجه والإنسان يمثل جدران ذلك الهيكل الاجتماعي.

لينين والنشاط الجماهيري :
إن استهداف الحزب الشيوعي يعني تدمير جميع مستلزمات الجماهير ونضالها في بناء المستقبل المشرق السعيد لجماهير الشعب.
يقول لينين في مؤلفاته الكاملة الجزء التاسع ص393 : أن السياسة بكل معنى الكلمة لا يمكن ممارستها إلا بواسطة جماهير الشعب والجماهير بدون حزب يعني أنها يدون قيادة والجماهير التي لا تتبع حزباً قوياً متماسكاً هي جماهير مشتتة وغير واعية عاجزة عن الحزم وتصبح لعبة بيد الساسة الانتهازيين الذين يظهرون دائماً في الوقت المناسب للطبقات البورجوازية كي يستغلوا الفرص السانحة لمصالحهم.
وتكلم لينين عن النضال والضبط الحزبي في الحزب حيث يتم التنظيم الجماهيري على شكل من أشكال التنظيم الحديدي.
لقد تمسكت بعض العناصر الانتهازية من خلال نقدها للينين ببعض النصوص والتصورات والأفكار دون امتلاك نصوص النظرية الماركسية وتجاهلت أن الماركسية علم ولأنها علم ليس من الممكن امتلاك ناصيتها دون دراسة وبحث .. لقد انطلقت أوهامهم من حتمية التطور الرأسمالي استناد المنشق إلى نصوص مفسرة بشكل مبهم حسب فكرة وتحليل (المحرفين) كاوتسكي وبرتشتاين التي تقول (إن الرأسمالية لا زالت تقدمية وأن الرأسمالية لم تستنفذ جميع طاقاتها على التطور) وكانت هذه الأفكار منسجمة مع أفكار المحرف المنشق برتشتاين.
دور لينين في تعزيز وتطوير النظرية الماركسية :
ولد لينين في 22/ نيسان/ 1870 في مدينة اليانوفا وتوفي في 21/1/1924 عن عمر 54 عاماً في مدينة موسكو.
نشأ وترعرع في كنف عائلة مثقفة التي كانت تقيم في مدينة سيميرك على نهر الفولفا وكان والده يمارس مهنة التعليم ثم ترقى وأصبح مدير لعدد من المدارس.
أما حياة لينين الدراسية في الخامسة من عمره وكان ذكياً جداً وقد نال إعجاب مدرسيه ومن يحيط به في إدراكه وذكائه وتمكن لينين من إنهاء دراسته الثانوية بتفوق ونال الجائزة الذهبية ثم نال شهادة الحقوق ومارس المحاماة في مدية سامارا وفصل من الجامعة حينما كان يدرس في جامعة فازان لنشاطه السياسي وقيادته المظاهرات وفي عام/ 1897 نفي إلى سيبيريا وفي عام/ 1903 ألف أول كتاب له عن الأرض والفقر والجوع في روسيا .. كان لينين قد تأثر واعتنق الفكر الشيوعي الثوري بتأثير من أخيه (الكسندر) عندما حكم عليه بالإعدام لاتهامه بمحاولة اغتيال القيصر الروسي وكان له أثر كبير في اعتناقه الفكر الثوري متأثراً بما قرأه وطالعه في كتب أخيه (الكسندر) ففرزت في فكره وأصبح مناضلاً صلباً وعنيداً.
لقد انظم لينين في أول حلبة ماركسية حينما كان يدرس في الجامعة وقد اعتقل في مدينة (بطرسبرغ) حينما كان يعمل من أجل اصدار صحيفة ماركسية ونفي إلى سيبيريا واستطاع أن يستغل وجوده في المنفى فألف عدة كتب عن الاشتراكية والرأسمالية حتى بلغت (74 مجلداً) وحينما كان في سويسرا منفياً أسس جريدة (الاكسترا) أي الشرارة حارب فيها الأفكار المنحرفة والإصلاحية وقد اصطف بجانب ماركس وأنجلز ضد المحرفين من أمثال (كوسكي وبرتشتاين وبليخانوف ويوخارين وغيرهم وقد تعرض إلى محاول اغتيال وأصيب بثلاث جلطات دماغية وتوفي في 21/1/1924 نتيجة الجهد المفرط حيث كان يقوم بنشاط نضالي وفكري 22 ساعة في اليوم وقد قالت عنه زوجته الفاضلة (كروبسكايا) لقد ذاب لينين وانتهى نتيجة الجهد المفرط في خدمة الشعب والفكر الماركسي لقد كان لينين العظيم شمعة استعرت وتوهجت نوراً ساطعاً وضياءاً بهياً في سماء روسيا من الأمل والأماني للحياة الإنسانية والبشرية جمعاء سوف تطرز من حروف من نور على جبين التاريخ تستعرضها الأجيال القادمة بفخر واعتزاز .. هل ثمة أعظم من عظمة الإنسان أن يكون زخة مطر يمتلك القدرة على إطفاء نار الهواجس واليأس والإحباط في نفوس البشرية وإروائها بالأمل والخلاص من الجوع والفقر والمرض والجهل والقهر.
