الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في شُؤونِ الإله وشُجُونِه

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2024 / 6 / 23
الادب والفن


في حَضْرَةِ القَتْلِ الذي يُرتَكَبُ فينا وبِنا، نحنُ الشَّرْقِيِّينَ عامَّةً والعَرَبَ خاصَّةً، صَارَ مِنْ لُزومِ ما يَلْزَمُ أنَّ السُّؤالَ الضَّرورِيَّ الآنَ هُوَ سؤالٌ عنِ الحَياةِ في أقصى صُوَرِ انعدَامِها. وإذْ أنَّ الحديثَ عنِ الحياةِ يَلْزَمُ عَنْه، في آخرِه على الأقلِّ، أنْ ينتَهيَ بالحَديثِ عنِ الموتِ، فإنَّ السُّؤالَ عنْ أحَدِ السِّرَّيْن الأكبَرَيْنِ يَلْزَمُ عنهُ سؤالٌ عنِ الآخر. ومِنْ نَافِلِ القَوْلِ، في مكانٍ، القَوْلُ أنَّ السُّؤالَ عنِ الموتِ لا بُدَّ أنْ يكونَ مِنْ جِنْسِ السُّؤالِ عنِ الحياة. بصِياغةٍ أُخرى؛ لا نستطيعُ أنْ نَفْهَمَ طبيعةَ الموتِ الذي نَموتُه دونَ أنْ نَفهَمَ طبيعةَ الحياةِ التي نَحْياها. ولَوْ أُرِيدَ الخُلُوصُ إلى سُؤالٍ فأظنُّه سَيكونُ على هيئةِ: «ما هذا الموتُ الذي نموتُه؟!»، أو «ما هذه الحياةُ التي نَحيَاها؟!».

على سَبيلِ النَّقْدِ الفَوْرِيِّ للنَّصِّ، إذا جازَ التَّعبيرُ، ثَمَّةَ إشكاليَّتَانِ في المُقدِّمةِ أعلاهُ! أُولاهُما تكادُ تَكونُ أقربَ إلى التَّدليسِ مِنْها إلى الخطأ؛ وهِيَ أنَّ فِعْلَ «ارتَكَبَ» جاءَ مَبْنِيًّا للمَجهول؛ «يُرتَكَب». ومَحَلُّ الإشكالِ، وَلْنَحْصُرِ الحديثَ بالعَرَبِ، هو أنَّ هذه الصِّيغةَ تَفتَرِضُ أنَّ العَرَبَ ليسوا إلَّا ضحايا «الآخر»، في حينِ أنَّهم إضافةً إلى كَوْنِهم ضحايا «الآخر» فهُمْ أيضًا ضحايا أنفُسِهم. ولَيْسَ مِنْ بابِ المُبالَغَةِ، ولا جَلْدِ الذَّاتِ، القَوْلُ أنَّ كَوْنَهُم ضحايا أنفُسِهم لَهُوَ أشدُّ فَتْكًا بِهِم ومَأساويَّةً علَيْهم مِنْ كَوْنِهم ضحايا «الآخر». وإذا كانَ مُبَرَّرًا اعتبارُ «الظُّروف» عاملًا قاهِرًا لا طاقةَ للفَرْدِ أحيانًا بالتَّعالي علَيْها، فإنَّه غيرُ مُبرَّرٍ بالقَدْرِ نفسِه اعتبارُ أنَّ هذا الحُكْمَ يَسْرِي على الجَماعةِ، أو «الأُمَّةِ»، سَرَيَانَه على الفَرْدِ.

أمَّا ثانيَةُ الإشكاليَّتَيْنِ فَهِيَ اعتبارُ السُّؤالَيْنِ المَسْؤولَيْنِ في آخِرِ المُقَدِّمةِ سُؤالَيْنِ كُلٌّ مِنْهُما قائمٌ بذاتِه، في حينِ أنَّهُما سُؤالٌ واحدٌ يُصاغُ بصِيغَتَيْنِ ولَيْسَا سُؤالَيْنِ لكُلٍّ مِنْهُما صياغتُه الدَّالَّةُ على افتِراقِ أحدِهِما عنِ الآخر. يَجوزُ، بصورةٍ أو بأُخرى، اعتبارُهُما كالنَّفْسِ والجَسَدِ يتَّحِدانِ في سؤالٍ واحدٍ مُؤدَّاهُ: «ما هذا الوُجودُ الذي نُوجَدُه على هذه الأرض؟!».

ليسَ ثَمَّةَ ما هُوَ أشدُّ ارتِباطًا ومُلازَمَةً لفِكْرَةِ الإله مِنْ قضيَّةِ «المَوْتِ والحياةِ قبلَه وبعدَه» وما تَفيضُ به مِنْ أسئلةٍ وُجوديَّةٍ مِنْ قَبيلِ الـ «لِماذا؟»؛ «مِنْ أين؟»؛ «إلى أين؟»؛ «كيف؟»؛ والأكثرُ خَطَرًا هُوَ ما يُسألُ عَنْهُ بـ «ثُمَّ ماذا بعدُ؟». كُلُّها أسئلةٌ يُمكنُ اعتبارُها القُوَّةَ الجاذبَةَ الكامِنَةَ في ما اصطُلِحَ عليه بـ «ثقب الله» الذي سُكَّ مِنْ قَوْلِ مونتسكيو: «في العَقْلِ ثقبٌ لا يَسُدُّهُ إلَّا الله»، وهُوَ ما تابَعَهُ عليه سارتر وسبَقَ إليه ابنُ قَيِّمِ الجُوزِيَّة ساعةَ قالَ: «في القلبِ خِلَّةٌ وفاقَةٌ لا يسدُّها شيءٌ البتَّةَ إلَّا ذِكْرُ الله». ومِنْ طبيعةِ قضيَّةِ الحياةِ والموتِ أنْ تُشَكِّلَ واحِدًا مِنْ أهمِّ البواعِثِ التي دَفَعَتِ الإنسانَ للسُّؤالِ عنِ الماوراء حينَ كانَ يَحبُو حَبْوَهُ الأَوَّلَ على هذه الأرضِ، إذْ أنَّ الحياةَ تُمَثِّلُ مَسْرَحَ القَلَقِ بالنِّسبةِ للإنسانِ، بينما يُشكِّلُ الموتُ له مَسْرَحَ الخَوْفِ في أقصى صُوَرِه وأقساها.

لو أخذنَا المسألةَ مِنْ حيثُ الواقِع، فيُمكنُ أنْ نَخلُصَ إلى جدليَّةٍ قائمةٍ بينَ المرحلةِ العُمريَّةِ التي يَعيشُها المُؤمنُ من جهةٍ، وبينَ موقعِ الإله مِنْ الحياةِ والموتِ عندَ هذا المؤمن: في مرحلةِ الشَّبابِ يَرى المؤمنُ أنَّه أقربُ إلى الحياةِ وأبعدُ منَ الموتِ، وكُلَّما ازدادَ عُمرًا يرى أنَّه بدأ في الابتعادِ عنِ الحياةِ والاقترابِ منَ الموت. وبالتَّالي فإنَّ توجُّهَهُ إلى الإله في مرحلةِ شبابِه يتركَّزُ على خلاصٍ دُنيَوِيٍّ أكثرَ منَ الخلاصِ الأُخرَوِيِّ، ومعَ مرور سنينِه يبدأُ توجُّهُه بالتَّركُّزِ أكثرَ في دائرةِ الخلاصِ الأُخرَوِيِّ، حتَّى يَصِلَ إلى سِنٍّ لا يُريدُ فيها إلَّا «المَغفرة».

صحيحٌ أنَّ الحالةَ المذكورةَ أعلاهُ هي واقعيَّةٌ وطَبَعِيَّةٌ، لكنَّها في الآنِ نفسِه ليستْ صحيحةً بقَدْرِ ما هي طَبَعِيَّةٌ وضَروريَّةٌ لاستمراريَّةِ تطوُّرِ الأفرادِ والمُجتمعاتِ على حدٍّ سَواء. إنَّها تُشبِه الطَّفرَةَ الجينيَّةَ الضَّروريَّةَ لتطوُّرِ الكائن الحَيِّ. وهِيَ غيرُ صحيحةٍ لأنَّ الحقيقةَ الصَّارِخةَ تقولُ أنَّ المسافةَ التي يقفُها الإنسانُ منَ الموتِ، مُذْ يُولدُ إلى أنْ يموت، لا تَطولُ ولا تَقْصُرُ بِحسبِ عُمر الإنسان؛ بل هي ثابتةٌ ومِقدارُها لحظةٌ واحدة. بعِبارةٍ أَقسى؛ إنَّ ما يَفْصِلُ المُحْتَضَرَ عنِ الموتِ ليسَ أقلَّ مِمَّا يَفْصِلُ الطِّفلَ الذي وُلِدَ لتَوِّه عن الموتِ. وتاليًا، إنَّ الدِّينَ، أو الفَهْمِ الدِّينيِّ للنَّصِّ، لا بُدَّ أن يكونَ على مسافةٍ واحدةٍ منَ الحياةِ والموتِ. وهُنا أَتَمَثَّلُ بما كتبَه علي شريعتي يومًا: إنَّ الدِّينَ الذي لا يَنفعُ الإنسانَ في حياتِه فإنَّه لنْ ينفعَه بعدَ موتِه. أَتَمَثَّلُ بهذا وأسألُ: «أيُّ إلهٍ هذا الذي لا يَرضَى إلَّا بالدَّم؟!». ومِنْ نَافِلِ القَوْلِ، عِندي، أنَّ هذا السُّؤالَ الاستنكاريَّ، والاستهزائيَّ أيضًا، لا يَعني اللهَ في شيءٍ. إنَّما هُوَ سؤالٌ عَمَّا يُرادُ لَنا أنْ نَعتقدَ أنَّه الله؛ هُوَ سُؤالٌ عنْ معنى القتلِ والانقِتالِ لدى الإله ومؤمِنيه؛ هُو سؤالٌ عن إله «التَّنظيماتِ الجِهاديَّة».

ثَمَّةَ لدى التَّنظيماتِ الإسلامَوِيَّةِ ما يُمكنُ الاصطلاحُ عليه بـ «مَأْسَسَةِ القَتْلِ والانْقِتالِ» باسمِ الإله، حيثُ يأخُذُ البُعْدُ «الجِهاديُّ»، بكُلِّ مُقتضياتِه، حَيِّزًا واسِعًا مِنْ مَشروعِ هذه التَّنظيماتِ. والسُّرْيالِيُّ في الأمرِ أنَّ الإسلامَوِيِّينَ، بمُعظمِهِم، أَوْصَلوا «الأُمَّةَ»، في نِهايةِ المَطافِ، إلى أنْ «تُجاهِدَ» نَفسَها. وفي حينِ أنَّ الشَّبابَ، بحُكمِ مرحلتِهمُ العُمريَّة، يُفترَضُ فيهِم حُبُّ «الدُّنيا» والانفتاحُ علَيْها، نَرَى أنَّ «التَّنظيماتِ الجِهاديَّة» تَضُمُّ عددًا مَهولًا منَ «الشَّبابِ» الجاهزينَ، أو المُجَهَّزِينَ على وجه الدِّقَّةِ، لتَرْكِ الدُّنيا في لحظةِ قَتْلٍ أو انقِتال. وههُنا يتبدَّى سُؤالٌ خطيرٌ عنِ الذي جعلَ هؤلاء الشَّبابَ غيرَ طبيعيِّين إلى هذا الحدِّ!

ليسَ مِنْ بابِ الاختزالِ أو التَّسخيفِ القَوْلُ أنَّ الجَوابَ عن هذا السُّؤالِ، رغمَ تعقيدِه وتَشَعُّبِ مواضيعِه، يُمكنُ أنْ يُقدَّمَ بكلمةٍ واحدةٍ: التَّربية. ولا يَخفى أنَّ أبعدَ النَّاسِ عنِ الموتِ قتلًا هُمْ أولئكَ الشَّياطين، أو «رجالُ الدِّين» بعبارةٍ أُخرى، الذينَ يُرَبُّونَ الشَّبابَ على أنْ يَجعلوا غايَتَهم منَ الدُّنيا الموتَ قَتْلًا في سبيل الإله. ولا يَخفى أنَّ أكثرَ النَّاسِ حَظًّا منَ الدُّنيا هُمْ أولئكَ الذين يُربُّونَ النَّاسَ على ذَمِّ الدُّنيا نفسِها. هذا تمامًا ما يُسمَّى «ثقافةُ الشَّهادةِ»؛ الاسمُ التِّجاريُّ لـ «ثقافةِ الموت» التي تَجعلُ «الشَّهادةَ» غايةً تُرادُ لذاتِها، وليسَ وَسيلةً يُضطَّرُّ إليها المَرْءُ مُكْرَهًا؛ تلكَ الثَّقافةُ التي تجعلُ القِتالَ أصلًا والسَّلامَ فَرْعًا؛ تَجعلُ الحياةَ عَرَضًا والموتَ جَوهَرًا!

يأخُذُني الخَيالُ إلى تَصَوُّرِ الإله الذي يتحدَّثُونَ عنه؛ إلهِ «التَّنظيماتِ الجِهاديَّة»! أراهُ جَالِسًا على كُرسِيٍّ منَ الجماجِمِ والعِظامِ المُكسَّرةِ؛ كُرسيٍّ مُلَطَّخٍ بدَمِ الخليقة! جالِسًا يُصْدِرُ أوامِرَه لزَبانيتِه التي تَضُجُّ حولَه بترانيمِ الإرهابِ والخوف. أراهُ إلهًا يَعبثُ بنَفسِه ويَسخَرُ مِنها. أُحبُّ في تلكَ اللَّحظةِ أنْ أقفَ أمامَه وأقولَ له: «إذًا أيُّها الإله، سَجِّلْ مَعِي: خلَقتَ الكَوْنَ وشَغَلْتَ ملائكتكَ المَسحوقينَ طيلَةَ عَشرِ ملياراتٍ منَ السِّنينِ حتَّى أصبحتِ الأرضُ مُهيَّأةً لاستقبالِ آدم. ثُمَّ أدخلتَ الأرضَ في رحلةٍ لأربعِ ملياراتٍ أُخرى منَ السِّنين حتَّى جاءَ آدمُ إليها. ثُمَّ أرهقتَ ملائكتكَ طيلةَ ثلاثِمئةِ ألفِ سنةٍ بتطويرِ الإنسان حتَّى صارَ على ما هُو عليه الآن. ثُمَّ بعدَ كُلِّ هذا يَكونُ مُرادُكَ مِنَّا أنْ نَجعلَ غايتَنا منَ الحياةِ أن نُقتَلَ في سبيلِك؟ ألا ترضى مثلًا أنْ تكونَ غايتُنا أن نَحيا ونُعمِّرَ الأرضَ ثُمَّ إذا اضطُّرِرْنا للقِتال والانقِتال فإذَّاكَ نُقاتل؟ ألا تنتَشي بغير دمِنا؟! أتدري؟ أنتَ ومُؤمِنيكَ مُثيرونَ للاشمئزاز!». لن أنتظرَ جوابَه. سأحملُ نفسي وخَيالِي وأعودُ إلى أوراقي لأكتُبَ عِبارةً واحدةً فقط: «... وإذْ أنِّي أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإنِّي أشهدُ أيضًا أنَّ اللهَ أكبرُ؛ أكبرُ مِنْ هذا كُلِّه».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي


.. أون سيت - أولاد رزق 3 .. أعلى نسبة إيرادات .. لقاء حصري مع أ




.. الكاتب علي الموسى يروي لسؤال مباشر سيطرة الإخوان المسلمين عل


.. بيت الفنان الليبي علي غانا بطرابلس.. مركز ثقافي وفضاء إبداعي




.. العربية ويكند | جيل بايدن تقود الرئيس بايدن إلى خارج المسرح