الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي لفتة سعيد ـ إنثيالُ عَواطفٍ ، ومآلاتُ وطن ..جزءٌ ثانٍ11

هاتف بشبوش

2024 / 6 / 11
الادب والفن


إسماعيل ذات يوم وهو جالس في مجلس أبيه مع عدد كبير من الشيوخ وهو يبذخ عليهم ويشرح لهم عن كرم حاتم الطائي وكيف ذبح الحصان ، ليس لشيء سوى أن يظهر أنه الكريم وأنه ذو الشأن ، فيستدرك إسماعيل ويتألم لآنه يعرف أباه هو السبب في مجاعته لآنه بخيل على العائلة لكنه كريم على الآخرين . فينتفض إسماعيل فيقول لهم أثناء الجلسة ( الدين لايقبل بهذا البذخ وهذا من الأساطير) . مما جعلهم ينعتونه بالشيوعية والإلحاد وغادر بعدها كل من كان في المجلس وهذا مما جعل أبوه يصرخ بوجهه ويوبخه على فعلته التي قلّلت من شأن أبيه أمام الشيوخ الآخرين .
في المشاهد الآخرى من الرواية حيث يُقبل العراق على الحرب العراقية الإيرانية فيفكر إسماعيل أن يلتحق بالشرطة فهي أفضل من الجيش والإشتراك في قتل الآخر في حرب لاناقة له بها ولاجمل سوى أنها طائفية لعينة . ويلتحق بسلك الشرطة في حماية الآثار بعد أن ساعده عمه البعثي ذو الشأن كما قلنا أعلاه . ويتزوج من إمرأة أتخذها فقط كزورق لعبور الليل ومن دون حب وإنما لغرض التناسل والإنجاب الذي لامفر منه ويظل يتحسر على حبه الضائع . وفي سلك الشرطة يرى العجائب وكيف تسرق الآثار من قبل جهات معينة دون أن يستطيع القول بهذا الشأن لآنه حينما عين في الآثار إشترطوا عليه أن يكون أعمى وأخرس ويطبق فمه والا ستكون العواقب وخيمة ولاتحمد عقباها . وهنا الروائي علي لفتة سلط على الجانب الرئيسي وأعطى رسالة مفادها هو أن الوطن يُسرق بما فيه وحتى آثاره بيعت الى جهات مجهولة دون حساب ورقيب .
ثم ينتقل التقطيع السينمي ومشاهده الى فصول أخرى وهي حول إنتهاء الزمن البعثي وسقوط الطاغية وكيف سرقت الآثار أيضا من قبل الجهات الحاكمة الجديدة وعصابات منظمة باعت الوطن بمافيه ولم يبق منه سوى البلطجة وسوق التجار الجشعين بينما مدير الآثار يسجن سنتين بتهمة الرشوة الباطلة . حتى نصل الى آخر فصول الرواية حيث يتقاعد إسماعيل ويصمم على الرحيل الى تركيا قرفاً مما آلت اليه ظروف الوطن وأصبح يباع ويشترى من قوى عديدة تكالبت عليه وحطمت كل جميل فيه . جدران مليئة بالصور ورجال ملتحين وأصوات تعلو من أصحاب المنابر ( الرواديد ) الذين يجعلون من الفرد مهتما بالصوت والتقليد أكثر مما يهتم بالعقل والتنوير. يرى إسماعيل عجلات المسلحين تجوب الشوارع وتقتل بما تشاء وبشكل فوضوي فأدى الى قتل المثقف والطبيب والعالم فيقول إسماعيل تذكرت الشهير وزيرأعلام هتلر ( كوبلز ) في قولته : اتحسس جيب مسدسي كلما اسمع كلمة مثقف .