كان لينين قد استفاد من أخطاء ماركس عندما اعتمد في ثورة عام/ 1848 على الطبقة البورجوازية وفشلها في قيادة ثورة/ 1848 وكان لينين اعتمد على البروليتاريا في ثورة اكتوبر العظمى عام/ 1917 ودكتاتورية البروليتاريا في قيادة الحكم والثورة وبهذه الأفكار الثورية قد هبط لينين من سماء الفلسفة المجردة والعلوم الصورية إلى أرض الواقع وحولها إلى نضال طبقي وصراع بينها وحولها إلى أعظم ثورة في العصر الحديث انتصر فيها الحفاة والجياع والمحرومين والمظلومين والمقهورين بأسلحتهم البسيطة البدائية على قوات الحرس الأبيض الروسي واستطاعوا من دحر سبعة عشر جيشاً بأسلحتهم الحديثة لقوات الاستعمار العالمي وكان الامعة العجوز (تشرشل) وزير الإعلام البريطاني يصرخ بأعلى صوته (اقضوا على البيضة قبل أن تفقس) من عرينه في لندن .. وانتصرت الثورة وانتصر لينين الذي ترجم أفكار الماركسية إلى ثورة العمال والفلاحين لينين العظيم مؤسس أول دولة للعمال والفلاحين في العالم ومؤسس الدولة السوفيتية وقائد ومخطط ثورة اكتوبر العظمى عام/ 1917 وكان المؤسس الأول للحزب الشيوعي في روسيا عام/ 1922 وكان أول مشيّد وباني دولة اشتراكية في العالم وكان المؤسس الأول للجيش الأحمر السوفيتي الذي مرغ أنف هتلر وقضى على الجيش النازي ورفع الراية الحمراء مطرزاً عليها المطرقة والمنجل على الرابشتاغ في برلين وهو أنقذ الإنسانية من شرور النازية والفاشية .. ولينين العظيم أول من شيّد وبنى قاعدة متينة للاقتصاد السوفيتي بعبقريته ويعتبر لينين المحلل والمكتشف لتطور الرأسمالية ودخولها مرحلة الامبريالية.
حينما زار موسكو بعد ثورة اكتوبر/ 1917 وفد صحفي أمريكي وسأل أحد الصحفيين لينين وقال له (كيف تستطيعون إنقاذ بلد مدمر يعاني أكثرية شعبه الفقر والجوع وتنقذون الاقتصاد الروسي المتدهور وإنقاذ الشعب الروسي من الوضع المأساوي ؟) فأجابه القائد العظيم بعبقريته عن خططه ومشاريعه فأصابهم العجب ووصفوه (بحالم الكرملين) وقال لهم : زوروا روسيا بعد عشرة سنوات وشاهدوا إنجازاتنا.
في العقد السادس من القرن الماضي زار وفد من الاتحاد السوفيتي جمهورية كوبا وكان ضمن الوفد أخذ أصدقاء لينين (يانسييف) فسأله أحد الشخصيات الكوبية قائلاً : رفيق يانسييف لو كان لينين حياً كيف كان العالم الآن ؟ فأجابه يانسييف : لو كان لينين حياً ولم يعاجله الموت لرأيت العالم غير ما تراه الآن.
كيف يكون الحسم والنصر مع العولمة المتوحشة التي تمثل المرحلة النهائية للرأسمالية :-
إن العولمة المتوحشة أصبحت ذات معالم ورؤيا عالمية فيجب مواجهتها برؤيا واستراتيجية لجميع قوى اليسار العالمي من خلال الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والنقابات المختلفة والجمعيات العمالية والفلاحية وجميع قوى وأنصار المجتمعات المدنية في العالم مدعوة لتوحيد وتوظيف طاقاتها في مهمتين رئيسيتين متوازنتين.
الأولى أن تخلق هذه التنظيمات جهازاً أيديولوجياً خاصاً بها متعدد الأوجه يقوم بالتعبئة والتحريض في وقت واحد كتعبئة الجماهير وتنظيمها ورفع مستواها ووعيها وإدراكها في القضاء على العولمة المتوحشة والمشروع الرأسمالي المدمر وتوضيح البدائل التي تدعوا لها هذه المنظمات مجتمعةً والتحريض ضد الأزمات والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية التي تخلقها الرأسمالية وعولمتها كل يوم في العالم.
تعتبر الدولة مؤسسة قمعية ضد الشعب وبوسائلها تحارب الشعب وتحمي السلطة الحاكمة ومن واجب القوى المناضلة القيام باختراق جهاز الدولة الأيديولوجية بالوسائل المختلفة لغرض تحديد أجهزتها القمعية أو تحويل أجزاء منها وجذبهم إلى صفوف القوى المناضلة وهنالك ضرورة قصوى لاستثمار المفكرين والأدباء والفنانين إلى جانب الحركة النضالية بشكل منظم ليحققوا حضوراً قوياً بين جماهير الشعب وأن كثير من هؤلاء المبدعين قد حصلوا على جوائز عالمية في الأدب والثقافة والفن والإخراج والتمثيل إلى غير ذلك من المنجزات وهذا يتم حينما تسعى القوى والأحزاب المناضلة ويمكن استغلاله وتحقيقه في النضال ضد العولمة المتوحشة الرأسمالية.
كما أن لهذه العناصر ثقل ومكانة اجتماعية وثقافية في المجتمع وفي العلوم المختلفة عوضاً عن قيام هذه العناصر من الشعراء والفنانين والعلماء بشكل عشوائي من دون رؤيا استراتيجية معتمدين على مواهبهم الفردية وهذه العشوائية نابعة من عدم وجود نظرية سياسية موحدة ورؤية وجبهة استراتيجية تجمع قوى الشيوعيين واليساريين والنقابات العمالية والاجتماعية والجمعيات الفلاحية ومنظمات المجتمع المدني تخص كيفية النضال والعمل التي تمكن هذه القوى من التصدي للعولمة الرأسمالية وإنشاء البديل عنها وتظل هذه الوجهة مطروحة للحوار والإغناء لكي تتشكل في النهاية نظرية واحدة تجمع مصالح وأهداف هذه القوى وهذه اللوحة إلى ما أكد عليه وذهب إليه ماركس وأنجلز ولينين من أن النضال ضد عدو موحد عالمياً ويمتلك أذرعاً متعددة في المجال العسكري والسياسي والاقتصادي .. لا يمكن الحاق الهزيمة به دون تضافر كافة القوى المناضلة والمتضررة من العولمة المتوحشة والرأسمال العالمي.
أما اختراق الجهاز الأيديولوجي للعولمة المتوحشة الرأسمالية يعتبر ارتباطاً بنظرية غرامشي السياسية التي تدعو إلى خلق هيمنة من القاعدة الجماهيرية هيمنة من تحت هيمنة بديلة لهيمنة (الأجهزة الأيديولوجية للعولمة الرأسمالية) التي حولت عالمنا والإنسان فيه إلى عالم ذي بعد واحد ولذلك ما طرحه المفكر (سانتيا غوكاريللو) في كتابه (الأورو شيوعية والدولة) الذي أثار كثير من الجدل حوله خلال السبعينيات من القرن العشرين من فكره لحاجة يمكن اعتبارها منطلقاً لبناء نظرية سياسية جديدة تساعد الحركة الثورية العالمية في كفاحها ضد العولمة المتوحشة الرأسمالية وتؤدي في النهاية إلى تجاوز الرأسمالية وهو مشروع مفتوح للنقاش من أجل الخروج في النهاية برؤية استراتيجية موحدة تمثل قوى الثورة العالمية المناهضة للإمبريالية وهذا المشروع أو النظرية السياسية تستند إلى فكرة بسيطة وهي (أن الثورات اليوم تهدف إلى قلب الأجهزة الايديولوجية للدولة الرأسمالية وتغييرها واستخدامها ولو جزئياً ضد سلطة دولة رأس المال الاحتكاري) .. إن كاريللو حصر مهمة تحويل الجهاز الأيديولوجي للدولة البورجوازية إلى جهاز يساعد الحركات الثورية في الدول الرأسمالية المتقدمة وقد يكون هذا الحصر مرتبطاً بظروف الرأسمالية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلا أن الامبريالية وعولمتها الرأسمالية دفعت بقوى اجتماعية جديدة