الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك السلطوية العربية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 6 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


لو كنت لسه عيّل صغير، أكيد نظرتك إلى الرجال ستحمل شيئاً من الاعتراف بالسلطة تجاههم. هم أكبر منك سناً، أضخم وأقوى جسداً، أكثر معرفة وخبرة بمخاطر وفرص الحياة، أجدر منك على توفير الإرشاد والحماية خلال رحلتك البكر عبر تضاريس الحياة الوعرة. هذه هي نظرة الطفل لأبيه، أو ما نسميها "السلطة الأبوية". هي علاقة بين قاصر وناضج، يلتمس فيها الأول تعويض ما لا يزال ينقصه من الأخير المكتمل البنيان والمراس؛ أو علاقة بين طرف ضعيف وآخر قوي، ينشد الأول منها سد ثغرات ضعفه عبر التحالف والارتماء في أحضان الطرف القوي، الظهر والحامي والسند. السلطة علاقة منفعة متبادلة بين طرفين غير متكافئين، أحد الطرفين يعوض منها عَوّزه بينما الآخر يمارس من خلالها نفوذه وقوته.

لكن حين يَشبُ الصغير عن الطوق، يَخُط شاربه تحت أنفه وتسري في عروقه انفعالات المراهقة الهوجاء، ستتبدل نظرته السابقة إلى الرجال. بعد اكتمال نضجه الجسماني واكتساب القدرة على العيش بمفرده دون الحاجة لحماية من أحد، والإنجاب وتكوين أسرة خاصة به، عندئذ تتحول السلطة الأبوية السابقة من طوق نجاة إلى أغلال تقيد حركته وحريته لابد من مهرب منها إذا ما أراد أن يواصل ويحقق ذاته وطموحاته من الحياة. ليس الهروب من سلطة الأب فحسب، بل هو يريد أيضاً التأسيس لسلطة خاصة به. بعد التحاقه بنادي الرجال، أصبح يستشعر قدراته ومؤهلاته وحقوقه لكي يُسمح له بدخول الحلبة لخوض المنافسة والصراع على مصالح العيش والبقاء وترسيم منطقة نفوذ وسلطة خاصة به واضحة المعالم، مُعترف ومُسلم بها من الآخرين. عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر بالتأكيد، لكن المشقة والخطورة تزيدها غوايةً وإغراءً على نحو لا يُقاوم.

حتى ينشأ ويستمر التنافس على النفوذ والسلطة وسط جماعة الرجال، لابد من قواعد وأعراف وتقاليد مُتعارف عليها بينهم، حاكمة ومنظمة للاعبين. لكن حين تَضعف القواعد، أو تكون الشراسة والغلظة والقسوة خصائصها الجلية، تميل اللعبة أكثر نحو عالم الغابة حيث البقاء والازدهار والإشباع للقوي على حساب الضعيف؛ في المقابل، حين تكون القواعد مهذبة وإنسانية ورحيمة مبنية على العدل والمساواة وسيادة القانون فوق الكافة كسمة أساسية فيها، يميل التجمع البشري إلى التمتع بحياة التمدن والرقي وضمان الحرية والحماية الاجتماعية والحقوق الإنسانية الأساسية لهؤلاء الذين هم أكثر هشاشة وضعفاً فيه.

في معرض التنافس على ممارسة النفوذ والسلطة، علاوة على من هم أضعف منه يصادف الرجل دائماً وأبداً من هم أقوى منه، عضلياً أو علمياً، أو في المنصب السياسي أو المكانة الاجتماعية أو حجم الثروة أو الشهرة والشعبية وسط الآخرين. هنا يجد الرجل نفسه عالقاً في ثُنائية فصامية: هو من جهة يمارس نفوذه وسلطته على من هم أضعف منه، ومن الجهة المقابلة لا يجد مفراً من الخضوع والتسليم لنفوذ وسلطة من هم أقوى منه. ومن المثير أنه كلما تعاظمت السلطة الممارسة بحقه حتى حدود الإذلال والاضطهاد والقمع، كلما تعاظمت في الوقت نفسه سلطته هو ذاته التي يمارسها بحق الأضعف منه لتبلغ حدوداً موازية من الإذلال والاضطهاد والقمع بحقهم. كأنه يُفرغ كبته وغيظه ممن هم فوقه وأعلى منه في من هم دونه وتحته. هكذا يفعل الرجل المُهان والموجوع من قبضة سلطة باطشة أعلى منه في ابنه وزوجته، في من هم دونه في السلم الوظيفي، أو الرتبة العسكرية، أو في من هم أقل حظاً منه في المال والجاه والحظوة لدى الأقوياء والمتنفذين.

حين تضعف القواعد المنظمة للسعي وراء المصالح والنفوذ والسلطة، يحتدم التنافس أكثر وينفلت رويداً رويداً من قواعد العدل والإنصاف، ليتحول إلى صراع يفتك بجسد الدولة ويمزق أوصاله. ومن ثم تتسع الهوة أكثر فأكثر بين قطبي الطيف السلطوي، ليزداد الضعفاء ضعفاً فوق ضعفهم ويزداد الأقوياء قوة فوق قوتهم. السعي غير المنضبط لمراكمة السلطة والنفوذ يقسم المجتمع إلى شطرين منفصمين إلى حد القطيعة في القوة والثروة والجاه والنفوذ والشهرة. وفي مثل هذا الوضع، ليس الضعف فضيلة ولا القوة ظلماً. لقد تسبب السعي المحموم، المتحرر من قواعد العدل والإنصاف والتمدن، وراء السلطة والنفوذ إلى تسميم النهر الثقافي الذي يروي القطر كله، حكام ومحكومين، قامعين ومقموعين، ظالمين ومظلومين. كل ما هنالك أن المحكوم المقموع المظلوم يعدم الوسيلة التي بواسطتها يحكم ويقمع ويظلم، ينتقم ويشفي غليله منهم. التي إذا ما أتيحت له لن تجد فرقاً جوهرياً بينه وبينهم، إذ يتحول مظلوم الأمس إلى ظالم اليوم.

في مثل هذه المجتمع، القيم مغشوشة، مقلوبة، تَقطرُ تسلطاً وكراهية وثأراً ودماً. حيث يحسب الأب أن ضربه لابنه تربية، ولزوجته تأديباً؛ ولا يرى صاحب العمل غبناً في استغلال عماله طيلة العام، طالما يجود عليهم بإكرامية في الأعياد؛ ولا يجد الثري عيباً في أن يقيم مأدبة لإفطار الفقراء في شهر رمضان، بينما هو يملئ خزائنه من جيوبهم وكدهم وعرقهم بقية أشهر العام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الشجاعة داخل الفلج.. مغامرة مثيرة لمصعب الكيومي - نقطة


.. رائحة غريبة تسبب مرضًا شديدًا على متن رحلة جوية




.. روسيا تتوقع «اتفاقية تعاون شامل» جديدة مع إيران «قريباً جداً


.. -الشباب والهجرة والبطالة- تهيمن على انتخابات موريتانيا | #مر




.. فرنسا.. إنها الحرب الأهلية!