الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا هي الأحلام، يشد بعضها بعضا وتطرد كل دخيل غريب

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 6 / 16
الادب والفن


يفرض عامي الأول الذي أمضيته بمجمع الفكارة سلطة قاهرة على ذاكرتي.. لو أردت أن أحكي بتفصيل كل ما عشته هناك من تجارب بحلوها ومرها لطال محكيه ولتطلب أمر تدوين هذا المحكي مجلدا ضخم الجثة؛ نظرا لكون عامي ذاك محطة توقف عندها قطار حياتي وكأنه منفى اختياري أتاح لي تصفية حسابي مع حياتي الماضية بأشجانها وأفراحها، وشكل بالنسبة لي نافذة أطللت من خلالهها على آفاقي المستقبلية..
قبل حلولي بهذا المجمع/المفازة، ربا في وجداني حلم الكتابة بعد تجربة حب فاشلة.. كنت أعتقد أن نجاح مشروعي هذا كفيل بأن يضع كامل المسؤولية في هذا الفشل الذريع على عاتق الطرف الآخر ويجعله يشعر بالندامة على اختياراته المعاكسة لتيار العاطفة الجارف، لا سيما في الفصول الأولى من القصة..
هكذا هي الأحلام، يشد بعضها بعضا وتطرد كل دخيل غريب.. تفقد الأحلام مذاقها إذا ما حاولت الخروج من عالم الوهم والاستيهام.. الحلم ظلال والحقيقة شمس ساطعة.. وفي حالة تحقق حلم ما على أرض الواقع، فاعلم أن القدر شق لك طريقا مفروشا بالورود الشائكة المستوردة من مملكة الحلم.. غالبا ما تكون هذه الطريق شاقة وطويلة في هذي البلاد، خصوصا عندما يرفض سالكها عرض أحلامه للمزاد العلني ويصر على أن يكون أصيلا..
كانت تلك هي مشاعري في بداية هذا العام الدراسي.. تعززت واستقوت في اللحظة التي حللت فيها بأكدز بعد توديعي وزملائي للفكارة في أول عطلة بمناسبة انتصاف الدورة الأولى في تزامن مع عيد المولد النبوي.. تنتمي اللحظة المعنية بالحكي إلى يوم ثلاثاء.. الجرائد المعروضة للبيع في وكالة “الستيام” مؤرخة بيوم أمس (الاثنين).. سحبت نسخة من الجريدة الناطقة بلسان حزب عبد الرحيم بوعبيد الذي كان ما يزال على قيد الحياة.. اتجه اهتمامي أولا إلى صفحة “على الطريق” فظهر لي في وسطها مقالي الذي كتبته قبيل بدء أول رحلة لي إلى ورزازات..
صعقتني المفاجأة صعقا لذيذا وكدت أطير من الفرح.. كل من كان بجواري في تلك اللحظة علم بالأمر.. حتى التاجر الشيخ المتحدر من مجمع الفكارة والجد لأحد تلميذاتي طلب مني الجريدة ليرى ما كتبت.. زملائي كلهم قرأوا المقال وأيدوني.. الأكبر منا سنا والأكثر اندماجا مع أهالي الدوار لكونه أمازيغيا من أزيلال عبر عن إعجابه بما رأت عيناه قائلا: “مسخوط” ! !
مرت أيام العطلة سريعة كقطار يجري فوق سكة الزمن، وعاد كل واحد منا إلى مقر عمله.. ظهور مقالي الأول كان لي بمثابة محفز على كتابة مقال آخر.. استقر رأيي على إنجاز مقالة حول ثيمة العلاقة بين الجنس والجوع في رواية “جيرمينال” لإميل زولا.. كان يتعين علي قراءة الرواية أولا وبعد ذلك بمكن لي الشروع في الكتابة.. فعلا، شرعت في قراءتها على ضوء الثيمة نفسها، فكنت أتوقف مليا عند أي مشهد يمت بصلة قريبة لموضوعي، ولم أكتف بقراءته أكثر من مرة، بل عمدت إلى تدوينه في جذاذة تماما مثلما كان يفعل أستاذنا في الكلية الدكتور علي أومليل الذي غادر منذ مدة أجواء التعليم الجامعي واستقربه المطاف سفيرا في لبنان قبل أن يخلفه بوكرين رفيق الحاج الشيوعي..
عندما انتهيت من قراءة الرواية، تجمعت لدي عشرات الجذاذات التي قمت بترتيبها بناء على تصميم محكم كنت قد وضعته كهيكل لمقالي الجديد.. لم يبق لي الآن سوى الشروع في تسويد الأوراق البيضاء.. عندما أخذت في كتابة مسودتي، استحسنت استلهام كتيب بعنوان “دموع إيروس” وهو من تأليف الفيلسوف الفرنسي جورج باطاي كنت قد قرأته في أواخر مرحلتي الجامعية التي توقفت عند الإجازة.. في الأخير، تمكنت من ختم الموضوع وأعدت تحريره بخط واضح واحتفظت به كسر مكنون حتى حل موعد إحدى العطل فأودعته لدى الجريدة قصد التداول في شأن صلاحية نشره من عدمها.. ونظرا لالتزامي الصوفي بأداء الواجب الملقى على عاتقي تجاه طائفة كبيرة من أطفال الفكارة المعزولة عن العالم سلكيا ولاسلكيا، تعذر علي تماما معرفة ما إن نشرت الجريدة مقالي أم لم تنشره.. لقد صارتىمتابعة الحلم حتى نهايته صعبة..
في عامي الأول، اكتشفت ضمن ما اكتشفت أن للأسبوع نهايتين.. الأولى كونية ورسمية تبدأ انطلاقا من يوم الجمعة وتمتد طيلة يوم الأحد والثانية محلية تبدأ من يوم الأربعاء وتمتد حتى مساء اليوم الموالي (الخميس).. فمن أجل توفير مسنلزمات معيشنا اليومي، كان لابد لنا من مغادرة المجمع البدوي عند زوال كل يوم أربعاء في اتجاه قرية أكدز حيث يقام السوق الأسبوعي كل يوم خميس.. في باقي الأيام، تكون فرص التنقل من الدوار إلى القرية نادرة إن لم تكن منعدمة.. وسيلة النقل الوحيدة كانت سيارة بيكاب مهترئة من نوع “بوجو”..
لم أحظ ولو لمرة واحدة بالجلوس إلى جانب السائق لأن المقعدين اللصيقين بمقعده يتم حجزهما مسبقا لفائدة أقرب المقربين إليه.. لهذا، كنا مجبرين على الاحتماء بجفنة البيكاب أثناء سفرنا من الفكارة وإليها.. كانت الجفنة عارية ومشرعة على موجات البرد القارص والغبار المتطاير.. ولكم أن تتصوروا مدى المعاناة التي يكابدها المسافر في مثل هذه الظروف.. ليت الأمر وقف عند هذا الحد.. أحيانا، تتجاوز السيارة حمولتها خاصة أثناء رحلة العودة من السوق الأسبوعي.. في هذه الحالة، كنت أتشبت بمؤخرة العربة ورجلاي تتدلايان حتى تكادا أن تلامسا الأرض..
من أغرب الطرائف التي كنت بطلها بهذا الصدد أني كنت ذات يوم متواجدا بأكدز، وعندما أردت الالتحاق بالفكارة، دلني أحدهم على سيارة بيكاب على أهبة الانطلاق نحو الفكارة عبر بلدة تانسيفت التي تحتضن الإدارة والمدرسة المركزية.. عندما اتصلت مباشرة بسائق المركبة تأكدت من صدق دليلي وطلبت منه أن يحملني معه إلى الفكارة بعد أن أخبرته بمهنتي كمعلم صبيان.. قبل طلبي على أساس أني سوف أدفع له مقابلا.. لما حضر كل الركاب، أدار السائق مفتاح “الديمارور” وانطلقت السيارة بنا وكنت من الركاب الواقفين في الجفنة الخلفية.. بعد أقل من دقيقة، غادرت السيارة مدار القرية لتغوص في فضاء طوبوغرافي كله جبال وهضاب وأودية عبر مسلك غير مبلط وغير مجهز بقنوات لتصريف مياه الأمطار..
المهم أنه لما وصلت السيارة إلى بلدة تانسيفت عرجت على المدرسة المركزية في اتجاه التجمع السكني قصد إيصال بعض الركاب إلى محل سكناهم، قررت القفز من الجفنة نحو الأرض من أجل القيام بإطلالة سريعة على زملائي العاملين بهذي المنطقة.. في اللحظة التي لامست قدماي الأرض، أدركت أن جسمي افتقد التوازن نهائيا وأني ساقط لامحالة.. انتبهت فجأة إلى فكرة هوليودية لإنقاذ نفسي من مغبة السقوط وما يرتبط به من مهانة وحسرة وقمت بتنفيذها على الفور عندما التفت بسرعة إلى الكاروسري فدار جسمي دورة واحدة في لمح البصر وتمسكت به وكأني أريد العودة إلى مكاني بين الركاب..
من خلال المرآة العاكسة، رآني السائق في هذا الوضع فارتعب وضغط على الفرامل فتوقفت السيارة واستعدت توازني، ثم مشيت فوق الأرض مع الاعتذار للسائق مشيرا إليه بأني سأكون في انتظاره هنا لدى استئنافه المسير نحو الفكارة..
دخلت دار المعلمين.. سلمت عليهم وبادلوني التحية ورحبوا بي.. بعد ذلك، سمعت هدير محرك سيارة قادمة في اتجاه المدرسة.. خرجت مسرعا لأجد أن السيارة القادمة هي تلك التي يسوقها السائق الذي أغاظه تصرفي ذاك.. عند اقترابه مني، أشرت عليه بأن يقف حتى أكمل رحلتي إلى الفكارة لكنه عوض أن يتوقف مر أمامي بسرعة جنونية في محاولة منه لتجاوزي وتأزيمي عقابا لي على سلوكي الطائش.. لم يكن أمامي من خيار آخر سوى إطلاق ساقي للريح والعدو بكل ما أوتيت من قوة وسرعة.. رآني أجري وراءه فزاد من وتيرة السرعة، ومع ذلك لم يتسرب اليأس إلى عزيمتي، فواظبت على الجري حتى أمسكت بالكاروسري (الهيكل) ولم يبق لي سوى الصعود.. عندها توقفت السيارة ونزل منها السائق وقد بلغ منه الغضب والحنق مبلغا عظيما.. توسل إليه الركاب أن يسمح لي مرة أخرى باستئناف الرحلة معهم على متن العربة، فلم يجد بدا من الاستسلام..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. مهرجان موازين للموسيقى يعود بعد غياب 4 سنوات بسبب ج


.. نون النضال | خديجة الحباشنة - الباحثة والسينمائية الأردنية |




.. شطب فنانين من نقابة الممثلين بسبب التطبيع مع إسرائيل


.. تونس.. مهرجان السيرك وفنون الشارع.. إقبال جماهيري وأنشطة في




.. دارفور.. تراث ثقافي من الموسيقى والرقص