الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الغوغاء

حمزة الحسن

2003 / 7 / 1
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


 

قد يكون العنوان مأخوذا من رواية فرنسية فازت قبل سنوات بجائزة غونغورت الشهيرة لكن القضية هنا هي قضية تاريخ العدالة، أو تحديدا حس العدالة، وحسب فلسفة الاختلاف فإن تاريخ الغوغاء غير منفصل عن تاريخ العدالة، كما أن الليل لا يختلف عن النهار لكنه  نقيضه، والصحة هي الوجه الآخر للمرض، فتاريخ العدالة هو صراع دائم مع فكر الغوغأة.

تستأهل قضية النائب البريطاني جورج غالوي، بصرف النظر عن موقفه فنحن هنا لسنا بصدد محاكمة أخرى له، أن نتوقف عندها طويلا فهي ليست قضية بريطانية فحسب بل هي قضية عراقية، لأن ضحيتها أوشكت حياته أن تخرب بتلك (الخفة) العراقية المعروفة حين باع خصوم عراقيون لغالوي وثائق مزورة لصحيفة بريطانية على أساس أن الرجل كان يقبض من السلطة الفاشية في العراق.

ولو لم يكن غالوي بريطانيا، وهنا الدرس والحكمة، ولو كان عراقيا على وجه الخصوص، لضاع ووصم  هو وأحفاده وأحفاد أحفاده لعصور ضوئية قادمة بلا حساب أو كتاب أو شك أو مساءلة أو مراجعة أو كشف أو إعادة نظر أو محاكم أو قانون أو محامي أو شهود أو فحص أو قاعة أو جمهور أو شاهد نفي أو شاهد إثبات أو حتى أوراق القرار ناهيك عن وجود أي قرار مكتوب، ففي التقليد الغوغائي لا تحتاج مثل هذه الأحكام إلى كل هذه الشروط القانونية التي شرّع لها الحقوقي العراقي الأول قبل آلاف السنين في مسلة قانونية تعد مفخرة في الوعي القانوني، أو تلك التي شرّعت لها الأديان السماوية كافة وغير السماوية، إضافة إلى الأعراف.

في تقليد الغوغاء لا تحتاج مثل هذه الأحكام أكثر من همسة في بار أو حمام أو مقهى أو هاتف أو مقالة في  أسمال صحيفة أو شبه نشرة أو حوار عابر على رصيف عابر حتى يصادر دم ضحية بريئة لا يعلم ربما طول عمره أن الطربوش ركّب على رأسه وأنه وضع على حمار أبتر ويطوفون به المدن وهو غافل. 

 لكن من حسن حظ غالوي أنه ليس عراقيا، والصحيفة هي ليست عراقية، كما أن الدولة التي يعيش فيها تعطي هامشا واسعا للحريات والحقوق الشخصية، والقانون الذي لجأ إليه، وكان واثقا منذ البداية، هو ليس قانون (محاكم الأرصفة أو الأحزاب) أو مقاهي العطل التي أنتجت جيلا من المعوقين والفاشلين والعاطلين عن العمل والوعي والضمير فلجأوا  إلى السياسة  كتعويض عن فشل عام، وهذا القانون يطلق النار والأحكام  فورا من فوق رصيف على كل مختلف أو غير شبيه أو خصم سياسي أو غير سياسي.

 وهذه الخفة العقلية صارت مدرسة في نظر البعض، وصار لها جيشها، وعرابها، وهيئة أركانها، وغرف قيادتها، وقوانينها السرية، بل ولها قوة الالزام لمن يرفضون  تصديق (قرارت) محاكم الخفة والغوغاء والردح، بل تتحول هذه القرارات وحالات الهذيان والهلاوس إلى مقالات ومناشدات للآخرين بضرورة اعتمادها كوثيقة!

ولو كان غالوي عراقيا، لأهدر دمه هو وأسرته على جلده، دون أن يسأله أحد عما إذا كان يرغب في الدفاع عن نفسه في محكمة علنية أو سرية أو مقهى أو حمام أو ماخور أو رصيف أو إسطبل.

في التقليد السياسي العراقي غير وارد مثل هذا العرف القانوني الحديث والبدائي أيضا، والأقذر من ذلك أن المؤسسات الأمنية الفاشية العراقية هي التي تولت، من خلال عناصرها، ومخبريها، وأجهزتها المتعددة، بث شائعات وخلق حكايات ملفقة عن هذا المناضل أو ذاك من أجل خلق صورة مشوهة كعقاب نفسي أو أخلاقي لكل المحتجين والساخطين والرافضين الجذريين لبربرية المؤسسة الحاكمة.

 أما العميل الحقيقي فكانت تقوم هذه الأجهزة بخلق ( قصة نضالية) ملفقة له في أوساط الناس لتسويقه، بل يتم سحبه وضربه علنا من الشارع أمام الجمهور لتسهيل مهمة اختراقه صفوف الأحزاب أو البسطاء أو السذج أو الطيبين، أو كانت هذه الأجهزة تزود عناصرها بوثائق عن ظلم مزعوم أو إعدامات لأفراد العائلة وغير ذلك لكي تسهل حصولها على اللجوء السياسي وخلط الأوراق.       

ورغم أن هذا الأسلوب، تاريخيا، هو أسلوب عام في كل الحركات السياسية والدول البوليسية القمعية، قبل نشوء المؤسسات القانونية، ومؤسسات المجتمع المدني، وتراكم الخبرة البشرية، وانتشار الثقافة القانونية، إلا أن هذا الأسلوب في ازدهار وتطور في مناخ عراقي ملائم حيث يستطيع أي تافه أو أرعن أو سطحي خلق قناعات مزورة في عقول البعض يتم قبولها بكل سهولة في اغرب (استقالة عقلية) بتعبير المفكر محمد عابد الجابري، حيث يكون تسليم العقل للآخر مروعا وخطيرا ويعكس غياب كل استقلالية شخصية أو كرامة فردية أو احترام ذاتي.

من ضحايا هذا الأسلوب السياسي، كمثال:
ـ عند وصول السيد الخميني إلى النجف أوائل الستينات مطرودا من إيران، أشاع جهاز السافاك الإيراني، المخابرات: إن الخميني شيوعي متنكر بزي رجل دين.  إنه، حسب السافاك، قيادي في حزب تودة، أي الحزب الشيوعي الإيراني!

ومثل هذه الكذبة انتشرت في المناخ النجفي كحريق في دغل يابس حتى أن أحدا لم يكن يسلم عليه أو يصلي خلفه لمدة سنة وأنه بكى أول مرة في حياته، وحينئذ تدخل المرجع المعروف السيد محسن الحكيم ليوضح الصورة في خطاب عام أنهى به هذه القضية تماما.

ـ كانت السلطات القيصرية قد أشاعت أن لينين يعمل كمخبر في صفوفها حتى أن لينين نفسه أصيب بانهيار نفسي وأوشك أن يسلم ملف ثورة أكتوبر لكي يعدم ويثبت براءته لو لا أن ستالين وزوجة لينين كروبسكايا قد أغلقا عليه الباب عدة أيام حتى تجاوز الأزمة.

وهذا الأسلوب القذر لا تمارسه الدول البوليسية فحسب بل تمارسه الأحزاب التي كانت هي نفسها ضحية له، بل صار تقليدا فرديا عند بعض النماذج التي تخلط العته العقلي بالسياسة.

يذكر الروائي الصديق جمعة اللامي في كتابه القيم( الحرية والثقافة) قصة مؤثرة للفيلسوف الفرنسي الشاب بول نيزان في مقال يحمل عنوان( رصاصة في عنق نيزان).

يقول الكاتب:

(  كانت نهاية حياته رصاصة في عنقه. وقبل ذلك شنت ضده حملة تبشيع وتكريه لم يسبق لها مثيل، نظمها الحزب الشيوعي الفرنسي والمتعاطفون معه، وقادتها ميدانيا صحيفة" لومانتيه" التي توجت هذه الحملة بنشر صورة" شيك" قالت إنه يتسلمه شهريا من المخابرات الفرنسية.

وفيما كان المفكر الفرنسي الشاب يقبر، نظم الغلاة والقتلة والغوغاء حفلا كبيرا أحرقت فيه أعمال بول نيزان الفكرية والأدبية، بينما كان رجل ما من الحاضرين، هو الذي أتهم بول نيزان بالخيانة، يبتسم بشماتة ويعد تقريرا بنتائج عمله.

بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد في سنة 1958، كما يقول جان بول سارتر  توضحت الحقيقة، وعلم الجميع أن نيزان بريء من كل ما نسب إليه واتهم به وأن الذي عرّض به( شهّر به) هو الذي كان عميلا للمخابرات الفرنسية (في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي).

 لقد كانت جريرة نيزان أنه عارض ستالين في الموقف من الثورة العالمية، وكان يرى أن هزيمة النازية والفاشية في ألمانيا وايطاليا تتيح فرصة تاريخية لبناء نظام دولي جديد قوامه الثورة الثقافية، وكان موقفه هذا يستند إلى رؤية ثقافية وحضارية متينة، ويجد تأييدا لدى أكثر الشباب والفنانين والأدباء الأوروبيين، معرفة بدور الثقافة في بناء عالم جديد أكثر عدلا وجمالا....).

صدم الفرنسيون بفاجعة موت وحرق كتب هذا المفكر الشاب، لكنهم صمموا بقوة على أن هذا يجب أن لا يحدث مرة أخرى وأن الغوغاء لا يجب أن يكون قضاة أبدا. ومن حسن لحظ لم يحدث هذا مرة أخرى في فرنسا.

متى نتخلص من هذه الخفة العراقية الشهيرة ونتعلم أن العدالة والدقة والصبر جمال وشجاعة وحيوية وروعة وبهاء ونظافة، ونكف عن شرب الشاي من فوق تخوت المقاهي ونحن نطلق النار والأحكام على المارة الذين توصم حياتهم على جلودهم؟

وشكرا للقضاء البريطاني الذي علمنا درسا يقول: إن تاريخ الغوغاء العراقي لا وجود له هنا عندنا، وأن هذه البضاعة الفاسدة تصلح لكم وحدكم.

من معطفها خرج الدكتاتور الهارب.
ومن معطفها سيأتي الدكتاتور، النظام، القادم! 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فندق فاخر في أبوظبي يبني منحلًا لتزويد مطاعمه بالعسل الطازج


.. مصر تحمل إسرائيل مسؤولية تدهور الأوضاع الإنسانية بغزة | #راد




.. نتنياهو يزيد عزلة إسرائيل.. فكيف ردت الإمارات على مقترحه؟


.. محاكمة حماس في غزة.. هل هم مجرمون أم جهلة؟ | #حديث_العرب




.. نشرة إيجاز - أبو عبيدة: وفاة أسير إثر قصف إسرائيلي