الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العصبوية والوسطية والأممية الرابعة

ليون تروتسكي

2024 / 6 / 24
الارشيف الماركسي




إنه لأمر سخيف إنكار وجود النزعات العصبوية بين صفوفنا. فقد كشفت عنها سلسلة كاملة من المناقشات والانقسامات. بل كيف يمكن ألا تظهر بعض عناصر العصبوية بين صفوف حركة أيديولوجية تقف موقف المعارضة العنيدة لكل المنظمات المهيمنة داخل الطبقة العاملة، وتتعرض لحملات اضطهاد وحشية غير مسبوقة على الإطلاق في جميع أنحاء العالم؟ ينتهز الإصلاحيون والوسطيون كل مناسبة لتوجيه أصابع الاتهام إلى “عصبويتنا”؛ لكنهم في أغلب الأحيان لا يستهدفون جانبنا الضعيف، بل يستهدفون جانبنا القوي، أي: موقفنا الجاد تجاه النظرية؛ وجهودنا لسبر أعماق كل وضع سياسي، ورفعنا لشعارات واضحة؛ وعداؤنا للقرارات “السهلة” و”المريحة” التي تنقذنا من الهموم اليوم، لكنها تحضرنا لكارثة في الغد. إن تهمة العصبوية عندما تأتي من عند الانتهازيين، هي في أغلب الأحيان إطراء.


لكن من الغريب أننا كثيرا ما نتهم بالعصبوية ليس فقط من قبل الإصلاحيين والوسطيين، بل ومن قبل الخصوم من “اليسار”، هؤلاء العصبويين سيئي السمعة، الذين يمكن وضعهم كمعروضات في أي متحف. إن أساس عدم رضاهم عنا يكمن في عدم تساهلنا معهم، وفي سعينا الحثيث إلى تطهير أنفسنا من الأمراض العصبوية الطفولية، والارتقاء بأنفسنا إلى مستوى أعلى.

قد يبدو للعقل السطحي أن كلمات مثل عصبوي ووسطيين وما إلى ذلك، هي مجرد تعبيرات جدالية يتبادلها الخصوم لعدم وجود نعوت أخرى أكثر ملاءمة. لكن مفهوم العصبوية، وكذلك مفهوم الوسطية، لهما معنى دقيقا في القاموس الماركسي. لقد بنت الماركسية برنامجا علميا على القوانين التي تحكم حركة المجتمع الرأسمالي، والتي اكتشفتها. وهذا إنجاز هائل! إلا أنه لا يكفي إنشاء برنامج صحيح، إذ من الضروري أن تقبله الطبقة العاملة. لكن العصبوي، بطبيعة الحال، يتوقف عند النصف الأول من المهمة، ويعوض التدخل النشط في النضال الفعلي لجماهير العمال بالدعاية المجردة لبرنامج ماركسي.

النظرة العصبوية إلى المجتمع
يمر كل حزب من أحزاب الطبقة العاملة وكل فصيل من فصائلها، خلال مراحله الأولية بفترة من الدعاية الصرفة، أي فترة تدريب كوادره. إن فترة الوجود كحلقة ماركسية تغرس عادات التعامل المجرد مع مشاكل الحركة العمالية. ومن يعجز عن تجاوز حدود هذا الوجود المحدود في الوقت المناسب يتحول إلى عصبوي محافظ. ينظر العصبوي لحياة المجتمع بوصفها مدرسة كبيرة، هو من يحتل فيها منصب المعلم. وفي رأيه ينبغي للطبقة العاملة أن تضع جانبا قضاياها الأقل أهمية، وتجتمع في صف واحد حول منبره: وعندئذ تكون المهمة قد حلت.

ورغم أنه يقسم بالماركسية في كل جملة، فإن العصبوي هو النفي المباشر للمادية الديالكتيكية التي تتخذ من التجربة نقطة انطلاق لها، وتعود إليها دائما. إن العصبوي لا يفهم علاقة التأثير والتأثر الديالكتيكية بين البرنامج المكتمل وبين النضال الجماهيري الحي، أي النضال الناقص وغير المكتمل. طريقة تفكير العصبوي هي طريقة تفكير عقلاني صوري تنويري. إن العقلانية تكون خلال مرحلة معينة من التطور مسألة تقدمية، حيث تتوجه بالنقد ضد المعتقدات العمياء والخرافات (القرن الثامن عشر!). وتتكرر المرحلة التقدمية للعقلانية في كل حركة تحررية كبرى. لكن العقلانية (الدعاية المجردة) تصبح عاملا رجعيا في اللحظة التي تتوجه فيها ضد الديالكتيك. إن العصبوية معادية للديالكتيك (ليس بالأقوال بل بالفعل) بمعنى أنها تدير ظهرها للتطور الفعلي للطبقة العاملة.

