الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللوحة الأخيرة

سالم الخياط

2024 / 6 / 19
الادب والفن


بما أن حياتنا تسيرها قوى خفية، لا ندركها على صورتها الحقيقية، التي نعيشها، ذهبت ذات صباح مشمس، إلى مقهى الأدباء في العشّار، بعدما جلست و تداولت الحديث مع الأصدقاء، نظرت إلى جدران المقهى، الذي علّقت عليه لوحات وبورتريهات لأدباء و شعراء غادروا الحياة، جذب انتباهي و أثار فضولي لوحتا الشاعر مظفر النواب و القاص محمود عبد الوهاب، لدقتها المتناهية كان بالقرب مني أحد الأدباء، فتساءلت: مَن هذا الرسام الذي قام بهذا العمل الاحترافي، ردّ بابتسامة لأتخلو من الاستغراب، و قال مستفهماً هذا الرسام القاتل البريء، الذي مارس شتّى أنواع الرسومات الجميلة، كانت فرشاته تبتكر أجمل الألوان المتوهجة تتناغم مع الإحساس الذي يتمتّع به، لكن يقال عنه منحوس كلّما رسم شخصًا يتوفّاه الأجل !
بديته بدء برسم أخوه و بعدها بأيام استشهد في الجيش، ثم رسم حبيبته التي كان يتمنّاها و يعشقها توفيت بحادث أليم كانت هذه اللحظة أشد إيلاما في حياته و كثر الحديث عن الأشخاص الذين لقوا حتفهم ..
انظر هذه الصورة الصغيرة المعلقة على الجدار، إلى الأديب و الكاتب الذي لا يؤمن بهذا القدر ، و قال أنا أريده أن يرسمني و أتحدى قدري، جاء و أعطاه صورته الشخصية، و أثنى عليه، و قال أنت رسّام بارع، لا تهتمّ بهذه التفاهات والمعتقدات، ثم طلب منه أن يستعجل برسمه بعدما أكمل صورته بأيّام عدّة استلمها الأديب فرحًا قلقاً في دخيلته ..
و بعد فترة وجيزة من الزمن، في يوم شتائي بارد ممطر، كان عائد آلى البيت ماسكاً بيديه كتبًا وأوراقا يسير في زقاق ضيّق انزلقت قدمه، و سقط قرب عمود النور، و أثناء قيامه أمسك بالعمود الرطب المشبع بالماء، ارتجّ جسده، و تطايرت أوراقه، فوقعت الصورة، التي كان يحتفظ بها، صرخ لكن لم يخرج من فمه صوت، بدأ الزبد يخرج من فمه و أسنانه تصطك ، تجمهر الناس وهم خائفين بالتقرب منه ينظرون إليه كيف يحتضن العمود و يصعق عدة مرات بالكهرباء، لكن عيناه تتلصّصان نحوهم ثم تزوغ نحوه الصورة، كان يتمنى إن يصرخ أو يتكلم عن حقيقة الرسام لكن لا يقدر أن يبوح بشيء عن قدره المحتوم
حتى بدأ الناس يخافون أن يرسمهم، وفي يوم من الأيّام كنت جالسًا في المقهى ذاته، حين حضر بهندامه غير المنسق، و ربطة عنق مرتخية، و شعر كثيف، قال يسرّني أن أطلب منك صورة شخصية لارسمها لك، حقيقة الأمر أصابني الذعر، لكنّه أخذ يصرّ على طلبه، سكت عن الكلام، و انتابني شعور بالفزع، قلت سوف أجلبها لك غدًا، عرف أنّي كنت أراوغه، ابتسم لي، و أخذ ينظر بعينيه الواسعتين من خلال نظّارته، و اكتفى بإيماءة من رأسه..
ثمّ قلت لنفسي ما هذا السخف! و نفضت الفكرة عن رأسي تمامًا، أن تكون فنّانًا وأديبًا، و تحركك الإنسانية بجمالها و واقعيتها و طقوسها فلماذا !
كان في تلك اللحظة يجالسني صديقي الشاعر الجميل ذو الحس الفكاهي، همس لي، و قال متلطّفًا إن أعطيت صورتك فسأودعك قريبًا يا صديقي العزيز، و سأرى صورتك معلّقة على الجدار في المقهى و راح يقهقه..
نعم يا صديقي، يوجد ناس منحوسين، يسيرون عكس الاتجاه هذا أحدهم، يطارده النحس و يفتك بلحظاته السعيدة و يقلب أموره رأسا على عقب ، ثم أخذ يغيّر أسلوب حياته غير الطبيعي تدريجيًا، و بعد فترة من الزمن سمعت أنّه اشترك مع صديقه عازف كمان، و بعض الفنّانين بفتح مرسم اسماه دار زيوس، الذي كان يعتكف،به ويرسم بنهم وشغف ساعات طوال، و بدأ بالانزواء و الابتعاد عن الناس، ليقضي معظم وقته في ورشة رسم اللوحات الاستشراقية و الانطباعية و السريالية أيضًا، ليعيش منها، و ابتعد عدة سنوات عن رسم الأشخاص ..
لكن في يومٍ من الأيام، استيقظ ذات صباح مبكر، و هوَ قلق يشكو صداعًا في رأسه ذهب آلى المرسم التقى صديقه عازف الكمان و بدأ حوارا جدليا ً حاد فشرح له صاحبه : أن البلية غير واقعيه عندك و أنا أراك قلقًا مضطرباً، انظر مرسمك و فنونك التشكيلية كلّ هذه اللوحات الجميلة بألوانها و مواضيعها المتنوّعة التي رسمتها بإلهام من الطبيعة، و خيال محترف، حتى صور التعرّي في مرسمك، ولأ زالت فرشتك رطبه يا صديقي العزيز، و خوفك من رسم البورتريهات ليس في محلّه، قد يكون فقط صدفة لا أكثر، أترك كلمة اللعنة التي تلاحقك، هي أفكار وهمية مغلوطة، لا تخف، إنّ الله وحده الذي يقرّر المصير، دع أناملك ترسم الإبداع، و أعد ثقتك بنفسك.
لكنه أراد أن يبعد النحس عنه، و يهرب من الأفكار السلبية و يبتعد عن التشاؤم و يثبت للناس غير ذلك، فقرّر أن يرسم نفسه، ذهب ذات مساءً إلى مكان المشغل، و بدأ مع صديقه يتلاطف و يحتسي بعض الكؤوس، عزف الكمان، و تطايرت الأنغام، و وضع مسند الرسم و قماشة الكانفاس الناعمة، و هو خائف، متردد يعيش فترة اكتئاب، أخذ يردّد: أريد أن أقضي على ما تبقى من حياتي، و سوء حظي الطالح إذا كان بهذه الصورة المتعثرة، أو أعيد ثقتي فيه ، لقد أتعبني كلام الناس وترك حيز سيئ في حياتي..
ثم تفوّه بكلمات متلعثمة: مع صديقه و قال حسنًا، سوف أرسم صورتي الشخصية اليوم، و إن مت، فيعني أنّني منحوس، و إن عشت فأنت شاهدي على ذلك يا صديقي..
جلس على كرسيه، و أخرج صورة صغيرة له، و أمسك فرشته ليرسم ذاته، فتذكر فنّانين كثر رسموا الذات، منهم دافنشي، فان كوخ بيكاسو وغيرهم، كان صديقه يراقب كيف يتجاوز محنته هذه، بدأ يرسم بيد مرتعشة سببها الضغط النفسي و الخوف ممّا يدور بعقله، ثمّ طلب من صديقه عزف مقطع سمفونية بتهوفن كان يحبها ليتسنّى له الرسم، على أنغام الموسيقى، في بادئ الأمر حاول أن يسيطر على يده من الارتعاش، بدأ بالتخطيط، لكنّه لم يقدر مسك فرشاته حاول مراتٍ عدة ، و أخيرًا استخدم يده المرتعشة، أخذ يبتسم و يهز رأسه بإيحاءات غير منضبطة ..
عازف الكمان ينظر بألم وحسرة، عن فقدان الشغف الحسّي و الإبداع لدى صديقه أثناء الرسم، ثم همسه لنفسه هل هذا الشيء الذي يتحدث به حقيقية أم خيال ما الذي يريد أن يصل إليه برسم صورته الشخصية، و هو خائف متوجّس، متيقّن بثقه زائده بحدسه حين أكمل لوحته، غادر المكان، مرتبك نفسيًا و جسديا و بعد فترة قصيرة من الزمن علّقت صورته على الجدار بين صور الراحلين …








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?