الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب شجرة الًّليمون عربي ، يهودي، وقلب الشرق الأوسط

رشيد لمهوي

2024 / 6 / 10
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


هناك مآل واحد للحرب لا غير، وهو الدمار والخراب، ومن يعتقد خلاف ذلك فهو مجنون وجاهل. فالصراع المسلح منطوٍ في ذاته على مفعولات تخريبية تمتد شرورها إلى تدمير الانسان عينه بما هو نواة صلبة للوجود، يليه بعد ذلك تدمير للبنيات الاقتصادية والبيئية. إن الوجود الحق هو الوجود الذي ينتفي منه الصراع ، والروح المشرئبة والظمآنة إلى العدوانية. لا تخلق العدوانية إلا وجودا زائفا ولو اجتمعت فيها كل اللمسات التجميلية التي تسعى إلى تزيين هذا الوجود ، وتغيير شكله، فإنه سيظل مع ذلك لا محالة وجودا غير أصيل. لدينا صورة مجهرية لما يمكن أن تؤول إليه الحرب من إخفاقات على جميع المستويات في الحفاظ على الإنسان - من حيث هو كائن يمتلك العزة والكرامة - فيما يحدث في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي المواجهة ما بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي بشكل خاص. فمع توالي واسترسال الحروب الشرسة والضارية، لا يمكن أن تجني المنطقة سوى العدم الخالص.
لا يجب أن تكون النزعة التشاؤمية هي من يمتلك زمام مبادرة تسيير دفة وجهتنا، والتحكم في مصائرنا ومستقبلنا، وصقل تصوراتنا للواقع الذي ما ينفك يمضي، ولنحاول بقدر كاف تبني وجهة نظر أخرى مغايرة تستند على المنظور التفاؤلي بما هو إمكانية تجعل الكائن يتحمل الوجود الواقعي الآني المرّ من أجل مستقبل واعد مشمول بالسلم والسلام.
إن الصورة التفاؤلية التي نرغب في أن تكون معممَّة ،هي صورة تلك العائلتان اللَّتان يمثلان الجانب الفلسطيني، والجانب الإسرائيلي معا. إنها قصة عائلة أحمد خيري وعائلة أشكيناز؛ وهي القصة الشهيرة التي تناولها ببراعة خلاقة الكاتب الأمريكي ساندي تولان Sandy Tolan في كتابه شجرة الليمون .عربي، يهودي، وقلب الشرق الأوسط. The Lemon Tree An Arab, Jew, and the Heart of the Middle East الصادر عن دار نشر Bloomsbury Publishing بلندن، طبعة 2006.
في الحقيقة، لم تكن مسألة تحرير هذا المؤلف مسالة هيِّنة، سهلة، بل تطلبت من الباحث جهدا كبيرا من أجل إماطة النقاب عن حقيقة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي للمتلقي الغربي القابع تحت نفوذ جهل مطبق في معرفة جذور الصراع. يقول ساندي تولان في هذا الصدد: " بتقريب تاريخ العائلتين، ووضعهما في السياق العام للأحداث اليومية، أتمنى أن تساعد القارئ على فهم واستيعاب حقيقة تاريخ شعبين يقيمان معا على نفس الأرض".
تركت قصة الكتاب صدى كبيرا في مختلف الأوساط ، وكنتيجة مباشرة لهذا الصدى ، ولهذا القبول الواسع للكتاب، حزم الباحث حقيبته ليباشر سلسلة أسفار إلى أمكنة متعددة من أجل اللقاء المباشر بالقراء، والحديث عن المضامين الفكرية ،وعن سلسلة من الحقائق التاريخية التي يزخر بها الكتاب، وقد حجَّ إلى عدة مدن على سبيل المثال لا الحصر نيويورك، بوسطن، سياتل، لوس أنجلس، ديترويت من أجل الإجابة عن أسئلة القراء ، وتوضيح ما استشكل عليهم ، وخفي عنهم.
كم هو جميل وأخَّاذ أن تكون قصة منزل وأسرتين قد فتحا باب النقاش واسعا ، حيث أفرز عدة ردود أفعال لدى المتلقي ، وحيث تناسلت الأسئلة التي تخص هذا التاريخ، وهو في بعض الأحيان يلتحف نبرة مؤلمة نابعة من ماض مازالت جراحاته تطل علينا، فهي جراحات لم يُكتب لها أن تندمل بعد، وقد تمتد حتى إلى أفق المستقبل. يقول ساندي تولان:" في ميلووكي Milwaukee أم يهودية وقفت وقالت بصريح العبارة ان ابنها كان في طريقه إلى زيارة إسرائيل حيث قرر زيارة داليا Dalia كنتيجة مباشرة ، طبيعية لتأثره الملحوظ بالقصة الواردة في الكتاب".
