الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبادة المقاومة - حدود حق الدفاع عن النفس

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 6 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


حين يُمنع الرأي المنشق، المخالف والمعارض، من أخذ حقه في المخاض الآمن وإبصار نور الحياة، يتنفس ويكبر وينافس مع نظرائه السائدين المغترين بضخامة العدد وشراسة السلطة القائمة والمستفيدة، تستطيع الفكرة مهما كانت سطحية وتافهة ومؤذية أن تُحكم قبضتها على عقول الملايين، تظل مُطمئنة ومُخدِّرة ومُستحكمة سنين طويلة حتى تؤدي بهم فجأةً إلى الكارثة. عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، تستيقظ العقول المُحنَّطة، لكن استفاقتها تكون في الجحيم. وهناك، لا أحد يملك الوقت ولا الرفاهية لمراجعة أفكار أو حتى مسائلة النفس. لذلك، بمجرد أن تزول الغُمَّة لسبب ما خارجي المنشأ غالباً، سرعان ما يعود هؤلاء المُغيبون أدراجهم إلى سابق معتقداتهم البالية، من دون صقلها بدروس التجربة الأخيرة ولا حتى الرغبة في الإنصات لحلول ووجهات نظر بديلة.

إن قمع الرأي المعارض يؤدي إلى ترك الساحة الفكرية خواء ومستباحة لكي يتجاوز الرأي السائد بسهولة ودون مقاومة تُذكر حدود العقل والمنطق. وعلمتنا الخبرة المعيشية أن ‘الشيء إذا زاد عن حده، انقلب إلى ضده‘. في الاعتقاد السائد أن الدفاع عن النفس حق مشروع لا تشكيك فيه. هو مبدأ ثابت وأصيل يدخل في صُلب الحياة البشرية ذاتها. ولكون المقاومة، السلمية والمسلحة على حد سواء، هي شكل من أشكال الدفاع عن النفس وحفظ الحياة، تُقر البشرية كلها بشرعية المقاومة. لكن، هل يعني ذلك أن هذا الحق مُطلق من أي وكل قيود؟ إذا كان مُطلق، هل يوجد حقاً في حياة البشر فوق الأرض- باستثناء بعض الأيديولوجيات السامة داخل أمخاخ معطوبة- ما يمكن أن نصفه مُطلق، بمعنى أبدي التطبيق في كل مكان وزمان، في كل الأوضاع والظروف والحيثيات، وبنفس النتيجة في جميع الحالات؟ وإذا كان هذا الحق غير مُطلق، نسبي ومُقيد بحدود، ماذا تكون هذه الحدود؟

تخيل أن شخص تافه لكن مُسلح قطع طريقك وأمرك بالنزول من سيارتك وتركها وكل ما فيها وفي جيوبك غنيمةً له وأن تغور أنت في ستين داهية، سليماً ومعافاً دون أذى طالما نفذت أوامره ولم تقاوم. في مثل هذا الموقف الافتراضي، تقتضي الاستجابة السليمة منك أن تتمالك غضبك وأعصابك أولاً وقبل كل شيء. إذا نجحت في كتم غيظك، سينفتح لك الباب تلقائياً إلى الخطوة التالية، أخذ التفكير والعقل زمام السيطرة على الموقف والبدء سريعاً في توليد الحلول وترتيب الأولويات. ما هي فرص نجاح المقاومة في ظل ظروف الوضع الحالي؟ ما هي احتمالات أن أنجح في إيقاعه أرضاً وتجريده من سلاحه؟ هل السيارة ومقتنياتي ومتعلقاتي الحالية أغلى، أم حياتي؟ أيهما يمكن تعويضه؟ هل هناك مارة قريبين يمكنني الاستغاثة بهم؟ عملية فكرية لحساب الفرص والمخاطر لن تبدأ إلا بعد طرد الانفعال من ذهنك. ونتيجتها غير معروفة أو محسومة سلفاً. دائماً هناك هامش كبير للخطأ ودفع الثمن. وفي جميع الأحوال لن يقوم بهذه الحِسْبَة، ولن يدفع الثمن إذا أخطأ، سواك أنت وحدك. ثم أضف إلى ما سبق زوجتك وبناتك الصغار برفقتك في السيارة وستجد المقامرة، وحجم المسؤولية، أكبر بكثير.

