الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الاكتواء بثلوج كلمنجارو - قصة قصيرة

ايناس البدران

2006 / 12 / 14
الادب والفن


" على قمة جبل كلمنجارو ، ثمة جثة لنمر استوائي ،
كيف وصل الى هناك ولماذا ؟ لا أحد يعلم "

بارد قطن هذا المساء .. همست لنفسها ، عيناها تدوران تتابعان القمر المعلق في الضباب ، تتكور على نفسها كتفاحة تستحم بضوئه المسكوب ، تتوحد بالبلورات المنثالة بهدوء فوق سطوح ناتئة من كرستال مضبب .
ثلاث ليال وهم يكابدون التيه بين ارض وسماء ، لينتهوا عند النقطة ذاتها حيث القت بهم المروحية مسافة يوم عن القمة. تستذكر عالما ضجيجيا خلفته وراءها ، تقارنه بهذا المحيط الابيض الشفيف لدرجة الغموض ! تحوطها وحشة بالغة الحذر والالفة توقظ في النفس جرحا كان نائما ، ذلك الجرح السري الذي نحمله بين حنايانا كبذرة موت ، والذي حين يصحو يحرك في النفس ما ركد من لهفة وحنين لمغامرة من نوع ما ولأشياء كثيرة مبهمة . تجوب بروحها الاجواء بحثا عن اجوبة .. عما ضاع او انطفأ ، والريح كذئاب تعوي ، تمسك بتلابيبها قشعريرة حين تستحضر من جديد جماله الوحشي فتغمرها التساؤلات
- أأتعبته كذبة عاشها .. أم اعتراه الصدأ إذ ادرك أن الحرية خطأ لفظي شائع ، وان الصدق حلم تناهشته الذئاب ؟ ربما كررت ايامه نفسها مثل كابوس ثقيل فأراد الخلاص بأي شكل .. لعله كان هاتفا دعاه لركوب الصعاب ونبذ مهاوي الحفر زهدا بأرض أبت التواصل فيها حالات الاكتمال وتوارى كل رفض خلف خوف سكنه منذ البداية .
وأي نجم هذا الذي دعاه الى فلك ( آنست همنغواي ) ليكتب له الخلود قبل ان .. يهوي ؟
لعله شاعر ضاقت به الارض بما رحبت فقرر الارتقاء لأقرب نقطة للسماء هربا من قدره الى قدره .. وتلك المسافة بين ما هو مرئي ولا مرئي .. بين الحلم والمستحيل هل أمكنه قياسها وهل خبرت فصيلته مثل هذا العذاب ؟
كانت آثار أقدامهم تترك ندبا غائرة فوق وجه الجبل المتغضن ، سرعان ما تلتهما الثلوج بشراهة كأنها لم تكن . كانوا مجموعة جمعها ما يفرق البشر عادة .. الطمع ! بل الاطماع اذا ما توخت الدقة ، فمنهم من خرج طمعا بالشهرة او المجد او بسبق صحفي او علمي . أما هي فقد انضمت اليهم لهدف واحد لم تبح به خشية التعرض لسخريتهم .. خرجت بحثا عن اجوبة في عينيه .
تشعر في هذا المكان بمواجهة من نوع خاص فالظلام يأتي قبل المساء .. والصمت ممتد بعمر الارض .. لازيف فيه ليدمي القلب .. لاحزن ينخر في العظام ولاخوف من فناء فلا زوال مع الزوال
يشدها توق الى عينيه الكهربيتين وهما تشعان بأسرارهما لابتسامته المعلقة وهي تحمل معاني الظفر والاستهانة بالخطر مع تسليم بحتمية النهاية بعبثية مقاومتها . ولاشك ان الوحدة كانت رفيقته طوال الوقت ومن يدري لعلها تؤنس وحشة أيامه حين تشتو الريح فينبت الثلج على فرائه ليدثره كي ينام . هي ايضا رافقتها الوحدة طوال حياتها .. عاصرت معها تقلب ايامها ، معاركها الصغيرة .. التي لا تهم احدا ، شربت معها علقم خيباتها وسكنت ارتعاشات خوفها ودموعها .. وبما ان الأمل آخر شيء يموت ، فقد ودت لو تعلم ماذا أمل قبل ان .. ماذا رأى ؟ هي تدرك ان الموجودات التي ليس فيها مجهول لاتستحق التأمل ومع ذلك ما اكثر ما مر من امامها دون ان تلحظه كعمرها على سبيل المثال ، وكأنها وهي تقترب من النهاية تكاد ترى كل شيء .. ولكن لسخرية القدر .. بعد فوات الاوان . وهي التي انشغلت طوال حياتها بوضع كل شيء في مكانه .. نسيت مكانها ! حقا لقد اصبحت خطواتها اشد ثباتا ولكن القلب اكثر حزنا .. لذا تمنت في سرها لو تبدأ حكايتها من جديد لترسم ملامح أبهى لتفاصيل اخرى من فصول مختلفة تكون فيها بطلة من نوع آخر لمرة واحدة اخيرة . سحبتها من افكارها صيحاتهم وهي تشق عنان السماء ممزوجة بعواء ريح ايقظها جوع لشيء ما ، انها القمة اخيرا .. القمة .. غامت الرؤى في عينيها وهي تتأمل آخر شعاع للشمس ، كان الحلم يتشظى يستحيل دخانا .. كومة عظام ، نتف فراء ، اما العينان فظلتا ترمقان اليتم الذي اعتراها كموت صامت بطيء .. كم مرة لامس الموت فيها مسامها عانق انفاسها لدرجة لم تعد معها قادرة على .. الموت ، فلماذا عليها ان تكابده لتتذكر ان هناك حياة لم تعشها ؟ حتى ليبدو الآن ان عمرا بأكمله اقصر مما ينبغي .. مر ككذبة او خدعة من نوع ما انطلت على الجميع !
وعلى كل هي تشكر السماء التي اهدتها عينيه العنيدتين .
بصوت كالهذيان همست :
- لم تمنحهم الفرصة كي يسجنوك في دوائرهم المغلقة على عنادهم الغبي .. او يسوروا روحك الحرة من كل زيف ، نعم يا عزيزي انت وانا جنس مقضي عليه .. ومع كل نحن وحدنا القادرون على خلق عالم يليق بنا وبهم ، ولكن الكذبة الكبيرة تحاصرنا .. كما اننا نتقدم في السن وهذا أمرآخر علينا ان نكفر عنه .. وانت خرجت بحثا عن وطن فأكتويت بأرض الثلج .
ابدا لم تتهيب صعود الجبال ، لم تتطلع الى قرر الهاوية خرجت لسبب ومت لسبب ، والا ما معنى التخبط تيها بين مجيء ورحيل ؟
صوتها يعلو .. تبتلعه الريح تسرق منه صداه :
- أعرني قلبك لأموت مثلك .. بلا خوف .. بلا ندم من أي نوع ، يوم انتفضت فكان اختيارك الموت وحيدا على القمة االباردة ..
قبيل الفجر هدأ كل شيء .. غطس القمر في كتلة العدم فتناثر رذاذ مفضض اختلط بخيوط مضرجة بالدهشة .. ارتفع قرص عاجي كرغيف دافىء ليتوسط كبد السماء , تنفست الارض الصعداء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس