الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تناسق الشكل والمضمون في -ديوان ما ظل مني- عبدالسلام عطاري

رائد الحواري

2024 / 6 / 22
الادب والفن


بعد الخمسين يبدأ العمر بالتأكل، ويأخذ الإنسان بمراجعة ماضيه/حياته، "عبد السلام عطاري" في "ما ظل مني" يتناول مسيرته في الحياة، الأشخاص الذين تأثر بهم وأثروا فيه، المكان/عرابة وما تركته في من صفاء وبهاء، الحب العالق به رغم مرور السنين، الحرب ومعاناته كفلسطيني، السياسة والتعاطي معها.
من ها نجد غالبية الديوان جاء بصيغ أنا المتكلم، إذا ما استثنينا قصيدتي: "ظريف الطول، تهليلة القيام" اللتان جاءتا بصيغة أنت المخاطب، وقصيدتا: "طفل الغروب، لعلها" اللتان جاءتا بصيغة الشعر الخارجي، وإذا علمنا أن الديوان مكون من مائة وسبع وثلاثين قصيدة، نصل إلى أن الديوان عن ولعبد السلام عطاري، فحضور الأنا بهذا الزخم يشير إلى أن الشاعر يكتب ذاته، عن ذاته، فبدا وكأنها يريد أن يترك أثرا لأولاده/لأحفاده فكان "ما ظل مني" أفضل ما يمكن الرجوع له، لمعرفة الشاعر وما تأثر به، وأثر عليه، وكيف نظر/تعامل مع المكان، ومع من هم محيطين به.
الطبيعة والريف
من يتابع ما ينشره الشاعر يجده متعلق بالطبيعة، بالريف حتى في أحلك الظروف يتناول الطبيعة والمكان، في قصيدة "طفل البيدر" يعطينا صورة الريف الذي نشأ فيه:
"أنا من خابية القمح،
من رغيف مخبوز على الرضف
رضف الطابون القديم، أكلت،
من آبار الحارات نشلت ماءنا
من ضحاضيح البلاط شربت،
ورائحتي من جنى الحقول من قثائها،
من بكر الموسم،
من عباد الشمس، سياج الحقول
من السريس والطيون." ص 131.
اللافت في هذا التقديم البساطة التي جاء بها، إن كانت بساطة اللغة، أم بساطة التعبير/الصيغة التي قدمت بها الطبيعة/الريف، كما نجد الترتيب/التناسق في الوصف، فهناك، القمح/رغيف/مخبوز/رضف/ الطابون" فكل هذه الألفاظ متعلقة بالخبز ومكوناته وطريقة صنع الخبر، وعندما يتحدث عن الماء نجده أيضا ماء القرية: "آبار/ماءنا/ضحاضيح/شربت" فالشاعر هنا يعطي أكثر من مكان لوجود الماء: "آبار، ضحاضيح"
وإذا ما توقفنا عند هذا الترتيب والطريقة التي قدمت بها القصيدة، فإنه سيقودنا إلى الغناء، الأناشيد التي كان ينشدها وهو طفل: "بكرا العيد ومنعيد، ونذبح بقرة سعيد، وسعيد ماله بقرة منذبح بنته الشقرة، والشقرة ما فيها دم، منذبح بنته بنت العم" وهذا يقودنا إلى أن الشاعر يتحدث/يكتب الآن ـ رغم أنه شاعر، وتجاوز الخمسين ـ بعقلية الطفل الذي كان، لهذا يستخدم اللغة الريفية المحكية: "رضف، ضحاضيح، نشلت" تركا الطفل فيه يتحدث وهو بين أحضان الطبيعة.
الريف قديما كان فقير الخدمات، لا ماء ولا كهرباء، وكانت حياة الريفيين قاسية، خاصة في أيام الشتاء، حيث يكون الليل طويل وبرده قارس، يحدثنا الشاعر عن الشتاء وليله الطويل في قصيدة "ليل شتوي":
"ليل عرابة الشتوي العتيق،
وحضن أبي الدافئ،
والمصاطب بالحاضرين تفرد حنينها،
والدخان الصاعد أرفف بيوت الطين،
وأزقة الصبار الموحلة،
تتسع كلما تعالى موال الليل،
ويسرع الخوف الجافل مني
كلما ناديت بالصوت أبي،
وغفوت على حكاية الطفل القديم" ص 145.
إذا ما توقفنا عند مضمون/فكرة المقطع سنجدها (واضحة) تتحدث عن الريف قديما، وهناك أشياء محببة للشاعر وأخرى قاسية، ويبدو أن لا شيء يمكن إضافته على مضمون القصيدة وفكرتها، لكن إذا ما توقفنا عند الألفاظ سنجدها كبيرة تتكون غالبيتها من خمسة حروف وأكثر، ونجدها معرفة بأل التعريف: "الشتوي، العتيق، الدافئ، والمصاطب، بالحاضرين، والدخان، الصاعد، الطين، الصبار، الموحلة، الليل، الخوف، الجافل، بالصوت، الطفل، القديم" وهذا يعكس (ثقل) ليل الشتاء الطويل، كم أنه يشير إلى تعلق الشاعر بذاك الماضي/الزمن، وذاك المكان/عرابة، وبالناس الذين كانوا، وما تكراره ل"أبي" إلا من باب الأثر الذي تركه فيه.
ونلاحظ أن الشاعر يستخدم الكلام في أربعة مواضع: "ناديت، بالصوت موال، حكاية" يقابلها تكرار الزمن أربع مرات: "ليل/الليل، الشتوي، غفوت" وهذا يقودنا إلى ذاكرة الطفل الذي يقرن الليل بالحكايات، فالتوازن/الانسجام هنا يتجاوز الفكرة المجردة للعدد، ويقودنا إلى ذاكرة الطفل الذي ما زال يعيش في ذاك الزمن وما في من توازن/تناسق، كما يقودنا إلى تلك الحكايات/المواويل التي بقيت عالقة في ذاكرته، وما وجود ألفاظ الحنين: "العتيق/القديم وحضن، الدافئ، حنينها" إلا تأكيد لميل الشاعر وانحيازه لذلك الزمن، ولتلك الحكايات ولأولئك الأشخاص.
الوطن
غالبية الأدباء/الشعراء الفلسطينيين تعاموا مع الوطن كجزء من تكوينهم، من وجودهم، فالوطن بالنسبة لهم ليس مجرد أرض/مكان يقيمون فيها فقط، فهو شيء أعمق/أبعد/أعلى من الأرض، لهذا يتعاملون معه بقدسية/ بمكانة تليق بالعظماء، يقول في قصيدة "تهويدة":
يا وطني يا الجسد المنهوب بالكلمات،
النافرة كغزالة شاردة من ذئاب الوديان،
يا وطني يا حمل الرمان،
يا صيف السنابل،
يا وجع الغربة يا فقد الخلان،
يا وطن الجدائل وصبايا النرجس
وقلادة الشقائق والأقحوان،
يا قشة حب على البيدر،
يا عطر الحكاية وقطف الزعتر،
يا ندى الحواكير،
يا وجع القلب وشهفة الدمع،
يا فرح الطير في مواسم العفر،
يا دعاء الأمهات في كل حي وحين
يا ضحكة الصباح في عين الطفل،
يا وطني يا عين حقل الرمان" ص66و67.
النداء يأتي للبعيد وللقريب، كما أنه يحمل معنى القدسية والرفعة(يا الله)، ومعنى الألم والقسوة، وبما أن فلسطين تتعرض لعدوان صهيوني غاصب وقاتل كل ما هو فلسطيني، وبما أن هناك من يتجار بها من أهلها ومن العرب ومن الأعداء، وبما أن أهلها مظاليم هذا العصر والزمان، وبما أنها تمثل الحلم والملاذ الوحيد للفلسطينيين، وأملهم في الحياة السوية، وبما أنها محطة الماضي وذكريات الطفولة والشباب، وبما أنها تمتاز بجمال طبيعتها وسهولها وجبالها، فكان لا بد من تقديمها ضمن هذه المعطيات المتشعبة والمتناقضة.
فالشاعر يفتتح القصيدة بحقيقة موضوعية، "الجسد المنهوب بالكلمات" وبما أن أبقى من ينهبه مجهولا، غير معلوم، فإن هذا يفتح الباب أمام المتلقي ليتفكر في المراد بمن ينهبون الوطن، فالصهاينة ينهبونه من خلال نص توراتي ووعد يهوه، والسياسيين الفلسطينيين والعرب ينهبونه بتحليلاتهم التي تجعلهم الأوصياء عليه، وبما أن أهمل ذكر الناهبين ولم يحددهم، فهذا يشير إلى امتعاض الشاعر منهم وعداءه لهم، فأراد إزاحتهم ـ حتى من القصيدة ـ لكي لا يلوثوها كما لوثوا فلسطين، وهذا ما جعل الوطن يبتعد عن هؤلاء الناهبين.
نلاحظ أن الشاعر حدد مكان الذئاب المطاردة للوطن، ولا يحدد مكان الطريد/الغزالة، وبما أن هناك ذئاب الوديان، فبالتأكيد سيكون مكان الوطن/الغزالة الجبال العالية، وهذا يقودنا إلى سمو المكان الذي يوجد فيه الغزالة/الوطن المطارد.
بعدها ينتقل الشاعر إلى التغني بالوطن/بالطريد الذي صعد الجبال التي يقطنها: "حمل الرمان، صيف السنابل" نلاحظ تقدم الشاعر من جمالية المكان وما فيه، فهو يتناول نباتات جميلة المظهر ومفيدة للناس وضرورية لهم، وهذه إشارة إلى خصب الوطن، خصبه الروحي/الجمالي، وخصبه المادي/الغذائي،.
وبما أن فلسطيني مستمر في التضحية من أجل وطنه، فقد انتقل الشاعر من الحديث عن خيرية الوطن ليتذكر أبناؤه الراحلين، ونلاحظ أن يتحدث عن وجع الغربة وما فيها من حنين ومشاعر نفسية، وأيضا يتحدث عن فقد الخلان المادي/المحسوس، وهذه الثانية بين التي تتناول الجانب المادي والجانب الروحي/العاطفي تؤكد أن الوطن بالنسبة للشاعر ليس مجرد مكان، أرض، لهذا نجده يهتم بالجانب الروحي/الجمالي/النفسي.
