الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحر الأرواح

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2024 / 6 / 10
الادب والفن


في قرية صغيرة، حيث تتمايل الأشجار على أنغام الريح وتتراقص أوراقها في هدوء، كان هناك قبر قديم يقبع في زاوية منسية من المقبرة. لم يزره أحد منذ سنوات، وقد غطته طبقة سميكة من الغبار والنسيان. لكن في ليلة لا تشبه الليالي، حدث شيء لم يكن في الحسبان، إذ أخذت حجارة القبر تتحرك ببطء مع كل نداء للمؤذن يصدح في الفضاء. فانزاح الغبار، وكأنه يفسح المجال لشيء جديد أن يولد من رحم القديم. ومن بين الشقوق، سقطت ورقات متهالكة كانت قد نُسيت هناك منذ زمن بعيد.
من تحت الأرض، شرعت يد تخرج ببطء، تنقب في تراب الأرض كمن يبحث عن كنز ثمين. كانت أصابعها تشبه الزبدة في نعومتها، وهي تداعب خصر الأرض، تطلب منها الماء. كان هناك عطش لا ينتهي، عطش الموتى الذين تركوا وراءهم حكايات وجروحًا تحتاج لمن يطرزها من جديد.
انحنى الرجل الذي خرج من القبر على ضلوعه، وفي قلبه الفارغ، بدأت تلوح سفينة. كان ذاك دعوة لمن يريد الإبحار، لمن يريد الذهاب إلى مكان لا يعرفه أحد. وقد كان الفضاء القاسي في هذه اللحظة، يحمل شموعًا زكية، تضيء دروبًا تحت الأرض لمن يجرؤ على الدخول.
كسر الرجل ستائر الغبار قليلاً، وأخذ يتفرج على الموتى. كان يبارك لهم مسيرهم ويسألهم أسئلة لا يعرف أحد إجاباتها. هل انتهى الموت لما ماتوا؟ هل يذكرون الأحياء الذين كانوا معهم يومًا ما؟ هل مواعيد العشاء لا تزال كما كانت أم أنهم لم يعودوا يأكلون؟
كان الموتى ينامون على ضلع وارد من معاني أرق الأحياء، يمتصون دموعهم ويحولونها إلى لبن قاتم. وعندما يحل الليل الأسود، يبحرون في رحلة لا يعلم مداها إلا القدر.
وهكذا، في كل ليلة، يبحر الرجل مع الموتى، يبحث عن إجابات في عالم لا يعرفه سوى من جرب الموت. وتستمر الحكاية، تتوارثها الأجيال، حكاية إبحار الموتى.
كان الرجل يُدعى "عمران"، وقد عُرف في حياته بحبه للبحر والمغامرة. كان صيادًا ماهرًا، يعرف كيف يقرأ أسرار الأمواج ويتنبأ بالعواصف قبل وصولها. لكنه لم يكن مجرد صياد، بل كان يحمل في قلبه شغفًا بالقصص والأساطير، وكان يؤمن بأن البحر يخفي في أعماقه عوالم أخرى لم يكتشفها الإنسان بعد.
أما السفينة التي ظهرت في قلبه الفارغ، فكانت تُدعى "ماريا"، وهي سفينة أسطورية تُقال إنها تظهر للموتى فقط. كانت تحمل شراعًا واحدًا عريضًا يلتقط أنفاس الأرواح الراحلة ليدفعها قُدمًا. كانت مصنوعة من خشب الأرز العتيق الذي لا يتأثر بالزمن ولا بالماء، وكانت نقوشها تحكي قصصًا من العصور الغابرة.
وعلى متن "ماريا"، كان عمران يقف بثبات، ينظر إلى الأفق البعيد، وهو يحمل في يده بوصلة قديمة تُرشده إلى العوالم التي لم يرها بعد. كانت السفينة تبحر به في بحر من الضباب، حيث الحدود بين الحياة والموت تصبح غير واضحة، وحيث الأسرار تنتظر من يكتشفها.
وكان في كل رحلة، يتعلم شيئًا جديدًا عن الحياة والموت، وعن العالم الذي يقبع خلف الستار. ومع كل إبحار، كان يترك وراءه دموع الأحياء التي تحولت إلى حبر يكتب به قصته الجديدة، قصة رجل يبحر مع الموتى بحثًا عن الحقيقة والمعنى في عالم لا يعرفه سوى القليلون.
في إحدى رحلاته، واجه عمران "بحر الأرواح"، حيث تتلاطم أمواجه بصخب، وكل موجة تحمل صدى أرواح مضت. كان عليه أن يتعلم كيفية التنقل بين هذه الأمواج دون أن يغرق في حزنها العميق. وفي لحظة من اللحظات، وجد نفسه يتحدث إلى روح قديمة كانت تبحث عن السلام، ومن خلال حديثه معها، تعلم عمران درسًا قيمًا عن الإباء والسماحة.
واكتشف في رحلة أخرى، "جزيرة الأحلام المنسية"، حيث تتجسد أحلام البشر التي لم تتحقق، في صورة أشجار وأزهار ومخلوقات غريبة. كانت الجزيرة مليئة بالألوان والأصوات، ولكنها كانت أيضًا مليئة بالحنين والأسى. واجه هناك تحديًا جديدًا: كيف يمكنه مساعدة هذه الأحلام على إيجاد معنى جديد حتى بعد أن تخلى عنها أصحابها.
وفي مغامرة مثيرة، عبر "مضيق الزمن المعكوس"، حيث يسير الزمن إلى الوراء وتعود الأحداث لتتكرر. شاهد عمران لحظات من حياته السابقة، لحظات الفرح والحزن، وكان عليه أن يختار: هل يعيش في الماضي أم يواصل رحلته نحو المستقبل؟
وكانت "نورا"، روحاً غامضة تظهر في أكثر اللحظات غير المتوقعة. إنه لا يعرف الكثير عن "نورا"، لكنها تبدو كمرشدة تعرف أسرار الأرواح والعوالم التي يبحر فيها. ولديها قدرة خاصة على التواصل مع الأرواح التي يلتقي بها عمران في رحلاته. تساعده على فهم رسائلهم وتعلم الدروس من تجاربهم. كما أن لها دورًا في توجيه السفينة عبر الأمواج العاتية والمواقف الصعبة التي يواجهها عمران.