هائلة لتكون في صف المناوئين للعولمة الرأسمالية .. ونتيجة لهذا التحول النوعي في الالتفاف والتحالفات الطبقية فإن مهمة تجاوز العولمة الرأسمالية لم تعد محصورة على الحركات والأحزاب المضادة للعولمة ضمن نطاق الدول الرأسمالية وإنما اتسعت لتعم العالم كله لأن الثورة الاشتراكية لم تعد تقتصر على البروليتاريا وإنما شملت الغالبية الكبرى من أبناء الشعب ... وطرح (انفارسوني) وهو من اليسار الألماني باحث في معهد روزا لكسمبرغ للدراسات .. ضرورة هيمنة وخلق ثقافة مضادة للظلم الاجتماعي والعنصرية من أجل السلام والحقوق الديمقراطية .. إذا أردنا تبني استراتيجية ملائمة لأسئلة عصرنا يجب وضع المسألة بأكملها في موضوع تساؤل ولتحقيق ذلك يجب أن يتوفر قدر كاف من (السلطة المضادة) وأن تكون هناك حركة منظمة في المجتمع وبناء هيمنة أيديولوجية لامتلاك مواقف قوية كافية تستطيع الخروج إلى الشارع وعلينا أن نسمع الناس ونوصل لهم صوتاً مختلفاً عن الخطابات البحتة من قبل العولمة الرأسمالية.
الشاعر الكبير معروف الرصافي والفكر الشيوعي
من الهواجس التي عبر عنها الشاعر الكبير معروف الرصافي في جلسة مجلس النواب العراقي المنعقد في 31/ أيار/ 1937 .. بعد انحراف قائد الانقلاب بكر صدقي عن التوجهات العامة لحكومة الانقلاب الإصلاحية التي شاركت فيها بعض القوى والشخصيات الوطنية بدأت حملة تصعيد نغمة تهمة الشيوعية لكل وطني شريف يدافع عن وطنه وشعبه على أثر ذلك انبرى وقتها الشاعر الرصافي رجل المواقف والأفكار الشجاعة الجريئة الذي كان نائباً عن الدليم في المجلس النيابي معقباً على كلام رئيس الوزراء حكمت سليمان بقوله : إن الذي أفهمه من كلام رئيس الوزراء في هذه المرة وفي غيرها هو أنه يتحفظ ويتخذ كل جذر من أن يسمع أو يتكلم بكلمة تدل على الشيوعية، أو يشم منها رائحة الشيوعية وأفهم أيضاً أن هناك أناساً يريدون في طي الخفاء أن يضعوا تحت أقدام الحكومة مزالق من ثلوج الشيوعية .. إن هذا الشيء غريب .. الشيوعية مبدؤها معلوم ومبدؤها عال وسام جداً فليت شعري من هم هؤلاء الذين يريدون أن يقاوموا هذا المبدأ السامي أن هذا المبدأ لا يقاوم إلا بشيئين : أما بثقافة عالية أو بقوة غاشمة عظيمة جداً .. أقول أيها السادة لكم عن نفسي كما يقول المثل العامي: لبست الأرض وأخرجت يدي من السماء فليس لي ملك أن يذهب ولا ولد أخاف أن يضيع ولا دار أخاف على امتلاكها .. فإن لم أكن شيوعياً فإني أحمق .. أنا فقير مع أني أحمد الله على ذلك .. سادتي أنا شيوعي ولكن ليس بالمعنى الذي يعرفه الناس .. أنا شيوعي وشيوعيتي إسلامية .. الشيوعية التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وجاء في القرآن الكريم (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) فالضمير هنا يعود إلى الأغنياء فهذه كلمة حق وكل فقير له حق في مال الغني .. وكان صلوات الله عليه وسلم يرسل عماله في جباية الزكاة ثم يقول : (خذوها من أغنيائهم وردوها على فقرائهم) .. فسألتكم بالله هل أن الشيوعية غير هذا ؟ فأرجو من فخامة رئيس الوزراء أن يعرفني بالرجال الذين يقاومون هذا المبدأ السامي بالجهل ؟
فيما تقدم من كلام الشاعر الكبير الرصافي نجده يختصر علينا المسافات لفهم جنوح الوطنيين في مواقفهم السياسية وأفكارهم إلى مواقع التقدمية يجسدوها في جملة من الآراء الإصلاحية الجريئة والرؤى النقدية للظواهر السلبية في المجتمع العراقي والحياة السياسية مقرونة بالنشاط والعمل الفعلي من خلال تبنيهم الضروريات الموضوعية للارتقاء بحال البلد ورفع المظالم عن الناس المظلومين والدفاع عن الحقوق والحريات الديمقراطية.
إن الاستعمار وعملاءه الرجعيين يوجهون تهمة الشيوعية أو موالاتها سوطاً جاهزاً بيد الحكومات الرجعية وأعوانها والقوى التي تتحالف معها ويرفع بين الحين والآخر بوجه عناصر الحركة الوطنية تنفيذاً لسياسات تسلطية قسرية سواء بمخططات داخلية أو خارجية وقد جلدت القوى الوطنية بهذا السوط الجائر على يد السلطات الرجعية وحلفاءها وأعوانها طيلة حياتهم النضالية وحتى بعد وفاتهم في محاولات معروفة النيات.


النضال في عصر العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية وتفرد الرأسمالية العالمية بالحكم على الساحة الدولية وقيام الثورة العالمية في التطور التكنولوجي والمعلوماتية التي جعلت العالم ما يشبه القرية الصغيرة واختراع الرجل الآلي كل ذلك أضعف القوى العاملة (البروليتاريا) من قيادة الثورة ضد الرأسمال العالمي وانهاء النظام الرأسمالي.
إن المفكر الشيوعي (غرامشي) أعطى أهمية فائقة لهذه المرحلة في مواجهة العولمة المتوحشة وطرح أهمية البنية الفوقية والمثقفين والنقابات والجمعيات العمالية والفلاحية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من الفئات الاجتماعية الأخرى وتوحيد قواها في النضال ضد العولمة المتوحشة ورأس المال العالمي وطرح المفكر غرامشي أربعة آليات حاسمة في استراتيجية لخلق هيمنة بديلة الأولى هي الكتلة التاريخية والثانية هي دور الثقافة والمثقفين العضويين تحديداً في رفع مستوى وعي هذه الكتلة والثالثة دور الحزب الماركسي الثوري كمثقف جمعي في قيادة الكتلة للانقضاض على النظام الرأسمالي والرابعة هي ماركسية الجماهير كأداة لخلق ثقافة شعبية توحد هذا الامتداد البشري الواسع ضد عدو واحد العولمة المتوحشة والرأسمال العالمي.
إن غرامشي وكثيراً من المفكرين الماركسيين أدركوا أن حجم الهوة بين الرأسماليين وأعدائهم قد اتسعت كثيراً وإن جماهير الكادحين وحلفائهم يحتاجون إلى قدرات وامكانيات كبيرة لتحقيق هيمنتهم على المجتمع قبل الانقضاض على العولمة والرأسمالية العالمية .. وهنا تحاول الرأسمالية تسخير طاقات المجتمع المدني في خدمتها وبالمقابل تحاول الطبقة العاملة والكادحين تحويل المجتمع المدني إلى أداة لتغيير النظام الرأسمالي.
استناداً إلى هذه الرؤية الاستراتيجية فإن جميع الأحزاب الشيوعية واليسارية والاشتراكية الأخرى في العالم كله والنقابات والجمعيات العمالية والفلاحية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى في العالم وحركات التحرر الوطني مدعوة الآن لتوظيف طاقاتها في مهمتين متوازيتين :
- المهمة الأولى : هي أن تخلق هذه التنظيمات جهازاً أيديولوجياً خاصاً بها متعدد الأوجه يقوم بعملية التعبئة والتحريض في وقت واحد لتعبئة الجماهير الواسعة ورفع مستوى وعيها الفكري وإدراكها عملية النضال والكفاح ضد العولمة المتوحشة والرأسمال العالمي ومن ثم تثقيفها بما وراء المشروع العولمي الرأسمالي وتوضيح البدائل التي تدعو هذه المنظمات مجتمعة لها والعمل والتحريض ضد الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية التي تخلقها الرأسمالية في كل يوم.
- المهمة الثانية : القيام باختراق جهاز الدولة الأيديولوجي لغرض تحييد وتحديد جزء من الجهاز وتحويل الأجزاء الأخرى إلى قوى حليفة ومساندة للمشروع الجماهيري المضاد للعولمة ورأس المال إن أي متابع لمجريات الثورة العالمية يرى أن هذه الإمكانية قائمة الآن في المجتمعات في العالم وفيها آفاق كبيرة تشمل جميع دول العالم فيما لو خضعت لرؤية استراتيجية عالمية مخططة عن طريق استثمار منظري ومفكري وأدباء وفناني القوى الشيوعية واليسارية والاشتراكية والحركات الأخرى بشكل منظم ويحققوا حضوراً قوياً في جميع العالم .. وهذا يتم تحقيقه حينما تتوحد جميع القوى المتعددة المناوئة للعولمة المتوحشة الرأسمالية وأن تخلق من أجهزتها الأيديولوجية الخاصة بها في مجال الميدان ووسائل التواصل الأخرى أو مثقفيها العضويين القادرين على اختراق الجهاز الأيديولوجي المعولم الرأسمالي عبر قدراتهم ومواهبهم ومثلما يفعله الأدباء والفنانين من خلال برامجهم ومسرحياتهم وأفلامهم وكذلك الشعراء والعلماء ومن خلال رؤيا استراتيجية معتمدين على مواهبهم الفردية وهذه العملية نابعة في حالة عدم وجود نظرية سياسية موحدة للشيوعيين واليساريين والاشتراكيين ومنظمات المجتمع المدني تخص الكيفية التي تمكن هذه القوى من التصدي والقضاء على العولمة الرأسمالية وإنشاء البديل عنها.
إن هذه الصورة والوجهة مطروحة للحوار بين القوى والإغناء من أجل تشكيل في النهاية نظرية لجميع القوى السياسية الجديدة .. وهذه اللوحة أكدت ما ذهب إليه ماركس وأنجلز ولينين وروزا لوكسمبورغ ومفكرون ماركسيون آخرون من أجل النضال ضد عدو موحد عالمياً يمتلك أذرعاً متعددة في المجال العسكري والفكري والإعلامي وغيرها .. لا يمكن الحاق الهزيمة بهذا العدو دون تضافر جهود كافة الفئات والطبقات الاجتماعية المتضررة من سطوة الرأسمال العالمي.


ماوتسي تونغ واسترشاده بالفكر الماركسي في تنفيذ ثورته الكبرى
حدد ماوتسي تونغ ثورته العملاقة على تنوع أشكال النضال وتعدد القوى المحركة للثورة والتي سبقت الثورة الصينية وعلى ضوء تلك التحليلات كشفت طبيعة التحالفات الناتجة عن تحليلاته للقوى المحركة للثورة والقوى المضادة لها (الامبريالية وحلفاؤها من الرجعيين المحليين) الذين استطاعوا السيطرة على المدن الصينية لمدة طويلة ولم يبق أمام الثوريين إلا التوجه نحو المناطق الريفية (الفلاحين وقود الثورة) ذات الكثافة السكانية المرتفعة وجعلها قاعدة للثورة حيث اعتبر ماوتسي تونغ الفلاحين القوة الرئيسية في الثورة الصينية تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني ولهذا ظهرت بوادر إمكانية انتصار الثورة أولاً في المناطق الريفية ومن العوامل المؤثرة التي مكنت الحزب الشيوعي الصيني من انحياز واصطفاف الجماهير الفلاحية الاصطفاف مع الحزب الشيوعي الصيني وقيادة العمليات الثورية الدور الكبير الذي حفزته وحرضته انتصار ثورة اكتوبر العظمى في روسيا ونتائجها على الثوار الصينيين واعتبر ماوتسي تونغ أن اطلاقات المدفعية لتلك الثورة العامل الأساسي في رفع وعي ومعنوية الفلاحين والشعب الصيني وإمكانية تحقيق أماني وطموح أبناء الشعب الصيني .. والعامل الآخر هو التحالفات المتينة التي عقدها الحزب الشيوعي مع الحركة الجماهيرية الديمقراطية والحركة الفلاحية والحركة الطلابية وحركة البورجوازية الصغيرة ورفع الحزب الشعارات الواقعية الملموسة التي لها علاقة بحياة الشعب من حيث الزمان والمكان مثل الاعتماد على القوى الذاتية وصينية الماركسية انطلاقاً من مقولة ماوتسي تونغ (لا توجد ماركسية مجردة بل ماركسية ملموسة) اتخذت شكلاً وطنياً وطبقت على النضال المشخص فيما هو خاص من ظروف الصين الملموسة.
إلى المشككين بعبقرية ماركس والماركسية
أنقل فقرات مما قاله مؤلف كتاب (كارل ماركس أو فكر العالم) جاك أتالي حيث قال : أقول دون تفاخر ولا حنين لست ولم أكن قط (ماركسياً) بأي معنى للكلمة وأعمال ماركس لم ترافقني في شبابي حتى أنني وهو شيء لا يكاد يصدق .. لم أسمع بأسمه ينطق خلال دراساتي في العلوم والحقوق والاقتصاد أو التاريخ .. وأول اتصال جدي لي معه حدث لدى قراءاتي المتأخرة لكتبه وبواسطة مراسلات مع مؤلف (مع ماركس للمفكر لويس التوسير) .. ومنذئذ لم تفارقني الشخصية ولا أعمالها قط. فلقد فتنني ماركس بدقة فكره وبقوة جدله وبمتانة محاكمته العقلية وبوضوح تحليلاته وشراسة انتقاداته وطرف خصاله ووضح تصوراته وشعرت أكثر فأكثر من خلال بحوثي بالحاجة إلى معرفة ما كان رأيه في السوق والأسعار والإنتاج وفي التبادل والسلطة والظلم وفي الاغتراب والبضاعة والانثروبولوجيا وفي الموسيقى والزمن والطب وفي الفيزياء والملكية وفي اليهودية وفي التاريخ واليوم وعيي بالتباساته مع عدم مشاطرتي استخلاصات تابعيه أبداً تقريباً .. ما من موضوع عرض لي التطرق إليه إلا وتساءلت عن رأيه فيه ووجدت فائدة عظيمة في قراءته.
كتب عن هذا الفكر العظيم عشرات الآلاف من الدراسات وعشرات الكتب من سيرة حياته أما بلهجة التقديس وأما بروح العداء دائماً دون أن تكون محايدة قط تقريباً .. وما من سطر كتبه إلا وتسبب في مئات الصفحات من التعليقات الغاضبة أو المبهورة والبعض جعلوا منه مغامراً سياسياً وانتهازياً مالياً وطاغية منزليا وطفولياً اجتماعياً ورأى فيه آخرون نبياً أو كائناً من عالم آخر .. وأول كبار الاقتصاديين وأب العلوم الاجتماعية والتاريخ الجديد والانثروبولوجيا وحتى التحليل النفسي .. وذهب آخرون أخيراً إلى حد اعتباره آخر فيلسوف مسيحي .. واليوم وفي الوقت الذي يبدو أن الشيوعية أمحت أبداً من على وجه الأرض وأن فكره لم يعد موضوع رهان للسلطة بات من الممكن أخيراً الكلام فيه بهدوء وجدية وإذن بما يعود بالنفع.
ما من مؤلف حظي بقراء أكثر منه .. وما من ثوري بعث من الآمال أكثر .. ولم يثر أي صاحب مذهب من الشروح والتعليقات أكثر منه باستثناء بعض مؤسسي الأديان ومن من إنسان أحدث تأثيراً مماثلاً كما كان لكارل ماركس في القرن العشرين.
وحينما كان يقيم في بريطانيا (لندن) ما كان مفكر أو فيلسوف أو عالم يزور بريطانيا إلا وذهب لزيارة كارل ماركس في بيته.
والنظرية الماركسية علم ولولا علميتها لما أصبحت مادة علمية تدرس في جامعات وكليات ومعاهد العالم.
من أجل حزب شيوعي ماركسي
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي في دول المنظومة الاشتراكية بدأ السؤال عن معنى الماركسية بشكل جاد ورغبة شديدة .. إلا أن هذه الجدية وهذه الرغبة للبحث عن معنى الماركسية لن يقود إلى تحديد رؤيا صحيحة وواقعية للماركسية وإنما على العكس من ذلك فقد قاد إلى ضياع كبير للمتأثرين بالماركسية السوفيتية، فعوضاً عن قيام هؤلاء معرفة أساس وأسباب ضلالة الماركسية السوفيتية وإبدالها بالماركسية الصحيحة التي تعتبر كمنهجية وطريقة في التفكير الذي يعني وعي الواقع وتغييره بالاعتماد على الجدل المادي الذي هو التناقض والتراكم الكمي الذي يؤدي إلى تغيير نوعي ونفي النفي وكذلك جدل الفكر المنسجم مع قوانين حركة المجتمع وإنما جرى إبدالها إلى فلسفة أقرب إلى اللاهوت مصاغة في العديد من أوجهها بما يناقض الماركسية الصحيحة وبالتالي سعيهم إلى إعادة الماركسية بصفتها في الجوهر منهجية / طريقة وجرى تكريس هذه الضلالة والتجاوز والتخلي عما هو صحيح في تلك الماركسية الذي هو النزوع الاشتراكي ليسقط حتى اللفظ بالشكل (الاشتراكي) من تلك الفلسفة التي أصبحت لاهوتية لتعود أيضاً إلى فلسفة لاهوتية غير معروفة حتى بمنطق الفلسفات الرأسمالية الحديثة.
إن المفروض من أجل بناء حزب شيوعي ماركسي يعتمد التنظيم اللينيني إعادة حوار (ما الماركسية ؟) حول معنى ماهية الماركسية ويسترشد بها ؟ مع ملاحظة أن مصدر الشرعية السابقة (الماركسية السوفيتية) قد انتهى وبالتالي قد انتهت معه كل قوانين (التحريم النسبي) و (الهيبة المعنوية) السياسية ليكون ممكناً تحقيق الحوار. لأن قوانين الحوار الماضية كانت تقوم على أساس رفض الحوار وتقسيم المتحاورين إلى ملحق (مؤيد مكرر) أو عدو. من أجل أن يصبح السؤال (ما الماركسية) وقيمته الحية وموقعه الصحيح بعدما كان لدينا ماركسية سابقة لابد من التأكيد على أن الماركسية طريقة في التفكير منهجية قبل أن تكون تصوراً عن التاريخ والواقع والعالم والاقتصاد والسياسة والمجتمع يجب أن يكون وعي الواقع وتغييره إضافة على أن تكون الطريقة هي التي تنظم كل ذلك، ودون هذا الناظم لا يعود لكل الرؤى حول هذه القضايا أي معنى سوى المعنى النظري، أي لا يعود لها معنى عملية وعي الواقع وتغييره، لأن الماركسية التي صاغها ستالين حولها من صيغة للبحث إلى صيغة لاهوتية شمولية استناداً إلى أفكار ماركس وأنجلز ولينين واعتبر كل ما قاله هؤلاء صحيحاً ومطلقاً معتمداً على دكتاتورية وبيروقراطية وعبادة الشخصية واستغفال الخصوصية الوطنية للأحزاب الشيوعية في العالم مما سهل عليه تحويل الافتراض إلى قانون والنسبي إلى مطلق والخاص إلى عام والخطأ إلى حقيقة واعتبر النظرية الماركسية مكتملة التي انتفت من خلالها الماركسية الأصلية وتحولت إلى ماركسية خالية وفضفاضة.

المصادر :-
1) نصوص من فصول كتاب (من هيغل إلى ماركس) للمفكر الماركسي سلامة كيلة الذي بذل جهود كبيرة في تأليف هذا الكتاب الذي أصبح جديراً واهتمام جميع عشاق ومناضلي الفكر الماركسي دراسته باتقان واهتمام من أجل استيعابه وقد استند المؤلف سلامة كيله على خزين من المصادر التي لها علاقة بالفكر الماركسي كماركس وأنجلز ولينين وستالين وبرتشتاين وكاوتسكي وبليخانوف وروز لوكسمبرج ومارتوف وبوخارين وتروتسكي وماوتسي تونغ وغرامشي ولوكاش وغيرهم من الفلاسفة.
2) كتاب ظاهرة ستالين بين النظرية والتطبيق (لكاتب السطور) منشور على موقع الكاتب (الحوار المتمدن) (فلاح أمين الرهيمي).
3) كتاب من هيجل إلى ماركس (موضوعات حول الجدل المادي) سلامه كيله.
4) كتاب في رحاب التاريخ لكاتب السطور في موقع الحوار المتمدن.
5) كتب ومجلات وصحف مختلفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذا ناشيونال: حماس تواجه ضغوطا متزايدة وتخطط لمغادرة قطر والا


.. وزير الدفاع الأميركي يدعو حماس لقبول وقف إطلاق النار




.. الأمن الأردني يواصل التحقيقات بعد اكتشاف مخابئ لمواد متفجرة


.. موسكو تعلق على مذكرة الجنائية الدولية بحق وزير الدفاع السابق




.. اقتحام البرلمان الكيني في العاصمة نيروبي رفضا لمشروع قانون ب