الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ريلكه والفلاسفة: في العلاقة العضوية الملتبسة ما بين الشعر والفلسفة (1-2)

حكمت الحاج

2024 / 6 / 23
الادب والفن


أمامي هذا الكتاب الممتع الفريد إن لم أقل الخطير، بما تحويه كلمة خطير من معنى، ذلك أنه يهم فئتين من الناس متضاربتين في وجودهما متقاطعتين في اشتغالهما على اللغة والحياة، وهما: الفلاسفة والشعراء. ومنبع الخطورة كامن في تلك النظرة المزدوجة التي ينظر بها كل فريق منهما للآخر، اذ تجتمع فيها كل مظاهر الاعجاب والتثمين والشك والريبة واللاجدوى والعبث المجاني، فكم من صرح فلسفي كبير اختصرته قصيدة واحدة، وكم من مشاريع شعرية ضخمة لا تعدل في نهايات المطاف ورقة من خطاب فيلسوف يلهو باللغة والأرقام.
كتاب "ريلکه والفلاسفة" (Rilke och Filosoferna) لكاتارينا أونيلز فرانكه هو عبارة عن أنطولوجيا فلسفية تجمع بين أعمال الشاعر الألماني الخالد راينر ماريا ريلكه (1875-1926) وتأملاته الفلسفية، وتسلط الضوء على تأثيره على الفلاسفة ورجال الفكر في عصرنا. الكتاب الصادر قبل أسابيع من هذا العام 2024 ويتناول، بل ويحاول أن يقنع، كيف أن ريلكه، المعروف بعمق وقوة شاعريته، كان أيضًا فيلسوفًا بطبيعته، حيث كانت أفكاره مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة عبر التاريخ.
في هذا الكتاب باللغة السويدية والصادر عن دار نشر "إيللستروم"، بمنحة مالية من مؤسسة "أوكه فايبرغ"، حاولت محررة الكتاب وجامعة فصوله أن توضح العلاقة ما بين أفكار ريلكه الشاعر، وبين الأعمال الفلسفية الكبرى لعصرنا، بما في ذلك تأثيره على فلسفة فريدريك نيتشه ومدى تشابه مقارباته الوجودية مع الفلسفة الحديثة. يضم الكتاب مقالات من مجموعة من الفلاسفة والباحثين السويديين من أمثال نيكلاس لوندبلاند وإيرينا هرون ويوناس إيلرستروم وسفين-أولوف فالينشتاين وايزابيل ستوهل ولارش غوستافسون وسفانته نوردين ومارسيا شوباك، بالإضافة إلى مقتطفات من أعمال ريلكه الشعرية مترجمة الى السويدية ومصحوبة بشروحات وتأملات جديدة.
ويبدو جليا إن الهدف من الكتاب هو إظهار كيف يمكن للأدب والشعر أن يكون لهما تأثير عميق على الفلسفة، وكيف أن التأملات الفلسفية يمكن أن تثري التجربة الأدبية، مما يجعل من "ريلکه والفلاسفة" مساهمة قيمة في دراسة التداخل والتعالق بين الفلسفة والأدب.
في مقدمة كتابها "ريلْكه والفلاسفة"، تُقدّم الباحثة ومحررة الكتاب كاتارينا أونيلز فرانكه نظرة متعمقة حول العلاقة بين الشاعر ريلْكه والفلاسفة الذين أثروا في فكره وشعره، والذين أثر فيهم هو بأشعاره وتأملاته. توضح فرانكه في مقدمتها كيف أن ريلْكه لم يكن مجرد شاعر بل كان أيضًا مفكرًا عميقًا، استلهم الكثير من أفكاره من الفلاسفة الكبار مثل نيتشه وهايدغر، وكذلك من الفلسفات الشرقية.
تُشير فرانكه إلى أن ريلْكه استخدم الشعر كوسيلة للتعبير عن أفكاره الفلسفية وتجسيدها، مما جعل أعماله محط اهتمام النقاد والفلاسفة على حد سواء. علاوة على أنها تسلط الضوء على كيفية استكشافه لمفاهيم مثل الوجود والموت والحياة من خلال لغة شعرية عميقة وثرية بالرموز والمعاني.
كما تناقش فرانكه في مقدمتها التأثير المتبادل بين ريلْكه والفلاسفة، كيركيجارد، بيرغسون، فرويد، هايدغر، هوسرل، فيتغنشتاين، نوزيتش، سارتر، ويلز، لاكان، حيث استلهم منهم أفكاره، واستلهموا منه أفكارهم، ولكنه في الوقت نفسه قدم رؤى جديدة حول قضايا فلسفية معقدة، مما جعل شعره مصدرًا غنيًا للفكر الفلسفي.
الطريف والمفيد والممتع في كتاب "ريلکه والفلاسفة" أنه ومع كل فصل يتناول فيلسوفا من الذين ذكرناهم في سياق حديثنا اعلاه، وعلاقته الفكرية مع شعر ريلكه، تنهيه المؤلفة-المحررة بقصيدة مختارة للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه حيث يتم تضمين هذه القصائد ضمن السياق الفلسفي للأطروحات التي يناقشها الكتاب. تتخلل القصائد الفصول المختلفة للكتاب، وتستخدم كنصوص داعمة لتعزيز الفهم الفلسفي الذي تقدمه المقالات المختلفة المنضوية بين دفتيه.
ويتم تقديم هذه القصائد المختارة بذكاء وحنكة مناسبتين للجو الفلسفي العام للكتاب، بترجمة جديدة إلى اللغة السويدية من قبل محررة الكتاب نفسها، كاتارينا فرانكه، مما يمنح القارئ فرصة لرؤية النصوص الأصلية لريلكه من منظور حديث وجديد. هذا الأسلوب في الجمع بين الفلسفة والشعر يساعد على إبراز التأثير العميق الذي تركه ريلكه في عالم الفكر والأدب.
وهكذا نرى أن مساهمة كاتارينا أونيلز فرانكه لم تقتصر فقط على كتابة المقدمة ووضع ثبت الملاحظات والهوامش الخاصة بكل مقال، وتنظيم وتحرير المقالات الفلسفية التي ساهم بها الفلاسفة السويديون، بل شاركت أيضًا بنظرة فلسفية خاصة بها في هذا الكتاب تناولت فيها علاقة الشاعر ريلكه بالفلسفة، وكيف أثرت أفكاره على التفكير الفلسفي الحديث بشكل يجعل من الفلسفة والشعر يتفاعلان بطريقة حيوية ومثمرة.
إن اهتمام كاتارينا فرانكه بالشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه ينبع من تقديرها العميق لقدرته على مزج العواطف الإنسانية العميقة مع تعابير شعرية مميزة تجعل من أعماله أدوات للتأمل الفلسفي والروحي. ريلكه، الذي عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين، كان شاعراً معروفاً بقدرته على استكشاف تجارب الحياة الوجودية والداخلية، وهو ما ينسجم مع اهتمامات كاتارينا الأدبية والفكرية، كما هو واضح من سيرتها ومؤلفاتها، ولعل من أبرزها كتاب "التصادم" الذي صدر عام 2015، وكتاب بعنوان "اتفاق مختلف" الذي صدر عام 2019. كما ألفت سيرة ذاتية عن الشاعر ريلكه بعنوان "المسافر عبر الزمن" أو "الرحالة الزمني" في عام 2021.
وهنا لابد أن نتوقف قليلا عند هذا الكتاب الهام!
لقد درست كاتارينا الأدب والتاريخ في جامعة أوبسالا، حيث بدأت تتعمق في دراسة الأعمال الكلاسيكية والرمزية، وهو ما جذبها نحو أعمال ريلكه. تعتبر كاتارينا إن ريلكه لم يكن فقط شاعراً كبيرا، بل مرشداً فكرياً يمكن أن يُلهم الكتاب المعاصرين في فهم الذات والعالم من حولهم. كما أنها ترى في أعماله انعكاساً للأفكار الروحية والفلسفية التي تساعد على استكشاف عمق التجربة الإنسانية.
في كتابها "الرحالة الزمني"، تستكشف كاتارينا حياة ريلكه وتتناول موضوعات كتبه ورسائله، حيث تعطي نظرة شاملة على تطوره كشاعر وتأثيره على الأدب العالمي. إن كتاب "الرحالة الزمني راينر ماريا ريلكه" (Den tidlöse resenären: Rainer Maria Rilke) من تأليف كاتارينا أونيلز فرانكه يعد سيرة أدبية تستعرض حياة وأعمال الشاعر النمساوي الاصل الألماني اللغة، ويعكس تأملات فرانكه العميقة في حياة ريلكه وتأثيره على الأدب والفكر الغربي.
يتناول الكتاب تفاصيل حياة ريلكه، بدءًا من نشأته في براغ وتطور مسيرته الأدبية التي امتدت عبر أوروبا. يركز على المواضيع الأساسية في أعمال ريلكه، مثل التصوف، والفن، والموت، والطبيعة، وكيف استطاع تجسيد تلك المواضيع بأسلوب شعري فريد.
تستعرض فرانكه في الكتاب كذلك العلاقات الإنسانية والشخصية التي أثرت في حياة ريلكه، بما في ذلك علاقاته مع شخصيات أدبية وفكرية بارزة في عصره، مما يعطي القارئ نظرة شاملة على السياق الثقافي والاجتماعي الذي عاش فيه ريلكه. يعتمد الكتاب على تحليل نقدي متعمق ومعلومات تاريخية دقيقة، مما يجعله مصدرًا مهمًا لفهم تأثير ريلكه على الأدب العالمي وكيفية تطور رؤاه الفكرية والشعرية على مر الزمن.
وبالنسبة لجمهرة غفيرة من الباحثين والمهتمين، يمكن اعتبار هذا الكتاب، وأعني "الرحالة الزمني"، مرجعًا ممتازًا لكل من يهتم بالأدب الألماني والشعر الأوروبي وريلكه الشاعر والإنسان، ويعتبر إضافة قيمة لمكتبة الأدب العالمي.
كاتارينا أونيلز فرانكه هي صحفية وكاتبة سويدية بارزة ولدت في 27 ديسمبر 1987. درست العلوم الإنسانية في جامعة أوبسالا وحصلت على درجة البكالوريوس عام 2010. عملت فرانكه في مؤسسة "تيمبرو" بين عامي 2013 و2015، ثم انضمت إلى مجلة "أكسيس" كسكرتيرة تحرير منذ عام 2015، حيث تشارك أيضًا في تقديم العديد من البرامج التلفزيونية الخاصة بالمجلة. تتميز كتاباتها بالاهتمام العميق بالأدب والفلسفة، ولديها مشاركة فعالة في الحوارات الثقافية في السويد عبر المقالات والمقابلات التلفزيونية، الى درجة أن يصفها البعض هنا بأوبرا وينفري السويد.

* ينشر المقال بالاشتراك مع موقع "الحوار المتمدن" ومجلة "كناية الرقمية الثقافية المستقلة". كل الحقوق محفوظة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي


.. أون سيت - أولاد رزق 3 .. أعلى نسبة إيرادات .. لقاء حصري مع أ




.. الكاتب علي الموسى يروي لسؤال مباشر سيطرة الإخوان المسلمين عل


.. بيت الفنان الليبي علي غانا بطرابلس.. مركز ثقافي وفضاء إبداعي




.. العربية ويكند | جيل بايدن تقود الرئيس بايدن إلى خارج المسرح