الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعدام جندي

خضير النزيل

2024 / 6 / 17
الادب والفن


لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره ، يوم وقف نائب العريف حسن سريع على منصة الإعدام، وفي مثل ذلك الصباح الصيفي الذي لم يختلف عن غيره من صباحات بغداد الكابية، وكان من الممكن أن يظل على الأقل بالنسبة لي، يوماً اعتيادياً للغاية، لو لم يظهر هو في هذا الصباح بالذات، كانوا قد جلبوه في وقت مبكر جداً على ما يبدو، ثمة شمس حادة ترتمي منحرفة على الجدار المقابل لمعسكر الرشيد، حيث قضى مدّة حبسه في زنزانة منفردة كئيبة، وقد يفسر هذا دهشته بضوء ذلك الصباح الغافي والظل الذي بدأ ينطرح على ردهات السجن القديم، ونوافذه المغلقة على مصاريعها، حيث ينتظر رفاقه لحظة الوداع الأخيرة ، ويمكنني حتى أن أقول، وبمثل هذا الإضطراب الذي لازمني سنوات طويلة، لمجرد التفكير في أنّه مازال يتحرك أمامي ، شاب نحيل، حلو التقاطيع، بفم ثابت وجبهة عريضة، وهو يحدّق بي بشكل خاص، وكأنما ينتظر مني أن أقول شيئاً، غير عابيء بضجيج كتيبة الإعدام، يوم صفّنا الضابط الخفر لمواجهته أخيراً، نظرت اليه وصرفت بصري عنه، الاّ أنني كنت أحس به، واقف هناك، مقيّداً الى خشبة الإعدام، من أجل أن اعتقه من هذا الإنتظار الطويل، قبل أن تدوي بصوت مكتوم تلك الكلمات التي لا راد لها، مصحوبة بوقع تدوير حركات الترباس في بنادقنا الآلية قبل أن تصل إلى مسامعنا وبمثل ذلك الألم الشديد الحاسم لإطلاق النار .عندما تصادمت نظراتنا ، انبثقت من عينيه حزمتا شعاع متقدتان ، أرتعشتا في المسافة ما بيننا مثل عصفورين بوغتا فجأة، غاب ذهني في ثانية ، في ذلك الثقب الصغير الذي يمكن أن تحفره بندقيتي في مكان ما من جسده المتعب، لقد بدأ متماسكاً وأكثر من أي شيء أخر أتذكره، بينما كنت أنكمش، في محاولة تملص يائسة، فوق رأسي ثقل دافيء ، أنحدر نحو ظهري مثل سائل ذي أصابع دبقة ، قبل أن يطلق هو صرخته الشاحبة في تلك اللحظة ، كمن يحفر لنفسه ممراً يحاول أن يختبيء فيه:"الموت لي مرتبه والقيد لي خلخال"، وهو ما عمّق من خصومة تلك اللحظات الأليمة بيننا، قبل أن تأتي أصوات البنادق لتحيل صوته إلى مجرّد وهم ليس له سوى طرف واحد ، هو ، في مواجهة ظلام مائج.يبتلع كل شيء في طريقه
كان صاحب بدّاي ، هو أول من أطلق عليه النار من بندقيته نصف الآلية، بعد أن أعطى الضابط الخفر الإشارة بذلك، ليصيبه في ذراعة، ثم أطلق بعدها عدّة أعيرة ناريّة أخطأت هدفها لتتلاشى في غبش ذلك الصباح، قبل أن تتدخل بقية تلك الدزينة من جنود كتيبة الإعدام، بأشكالهم السوداء، وبنادقهم المسنودة على مفاصل أكتافهم، لإكمال هذه المهمة، كان ثلاثة من رفاقه، قد قتلوا مع الرشقات الأولى، بعد إصابات قاتلة في الصدر، وهي اللحظة التي شعرت فيها أنه يتفرّس فيّ، كان هو يقف على رأس الشعيرة وظاهرا أمامي كالخيال وانا اسدد فرضيّة بندقيتي نحوه، ولقد بدأ لي في الحال أنّه أطول بست بوصات على الأقل وأكثر شباباً من ذلك الجندي الذي جلبوه مبكراً إلى الساحة، بملابسه العسكريّة الممزقة، وبتلك الحالة المروعة، التي تجعل المرء يفكر طويلاً قبل ان يطلق عليه النار، لقد كان وجوده حياً في تلك اللحظة التي اغمضت فيها عيني اليمنى من أجل تحديد هدفه ، وأكثر أهميّة من وجوده ميتاً ولن يكلفني ذلك ،غير ضغطة على الزناد وخروج هذه الطلقة التي أبقيت عليها جاهزة تقاوم حركها، في بيت الترباس، تقاوم حركتها العنيدة شيئاً فشيئاَ ،متجنباً خداع الشمس، أعدت ميل بندقيتي إلى الأعلى، وبمثل تلك الرجفة التي لم تزايلني حينها، للتخلص من نظراته الهادئة، وأنا أحاول أن احتفظ برباطة جأشي لقتل هذا الرجل الذي ما كان يجب علي قتله..
اسجل ما جال في ذهني هنا، من أجل أن لا أكون طرفا في هذه الحادثة التي وقعت لنائب العريف حسن سريع أو بالأحرى لكي أحذف من ذاكرتي هذا الشعور الذي طالما عذّبني كل هذه السنين ، وهو أنني كنت يوما ضمن فصيلة الإعدام هذه التي تَمّ تشكيلها من جنود الوحدات القريبة في وضح ذلك النهار الصيفي من شهر تموز 1963، وهو الشيء الذي لم يحاكمني عليه أحد بعد، أو توجه لي فيه تهمة إطلاق النار على رجل شجاع، لابد أنه كان سيحتفي بحياته حياً، بدل هذه الجروح العميقة والتي لا يشك أحد على أن من أطلقها هو جندي مستجد، خائف (كانت هناك تسعة أعيرة نارية على الأقل،هي التي جعلته يسقط أخيراً)، خمس منها على ساقه الأيمن، مرّة واحدة في كتفة الأيمن، وإصابة بدّاي الوحيدة على ذراعه الأيسر، مرة واحدة في صدره، ورصاصة واحدة في وسط جبهته ، لاأعرف من أطلقها وسط تلك الصيحات المبحوحة ذلك اليوم، هذه التي جعلت الدم ينسرب في خطين متوازيين على خده، مشدوداَ إلى خشبة أعدامه ، وهي كل هذه الصورة التي مازلت أتذكرها لهذا الجندي الذي يقف أمامي الآن،يتأملني وجهاً لوجه، وكلما أردت أن أدير رأسي عنه، أو أغمض عيني أرى صورته في منامي.
كنت قد رأيته في مثل هذه اللحظات المٌلتهبة وهم يجردونه من رتبته العسكريّة، أنتزع أحدهم في غضب من على راسه بيريته ونطاقه بينما هو يخاطبه بتلك اللهجة المُتعالمة المضحكة وقد قست نبرته على غير العادة، كان أشبه بدمية غضبي أمام نظرات ذلك الشاب الجميل الذي يقف أمامه بإبتسامة ساخرة ، بينما هو يفتش ثيابه للتأكد من أنه لا يحمل سلاحاً، لامستني حينها نسمة هواء عطرة اخترقت برقة طبقة الهواء الموبؤ المُخيم فوق باب السجن الرئيسي وهم يقتادونه إلى ساحة الإعدام، كان معسكر الرشيد يومها مغلقاً وقد تمّت إحاطته بسياج (بي أر سي)بقصد ضبط حركة الجنود من فريق الإعدام ومنعهم من الدخول أو الخروج الاّ من أبواب مُحدّدة، النوافذ موصدة وكذلك مشاجب الأسلحة، الذي خرّبها الثوار، كنت أقف مثل تمثال على بعد خطوات منه بينما هم يهبطون به درجات السلّم نحو عتمة الساحة الترابية القريبة من حدائق المعسكر، أحاول الإقتراب منه ، وقد ضغطت بيد على خشب بندقيتي المتدليّة من كتفي، وتدلت يدي الأخرى ميتة مُتقبّضة الأصابع. عيناي تختلجان بالنظر إلى جبهته المرفوعة، أو أعلى قليلاً إلى الجدار خلف رأسه الذي بدأ حليقاً، لكنه رمقني أخيراً، أستدار اليّ وفي وجهه ذلك التحدي الطفولي، وكأنه أراد أن يواجهني بالذات ، غارزاً فيّ بصره باحثاً عن أي لحظة خوف أو إستسلام ، سيماء التحدي هذه وهو يتفحصني من الأعلى إلى الأسفل هي أكثر ما أخافني، وغرز فيّ ذلك الشعور بالذنب الذي تكسرت به عشرات المشاهد الخزفية في حياتي ، هذه التي ما كنت أتخيلها لوقت كهذا الذي لم أكفّ فيه يوماً عن تذكر ملامحه، الساحة فارغة ، وكذلك مصاطب الجنود في حديقة المُعسكر، بضع شجيرات نخيل تهتز على حافات سواقي المياه التي كانت تتخللّ مقرات وحداته العسكريّة، خطوت خطوتين متلفتاً، قبل أن أهوى فوقه، مُحتضناً رأسه، كان جسده ينشج دماً برهافة عذبة، دسست ذراعي تحت إبطه ولففت ذراعي الأخرى حول عنقه من أجل أن أعدّل وقفته، على خشبة الإعدام، لم تكن له رائحة ميت، رغم أنّه ظلّ بارداً لأيام، قبل أن يلقوا بجثته إلى النهر، وجهه مغرق في نسائمه التي ما برحت عابقة بشذاها القديم، لم أكن أبداً بهذا القرب من شخص آخر غمرني برقته، كما فعل هو ، هادئاً كنبتة جنائن، كريشة تتراقص فوق دفق من المياه ، وهو يلمس خدي بينما قفزت إلى شفتيه إبتسامة مُرتبكة.أنني فقط أدون ما حدث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب


.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ




.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش


.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا




.. الفنان عبدالله رشاد يبدع في صباح العربية بغناء -كأني مغرم بل