الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس قاسية تنتظر الفرنسيين

راتب شعبو

2024 / 6 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


عرض الفرنسيون انزياحاً واسعا نحو اليمين المتطرف (الأصح تسميته اليمين العنصري، فهذا أهم ما يميزه عن اليمين التقليدي) بعد سبع سنوات من حكم حزب "الجمهورية قُدُماً" (la république en marche) الذي تأسس عام 2016 عشية الانتخابات الرئاسية لعام 2017، ثم بدل اسمه في خريف 2022 إلى النهضة (renaissance). والحقيقة إن بروز هذا الحزب كان يحمل في ذاته إشارة إلى التحول والاضطراب السياسي العميق الذي تشهده اليوم الساحة السياسية الفرنسية. الصعود السريع لهذا الحزب الذي اعتبر نفسه فوق الأحزاب (حزب ضد الحزب)، وفوق التصنيفات (لا يمين ولا يسار)، جاء على حساب انهيار اليمين واليسار التقليديين في فرنسا، الحزب الاشتراكي (اليسار) والحزب الجمهوري (اليمين)، والواقع أنه جرى رفد هذا الحزب بسيل من الكوادر الحزبية التي جاءت من هذين الحزبين تحت ضغط الشعور بعطالتهما.
في الحق أن ما فتح طريق الإليزيه أمام ماكرون، وبالتالي أمام ازدهار حزب "الجمهورية قُدُماً"، هو من جهة الفضيحة المالية التي أطاحت بالمرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام 2017، فرانسوا فيون، والتي أضعفت اليمين التقليدي الفرنسي إلى حدود غير مسبوقة. ومن جهة ثانية سنوات حكم الرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند التي قادت إلى ضعضعة الحزب الاشتراكي، فكان التصويت لمرشحه الرئاسي في رئاسيات 2017 أقل من سبعة في المئة. ثم تفاقم تراجع الحزبين بصورة مسرحية. في الرئاسيات الأخيرة 2022، فشلت مرشحة الجمهوري "فاليري بيكريس" في تجاوز عتبة الـ 5%، وحُرمت لذلك من تعويض نفقات حملتها الانتخابية كما يحدث عادة مع الأحزاب الصغيرة. أما الحزب الاشتراكي فلم تحصل مرشحته للرئاسة "آن إيدالغو" إلا على نسبة تكاد لا تصدق، هي 1.7%. فيما حقق اليمين واليسار غير التقليدي نتائج متقدمة، فحازت اليمينية العنصرية، مارين لوبين (التجمع الوطني) على 23% وحاز اليساري المعادي للرأسمالية جان لوك ميلانشون (فرنسا الأبية) على 21%.
ظاهرة بروز حزب النهضة الفرنسي تستدعي التأمل لما تحمل من دلالات تخص تبدل الواقع السياسي الفرنسي. فهو حزب الرئيس، ويمكن اعتباره حزباً عائماً بلا جذور. ظاهرة "حزبية" توفرت على تمويل ونشأت لأداء وظيفة هي دعم المشروع الرئاسي لماكرون والمتمثل، عملياً، في الهجوم على مكاسب الطبقات الدنيا، من قانون العمل إلى قانون التقاعد إلى قانون الهجرة إلى الضرائب والأسعار والمحروقات ... الخ. واللافت أن معظم هذه القوانين جرى تمريرها من فوق البرلمان بالاستناد إلى نص دستوري يسمح للحكومة بتجاوز البرلمان عند الضرورة لمرة واحدة في السنة.
لا غرو أن الاحتجاجات الشعبية المتعددة الأشكال (أبرزها احتجاجات أصحاب السترات الصفراء) ملأت فترة حكم هذا الحزب الذي ما كان يمكنه حجز فترة رئاسية ثانية لولا الرفض الفرنسي التقليدي، الذي بدأ يتآكل، لوصول اليمين العنصري إلى الإليزيه.
يصح النظر إلى الصعود "السهل" والسريع لحزب الرئيس في رئاسيات 2017، على أنه نوع من بونابرتية حزبية، حزب بلا لون محدد يصعد ويستقر على توازن من ضعف الأحزاب التقليدية المأزومة والعاطلة. غير أن هذا النوع من الاستقرار يبقى مؤقتاً وقلقاً، لأنه يفتح الباب لصعود يمين ويسار غير تقليديين، ليس فقط على حساب الحزبين الفرنسيين التقليديين، بل وأيضاً على حساب حزب الرئيس نفسه، وهذا ما أظهرته انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة التي جرت في 9 حزيران الجاري.
على هذا لم تكن النتائج التي تشير إلى انزياح يميني كاسح، مفاجئة. فقد حصدت أحزاب اليمين العنصري ما يقارب 40% من الأصوات، 5% لحزب الاسترداد (reconquête) الذي يتلخص "فكره" السياسي، كما يشير اسمه، في "استرداد" فرنسا من الأجانب، على ما في هذا من هوس وفقدان صواب. أما حزب الرئيس فجاء ثانياً في الترتيب بنسبة أصوات تقل عن 15%، أي أقل من نصف النسبة التي حققها أكبر أحزاب اليمين العنصري "التجمع الوطني".
استفاد اليمين الفرنسي ذو النزوع العنصري من تراكم المشاكل الاقتصادية ذات الأصل البنيوي والتي زادت حدتها بفعل تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، كي يغذي ميلاً انتهازياً يبحث عن إثارة غريزة الهوية لدى الجمهور الفرنسي بالكلام عن "السيادة" تجاه الاتحاد الأوروبي، وبتحميل الآخرين أي "الأجانب" مسؤولية العبء الاقتصادي والأمني للبلاد. ويسند هذا الهروب من وجه المشاكل الحقيقة، تيار إعلامي فرنسي مسيس غير نزيه. في الواقع لا يقدم اليمين المتطرف أفكاراً جدية لحل هذه المشاكل، حتى أن الكثير من الفرنسيين يسمون زعيم "التجمع الوطني"، جوردان بارديللا (28 عاماً)، السيد "سوف نرى"، لأنه لا يفتأ يردد عند سؤاله عما يمكن أن يفعل إذا صار رئيساً للوزراء، "سوف نرى".
يصف الإعلام الفرنسي التحول الكبير الذي حصل في المشهد السياسي في البلاد بأنه زلزال أو حتى انفجار كبير (Big bang)، للدلالة على تأسيسه لبداية جديدة بالكامل. ولإدراك مدى التغير الذي حصل يمكن الاستدلال بمقارنة موقف الجمهوري جاك شيراك في 2002، حين رفض مجرد الجلوس مع مؤسس الحزب اليميني العنصري الذي يحقق اليوم فوزاً كاسحاً بالانتخابات الأوروبية، مع موقف "إريك سيوتي" رئيس الحزب الجمهوري اليوم بالموافقة على التحالف مع هذا الحزب. صحيح أن كامل الصف القيادي للحزب الجمهوري اعتبر سيوتي خائناً وتبرأ منه وطالب بإبعاده عن الحزب، ولكن لهذه الخطوة دلالة صريحة، عدا عن أن قطاعاً من جمهور الحزب لا يعارض، كما أظهر استطلاع للرأي، هذا التحالف الذي كان يبدو قبل سنوات "تابو" وخطاً أحمر.
أمام الهزيمة الصريحة لحزبه، قرر الرئيس ماكرون أن يقامر بكل شيء، فحل البرلمان داعياً إلى انتخابات تشريعية في الثلاثين من حزيران. مراهناً على فكرة ساذجة تقول إن التصويت لليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية ليس إلا عقاباً لحزب الرئيس على سوء الحال الاقتصادي، ولكن حين يكون التصويت للبرلمان الفرنسي فإن معايير الجمهور الفرنسي سوف تختلف.
مهما يكن الأمر، الراجح أن فرنسا سوف تجرب قريباً حكومة من اليمين العنصري، سواء من موقع رئاسة الوزراء هذا العام، أو ربما من موقع رئاسة الجمهورية في 2027. وحينها سوف يستخلصون الدروس، ونأمل أن لا يكون لهذه الدروس ثمن من دم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون ينفي وجود خطط لانتشار الجنود الأميركيين في قطاع غز


.. هل يحمي الواقي الشمسي فعلا من أضرار أشعة الشمس؟| #الصباح




.. غانتس: قادرون على إدخال لبنان في حالة من الظلام وتدمير القدر


.. حرب غزة.. نازحون يعيدون استخدام أكياس الطحين لصنع خيام تؤويه




.. بعد اختفاء سيدة في جزر البهاما.. السلطات الأميريكية تحذر من