ينقلنا إلى الجمال الإنساني/الأنثوي، متناولا "جدائل الصبايا" وطوق زينتهن "قلادة الشقائق والأقحوان" فمثل هذه الصورة تأخذنا إلى أن المرأة الفلسطينية تعاملت مع طبيعة الوطن كمزين لها، ونلاحظ والشاعر حدد "الشقائق" التي تقودنا إلى الماضي، إلى البعل ودماءه التي سفكت، وأيضا إلى الشهداء الذين ذكرهم سابقا "فقد الخلان"
يستمر الشاعر في تناول جمال الوطن وخيراته الكثيرة والمتعددة والمتنوعة: "حب البدر، الزعتر، الحواكير" حيث يجمع ـ كما فعل سابقا ـ بين الخصب المادي والخصب الجمال/الروحي الذي نجده في الرائحة: "عطر، الزعتر" ونراه مشاهدتا: "قشة على البيدر، ندى الحواكير"
يتراجع الجمال أمام القسوة "وجع القلب، شهقة الدمع" وهذه الألم نجده ألم روحي أكثر منه مادي، وهذا يشير إلى حالة (الشبع/الغنى/الاكتفاء) ولعدم الحاجة لما هو مادي، والجوع/الحاجة للما هو روحي.
يتقدم الشاعر من جديد نحو الخصب الذي ينعم به الوطن: فرح الطير، مواسم العفير" فتناول فرح طيور الوطن وموسم التزاوج، يأخذنا إلى أن الوطن يفرح/يطعم/يعطي كل من هم فيه، بصرف النظر عن طبيعتهم، فهو معطاء وجميل بطبيعته.
يتقدم الشاعر من الأمهات اللواتي يقدمن/يعطين كما يعطي الوطن: "دعاء كل حي وحين" هذا الاختزال للزمن وللمكان يمثل رؤية الشاعر لامتداد/تساع خيرية الأمهات، وما إلحاق المقطع بالحديث عن "ضحكة الصباح والطفل" إلا من باب استمرارية الأمهات.
يختم الشاعر القصيدة بصورة شعرية "عين حقل الرمان" وكأنه ب "عين" يريد لفت نظر المتلقي إلى جمالية الوطن وما فيه من خير.
قبل أن نغادر القصيدة، نطرح هذه الأسئلة: لماذا تناول الشاعر القسوة في أكثر من موضع في القصيدة ونثرها نثرا؟ أما كان أفضل لو جمعها في مكان واحد؟ أم أن لهذا النثر/التوزيع علاقة بحال الوطن الذي يفرح حينا ويحزن في آخر؟
الأم
الشاعر يتناول أمه في أكثر من قصيدة، وهذا يعكس الأثر الذي تركه فيه، قصيدة "لون" إحدى هذه القصائد:
"يدي التي رسمت وجه أمي في الظلال،
تحسست وجهها،
وجهها الذي يمتدحني،
فرأيت الطريق حين أبصرت بعينيها،
ومشيت ثانية بساقين من الريح،
وأطير بجناحي ابتسامتها،
أطير،
ورسمت ذاكرتي في عيون الراحلين" ص8.
غالبا ما يعكس تكرار الألفاظ الحنين/الحب الذي يكنه/يحمله الشاعر داخله، فيظهر من خلال التكرار الذي (يؤكد) هذا الحب/الحنين، إن كان تجاه أشخاص أو أشياء أو مكان، من هنا نجد: "وجه/وجهها" مكررة ثلاث مرات، وهذا يأخذنا إلى معنى رقم ثلاثة وما فيه من قدسية واستمرار، فالقدسية نجدها في العلو، فيما هو الروحي: "يمتدحني، أبصرت، أطير (مكرر)" والاستمرار نجده في: "ومشيت، وأطير، ورسمت" فمثل هذا الترتيب/التناسق يؤكد أن الشاعر لا يكتب بقلمه، بل بقلبه، بما يحمله في عقله الباطن من ثقافة/معرفة التي انعكست وظهرت في "لون" التي كتبها عن أمه.
واللافت في هذه القصيدة تكرار ثلاثة ألفاظ: "رسمت، وجهها، أطير" وهذا أيضا له علاقة بالترتيب والتناسق الذي يحمله العقل الباطن ليكون الرسم/رسمت وجه أمي متقنا ومتميزا، وما وجود التتابع والتواصل والتكامل في: "رسمت/تحسست، الطريق/مشيت، فرأيت/أبصرت، وأطير/بجناحي" إلا من باب أتقان رسم وجهها المقدس والحاضر أبدا.
وفي قصيدة "وطن أمي" نجد الحنين/الحب بصورة أخرى:
"أريد وطنا باتساع قلب أمي،
بجمال ضحكة أطفال البساتين،
برائحة مقاثي السهل في الصيف،
أريد وطنا نشيده صوتها
حين تنادي إخوتي قبل الغروب،
حين تزغرد لأعراس البيادر،
وللشهيد المؤجل،
لطفل يولد في "عقد" الطريق،
لطلة الغائب حين يعود،
أريد وطنا باتساع قلب أمي" ص 24.
بداية هناك رغبة عند الشاعر نجدها في "أريد" المكررة ثلاث مرات، ونلاحظ هذه الرغبة توزعت بشكل (مثالي) فاتحة القصيدة، وسطها، خاتمتها، فالفاتحة والخاتمة مكرره: باتساع قلب أمي"، لكن المنتصف مختلف: "نشيده بصوتها"، وهذا الأمر يقودنا إلى محافظة الشاعر على رؤيته لأمه ومكانتها، منذ بداية حياته وحتى اللحظة لم يغير/يبدل نظرته تجاهها.
وبما أن هناك ذكر للطفل في البداية: "ضحكة أطفال" وفي الخاتمة: "لطفل يولد" (وخلل/تباين) في المنتصف: "للشهيد المؤجل" وهذا يشير إلى أن هناك تناسق في مقاطع وشكل القصيدة، وفي المضمون الذي تحمله.
ونجد أثر الأم الإيجابي يتجاوز المضمون/الفكرة إلى الألفاظ البيضاء والناصعة، وتكاد القصيدة أن تكون مطلقة البياض ـ تتوحد الفكرة مع الألفاظ لخدمة المعنى ـ إذا ما استثنينا الألفاظ القاسية: "الغروب، للشهيد، المؤجل، الغائب" كل هذا يؤكد مكانة الأم وحضورها البهي في الشاعر.
لكن هناك أثر آخر للأم في القصيدة كقصيدة، فهي من أوجدت "ضحكة أطفال البساتين، برائحة مقاثي" فالخضرة نجدها في أكثر من شكل، خطرة الأرض/السهل، خضرة الإنسان/ضحكة أطفال، خضرة النباتات/البساتين/مقاثي، خضرة الزمن/الصيف، وهذه الخضرة/البياض لم يقتصر على المحسوسات والماديات السابقة فحسب، بل امتد إلى القصيدة ذاتها، من هنا جاء: "حين تنادي إخوتي قبل الغروب،" التي تحمل معنى واقعي ورمزي في آنا واحد، وبهذا يكون اثر الأم يطال كل شيء.
حضور الأم دائما بهي/ممتع/متألق في قصيدة "ربيع قديم" نجد بهاء حضورها:
"هذا أنا،
وتلك غنمي،
ومن تنتظر قرب حاكورة بيتنا
... حبيبتي،
وأمي تشاغل الشمس
عن الغروب حتى أعود" ص118.
رغم صغير القصيدة، إلا أنها تفتح عوالم متعددة، زمن الرعي والعودة بالأغنام، المراعي والبيت، الناس، وبهذا يكون الشاعر قد تناول مجتمع ومكان والتفاعل فيه، لكن التفاعل المذهل والأجمل هو بين الناس، بين الشاعر وأمه التي قامت بفعل جميل (الانتظار)، وبصورة/بهيئة/بشكل مدهش: "وأمي تشاغل الشمس عن الغروب حتى أعود" فرغم جمال الطبيعة والأغنام والطفل الراعي والبيوت الريفية وحضور الحبيبة، إلا أن حضور الأم تجاوز كل هذا الجمال، وكان هو الساطع الأوحد فيه.
الشعراء يتغنون بأسماء أمهاتهم، كما يتغنون بهن، فالاسم له مكانة وأثر كحال الأم ذاتها، من هنا نجد "عبد السلام عطاري" يتغنى بآمنة في أكثر من قصيدة، حتى أنه خص أسمهما بقصيدة "آمنة":
"تجيء آمنة بروحها،
تجيء مع الطير في صباح آذار الأمهات
الأمهات الباقيات في كتف الليل،
الأمهات اللواتي يلهجن بالدعاء
ويسبحن لحفظ الغائب والصغير حتى يطير
وما بينهما جديلة الحنين،
الحنين الفتي في صح البيت وباب الدار.
تجيء آمنة بكامل وجهها
وجهها البدر الذي كان
بالضحكات التي كلما لاح وجهي لها غاضبا
مسحته بيدها،
فأطفأت الضحكة غضبي العابرة،
يا وجه آمنة والأمهات الراحلات
والأمهات العائدات بعطرهن
على جناح الحنين
السلام على أرواحهن
السلام على ما كان
وما ظل منهن في العالمين" ص28و29.
الشاعر يتعامل مع قدسية الاسم كقدسية صاحبته، من هنا كرر "آمنة" ثلاث مرات، فقد افتتح القصيدة بحضور روحها الحاضرة والمتناسلة، فجاء تكرار "الأمهات" ثلاث مرات كتأكيد لقدسيتها: "بالدعاء، يسبحن" وكتأكيد لاستمرارية حضورها وبقاءه: "تجيء، الباقيات"
ونجد الاستمرارية من خلال تتابع المقاطع: "الأمهات/الأمهات، الباقيات، الأمهات/بالدعاء ويسبحن، الحنين/الحنين" واللافت في تقديم قدسية الاسم وقدسية الفعل: "بالدعاء، يسبحن" ارتباطه بالوقت "ليل، صباح".
في المجيء الثاني ل(آمنة) يتناول جمال حضور/الشكل/الهيئة التي تضهربها: "البدر، لاح" وهذا الجمال انعكس على الشاعر مما جعل "الضحكة/الضحكات" تتكرر وتزيل "غضابا مسحته بيدها، غضبي العابر" فحضورها، حضور أسم آمنة يزيل الظلمة/القسوة كما يزي البدر ظلمة الليل، وكما أن للبدر لمسة جمالية، كانت لوجه آمنة ذات اللمسة التي انعكست على جمالية هذه الصورة: "كلما لاح وجهي لها غاضبا مسحته بيدها" مما يجعل أثر اسم "آمنة" يتجاوز الشاعر إلى القصيدة والطريقة التي قدمت بها.
في المقطع الثالث يقدم الشاعر وجه "آمنة" بقدسية أخرى، مغايرة لما سبق، فهو يبدأ المقطع بتقديس وجهها" يا وجه آمنة" فبدا وكأنه يخاطب الله، ونجده يستعين بالثقافة القرآنية "وخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا" من خلال "جناحي الحنين" ومن خلال "العالمين" وتكرار "السلام" فالشاعر يبدو وكأن فعل: "يهلجن بالدعاء" أثر عليه فجعله يتقدم من الله فكان هذا الحضور القرآني ناتج عن ذلك الدعاء.
الأب
قليلة هي الأعمال الأدبية التي تتناول الأب بصورة إيجابية، في "ما ظل مني" نجد هذا الاستثناء، فالشاعر تعامل مع الأب كجزء من الطبيعية التي أحبها، قصيدة "أبي" توضح الترابط بين الأب والطبيعية:
"أستدرج الناي من بين شفتي أبي،
أبي الغافي تحت بلوطة البئر،
وحوله الطير العائدة من رحلة الصيف،
تستدفئ بظل النار
نار الشتاء الدافئة،
دافئة في بلادنا،
لكنها الغولة تخطف دفئنا،
غولة الحكاية تنسج خوفنا من بردنا:
أبي أريد قلبك الدافئ،
أريد نايك وموالك،
وحكاية عن أمي،
أمي التي كانت تنشل من بئرنا صوتنا،
والناي شاي المساء في بيتنا،
وأبي لا يزال يمسك بيدي،
على الطريق يدلنا" ص11و12.
بداية علينا التوقف عند فاتحة القصيدة "الناي" وصاحبه "أبي" الذي يقودنا إلى الغناء، المواويل الشعبية، وهذا يشير إلى ثقافة وبيئة الشاعر والمجتمع الفلسطيني، فنجد الهدوء والسكينة التي ينم بها: "تحت بلوطة البئر، وحوله الطير العائدة، تستدفئ" وبهذا يكون الشاعر قد قدم الهناء والرخاء الذي ينعم به الفلسطيني طول العام "الصيف، الشتاء" من هنا كرار "دافئة" وجعلها متواصلة ومتتابعة، كما أن وجود صيغة: "تستدفئ/دافئة/ الدافئ" يقودنا إلى استمرار هذا الدفيء.
ونجد أثر" الناي" ممتد ومتواصل كحال الدفيء: "الحكاية/حكاية، نايك/الناي، موالك" فالبيئة التي تنعم بالأمن والسلام تؤثر إيجابيا على ساكنيها، فيكون الغناء/الحكايات أحدى إنتاج هذا المجتمع الذي تفاعل مع البيئة/الطبيعة التي يسكنها وتسكنه، فأنتج أدبا وغناء.
وكما دهشنا الشاعر في تناوله لآمة، أدهشنا في تناوله للأب:
"وأبي لا يزال يمسك بيدي،
على الطريق يدلنا"
فرغم بساطة المقطع، إلا أن له بعد واقعي ورمزي، ويشير إلى استمرار فاعليه وأثر الأب عليه "يدلنا" فصيغة المضارع "يزال، يمسك، يدلنا" تؤكد قوة وبقاء حضور الأب في الشاعر.
ونلاحظ تتابع وتواصل وتكامل في القصيدة" "أبي/أبي، النار/نار، دافئة/دافئة" فهذا الشكل من التقديم له علاقة بالإرث الثقافي الشعبي القديم الذي كان يربط الحكاية/الأغنية بطريقة متسلسلة ومتواصلة، وهذا يشير إلى انسيابية الحياة وسلاستها.
وكما تقدست "آمنة تم تقديس الأب، في قصيدة "ضحكة أبوي" صورة هذا التقديس:
"يا أرضنا السمرا، يا ضحكة أبوي،
يا نبض الحب في قلب أمي،
يا عطر القرنفل والريحان،يا ريحة الندى والليمون،
يا تهليلة الصبح يا نهناهات الرعيان،
يا جدايل معلقة على الحيطان،
يا زوادة الزيت والزيتون،
يا حكايات الجارة والجارات،
صوت البلابل في حاكورة الرمان،
يا ضحكة الصليبة على البادر،
يا نبع الفرح في ساحة الدار،
يا صوتي العتيق يا عجقة الصبيان.
يا كل اللي كان يغسل همي في هالزمان" ص19.
يقول الشاعر فراس حجم محمد بما معناه: "إن الجملة الأسمية تتجاوز الفعل، وتجعل المتلقي يصب اهتمامه على الكيفية التي يقدم بها الشخص" هذا الأمر ينطبق على القصيدة، فلا نجد فيها أي فعل سوى "يغسل" الذي جاء في آخر مقطع، كما أن وجود صيغة النداء "يا" التي تكررت خمس عشرة مرة جعل من المخاطب/المنادي مقدس.
إذن هناك صورة مطلقة لضحك الأب/ للأب، من هنا نجد غالبية الألفاظ بيضاء، فلا نجد ما يعكر صفة البياض سوى: "معلقة، عجقة، همي" وننذكر أنها جاءت بمضمون/بمعنى إيجابي، وهذا ما يجعل القصيدة مطلقة البياض.
وهنا نتوقف عند أشكال هذا البياض، فنجده متعلق بأكثر من حالة/شيء، منه ما هو متعلق بالناس: "قلب أمي، نهنهات الرعيان، حكايات الجارة" ومن ما هو متعلق بالأرض/بالطبيعة/بالمكان: "أرضنا، حاكورة، البيادر، الدار" ومنها ما هو متعلق بالمشاهدة/النضر: " الصبح، الصليبة" ومنها ما هو متعلق بالرائحة: "عطر، ريحة" ومنها ما هو متعلق بالأصوات: "ضحكة، تهليلة، نهنهات، صوت/صوتي" ومنا ما هو متعلق بالنباتات والطيور: "القرنفل، الليمون، الزيتون، البلابل" وهذا يعكس تعلق الشاعر بالمكان/بالطبيعة، بمن يعيشون فيها، مما جعله هائما، مستمتعا بها وبما هو فيها ومن هم عليها.

المرأة/الحبيبية
المرأة تعد الملاذ الأهم عند الشعراء، فهم يلجؤون إليها لتزيل عنهم قسوة الواقع، ولتمدهم بفرح يساعدهم على مواصلة الحياة، في قصيدة "حبيبة" نجد هذا الحضور:
"لي امرأة تجدل ضفائرها
حبيبة تفرد للحب،
فاطهة الشتاء،
وتفتح للريح نوافذها،
حبيبة كلما لامس وجهها الشوق،
صار الشوف غيمة تمطر،
وأنا في المدينة عراب الريح أسعى،
والريح بُراقُ الحب أسرجها،
أطير بجناحيها
وترمي قلبي بسهم الحب،
وفي الحب، أجادلها! " ص92.
نجد التغني بالمرأة حاضرا من خلال: "تُجدل، تفرد، وتفتح، ترمي" فهذه الأفعال محببة للشاعر، حتى عندما "أجادلها" يكون سعيدا، وبما أن هناك ألفاظ مكررة: "حبيبة، للريح/الريح، الشوق، الحب (ثلاث مرات) وهذا يقودنا إلى الرغبة الكامنة في الشاعر تجاه المرأة، فهي من يخرجه مما هو أرضي/مادي إلى ما هو روحي/سماوي: "الشوق غيمة، والريح براق الحب اسرجها، أطير بجناحيها" من هنا لا نجد أي لفظ متعلق بالأرض سوى "نوافذها، أسرج، المدينة" مما يجعل نظرته للمرأة أبعد واعلى من كونها جسد، فقد أقرنها بالحب، لهذا انعكست أثرها على القصيدة من خلال: "حبيبة كلما لامس وجهها الشوق، صار الشوف غيمة تمطر" وإذا علمنا أنها من أوجدت الريح: "وتفتح للريح نوافذها" نصل إلى أنها أبعد من أنثى عادية، فهي من يجلب الخير/الخصب المطر، وهي من تجعل الحزن/الشوق جميلا، وهكذا أكد الشاعر دور المرأة في إيجاد الفرح فيه، الجمال في القصيدة، مما جعل المتلقي يتأثر بحضورها البهي كما تأثر الشاعر بها.

الطرح السياسي
طبيعة الفلسطيني تدفعه لتناول الموضوع السياسي، لكن في الشعر في الأدب يكون الطرح السياسي في غير مكانه، وإذا ما كان موجودا فهناك شروط أدبية وفنية يجب الالتزام بها لبقى النص/القصيدة/العمل محافظا على أدبيته وفنيته، الشاعر عبد السلام عطاري يتنول السياسة في أكثر من قصيدة، منها قصيدة "ضوء متأخر":
"قال: ألم ترمن بي؟
قلت: بلى، ولكن لا أرى شيئا
ومضيت أتحسس وجهي
والبصر نافذة بعيدة
لا ترى الضوء في آخر النفق
وخطواتي لا تصل
والليل عكاز جسدي الهشيم
والسور خشن،
كلما لامسته سال السؤال:
ألم تؤمن بي؟
قلت بلى
لن أكرر خطئي ثانية
فالطريق شعاب الضياع
والنفق لا ضوء فيه
والنار قبسها الدخان
ورؤياي غبش الغبار
لما صرخ الحجر بقدمي
وألواح الصبار تستعذب
وخزتها في الصدر
لن أومن بك ثانية
ما رأيت فيك شيئا أكثر مني" ص127و128.
اللافت في هذه القصيدة تناولها لمسيرة أوسلو من ألفها إلى يائها دون التكلم بأل لفظ سياسي مباشر، فليس فيها لا تنظير ولا مباشرة ولا صوت عال، وكل ما نجده مجرد حوار بين الشاعر ومتكلم مجهول يطلب الإيمان به: "ألم تؤمن بي" كما نجد تركيز الشاعر على ألفاظ متعلقة بالبصر/بالنظر/بالمشاهدة من خلال: "لا أرى/لا ترى، البصر، الضوء، الليل" يقابلها الاعتماد على حاسة اللمس: "أتحسس، خشن، لامسته" وهذا يشير إلى فقدان النور/النظر/البصر الذي يدعوا إليه السائل: "ألم تؤمن بي" فالشاعر لا يرى نورا ولا ضوءً، لهذا هو يتحسس.
استحضار السؤال مرة ثانية وبعد تحسس الشاعر وتيقنه بعدم وجود الضوء، جعله يرد على السائل:
"لن أكرر خطئي ثانية" بعدها ينطلق شارحا أساب عدم إيمانه، فيتحدث عن ملموسات/ماديات وليس مجرد محسوسات: "الطريق شعاب الضياع، النفق لا ضوء فيه، النار قبسها دخان، رؤياي غبش" نلاحظ أن رد الشاعر يحمل عين المنطلقات البصرية التي تحدث عنها في السابق: لا ضوء، النار دخان، رؤياي غباش" هذا له دلالة أخرى متعلقة بما هو ابعد من الضوء العادي، فالضوء هنا كان أوسوا الذي لا ضوء/أمل فيه، والنار/الثورة أمست دخان لا شعلة فيها، والإيمان/الفكرة/العقيدة/الأيديولوجيا ضاعت وفقدت بريقها بعد أن ضاع المؤمنون بها في غياهب الدول المانحة والجي أن جوز
هذا ما دفع الشاعر ليحسم الحوار بشكل قاطع "لن أؤمن بك ثانية" مؤكد أن الداعي/السائل ليس بأفضل منه: "ما رأيت فيك شيئا أكثر مني"
هذا الحوار يقودنا إلى ما جري بين جلجامش وأوتنابشتم، حينما خاطبه جلجامش:
"أنظر إليك يا أوتنابشتم
شكلك عادي، وأراك مثلي
قد صورك لي جاني بطلا على أهبة القتال
لكن ها أنت مضجع على جنبك أو قفاك"
هذا التلاقي بين الشاعر وجلجامش يحسم امر الإيمان بالأشخاص، وضرورة التحرر من أخذ أي شخص قدوة مطلقة، فهم بشر يتعبون/يهرمون/يموتون، ينحرفون، يتقهقرون، ينزلقون ويمكن أن يقدموا على الخيانة أيضا.
الفلسطيني
يتناول الشاعر حال الفلسطيني في قصيدة "البقجة" مبين أن أحولنا في تقهقر وتراجع:
"منذ البقجة الأولى
ونحن نمشي،
نمشي منذ علبة السردين،
منذ (كيس الياباني)
وشوال الطحين
بحرفين يلتقيان (un)
ونحن نمشي ونمشي،
ما كان قد تغير
إلا عبورنا على الإسفلت
بعد (رصيف حجارة الإنجليز)
الحجارة الملساء التي تجرح أقدامنا الخشنة
وألواح الخشب التي شربت النهر
وأكلتها نظرات الحنين
ونساها في عيون المودعين،
ما كان قد تغير
إلا وجع الانتظار
في عبء اللاجئين." ص47و48.
هجرة الفلسطيني التي بدأت عام 1948 ما زالت مستمرة، من هنا جاءت أفعال المضارع: "نمشي (مكررة أربع مرات)، عبورنا، تجرح" حيث نلاحظ أن التركيز كان على التعب الكامن في "نمشي"، وبما أن الهجرة قاسية ومؤلمة فكان لا بد من تناولها كما هي: من هنا استخدم الشاعر حالة المهاجر (العادية) ودون أية تجميل: "البقجة، علبة السردين، الكيس الياباني، شوال الطحين (un)" فذكر هذا (المساعدات) يأتي ضمن التذكير بالألم/بالوجع/بالذل الذي لاقاه الفلسطيني بعد أن هُجرة، تاركا وطنه/بلدته/قريته/حيه/بيته والخيرات الكثيرة والمتنوعة التي يتنعم بها فلسطين، فجاء تناول هذه المساعدات بهذه الطريقة (الفوتوغرافية) يمثل رفضا لها.
فرغم هذه الماديات التي يحصل عليها، إلا أن كرامة الفلسطيني بقيت حاضرة ومؤثرة، لهذا نجد الشاعر مباشرة بعد ذكرة هذا (المساعدات) المذلة ينقلنا إلى معاناته النفسية، معاناته الوطنية التي لا يمكن لكل مساعدات الأرض الغذائية أن تمحها أو تزيلها: الحجارة التي تجرح أقدامنا، ألواح أكلها الحنين، نسيناها في عيون المودعين، وجع الانتظار في عب اللاجئين" نلاحظ أن هناك فنية أدبية في تقديم الحالة النفسية للفلسطيني، على النقيض من طريقة تقديم المساعدات "البقجة، السردين، الطحين" وكأن الشاعر من خلال تباين طريقة تقديمه المساعدات والحالة النفسية/الوطنية للفلسطيني، يرسل/يوصل رسالة لمن يريد مساعدة الفلسطيني، أن عليه معالجة أوضاعه النفسية، الوطنية، وليس المعيشية، الطعام والغذاء، وما الصور الشعرية إلا إشارة غير مباشر منه لأولئك المقدمين المساعدات، على أن هناك ناس/بشر يجب التعامل معهم بإنسانية، وليس حيوانات، فحاجاتهم تتجاوز الغذاء والطعام إلى الوطن، الكرامة.
وما الترتيب الذي جاء في القسم الثاني من القصيدة: "حجارة ـ الحجارة، الخشنة ـ الخشب، شربت ـ أكلتها، الحنين ـ المودعين، الانتظار ـ اللاجئين" إلا من باب التذكير بما مر به الفلسطيني في درب الآلام الذي ما زال مستمرا.
الفدائي
بعد رحلة الآلام السابقة، وبعد استمرار الآخرين النظر للفلسطيني على (حيوان بشري) يحتاج الطعام والغذاء فقط، فكان عليه استعادة حقوقه، والعمل على معالجة مشاكلة النفسية والوطنية/القومية، فكان العمل الفدائي هو الوسيلة التي بها يستعيد تزانه النفسي، ويستعد وجوده الوطني/القومي، في قصيدة "خشب مالح" نجد صورة الفدائي:
"على (الشريعة)
والطير في جناحه
خفق قلبي
على الجسر العتيق
والخشب المالح،
يطعم دموع العابرين،
والنهر القديم،
يتلوى بين ضلوع الذكريات
ويفر من صدري الحنين.
يعودون من النيروز
ويزهرون مطلع كل شمس،
يتعربشون نوافذ الليل
ويتركون النهار للحكايا،
وفي عيون الصبايا
حبق البلاد وبقايا ضحكاتهم
وينشدون لوطن المغدور...
ويصعدون وفي أحلامهم
أمل وألم وكثير من العتاب" ص64و65.
نهر الأردن (الشريعة) تعمد به المسيح، فهو النهر المقدس الذي يطهر كل مُضحي/مُخلص/فادي، وكما تطهر المسيح الفلسطيني في النهر، ها هم أبناء وطنه يتعمدون/يتطهرون بالنهر ذاته.
يركز الشاعر على نهر الأردن من خلال تفاصيله: "الطير، الخشب" وعلى تاريخه: "العابرين، والنهر القديم" وعلى الحاضر/المعاصر: "الذكريات، يفر الحنين" وعلى الأمل من خلال عبور المُخّلصين/الفاديين: "يعودون، ويزهرون، يتعربشون، ويتركون، وينشدون، ويصعدون" وإذا ما توقفنا عند حالة النهر بعد عبوره، نجد أن هناك (شرح وافي) للفاديين/المخلصين.
فبعد "يعودون"/عبروا/تعمدوا حصلوا على قدسية وطهارة، منحتم القدرة على القيام بأفعال/أعمال خير كثيرة ومتعددة، من هنا كان: "ويزهرون، يتعربشون، ويتركون، وينشدون، ويصعدون" وهذا الشكل من التقديم يمثل ـ دعوة غير مباشرة من الشاعر ـ لكل فلسطيني، لكل عربي أن يتقدم من النهر/الشريعة، ليتطهر، ويتعمد، وليحصل على طاقة/قدرة ليقوم بما قام به المسيح قديما، وما يقوم به مسيحيو فلسطين اليوم ممن تعمدوا بعبور "الشريعة"
ونلاحظ أن القسم الأول من القصيدة جاء يفتقد لألفاظ الناعمة والبيضاء، لكن بعد مقطع "يعودون مع النيروز" تتدفق الألفاظ البياض كما يتدفق النهر: "ويزهرون، مطلع، شمس، نوافذ، النهار، للحكايا، عيون، الصبايا، حبق، البلاد، ضحكاتهم، وينشدون، للوطن، أحلامهم، أمل" وهذا يشير إلى الفرح الملازم للعابرين/المخلصين/الفاديين.
العنوان "ما ظل مني"
نلاحظ أن العنوان حاضر في أكثر من قصيدة، وبصيغ متباينة: "على ما ظل منا" ص23، ما ظل مني في شقوق الطفولة" ص46، "لي ما ظل من غد الحكايات" ص84، "وأنا أفرد للحلم ما ظل مني لنوم عتيق" ص112، "وأعطيت ما ظل منه لمتسول" ص150، "ما ظل غير الكلام" ص170، يضاف إلى ما سبق قصيدة العنوان" ما ظل مني" التي يختمها بقوله:
"وابتسمت على ما ظل
من لا شيء لي
وما ظل مني ضل
وقلت انتصرت!!" ص166.
نلاحظ حالة اليأس، والإقرار بالهزيمة، رغم (المكابرة) "وقلت انتصرت" فرغم أن المقطع جاء على لسان "عبد السلام عطاري" إلا أنه يتجاوزه، فليس هو من يتحدث، وإنما هو صوت كل فلسطيني، فبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على أوسلو، لم يكن سوى السراب، وحكم ذليل/هزيل ينشد (فدائي) ويرفع العلم، ويؤدي التحية، لكن بموافقة المحتل.
وإذا عدنا إلى السؤال: "ما ظل مني" الذي نثره الشاعر في أكثر من قصيدة وموضع، سنجد فيه وجود (مشكلة) ما زالت عالقة ولم تحل، وما تكراره وما يحدثه من وصدى، إلا من باب تذكير المتلقي بوجود نقص/ظلم وقع وما زال، وبما انه جاء بأكثر من شكل، صيغة، وهذا تشير إلى ضرورة إيجاد إجابة له وبسرعة.
الديوان من منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2023.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نصير شمة في بيت العود العربي


.. مفاجاة صارخة عرفنا بيها إن نصير شمة فنان تشكيلي ??? مش موسيق




.. مش هتصدق عينيك لما تشوف الموسيقار نصير شمة وهو بيعزف على الع


.. الموسيقار نصير شمة وقع في غرام الحان سيد درويش.. شوفوا عمل إ




.. بعيدا عن الفن والموسيقى.. كلام من القلب للموسيقار نصير شمة ع