إن حقيقة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كانت ضبابية وغير واضحة المعالم عند بعض الأمريكيين، لكن بفضل هذا الإصدار، استطاع تولان أن يبرز إلى السطح تلك الحقيقة التاريخية. فحتى الباحث نفسه كانت الغشاوة ملتفة على عيونه، يقول ساندي تولان في هذا السياق:" على غرار باقي الأمريكيين، ترعرعت على فكرة واحدة للوجود الإسرائيلي الذي ارتبط تاريخهم بالمحرقة ،الهولوكوست، لكني كنت جاهلا بالجانب الآخر للوجود العربي".
اشتغل الباحث في بحثه على مجموعة من الدعائم المهمة مثل الأرشيف، والحوارات، السير الذاتية المنشورة وغير المنشورة، اليوميات الشخصية وحتى قٌصاصات الجرائد. لم يقتصر الأمر على الاستعانة بتلك الخطوات البحثية فقط ، بل الأمر امتد كذلك إلى القيام بزيارة للقدس ورام الله للتعمق في البحث بشكل ملائم ، ولتحصيل جرعة زائدة من المعلومات التي قد تفيد البحث وتغنيه. فمعرفة الأحداث المرتبطة بعائلة أشكيناز على سبيل المثال دفعته وبقوة إلى إعداد مجموعة من اللقاءات الحوارية مع يهود بلغاريا الذين يعيشون الآن في إسرائيل، كما اعتمد على التنقيب في أرشيف يهود أمريكا نيويورك، ثم مركز أرشيف الصهيونية بالقدس، ونفس الشيء اعتمده الباحث خلال محاولاته الغوص عميقا في البحث عن تاريخ حياة عائلة أحمد خيري، حيث عمل بالإضافة الى الاستئناس بالأرشيفات ، الاعتماد على إجراء حوارات شخصية مع افراد العائلة. كما استند على مذكرات إسحاق رابين مساوقة لحوارات مكثفة مع اللاجئين الفلسطينيين بالضفة الغربية، غزة ولبنان.
يٌرفع الستار، ثلاثة شبان يافعين، في مقتبل العمر مغمورين حتى النخاع برائحة حب الحياة، والبحث عن المعنى والفرح. ثلاثة شبان مسكونين بالرغبة الملحاحة في حب الاستطلاع والمعرفة، مشمولين بنزوع يقظ نحو الفضول المتاخم للمغامرة؛ فهو فضول منطو في ذاته على مغامرة لا يعلمون مؤدياتها، هل ستنعكس عليهم بالإيجاب ، أم بالعكس ستؤول بهم الى الهاوية ،وما لا يحمد عقباه؟ هؤلاء الشبان الثلاثة أبناء العمومة هم البشير، ياسر وغيّات.
كان يوما مشمسا جميلا، امتطوا فيه حافلة Leyland Royal Tiger التي ستنقلهم إلى مدينة الرملة، مسقط الرأس حيث وٌلدوا وترعرعوا ، واستيقظت حواسهم ، وانبثق وعيهم. ولجوا الحافلة وهم على اتفاق قبلي ان لا يجلسوا معا حتى لا يثيروا انتباه الركاب الآخرين بحيث انتشروا في مقاعد متفرقة. من جهة أولى حتى لا ينبسوا بشفة، ومن جهة ثانية، كي يتمكن كل واحد منهم بالجلوس منفردا بجانب النافذة ليستمتع بكل لحظة من لحظات الرحلة. في لحظة زمنية خاطفة انتابت أفئدتهم مشاعر مختلطة يهيمن عليها الحنين والنوستالجيا ، حيث أدركوا حينها أنهم بلغوا ضالتهم؛ إنها مدينة الرملة. ترجّلوا من الحافلة حيث صادفوا عالما غريبا على الرغم من الألفة التي استشعروها بالمكان، فالشوارع تغيرت أسماءها ، حيث تحولت إلى أسماء ترتدي حروفا عبرية واضحة المعالم. وقد اتخذوا قرارا بعد مجادلة صغيرة بالذهاب الى منزل ياسر القديم، وصل المنزل، تقدّم قليلا، طرق الباب، لٌبي نداء الطارق الغريب، فخرجت امرأة في الاربعينيات، باتت ترمقهم الواحد تلو الاخر، فأخبرها ياسر عن رغبته بتفقد المنزل الذي كان ملكا لعائلته قبل ان يتم طردهم وتهجيرهم منها، لكن المرأة لم تتمالك نفسها، فانفعلت بشدة وبجنون لا يضاهى حيث صاحت أمامهم، إن لم تغادروا المكان وعدتم من حيث أتيتم ، سأتصل بالشرطة فورا. أما فيما يتعلق بمنزل غيّات فإنه تحول إلى مدرسة. ولم يتبق سوى منزل البشير ابن أحمد خيري وزوجته زكية. توقف البشير لبرهة وهو ينظر إلى جرس الباب، بدا مترددا، بدأت عدة أسئلة تتناسل في ذهنه الواحدة تلو الأخرى، من بين هذه الأسئلة مثلا كيف كانت والدته تمشي الهوينى نحو الباب، وكم من مرة مرّ والده أحمد خيري من هنا وهو عائد من العمل، حيث يقرع الباب بطريقة خاصة لا يدركها إلا أهل الدار دون سواهم. استجاب أهل الدار لرنين الجرس، ففتحت فتاة شابة، يافعة حيث استقبلتهم بابتسامة جميلة تشي بأن أمل البشير سيتحقق في رؤية المنزل الذي من رحمه خرج الى الوجود. ترى من هذه الفتاة، إنها داليا Dalia الابنة المدلّلة لكل من Moshe وSolia يهود أشكيناز القادمين من صوفيا ، ببلغاريا إثر النزوح الأكبر نحو فلسطين. لقد عٌقد قرانهما من خلال تنظيم حفل بسيط سنة 1940 في المجمع الكنسي- اليهودي في مدينة صوفيا. وقد أنجبا ابنتهما الوحيدة في أحد أمسيات شهر دجنبر القارس . لكن اسم داليا الحقيقي التي منحت إياه عند ولادتها هو ديزي Daizy، حيث احتفظت بهذا الاسم حتى بلغت عمر الحادية عشرة لتقوم بتغييره إلى داليا. وقد تمكنا الزوجان بالفعل من البقاء على قيد الحياة في ظل حكومة تناصر النازية.
عمل ساندي تولان في هذا البحث على رصد التفاصيل الصغيرة، والدقيقة التي عاشتها كل من العائلتين، وهو رصد فيه من الدقة ما يجعلك تتوه في الاحداث المتشابكة والمتداخلة التي تعبر بعمق وبصدق عن مرحلة تاريخية سادت فيها المأساة والمعاناة، والتي مازالت تداعياتها مستمرة إلى حد الآن. يسترسل الباحث في وصفه للمواجهة الأولى التي جمعت ما بين البشير وداليا حيث أكد على أن داليا رحبت بالوافدين الجدد، حيث تمتعوا بحرية مطلقة في التجول في ربوع البيت، وقد كانت من حسنات هذه الزيارة أن ترسخت علاقة صداقة متينة ما بين البشير خيري وداليا أشكيناز. وقد اشتدت أواصرها بينهما على الرغم من اختلافاتهم الجذرية على مستوى أحقية من يمتلك هذه الأرض. وقد أضحت صداقتهما منتشرة مثل النار في الهشيم، وأصبحت حديث كل لسان. فهاهي الجرائد بدورها تكتب عن هذه العلاقة التي دامت وترسخت في الزمان، ولم تذروها رياح النسيان؛ فالذاكرة الجمعية ستظل محتفظة بها إلى الأبد.
يؤكد الكاتب ساندي تولان على أن داليا لم تكن تعتبر نفسها متفردة بوصفها إسرائيلية خيرة ضمن الآخرين الأشرار. لقد أرادت فقط أن تظهر أنها مهتمة وأكثر مراعاة للشعب الفلسطيني. يسترسل الباحث في القول إنها كانت تود بشدة من البشير أن يبادلها نفس الموقف. تقول داليا في هذا السياق ما مفاده:" أعرف أنك لا تكن لي أية ضغينة، وتعلم جيدا أنني أقدرك وعائلتك، وتعلم أنني مع الشعب الفلسطيني، ولكن أود أن تكون مساندا لشعبي، لأن ذلك سيجعلني في أمان، وهو ما سيجعلنا نستمر إلى الأمام". على الرغم من هذه الصداقة الاستثنائية بينهما، إلا أنهما مختلفان في المواقف، فالبشير حسب الباحث كان مصرا على المطلب الجوهري الذي يكمن في حق العودة. لكن داليا لها وجهة نظر مغايرة، فهي تعتقد جازمة على أن حق العودة هو حق مشروع بالنسبة للفلسطينيين، لكن يستحيل تطبيقه على ارض الواقع، لأنه في العودة اللامشروطة لملايين الفلسطينيين سيعني ذلك وبشكل واضح أن ثمة نهاية لإسرائيل.
إن من يطالع كتاب شجرة الليمون، عربي، يهودي، و قلب الشرق الأوسط، سيكتشف أن ساندي تولان حاول جاهدا أن يبرز المسار التاريخي لعائلة خيري وأشكيناز. فمن جهة أولى ،أبرز الباحث تلك الفصول السوداء والدامية التي عاشت وقائعها عائلة أشكيناز في بلغاريا تحت قبضة حكومة موالية للنازية؛ فصول كلها مفعمة بسلسلة لا متناهية من الرعب والخوف. ومن جهة ثانية، سعى الباحث إلى إماطة اللثام عن سلسلة عمليات الإبادة والتهجير التي طالت سكان مدينة الرملة التي كانت معقل عائلة أحمد خيري.
إن شجرة الليمون الواردة في الكتاب لا تمثل فقط فاكهة، بل إنها أكبر من هذا الوصف، إنها الأرض والتاريخ. إنها أرض وتاريخ فلسطين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع صلاح شرارة:


.. السودان الآن مع صلاح شرارة: جهود أفريقية لجمع البرهان وحميدت




.. اليمن.. عارضة أزياء في السجن بسبب الحجاب! • فرانس 24


.. سيناريوهات للحرب العالمية الثالثة فات الأوان على وقفها.. فأي




.. ارتفاع عدد ضحايا استهدف منزل في بيت لاهيا إلى 15 قتيلا| #الظ