الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك السلطوية العربية-2

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


بقيت مصر عمرها الآلافي تعيش في كنف ما يمكن تسميتها السلطة الأبوية/الربوبية. الأب هو السبب وصاحب الفضل في نعمة الحياة. وعرفاناً لهذا الصنيع الإعجازي، حظي الأب ولا يزال بسلطة فطرية على أبنائه تأبي القيم والأعراف والأديان المساس بها أو منازعتها. الأب صاحب سلطة لأنه واهب حياة. لكن، لكون حياة البشر لامحالة محدودة زمانياً، من يا ترى هذا الذي قد وهب الأب حياته واستحق بالتالي سلطة سابقة عليه؟ إنه، بالطبع، أبيه. وهذا الأب ورثها بدوره من أبيه الأسبق. وهكذا دواليك. لكن لابد من نقطة ابتداء. هل ننتهي عند الأب الأكبر آدم؟ كلا. آدم بشر مثلنا ولابد له من أب. ستبقى هناك حلقة مفقودة لابد لها من قفزة عملاقة في الخيال حتى تكتمل السلسلة. هناك الأب الأكبر على الإطلاق حتى من البشرية والأكوان معاً. وفقاً لهذه النظرة الأبوية/الربوبية للسلطة، كل أب بشري يستمد سلطته من أب بشري أكبر يعلوه، في تسلسل هرمي وصولاً إلى رب الآباء أجمعين، وصاحب السلطة والسيادة الكونية المطلقة- الله. تلك كانت النظرة التقليدية لأصل وشرعية السلطة بين البشر على مر التاريخ، وليس في مصر القديمة وحدها. كانت الشعوب ترى في سلطة الحاكم امتداداً لسلطة الأب، الممتدة لتصل في نهاية المطاف إلى سلطة الإله الخالق للحياة. لذلك اعتبروا ملوكهم أنصاف آلهة- بمثابة آباءً لهم فوق الأرض لكن سلسال سلطتهم ممتد حتى عنان السماء إلى صُلب الإله نفسه.

الأبُ قدرٌ. لا أحد يختار أبيه. ومهما تراوحت سلطة الأب عليك من اللين إلى الشدة، الحنان إلى القسوة، يجب أن ترد عليها بأدب، حتى إذا أبيت الانصياع لها. تحكي أسطورتنا المقدسة أن أبينا إبراهيم تلقى في منامه أمراً من أباه الأعظم بأن يذبح ابنه. إبراهيم، بصفته الابن تجاه إلهه، ما كان يستطيع أن يعصي لأباه/ربه أمراً، حتى لو كان الأمر مُنفراً ومُدمياً لفؤاده مثل ذبح ابنه بيده. وإسماعيل، بصفته الابن تجاه أباه إبراهيم، ما كان له أن يرفض لأبيه أمراً حتى لو كان الثمن حياته: "يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين." دائماً وأبداً، الأسطورة لا تطابق الواقع لكنها تخدم كبوصلة للقيم والآداب السائدة: طاعة سلطة الأب واجبة في كل الأحوال. حتى لو كان هناك في الواقع بعض الأبناء يقتلون آبائهم، وجميع الأبناء بلا استثناء لا يولون آبائهم مثل الطاعة الخرافية التي أولاها إسماعيل لأباه، يبقى أن هذا لا ينتقص من قيمة الأسطورة كنموذج مثالي مرتجى حتى لو كان غير قابل للتحقيق ولم يتحقق قط على أرض الواقع.

وقد بقيت السلطة في مصر قدرٌ. لا أحد يختار قدره. القدرُ واقع محتوم، مكتوب ومفروض من عالي في السماء، مثله مثل الأب؛ وعلى المرء أن ينصاع لإملاءاتها، مثلما يُملي عليه الواجب أن ينصاع بأدب لأوامر أبيه.

لكن السلطة ليست قدراً مكتوباً في ومنزلاً من السماء. بل هي واقع يخلقه البشر بأيديهم. هذا الدرس تفتحت عليه عيون المصريين لأول مرة في تاريخهم خلال الانتفاضات الشعبية المعروفة باسم "ثورات الربيع العربي". لأول مرة يرفض المصريون طاعة السلطة الأبوية القدرية ويصرخون "الشعب يريد إسقاط النظام". كأنهم في الحقيقة يرددون "الشعب ليس له أب". هل الشعب له أب؟! إذا كان لكل ابن أب بيولوجي بالضرورة، هل ينسحب هذا بالضرورة أيضاً على الشعب؟ وأين هذا الأب البيولوجي للشعب؟

إن الضرورة التنظيمية تقتضي من كل تجمع بشري أن يكون له ما يشبه "الأب" ليكون بمثابة الرمز الجامع لوحدته الوطنية، والمتحدث باسمه والمدافع عن مصالحه أمام الأمم الأخرى. كامتداد للتشبيه، هل يكون هذا الأب الوطني أب بيولوجي فعلاً أم يكون، في أغلب العقل والمنطق، مجرد أب بالتبني؟ وما الفرق الجوهري بين الأب البيولوجي والأب بالتبني؟ إذا كان الأول قدراً، أليس الثاني اختياراً؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أردوغان: بدعم غربي من خلف الستار.. إسرائيل يبدو أنها وجهت أن


.. قضايا مصيرية تهيمن على الانتخابات الرئاسية الموريتانية




.. مساران لتفادي انهيار السلطة الفلسطينية ماليا.. واحد اوروبي و


.. شاهد| آثار سقوط صاروخ مضاد للدروع أطلق من لبنان على مستوطنة




.. أردوغان يتهم الغرب بدعم خطط نتنياهو لتوسيع الحرب في المنطقة