تتميز نورا بشخصيتها الهادئة والحكيمة، وغالبًا ما تظهر عندما يكون عمران في أمس الحاجة إلى النصح أو الدعم. وعلى الرغم من أنها تبقى غامضة ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، إلا أن وجودها يُشعر عمران بالأمان والثقة أثناء إبحاره في العالم الآخر.
يبدأ عمران في اكتشاف أن نورا ليست مجرد روح عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من رحلته ومن سفينة "ماريا" نفسها. تُصبح علاقتهما أعمق مع كل رحلة، ويتعلم كل منهما من الآخر دروسًا قيمة عن الحياة، الحب، والوجود. وعند انتهاء موسم الرحلات تنتشر روح الثلاثة، عمران والسفينة "ماريا" و"نورا" في الفضاء ولا يرى أحد شيئاَ منهم سوى قبر يهجع فيه رفات إنسان واحد للكائنات الثلاثة.

مالمو
2024-06-09








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ حميد كشكولي2
جلال عبد الحق سعيد ( 2024 / 6 / 10 - 15:44 )
مساء الخير
لست ادري بماذا اصف هذه القصة الجميلة
انها مزيج من تأثيرات ادجار الان بو مع مخيال شرقي محلق في الابدية تتخلله اسقاطات رمزية على واقعنا المعاصر
ان لديك ملكة جيدة في سرد هذا النوع من القصص او ربما التقصير من عندي حيث لم يسبق لي ان اطلعت على كتاباتك كلها
في كلا الحالتين
استمر
ولك تحياتي


2 - خلود الروح
Magdi ( 2024 / 6 / 10 - 16:21 )
خلود الروح
قصتكم مؤثرة جدا لا تكشف فقط عن موهبة كبيرة فى الأدب وأنما تدل على رقة مرهفة فى الأحاسيس والمشاعر.
بعد رحيل رفيقة عمرى وزوجتى الحبيبة (ماما الحنونة ) أقرأ كل يوم قبل النوم عن :
Life after life
الحياة بعد الحياة .
أول تعليق لى فى الحوار المتمدن عن هذا الموضوع كان ت 4 + 5 - مع ليدى ليندا كبرييل -تحت هذا المقال :
عايزين (إستكاروس) يا حكومة .
محمد حسين يونس
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=727870
واستمريت أرجع لهذه الذكريات المفعمة بالأسى تحت العديد من الأبحاث كان أخرها حوارى مع الصديق كاندل تحت رؤية للأستاذ أسامة شوقى البيومى
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818525
على سريري كتاب متخصص شهير فى هذا المجال ( أنظر مؤلفاته العديدة فى أمازون )
Stéphane Allix
La mort nexiste pas
أى الموت لا وجود له.
--
مع أطيب تحية . مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki


3 - تحية الى جلال عبد الخق
حميد كشكولي ( 2024 / 6 / 10 - 23:48 )
يشرفني أن أُقارن بموهبة عظيمة مثل إدغار آلان بو، حتى لو كان ذلك مجرد ذرة صغيرة.

أُقدّر كلماتك اللطيفة عن قصتي، ويسعدني أن تجد فيها مزيجًا من التأثيرات الشرقية والغربية مع لمسة من الواقع المعاصر.

أتفهم شعورك بعدم قراءة جميع أعمالي، لكنني أُشجعك على استكشاف المزيد منها إن أردت.

سأستمر بالتأكيد في الكتابة، مستلهمًا من كلماتك الطيبة ودعمك.

شكرًا مرة أخرى على تعليقك الرائع!

مع خالص التقدير،


4 - تحية الى الاستاذ مجدي
حميد كشكولي ( 2024 / 6 / 10 - 23:53 )

شكرًا جزيلاً على كلماتك المؤثرة!
يسعدني أن تجد قصتي مؤثرة، وأن ترى فيها مزيجًا من الموهبة الأدبية والأحاسيس المرهفة.

أُقدم خالص التعازي لرحيل رفيقة دربك وزوجتك الحبيبة. أعلم أن فقدان شخص عزيز أمر صعب للغاية، وأتمنى لك الصبر والسلوان في هذه الفترة العصيبة.

إن قراءتك عن -Life after life- بعد رحيل زوجتك يدل على شجاعتك وقوة روحك. فالبحث عن معنى الحياة والموت هو سعي إنساني طبيعي، خاصة في أوقات الحزن والألم.

أرجو أن تجد في هذه القصص بعض الراحة والأمل.
لا تتردد في مشاركة أفكارك ومشاعرك معي حول هذه القصص أو أي موضوع آخر.

مع خالص التعاطف والتقدير،


5 - مؤثر
عبد الرضا حمد جاسم ( 2024 / 6 / 11 - 10:17 )
تحية طيبة
يمكن ان تتحول هذه القصة الرواية اللقطة الكبيرة الى فيلم سينمائي صامت يُطرح لإبداء الرأي و التحليل حيث ستتوارد تفسيرات و تحليلات كثيرة عنه و عليه
قد يأخذ البعض -عمران- لتفسيره على انه دعوة لعمارت الارض و الانسان
وقد تأخذ السفينه و البحار الى قصة نوح و الابحار و قد يفسره البعض انه تذكير الناس بأن الموت يحيط بهم مهما كان ما يحيط بهم من حال و احوال

وقد يفسرها البعض بتفسير الحياة الاخرى اي حياة ما بعد الموت
الخلاصة ان القطعة/ المقطوعة معبرة و تستحق الانتباه لها و الاهتمام بها و تجسيدها


6 - شكرًا للسيد عبد الرضا!
حميد كشكولي ( 2024 / 6 / 11 - 11:44 )

أسعدني تفسيركم لقصتي مما يشجعني على مواصلة الكتابة الإبداعية واكتشاف آفاق جديدة في عالم الإبداع.
إنّها لفكرة رائعة حقا تحويل اللقطة الأخيرة إلى فيلم سينمائي صامت. ستُتيح هذه الخطوة للجمهور فرصة تفسير القصة بطرق إبداعية مختلفة، دون الحاجة إلى حوار يقيد تأويلاتهم. إنّ تحويلها إلى فيلم سينمائي صامت سيُتيح للجمهور فرصة التفاعل معها بشكل أكبر، وتقديم تفسيراتهم الخاصة.
تحياتي
حميد

اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا