الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علم الأخلاق الماركسي ونعيم إيليا/ 6

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2024 / 6 / 13
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


يقول الأستاذ نعيم إيليا المحترم:
" وعلى هذا فلا غرو ولا نشوز في أن يقال إن الأخلاق لولا وجودها في النفس، في القلب - ويصح أيضاً في العقل لأن كلّ شيء من أشياء النفس لا مفر له من العبور إلى العقل، إلى الدماغ - وتمثُّلُها في الأفعال والسلوك، ما كان المجتمع الإنساني. ولا غرو كذلك في أن يقال إنه لولا الأخلاق، ما كان للدين أن يكون على ما هو عليه كائن. فتكون الأخلاق بهذا التقدير هي الأوّل، ويكون المجتمع والدين تاليين لاحقين بالأول.
وإذا كان لا مفرّ من التدليل على هذا بمثال، ذُكرت الأمُّ التي تكاد تكون الخلية الأولى لكل المجتمعات الحيوانية. فلوما الطبيعة زوَّدت الأمَّ بعاطفة التحنان، الحب، العطف... لأهملت كل أم وليدها، فقضى.
وذُكر أيضاً ميلُ الإنسان الطبيعي الفطريّ إلى المحبة والتراحم والشفقة... إن هذه المشاعر ذات الطابع الأخلاقي، لولاها ما كان للإنسان أن يجد في نفسه حافزاً على أن يكوِّن الأسرة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة، فالدولة.
وذكر أيضاً الحبُّ الجنسي – وإن لم يكن الجنس بذاته، علاقةً وممارسةً وميلاً، خلقاً - الذي إليه يرجع الفضل في استمرار النسل.
فهذه إذن غاية الطبيعة البعيدة – إن جاز التعبير - من الأخلاق. إنها تعزيز مبدأ البقاء على قيد الحياة.
على أن الفلاسفة منذ افلاطون وأرسطو إلى لودفيج فويرباخ - وإن كانوا اعتقدوا بخلاف اللاهوتيين بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب، أو الدماغ - لم يتبينوا غاية الطبيعة من الأخلاق أنها لحفظ النوع، فزعموا أن الغاية منها هي الخير الذي يورّث السعادةَ واللذة.
وأشهر الآراء التي تعضد هذا الزعم، رأي أرسطوطاليس الذي قد بسطه بتفصيل ووضوح في نيقوماخيا (1). ولا زال أكثر الفلاسفة من بعده يتبعون رأيه هذا، ويمتحون منه. من هؤلاء الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ "
....
فواضح من قوله أن السعادة هي الغاية من الأخلاق. وهي كذلك حتى في السياسة وتدبير المدن. فإذا طرح عليه السؤال: ولكن لماذا السعادة هي الغاية؟ أجاب أرسطو: إن السعادة تامة تكفي نفسها بنفسها؛ أي لا تُطلب إلا لذاتها، إذ لا غاية من بعدها. وبتعبير آخر: إن أكثر الغايات تكون وسيلة لبلوغ السعادة، ولا تكون السعادة وسيلة لبلوغ غاية أخرى."
انتهى النص المقتبس.
النص أعلاه يؤكد بالحرف الواحد:
1. أن أرسطوا يعتقد بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب أو الدماغ وأن الغاية منها هو الخير الذي يورث السعادة واللذة.
2. أن فيورباخ يعتقد بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب أو الدماغ، أيضاً، وأن الغاية منها هو الخير الذي يورث السعادة واللذة.
3. أن السعادة "تامة تكفي نفسها بنفسها؛ أي لا تُطلب إلا لذاتها".

السؤال الأول: هل صحيح أن أرسطو يعتقد بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب أو الدماغ، مثلما يزعم الأستاذ نعيم إيليا المحترم في نصه أعلاه؟
الجواب الأكيد على هذا السؤال هو قطعاً: لا ! وكأني بروح أرسطو الحزين وهي تمور برزانة فجراً حول الأستاذ نعيم ايليا لتقول له: من أين لك هذا؟ إلى هذا الحد وصلت الأخلاق في القرن الواحد والعشرين بحيث يسمح أحدهم لنفسه تقويل الموتى على هواه ما قد رفضوه في حياتهم رفضاً باتاً ؟
لنستفتي "موسوعة ستانفورد للفلسفة" لنرى ما تقوله بهذا الصدد:
" يتصور أرسطو النظرية الأخلاقية كحقل متميز عن العلوم النظرية. يجب أن تتطابق منهجيتها مع موضوعها - العمل الجيد - ويجب أن تحترم حقيقة أن العديد من التعميمات في هذا المجال تنطبق فقط على الجزء الأكبر منها. نحن ندرس الأخلاق من أجل تحسين حياتنا، وبالتالي فإن اهتمامها الرئيسي هو طبيعة رفاهية الإنسان. يتبع أرسطو سقراط وأفلاطون في اعتبار الفضائل عنصرًا أساسيًا في الحياة الجيدة. مثل أفلاطون، فهو يعتبر الفضائل الأخلاقية )العدالة والشجاعة والاعتدال وما إلى ذلك) مهارات عقلانية وعاطفية واجتماعية معقدة. ولكنه يرفض فكرة أفلاطون القائلة بأن المرء لكي يكون فاضلاً بشكل كامل يجب عليه أن يكتسب، من خلال التدريب في العلوم والرياضيات والفلسفة، فهماً لمعنى الخير. ما نحتاجه، لكي نعيش بشكل جيد، هو التقدير الصحيح للطريقة التي تتوافق بها الأشياء مثل الصداقة، والمتعة، والفضيلة، والشرف، والثروة معًا ككل. ومن أجل تطبيق هذا الفهم العام على حالات معينة، يجب علينا أن نكتسب، من خلال التربية والعادات السليمة، القدرة على رؤية مسار العمل الذي يدعم هذا الفهم العام بشكل أفضل بالأسباب، في كل مناسبة. ولذلك فإن الحكمة العملية، كما يتصورها، لا يمكن اكتسابها بمجرد تعلم القواعد العامة، بل ويتعين علينا أيضاً أن نكتسب، من خلال الممارسة، تلك المهارات التداولية والعاطفية والاجتماعية التي تمكننا من وضع فهمنا العام للرفاهية موضع التنفيذ بطرق تناسب كل مناسبة."
إنتهى نص "موسوعة ستانفورد الفلسفية" حول مفهوم الأخلاق عند أرسطو.
المصدر:
https://plato.stanford.edu/entries/aristotle-ethics/
أذن فالأخلاق عند أرسطو – ومن قبله سقراط وأفلاطون – هي حكمة عملية تكتسب من خلال التربية والممارسة الاجتماعية، وليست نابعة من النفس أو القلب أو الدماغ أو الجينات مثلما يدعي الأستاذ نعيم ايليا المحترم وهو يحاول الصاقها جزافاً به.
السؤال الثاني:
هل صحيح أن فيورباخ يعتقد بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب أو الدماغ، أيضاً، وأن الغاية منها هو الخير الذي يورث السعادة واللذة.
الجواب هو قطعاً: لا. بالنسبة لفيورباخ فإن منشأ الأخلاق هو "الأنانية" وليست النفس ولا القلب ولا الدماغ ولا الجينات.
ينص "معجم الأخلاق" على ما يلي بصدد نظرية الأخلاق الفيورباخية:
"الإثبات المادي للأخلاق عند فيورباخ يرتكز على مبدأ "الأنانية"، الذي يعرّفه بأن ذلك التوافق بين سلوك الإنسان مع الطبيعة والعقل. والأنانية في نظره هي التي تنكر اللاهوت والدين والاستبداد، أي تنكر كل تلك القوى التي تقتضي أن يتصرف الإنسان بطريقة مفروضة عليه من الخارج والتي تتعارض مع طبيعته واحتياجاته الحقيقية. هذه القوى لا تصبح الأساس للأخلاق إلا عندما تنظم سلوك الإنسان بصفتها مصالحه الشخصية الأنانية. إن التعامل مع الخير باعتباره إشباعًا للحاجات الفردية ينشأ من الطبيعة حصريًا، وهو النتيجة للطابع الانساني العام (الأنثربولوجي) لمادية فيورباخ: "الخير هو ما يتوافق مع أنانية جميع الناس". وتضفي هذه الخاصية الأنثروبولوجية أيضًا مسحة عاطفية على نظريته في الأخلاق: "الشعور هو معيار الأخلاق، والخير هو ما يمنح الناس الرضا، والسعي لتحقيق السعادة هو أسمى مساعي الإنسان".
في نظرية أخلاق فيورباخ، تعتبر وسائل تجنب الفردية المتطرفة هي الأخرى ذات طبيعة أنثروبولوجية عميقة: الأخلاق الفردية غير حسية لأنه يجب على الأخلاق أن لا تأخذ في الاعتبار ليس فقط وجود "الأنا" فحسب، بل وكذلك اتصالها بالأشخاص الآخرين، أي مع "الأنت". إن سعي الإنسان لتحقيق السعادة لا ينفصل عن سعادة من هم حوله من البشر. ولذلك فإن مثل هذا السعي يصبح في نفس الوقت واجبًا أخلاقيًا – ألّا يعيق سعادة الآخرين."
انتهى النص. المصدر:
https://www.scribd.com/document/489461590/A-Dictionary-of-Ethics
السؤال الثالث:
هل أن مفهوم "السعادة" الأرسطي هو نفسه مفهومه الفيورباخي مثلما يزعم الأستاذ نعيم ايليا المحترم؟
الجواب هو أن المفهوم الفيورباخي الموضوعي للسعادة هو بالضبط عكس مفهومها الذاتي عن أرسطو. السعادة عند أرسطو يحققها الانسان لذاته، في حين يعتبرها فيورباخ أنها لا يمكن أن تتحقق إلا عبر ضمان سعادة الآخرين.
بالنسبة لأرسطو، يجب على الإنسان تحقيق الشخصية الممتازة (الشخصية الفاضلة، "ethikē aretē" في اليونانية) من خلال ممارسة الفضيلة من أجل تحقيق السعادة أو الرفاهية (eudaimonia) في نهاية المطاف. أما بالنسبة لفيويرباخ فإن "سعي الإنسان لتحقيق السعادة لا ينفصل عن سعادة من هم حوله من البشر. ولذلك فإن مثل هذا السعي يصبح في نفس الوقت واجبًا أخلاقيًا – ألّا يعيق سعادة الآخرين."
السؤال الرابع:
هل صحيح أن "السعادة" تامة تكفي نفسها بنفسها؛ أي لا تُطلب إلا لذاتها، مثلما يزعم الأستاذ نعيم إيليا المحترم؟
الجواب: الذي يعرفه كل عاقل هو أن السعادة/التعاسة عند الانسان انما ترتبط ارتباطاً وجودياً بتوفر عشرات المتغيرات من المقومات الموضوعية والاجتماعية والتاريخية الخارجية عليها وليست منها البتة، مثل توفر أو غياب شروط الجمال والمال والعائلة الراعية والبيئة المحفزة لتطوير قدرات الانسان وهواياته والوظيفة الاجتماعية الأثيرة والشريك المتناغم والاصدقاء ... الخ. في الزمكان. فكيف اذن يمكن قبول القول بأنها مكتفية بذاتها؟ وفي غالبية الأحيان يلعب "الحظ" دوره الحاسم في توافر أو انتفاء وجود هذه المقومات الموضوعية للسعادة في الزمكان، مما يعني أن مصدر السعادة أو التعاسة في هذه الحالات هو الحظ المؤاتي أو سوء الطالع في الزمكان، وليس الأخلاق.
يبدو أن الأستاذ نعيم ايليا المحترم قد قرر أن يستبدل المفهوم المثالي المنتفي الوجود للكائن العلوي المكتفي بذاته بالمفهوم المثالي للسعادة المكتفية بذاتها غير المتحققة في أي زمكان أو حياة أي انسان.
المفهوم العلمي الصحيح للسعادة هم ما يعتبره علم الأخلاق الماركسي من أن مفهوم السعادة (اليودايمونية) لا يمكن أن يعمل على إثبات الأخلاق البتة. لا يمكن لمفهوم السعادة أن يصف أي حالة نفسية اجتماعية أو شخصية محددة للإنسان من شأنها أن تعكس الأفكار الأخلاقية المتعلقة بمصير الإنسان، إذ يمكن إعطاء مفهوم السعادة تفسيرات مختلفة ومتضادة اعتمادًا على الظروف التاريخية والاجتماعية الملموسة وبما يتوافق مع المصالح الحيوية لطبقة معينة أو مجموعة اجتماعية أو فرد معين. لا يمكن للسعادة أن تكون بمثابة الإثبات للأخلاق، لأنها في حد ذاتها، مثل الأفكار الأخلاقية الأخرى، تحتاج إلى الإثبات.
يثبت تاريخ دكتاتورية رأس المال أن سعادتها ورفاهها إنما تكمنان بالضبط في أشعال الحروب وفي الأبادات الجماعية للبشر والشعوب وفي تدمير كل عناصر البيئة أرضاً ومياهاً وجواَ وفضاءً، وفي التكالب المستدام على الاستحواذ والنهب والسلب وفي سحق آدمية الإنسان. وفي هذه الجرائم الشنيعة أحدى الإثباتات الساطعة على كيف أن معادة علم الاخلاق الماركسي لا تؤدي فقط إلى افقار الوعي، بل وكذلك إلى تصحر وهمجية الاخلاق مثلما نراها اليوم عند نتنياهو وشركاه وبايدن وشركاه وسوناك وشركاه وزيلنسكي وشركاه والبرهان ودقلو وشركاهما.
يتبع، لطفاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أستاذ حسين أحسنت النشر
حميد فكري ( 2024 / 6 / 16 - 20:31 )
تحية للسيد حسين علوان حسين
بداية ، أشكرك على مواصلة الكتابة في هذا الموضوع ، وأبدي أسفي لأنني لم أنتبه لهذا الجزء (6)

{ أما بالنسبة لفيويرباخ فإن -سعي الإنسان لتحقيق السعادة لا ينفصل عن سعادة من هم حوله من البشر. ولذلك فإن مثل هذا السعي يصبح في نفس الوقت واجبًا أخلاقيًا – ألّا يعيق سعادة الآخرين.-}

إن السيد فيورباخ ، بربطه سعادة الفرد (الأنا) بمراعاة سعادة الآخر (الأنت) ، فإنه يجعل للأخلاق معنى اجتماعي ، لكونها صارت علاقة بين ذوات إجتماعية. إلا أن السيد فيورباخ ، لم ير في الأخلاق طابعها هذا. وهنا يكمن ضعف نظريته في الأخلاق.
ذلك ما لاحظه ، عن حق ، بذكاء نقدي حاد ، السيد إنجلز . وهو ما أخذه عليه. لكن الأستاذ نعيم ، له رأي آخر.
الأخلاق ، لاتتحقق بمعزل عن العلاقات الإجتماعية ، بين (الأنات) والآخرين. لذلك يستحيل الكلام عن وجودها في غياب تلك العلاقات.
السعادة مثلا ، هناك من يحقق سعادته على حساب الآخرين ، فهذه سعادة أنانية ، وهي ليست خلقا حميدا ، إلا في عرف صاحبها. وتمة من يراعي سعادة الآخرين ، فهذا يعد بالنسبة له واجبا أخلاقيا.
هنا تختلف النظرة الى نفس الخلق ، بحسب الموقع الإجتماعي


2 - عيدكم مبارك وأيامكم سعيدة
حسين علوان حسين ( 2024 / 6 / 17 - 13:19 )
الأستاذ الفاضل حميد فكري المحترم
تحية متجددة
تعتبر نظرية الأخلاق الفيورباخية - مثل ماديته - إحدى أهم المصادر لعلم الأخلاق الماركسي، المصادر الأخرى المهمة هي أرسطو وفيختة مثلما سأوضح.
فكرة تكريس الانسان نفسه لإسعاد الآخرين كسبيل لإسعاد نفسه تقع في صميم علم الأخلاق الماركسي، وقد كانت هي نفسها قناعة ماركس منذ أن كان طالباً، مثلما تبينه إحدى رسائله لأبيه.
يقول فيورباخ:
يجب أن يكون القانون الأول والأسمى هو: حب الإنسان للإنسان.
Homo homini Deus est -
هذه هي القاعدة العملية العليا، وهذه هي نقطة التحول في تاريخ العالم.
الشفقة والبشر : مقارنة
المصدر:
https://www.azquotes.com/quote/665314
وهذه تسمى بـ -القاعدة الذهبية- في علم الأخلاق، وهي صحيحة علمياً واجتماعياً.
كل النقد الماركسي لفيورباخ ينصب على اهماله للبراكيس الدايلكتي، فقط، وقد كان هذا النقد ضرورياً بغية تجاوز وظيفة الوعظ الاخلاقي العقيم الى النشاط الثور المنتج للتغيير الفعلي الناجز.
سأوضح هذا الموضوع المهم في الحلقات القادمة.
فائق التقدير والحب والاعتزاز.

اخر الافلام

.. فيديو. الشرطة الإسرائيلية تستخدم خراطيم المياه لتفريق متظاهر


.. إصابة شخص واعتقال 9 في اشتباكات بين متظاهرين والشرطة الإسرائ




.. بالاعتقالات وخراطيم المياه.. الشرطة الإسرائيلية تواجه المتظا


.. تدافع بين متظاهرين والشرطة الا?سراي?يلية بالقدس ا?مام محيط م




.. تغطية خاصة | عشرات آلاف المتظاهرين في -تل أبيب- ضد حكومة نتن