إن شرعية المقاومة تقوم على مبدأ حفظ الحياة. إذا كانت الاحتمالات لأن تنجح المقاومة في حفظ أرواح أكثر مما تُزهق، عندئذ تكون المقاومة في صف المحاولة لحفظ الحياة، ومن هنا تستمد شرعيتها. لكن عندما تكون الاحتمالات أكبر لأن تُزهق المقاومة أرواحاً أكثر مما تُنَجِّي، هذا يفتح الباب للطعن والتشكيك في شرعيتها، لأنها عندئذ تقف ضد الحياة ذاتها، تهدم الحياة أكثر مما تعمرها. قبل المقاومة وفي أثنائها، تبقى دائماً الموازنة بين الاحتمالات قائمة. وهو ما يستلزم يقظة دائمة من العقل، وحساب لا ينقطع لأوزان الاحتمالات ونسب المكسب والخسارة في الأرواح. وفي جميع الأحوال يكون الخطأ في الحسابات وارد، لكن إمكانية المراجعة والتصحيح ممكنة أيضاً.

الفلسطينيون من سكان غزة يفرون الآن بحياتهم وحياة أطفالهم ونسائهم وعجائزهم ومرضاهم من أمام الدبابات والمقذوفات الإسرائيلية، سيراً على الأقدام أو عربات تجرها الخيول والحمير أو المركبات. قبلهم بوقت وجيز، فعل السوريون واليمنيون الشيء نفسه، ولا يزال يفعله بعضهم؛ وفي الماضي القريب فعله العراقيون من أمام المقذوفات الأمريكية والبريطانية؛ كذلك لا تزال تفعل أعداد غفيرة من السودانيين المدنيين العالقين في نيران حرب أهلية بين الجيش وقوات الدعم السريع السودانيتين. جميع هؤلاء فروا أو يفرون بجلدهم دون مقاومة فعلية لمن هدد أو يهدد حياتهم، سواء كان يهودياً أو مسلماً، وطنياً منهم أو أعجمياً دخيلاً عليهم. هذا الفعل طبيعي ومشروع. أن تنجو بحياتك ومن معك من الموت المحقق هو حفظ للحياة في أجلى وأشرف صوره وأعظمها شرعية؛ بينما أن تؤدي بنفسك ومن معك إلى تَهلكة مُحققة، حتى لو كنت مُسلحاً بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، هو ضد الحياة، إهدار وإهلاك لها دون تعويض مكافئ في الإعمار.

الحياة هي الحد والمقياس الأساسي لشرعية المقاومة. كم من الحياة يمكنك أن تشتري بمقاومتك للعدوان على حياتك؟ لا مقاومة شرعية على حساب الحياة، بصافي خسارة في الحياة. لابد أن تكون غاية المقاومة، ومناط شرعيتها، تعظيم فرص النجاة وحفظ الحياة أكثر من إهدارها. عندما يحدث العكس، إهدار للحياة أكثر من إنقاذها، تفقد المقاومة شرعيتها وتتحول إلى شيء آخر، نوع من الانتحار الذاتي يأساً وانتقاماً من الحياة ذاتها. يستطيع هذا الفعل اليائس والمنفلت من حدود العقل والمنطق أن يقتل ويهدم، لكنه يعجز عن أن يُنقذ الأرواح أو يُعمِّر الأرض.

في كنف بعض الأيديولوجيات السامة التي لا تزال تُعَشش داخل أمخاخ معطوبة، تَغنى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ذات يوم صادحاً بدعوة عامة للانتحار الجماعي: "فدائي فدائي فدائي...أهدي العروبة دمائي... أموت أعيش... ما يهمنيش". حسب الكلمات، لا فرق بين الحياة والموت. بينما في الحقيقة، وفي الواقع المعيشي والحضاري البشري، الفرق شاسع وعظيم. لا يمكن المقامرة بالحياة إلا بمقابل تعويضي أكبر من الحياة ذاتها، بمعنى أن تَكسب حياة أكثر مما تَسفك. عدا ذلك، تصبح مجرد لعبة ثأرية انتحارية عبثية ومضادة للحياة. بمرور الزمن، تطورت هذه الدعوة العبثية اليائسة من تقديس الفدائيين وصولاً إلى الاستشهاديين، ليتبوأ شهيد اليوم الشرف والرفعة والمكانة نفسها التي حظي بها فدائي الأمس. حتى انتهت هذه الأيديولوجيات السامة- المستعلية على قُدسية وحُرمة الحياة الانسانية وغير المتقيدة بحدود وحسابات العقل والمنطق- إلى حِجْر الجماعات الإسلامية التكفيرية والمتطرفة، ليلفوا بأفكارها الفتاكة أجسادهم ويفجروا معالم العمران والحياة ذاتها. ومعهم وبهم، تحولت قداسة المقاومة من أجل التحرر والحياة الأفضل إلى عبادة للموت من أجل التخلص من الحياة ذاتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العندليب الأسمر عاجز عن التفكير
هانى شاكر ( 2024 / 6 / 21 - 15:05 )

العندليب الأسمر عاجز عن التفكير
________

وهو اخر واحد نستفتيه في اي شيئ . الم يدمر هو و صلاح جاهين و كمال الطويل مصر؟

آخره يعيط و يقولك:

احتار خيالي
مع الليالي
مين اللي يعرف
جواب سؤالي

...


2 - هانى شاكر
على سالم ( 2024 / 6 / 21 - 20:32 )
من المؤكد ان مصر دى بلد حظها اسود وهباب ونحس ؟ هل تتخيل ان قائد الثوره اياه كان عمره اربعه وثلاثين عام فقط عندما اصبح رئيس لمصر المنكوبه , كان رئيس جاهل ومستبد وغبى وحمار ويعانى من جنون العظمه والهلاووس العقليه والمرضيه واحلام نرجسيه بتوحيد الامه العربيه الغبراء ؟ ؟ , كان يعاونه فى المهمه عصابه القوات المشلحه البلطجيه الحراميه والبهايم والجهله القاصرين عقليا والعربجيه ؟ ومن يومها والبلد ضايعه


3 - مقالتك رائعه وثمينه الاولوية للحياة والعقل والعلم
المتابع ( 2024 / 6 / 21 - 23:24 )
هما الحكم في اتخاذ القرار في كل عمل سياسي والعمل المسلح ليس بهلوه والموت ليس هدفا انسانيا-الارهابيين فقط يستسهلون الموت وماعملته داعش في العراق وسوريا خصوصا ومايعمله ارهابيي حماس وجهاد مثال ساطع وما انتهى اليه حماس وجهاد ينتظر خدم ارهابيي ايران =اي حزب الله وهتلره القذر الغبي حسن نصر الارهاب -والمؤلم مع خسارة وجوده العدواني الشرس هو موت عشرات الالاف من ابناء لبنان البريئين م ارهاب وعدوانية حزب القتل والعردوان لصاحبه الولي الفيه السفيه في ايران الشر المجرم خامنئي -لقد ان الاوان ان نستخدم عقولنا بعيدا عن سموم عواطفنل المتسممه بايديولوجية التعفن الاسلامجي العربجي-تحياتي لاهل العقل واهل اولوية الحياة بعيدا عن ارهابيي الانتحار=داعش واتباعها من وحوش السنة والشيعه

اخر الافلام

.. الصور المفبركة.. سلاح جديد في حرب الإعلام بين حزب الله وإسرا


.. الجيش الإسرائيلي يؤكد مقتل حسن نصر الله وقياديين آخرين في حز




.. اللبنانيون ينصبون خياما وسط بيروت هربا من قصف إسرائيلي مكثف


.. هل شاركت الولايات المتحدة في العملية الإسرائيلية ببيروت؟ وزي




.. عاجل | رئيس الأركان الإسرائيلي يكشف كيف تم اتخاذ قرار اغتيال