ماهي الرسائل الأخرى الموجهه للقاريء في الرواية :
الرواية حداثية ولاتريد الترويج لأساطير الدين ورجالاته المزيفين وهذا الدأب سار عليه عدد كبير من الأدباء إبتداءً من المتنبي حين كان جالسا في مجلس سيف الدولة الحمداني وقال له أحدهم بضغينةٍ دفينةٍ : كيف سمحت لنفسك أن تسميها ( المتنبي) والرسول الأعظم قال ( لانبي بعدي) فأجابه المتنبي في الحال وبروحٍ بدهيةٍ ممازحة : أنت لاتقرأ صحيحاً ياصاحبي : فالرسول قال ( لانبيُّ بعدي) وأنا إسمي (لا) ..فسكت الجميع تهيباً ونصراً . أضف الى ذلك أن الإبداع لايقف عند حد ، أي إبداع لديه الحلم في أن يحلّق كما الطائر في السماء الفسيحة ، يطير بأجنحة لايعرف الى أين توصله . الإبداع قد يؤدي الى الموت لكن المبدع يستمر دون خوف والاّ مالذي يجعل صانع الطائرة التي صنعها لآول مرة يطير بها وهو في ذهنه أنه سيفشل ويموت وأن الأمر بالغ الخطورة وبالفعل لقد مات وهو يجربها لآول مرة . لكن الإبداع إستمر فهناك من يكمل المسيره بعده . عباس إبن فرناس مات وهو مبدعا لكن هناك من جاء اليوم وأكمل المسيرة في الصين وجعل الإنسان يطير بمحرّك يحمله على ظهره . وهناك من يموت بسبب إبداعه في قصيدة قرأها ضد السلطان وما أكثرهم . وتبقى الحياة الإبداعية لدى الروائي علي سعيد تغرز فينا الحب لمن نشاء وعلى سليقتنا نختار لنا الأجمل والأطيب والأحب ، فكل هذا تمثل به أديبا قادرا على خلق الجمال . كما وأنه أعطى إسماً لحبيبته ( زمن ) وهنا دلالة عظيمة على الأيام التي تمر بنا ومايفعله هذا الزمن من أقدار جسام على الوطن وعلى ساكنيه وعلى من يحب فالزمن غالباً مايكون مؤلم بمجرياته. الزمن هو الذي من خلاله نسجل أحداثنا ونحن في الأوطان ومامرت بنا من مصائب وأفراح وحروب وتغيير أنظمة وحكام . الزمن لما له من دور كبير إتخذ في العديد من الأفلام السينمائية الخيالية والعلمية كرمز للعودة للماضي أو السفر الى المستقبل . الزمن يجري كما جريان النهر الذي لايمكن له الرجوع عكسياً ولذلك قال الفيلسوف ( هيموقريطس) لايمكننا السباحة في نفس ماء النهر مرتين. لذلك الروائي علي كان موفقا الى حد ما في إعطاءه موسومية ( زمن ) لحبيبته. وهناك من المفاهيم الآخرى في الرواية حول المكتبة التي ينشأها إسماعيل في بيته وماتضمه من كتب متنوعة فوق الرفوف فهي إتخذت شكل سفينة نوح أو السفينة السومرية التي إنطلقت لتجوب العالم . وهنا رسالة من قبل الروائي علي سعيد حول كيفية إنتقال الحضارة والثقافة من بلاد سومرالى العالم أجمع فهي الحضارة الأولى من بين اربع حضارات إستطونت الأرض وهي بلاد الرافدين والصين والهند والنيل .
الروائي علي سعيد في كل سطر من الرواية لم يتركه يذهب هباءً الا وأعطى رسالته من خلاله ، فهو القادر على مسك خيوط الرواية وحبكتها وكيفية الإنتقال من مشهدٍ الى مشهد كما المخرج السينمائي الذي يتطلب الأمر منه أن يصور المشهد الأخير قبل المشاهد الاولى ثم تأتي المهمة لمن يشتغل على ترتيب المقاطع السينمية ( المونتيبر) لآن المخرج الناجح يفكر في كيفية توفير المال والربح وهذا يعني على سبيل المثال : حين يصور المخرج مشهداً ثانيا او ثالثا في علاوي الحلة ، لكنه العارف من أن المشهد الأخير من الفلم أيضا في العلاوي ، ولذلك سوف يقوم بتصوير المشهد الأخير في العلاوي مع المشهد الثاني والثالث لكي ينتهي من عناء الرجوع الى العلاوي مرة أخرى وبهذا قد وفر الكثير من السرعة والمصاريف . ولذلك نرى الروائي علي سعيد كانت له الخبرة في كيفية الإنتقال بالمشاهد والأمكنة على سبيل المثال بين الحضرة الحسينية والريف حيث إلتقى بمحبوبته أكثر من مرة في مكان قريب من الصحن . ولذلك حين عاد بنا الروائي علي الى مكتبة الحضرة أعطانا رسالة مفادها : بعد السقوط تبين ان صاحب المكتبة كان يعمل لصالح المخابرات البعثية . أما عمه البعثي الذي ذهب اليه ذات مرة كي يكون له وسيطا لتعيينه في سلك الشرطة ، تبين أنه هرب من الوطن خوفا من البطش والقتل من السياسيين الجدد وهنا رسالة أيضا بخصوص عمه (لاتركنن الى الزمان فربما خدعت مخيلته الفؤاد الغافلا / فالدهركالدولاب يخفض عاليا من غير قصدٍ ويرفع سافلا..محمود سامي البارودي) .
في السرد المعنوي للرواية فيما يخص الآيروتيك والحب فكان له صداه ووقعه في القلوب الحسيرة التي تحلم في تحقيق الحلم ولكنها ترى نفسها على طريق الشؤم الذي أثاره محمد الماغوط ( أحلامي تحتاج الى تابوت) ، فبينما إسماعيل بطل الرواية كان يتألم من الفراق ويشتهي اللقاء والوصال مع ( زمن) على طريقة الشاعر الذي قال ( وأني لأهواها وأهوى وصالها / كما يشتهي الضمآن الشراب المبرّدا) لكن الحب يضيع بما لايشتهي القلب ولا الفؤاد ولا النفس التوّاقة لضمة عناق وتقبيل وهسيس في منتصف الليالي بل يحل محلها وسادة خالية تلك التي خطها إحسان عبد القدوس في أروع ماكتبه عن الحب الذي ينتهي بمفارقات مؤلمة . في حين هناك من الحب الذي صار كما الإسطورة بين (إلزا تريوليه) الكاتبة الفرنسية من أصل روسي والشاعر الشهيرأراغون الذي قال : إلزا التي شاركتني الحياة والمستقبل شاركتني الآلام والعذاب ، إلزا التي شاركتني كل ما في الحياة من نبضات كانت هي مستقبلي وكانت هي شعري وإبداعي وكانت هي حروف المعرفة والمستقبل في حياتي . ولذلك نرى حبهما إستمر 42 عاماً من الزواج . ويبقى الصهيل المعرفي فيما قرأناه من رواية علي لفته وهو أنّ بعض مفاهيمنا : من أن العمر في الحب كدس كبير أو حفنة عظيمة من الأيام والسنوات وهذا العمر لو نتخيله هو الذكر أو الرجل ، فحينما يخلع رداء أيامه يوما فيوما سيتعرى حتى يقترب من آخر يوم يلبس به رداءا أبيضا يشير الى بوابات الجحيم ، ولكنّ هذا العمر الذكري لو نتصوره يخلع سروايله قطعة قطعة أمام الحياة ( الأنثى) والتي هي الأخرى تخلع فساتينها قطعة قطعة حتى يكون الإثنان على إستعداد القبول في الدخول الى بوتقة العناق والقبل والإلتصاق ، فهنا حتما تتشكل لنا رؤى نشيطة وحيوية تعطي ثمارها بميلاد جديد ضمن التناسل الطبيعي والغريزي وهكذا دوامة الحياة المتعبة التي كلما شغلتنا بالتراجيديا مرة وجدنا أنفسنا ننعم بكوميدياها وفنتازياها الجميلة مرة أخرى مثل لقاء إسماعيل مع حبيبته زمن التي فارقها أربعين عاما تعيش في مكان ما من الأرض الفسيحة لكنهما إلتقيا في دائرة ضيقة للتقاعد فيا للغرائبية التي تتناهى الينا في هذا العالم ومايخفيه من خفايا تطفو على السطح دون سابق إنذار ولا وعيد .
كلمة أخيرة بحق الروائي علي :
علي لفته أديب معروف في الساحة الأدبية فهو يكتب منذ أعوام وأعوام وقد أصدر حتى ألان : أربع عشرة رواية ، ست مجاميع قصصية ، خمس دواوين شعرية ، سبعة كتب نقدية ، ومسرحية واحدة ، وترجمت له رواية الصورة الثالثة الى الفرنسية وقد حصل على العديد من الجوائز في مصر وتونس والعراق . كل أصدارته حملت هموم الوطن وما مر به من صعاب ثقال ، لكننا هنا بصدد روايته ( سفينة نوح ) نفهم ما أراده من خلال الثيمات السردية بوضعها الفني والجمالي والمعنوي والدرامي من أن الحب ( لايمتلك أبداً القوة الكافية ليجد تعبيره الخاص به .. البير كامو) . أما بخصوص الملكة النقدية التي يوجهها علي لفتة من خلال الرواية فإننا نستطيع الإستدراك من أنّ أولئك المشار اليهم في السرد حولوا شعوبنا الى قطيع أغنام لاتفكر بمن يقدم لها الطعام بل تفكر بالطعام وحسب ، وإذا كانت القطط عمياء حتما سترقص الفئران عارية . هكذا أصحبت مآلات الشعوب من جراء هكذا تفكير سلفي مقيت لايمكن أن يساهم في إعطاء الدفق لعجلة المستقبل . كما أن الإيمان لم يعد الاّ توثيقا وتصديقا أعمى وأوهاماً طائفية عنصرية متعصبة ، انها الأوهام التي تحط من العاقل الى مستوى أدنى مما يصعب التمييز بين الصحيح والخطأ ، وكلها وضعت لإخماد شعلة النور في العقل السليم . وفي النهاية أقول : أن علي لفتة إستطاع أن يرسم لنفسه مساراً سردياً غنيّا بالإنفتاح والإنثيال على أكثر من مفصل ، وبعاطفة لها القدرة على تحريك مشاعر النفس البشرية ، إستطاع أن يؤكد لنا مفاهيم الشهير الألماني غوتة حين قال : أن الإبداع موجود في الأعالي لكنه يبحث عمّن يستطيع أن يدانيه فيمسكه وينطلق به ويجعله واقعاً مرناً ومطواعاً يتلاعب به وفق مخياله ويراعه .

هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا