الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوقوع على الجهات البعيدة

خضير النزيل

2024 / 6 / 17
الادب والفن


ليلُ وأمطار وعواصف ثلجية، هكذا كانت الحال دائماً في هذه الجبهة الشماليةّ، من " حوض ماوت" ، ضوء القمر يتحوّل إلى ثلج لانهائيّ، الثلج يتصدّع أكواماً تحت غبار أحذية الجنود ، ويتحوّل في الحال إلى ما يشبه الروث المخلوط برائحة الأوراق الميتة ، المَلجأ إلى ثلاجة من صقيع والسماء طبقة خرسانة كثيفة من جليد يطمس كل شيء،. الليل هنا ، يبدأ في فترة ما بعد الظهيرة، غيوم عدائيّة تلقي بظلالها المٌتماسكة التي تبدو على الأرض مثل عشب أسود، وعلى حافة الجرف الجليديّة مثل نباتات مٌتسلّقة سوداء ، في الشمس تتبدى بقيّة نار خامدة تُدفيء جسداً لرجل إنكمشَ متكوراً على نفسه تحت عتبة ناتئة بين الصخور وقد ضَرَبَتْ الثلوج من حوله إطاراً سميكاً، زاد من حدّة البروز الفاضح لهيكله الضامر، كان يتألم مثل حيوان محصور في حفرة وفي وضعه المٌتحجّر هذا :القدمان مُلتصقتين بمؤخرته والركبتان في مستوى صدره ضامتين ذراعه في تضامن حزين،تهمّان، وقد أنتصبتا حتى لقد كادتا تشكلان مع بقيّة جسده زاوية تسعينيّة ،لم يبد أنّه قد تأخر كثيراً عن موعد هبوط هذه العاصفة الثلجيّة التي جرفته إلى هذه الفجوة الكهفيّة التي وجد نفسه محشوراً فيها مثل محبوس داخل جثته.
بدأ كمن حرّرَ نفسه أخيراً مغالباً جرف الثلج التي طمرته وقد زال بغتة الخدر الذي أعاقه عن فعل أيّ شيء في هذه الحفرة الصقيعيّة التي أصبحت مأواه، في البداية أدار الرجل جسده قليلاً نحو اليسار ، مُستنداً على أخمص بندقيته، (وقد تحرّرَ نصفه الأعلى) نحو هذه البقعة التي يستطيع من خلالها رؤية المنبسط الصخري، غرس بندقيته ثانية على حافة الثلج، وبمشقّة حرّر نصفه الآخر رافعاً إياه قدر ما يستطيع. مُستنداً على كلتا يديه ، ثم على أسفل عظام ظهره، ثم على ركبتيه، ثمَّ على أنّة ممزّقة.
إنّه الآن خارج قبره الثلجي.
أدار عينيه على مظاهر التحوّل غير السار الذي فعلته الثلوج المتساقطة على موضعه، وتلك الحًدبة الجليديّة التي تكوّنت حوله جراء إنهيار حائط ما، من بعيد حيث الحَدّ النباتي الضيق الذي يحيط به، شاهد شجرة كرز مُعراة، تتدلى كفم أدرد على حافة الوادي، وسمع آخر الإنفجارات العنيفة ، دون أن يساوره أدنى شك بحثاً عن أين انفجرت، مع أنّه لا يعرف أين حقاً، أمامه ينتهي معبر كونكريتي هدّمته القذائف وبعض القرى التي كانت تؤمّن له يوماً طريقاً غير مرصود. الآن هي مجرد بيوت معدودة مهزومة بالثلج بعد أن تركها أغلب سكانها بسبب الهجمات العسكرية الأخيرة ، وكأن الموتى وحدهم الذين تتسكع أرواحهم في مثل هذه الخرائب الخاوية في راسه تدور الآن أسماء هذه القرى التي مرَّ بها قبل أن يخفّ ثقل حروفها مع مرور الوقت.
فتَحَ عينيه ببطء ، بصعوبة على أكوام الثلوج التي تساقطت فوقه ، ومن خلال الضباب الذي يلفّ ناظريه ألقى نظرة خاطفة ، دونما هدف واضح، على الأشياء من حوله ، إنها المرة الأولى التي يرى فيها مثل هذه الشمس الشتائية الحمراء منذ أيام وذلك الدخان الذي يتجعّد متصاعداً من بقيّة رقع رماديّة تشتعل خلف ألق مُتقطع ، أسمال مٌبعثرة هنا وهناك فوق هذه الشُعفة الجبليّة المحكوم عليها بالجليد الأبدي ، ها، هي، ذي هناك جثث رفاقه الجنود الذين دفنتهم العاصفة الثلجيّة، أثناء انهيارها فوق "جادة به ياد ماندني"، وهنا، بعيداً عن البريق المُتلأليء لهذه الحافّة المٌطلّة على "حوض ماوت" قضى الرجل يومه، متطلعاً إلى جثثهم.
انتشر الظلام على كامل السهل، عندما سمعنا تلك الصرخات المكتومة التي حملتها الرياح من جهة ما ، عاصفة بكل ما حولها، كان مصدرها وابل من الرشقات المُذنّبة، وهي تتفجّر خارجة من مأسورة بندقيّة، يمرق أنينها الأخير بإتجاه غابة كرز سوداء أحرقتها القذائف، كُنّا بضعة أشخاص، تَجَمّدت ثيابهم العسكريّة من الصقيع، بحثاً عن جثث الجنود الذين دفنتهم العاصفة الثلجيّة تحت طبقات كثيفة من جليد يطمي كل شيء، حتى لقد شعرنا بعبث هذه المهمة التي جئنا من أجلها، منذ يومين لم نعثر على جثة واحدة على طول مسار هذا الوادي، لا شيء هنا. وهكذا بدأ كل شيء، قبل أن نعثر عليه.كنّا نركض حينها متعثرين بجثث الذين سبقونا أسفل هذه العارضة الحدوديّة عبر أحراش طريق نسيمي ضيّق وما كان طريقاً مُعرشاً بين أشجار ، أصبح الآن أرضاً مُتحجّرة، لحافّة جبل أجرد، لقد جئنا إلى هنا في مجاميع صغيرة، أسقطتها المروحيات السمتيّة في هبوط مُضطرب ، قبل أن تختفي الى نهايتها، متحطّمة بين الصخور وسط عاصفة ثلجيّة مٌتّقدة غيظاً، كنّا بلا معاطف أو أحذية شتويّة ملائمة وسط هذه المَثْلجة التي غارت فيها أجسادنا المُتعبة وقد ملأت السهل بسرعة كبيرة، لم يكن بمقدور أحدنا الجلوس أو الإلتفاف أو تخليص نفسه من حروف الصخور الحادة وقد جثمت الرياح بكل ثقلها، سادة المنافذ بصوت صفيرها العميق الآتي من الأعلى مع ألسنة النيران الكثيفة التي كانت تنهمر فوق رؤوسنا ، مع أصوات قطع من الصخر ، تتدحرج نحو المنحدر.
جَلبتْ الرياح المتساقطة على حافّة الجُرف الجليديّة، المزيد من الثلوج، مُشَكلة جبهة هوائيّة باردة لم يقو الرجل على مقاومتها، بينما هي تتقدم نحوه بخطى حثيثة أثناء مرورها عبر الأجزاء الضبابيّة أسفل الوادي، ، وهلة، أعتقد الرجل أنّه مقبل على عاصفة ثلجيّة أخرى، بينما هو يزحف هابطاً إلى الأسفل، إلى حافة ما من تضاليع هذا المُنحدر، لم يكن الثلج قد تساقط بعد، مجرّد رياح باردة على شكل عاصفة أخذت تعترض طريقه، أغمض عينيه وحاول أن يتخيّل ما كان يحدث في تلك اللحظة وهي تتقدم منه،
أخبرته أنّها من قرية -باي رشوان- وأنها تريد أن تعبر مركز الحدود إلى أزمير، لمعرفة مصير عائلتها هناك، مازال يتذكر على مضض عصابة رأسها التي تتدلى من خيوطها قطعاً من العملات المعدنيّة، وألوان ثيابها المُلتفّة بشلال من الفرو ، بينما هي تنظر إليه، مُتضرّعة بعينين قلقتين، كانت قد قطعت نصف الطريق تقريباً، قبل أن تلتفت إليه، راقبها تمشي بذلك الحزن المكبوت الذي لايعرف له سبباً، مبتعدة في ارتباكها دون أن تنتبه إلى يده التي تَخشّبت مرفوعة في الهواء، إنّه نادراً ما كان يخفي عواطفه في حالات كهذه، بل لم يكن في أية لحظة من اللحظات حقيقياً مع نفسه بقدر ما هو عليه الآن، وبالذات تلك اللحظات التي تجلّت فيها أقوى ما تجلّت ملامح وجهها الشاحب الذي بدأ له مألوفاً وجميلاً، يومها تساقط الثلج على مهل، وهطلت الأمطار ماءاً شبيهاً بفضة نازلة من السماء، قبل أن يقرّرَ آمر فوج مُحاصر وبكل ما بقي له من الذخيرة على حرق الوادي بأكمله، وبمثل ذلك الشعور الكارثي الذي ملأه بأن شخصاً عزيزاً يعرفه سوف يموت، وهو الشيء الذي سيندم عليه طوال حياته لو قدّر له البقاء حيّا، في السماح لها على عبور ذلك الأخدود الجليدي، مازال يترجّع في قعر ذاكرته صوت كلماتها، وانعطافات جسدها، كما لو أنّها تخاطبه اللحظة. لامسته نسمة هواء باردة عطرة، بينما قلبه يرتطم بضلوعه، تحسسّ الأجزاء الحارة المتورّمة والمغطاة بدم مٌتخثر من ساقه اليمنى، كونها الأسخن من الحرارة المتولدة من ارتجاج بَدنه. لقد بلغ الألم فيها حداً انّه ما عاد يقوى على تحريكها، ألم مثل وجع الأسنان ، ثابت ، ويحفر في الروح عميقاً.
لاشيء أمامه سوى ضباب أزرق، فوق رأسه رقعة من سماء مهلهلة، وإلى جانبه شيء أسود على مٌرتفع ، إنها شجرة الكرز الوحيدة التي بقيت مُزهرة في عينه كل هذا الوقت.رغم أن بعضاً من الخطوط الوردية الشاحبة حول أغصانها المحروقة قد بدأت تختفي شيئاً فشيئاً، عبر الأجزاء الضبابيّة والضوء الذي يحيط به، وقد أصبحت الأرض مكشوفة الآن أمام عينيه، أخيراً شاهد جثته الرجل الذي أطلق عليه النار من مرج قريب، شخص ما تُرك بالقرب منه ربما بساقين مكسورتين أو برصاصة في جسده، من الواضح الآن أنه ليس الوحيد الذي يرقد هنا متأثراً بجراحه، قدمه تزداد سخونة مع مرور الوقت، هناك بقعة دم حوله، كل حركة من ساقه الغاطسة في جروف الثلج تسبب له ألماً لايطاق.
هل فكّرَ في قتله؟ وهل يهمّ هذا الآن، فبعد أيام سيكون هو ميت أيضاً، ربما بطريقة أسوء، لو ترك هكذا دون أن يعثر عليه أحد، ألن يكون من الأفضل إنهاء كل شيء، بندقيّته مازالت ملقاة إلى جانبه على حافة المُنحدر، يلمع الضوء على فوهتها المٌسدّدة نحوه، لا فائدة من فقدان الشجاعة الآن، أطلاقة واحدة وينتهي كل شيء، ولكن ماذا عن هذا الباسيجيّ القتيل، الذي يرقد إلى جواره، هل كان أقلّ استحقاقاً للّوم مثله، يوم تمّت تعبئته مع غيره عبر الحدود نحو هذا الراقم في أعلى هذه الجبهة التي لاتعني له شيئاً. فمن غير المحتمل أن يظل هو الآخر، ملقى هكذا أمام جثة بدأت تتفسخ في كتل مٌتقيحة، وهل بإمكانه رفع جسده؟ إن مجرد الجلوس في حالته هذه كان عملاً شاقاً، لكنه مازال يحاول الزحف بعيداً.
تغيّرت الريح فجأة، جالبة له المزيد من رائحة الجنود الذين قتلوا هنا في حرب لا علاقة لهم بها، أولئك المنسيين الذين لايُعرف عن نهاياتهم شيئاً،
نجح الرجل أخيراً ، أسند بندقينه على كعبها، وأطلق رصاصة رأسيّة في فراغ ذلك الصمت الذي يحيط به، دوّت الطلقة في الهواء كعواء جريح ، جَذب الشاحن وأطلق طلقة ثانية، لم يحدّد هذه المرّة الإتجاه الذي ستنطلق نحوه، انتفض جسده فجأة، كأنّه خارج من سبات الموت، محركاً نفسه بحذر شديد. يسمع بالكاد ما يصله من الأصوات التي تَتَردّد خافته وجاراً قدمه الجريحة وقد نفذت دون إرادة منه في حفرة مثلّثة، حتى لامست تربة الجبل الذي دفنته الثلوج. شعر أنه لم يعد في مكانه، ربما تَدحرج بعيداً عن الحفرة التي آوته، وقد فشل في استعادة الإحساس الصحيح بواقع إتجاهه.
لابدّ أن هناك أشخاصاً
يزحف على ركبتيه في صمود من فقد وعيه الذي حاول أن يحافظ عليه طوال الوقت، نظر إلى الضغط العنيد الذي كان عليه أن يواجهه فوق هذه القمة المكسوة بالجليد ، إنه يُعدل قامته أخيراً، وقد خيل إليه أنّ صرخة وحشيّة انقذفت منها،تَحركت يده بلا إرادة منه إلى بندقيته ، مازالت هناك طلقة واحدة مع فكرة غائمة عن النهاية السريعة لآلامه، بانتباه مُشتّت تناول البندقية، قبل أن تفقد يده القدرة على التحرّك، أخفى فوهتها في فمه، تَحَسّس طعم حديدها البارد وهو يدمدم بكلمات دون صوت، وكأنه قد وضع حدّاً أخيراً لحيرته، في الأعالي حوّم نسر، لوته فقاعات الهواء ومرَّت على الخوذة الخرقاء المُثبتة داخل نتف الثلج، وقد أصبحت الآن طليقة تتحرّك أمام عينيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب


.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ




.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش


.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا




.. الفنان عبدالله رشاد يبدع في صباح العربية بغناء -كأني مغرم بل