الصيغ الجاهزة
يعيش العصبوي في دائرة من الصيغ الجاهزة. وكقاعدة عامة تمر به الحياة دون أن تلاحظه؛ لكنه بين الحين والآخر يتلقى في أثناء مروره دفعة تجعله يدور 180 درجة حول محوره، وغالبا ما تجعله يستمر في طريقه المستقيم، لكن… في الاتجاه المعاكس. إن الاختلاف الذي يحدث للعصبوي مع الواقع يولد لديه الحاجة إلى جعل صيغه أكثر دقة باستمرار. وهذا يندرج تحت اسم المناقشة. إن المناقشة بالنسبة للماركسيين هي أداة مهمة، لكنها أداة عملية للصراع الطبقي. أما بالنسبة للعصبوي فهي هدف في حد ذاته، لكنه كلما ناقش أكثر كلما أفلتت منه المهام الفعلية. إنه مثل شخص يروي عطشه بالماء المالح؛ فكلما شرب أكثر، كلما زاد عطشه. ومن هنا يأتي الانفعال المستمر الذي يميز العصبوي. من الذي سكب له الملح؟ إنهم “المستسلمون” من السكرتاريا الأممية بالتأكيد. إن العصبوي يعتبر عدوا له كل من يحاول أن يشرح له أن المشاركة الفعالة في حركة العمال تتطلب دراسة مستمرة للظروف الموضوعية، وليس الوقوف المتغطرس فوق منبر العصبوية. ويستبدل العصبوي تحليل الواقع بالمكائد والنميمة والهستيريا.

التوأم والنقيض
إن الوسطية هي، بمعنى ما، النقيض التام للعصبوية؛ فهي تكره الصيغ الدقيقة، وتسعى إلى إيجاد طرق للوصول إلى الواقع بعيدا عن النظرية. لكن وعلى الرغم من صيغة ستالين الشهيرة، فإن “النقيضين” غالبا ما يتبين أنهما… “توأم”. إن الصيغة المنفصلة عن الحياة جوفاء. لا يمكن استيعاب الواقع الحي بدون نظرية. وعلى هذا فإن كلا منهما، العصبوي والوسطي، يغادران في النهاية بأيدٍ فارغة ويلتقيان معا… في شعورهما بالعداء تجاه الماركسي الحقيقي.

كم مرة التقينا بوسطي مغرور يعتبر نفسه “واقعيا” لمجرد أنه ينطلق للسباحة دون أي أمتعة أيديولوجية على الإطلاق وتتلاعب به التيارات المتلاطمة. إنه عاجز عن فهم أن المبادئ ليست عبئا ثقيلا، بل هي طوق نجاة للسباح الثوري. أما العصبوي، من ناحية أخرى، فلا يرغب عموما في السباحة على الإطلاق، حتى لا تبتل مبادئه. إنه يجلس على الشاطئ ويقرأ محاضرات عن الأخلاق في وجه طوفان الصراع الطبقي. ولكن في بعض الأحيان يقفز العصبوي اليائس إلى الماء، ويمسك بالوسطي ويساعده على الغرق. هكذا كان الأمر؛ وهكذا سيكون.

* * *

في عصرنا الحالي، عصر التفكك والتشتت، نجد في مختلف البلدان عددا كبيرا من الحلقات التي اكتسبت برنامجا ماركسيا، عن طريق استعارته، في أغلب الأحيان، من البلاشفة، والتي حولت بعد ذلك أمتعتها الإيديولوجية إلى درجة أكبر أو أقل من التصلب.

دعونا نأخذ، على سبيل المثال، أفضل عينة من هذا النوع، ألا وهي المجموعة البلجيكية بقيادة الرفيق فيريكن. في العاشر من غشت، أعلنت صحيفة سبارتاكوس (Spartakus)، لسان حال هذه المجموعة، انضمامها إلى الأممية الرابعة. كان هذا الإعلان محل ترحيب. لكنه كان من الضروري في الوقت نفسه أن نذكر مسبقا أن الأممية الرابعة سوف تكون محكومة بالهلاك إذا قدمت تنازلات للنزعات العصبوية.

تنبؤات فيريكين
كان فيريكين في الماضي معارضا عنيدا لانضمام الرابطة الشيوعية الفرنسية إلى الحزب الاشتراكي. تلك ليست جريمة: فالمسألة كانت جديدة، والخطوة كانت محفوفة بالمخاطر، وكانت الاختلافات معقولة تماما. مثلما كان معقولا، بمعنى ما، المبالغة في الصراع الإيديولوجي، أو أنه كان حتميا على الأقل. وهكذا تنبأ فيريكين بالخراب الحتمي للمنظمة الأممية للبلاشفة اللينينيين نتيجة “انحلالها” في الأممية الثانية. ونحن ننصح فيريكين بأن يعيد اليوم نشر وثائقه النبوئية التي نشرها في العام الماضي في صحيفة سبارتاكوس. لكن هذا ليس هو الشر الأعظم. فالأسوأ من ذلك هو حقيقة أن صحيفة سبارتاكوس تقتصر في إعلانها الحالي على الإشارة بشكل مراوغ إلى أن الفرع الفرنسي ظل وفيا لمبادئه “إلى حد ما، بل ويمكننا أن نقول، إلى حد كبير”. ولو تصرف فيريكين كما ينبغي للسياسي الماركسي، لكان قد ذكر بوضوح وبشكل قاطع أين انحرف فرعنا الفرنسي عن مبادئه، ولكان قد قدم إجابة مباشرة ومفتوحة على السؤال حول من الذي ثبت أنه على حق: أنصار الانضمام أم معارضوه؟

المركزية الديمقراطية
إن فيريكين مخطئ بشكل أكبر في موقفه من فرعنا البلجيكي الذي انضم إلى حزب العمال الإصلاحي. فبدلا من دراسة التجارب الناتجة عن العمل الذي تم في ظل ظروف جديدة، وانتقاد الخطوات الفعلية المتخذة، إذا كانت تستحق النقد، يواصل فيريكين الشكوى من ظروف المناقشة التي عانى فيها من الهزيمة. لقد كانت المناقشة، كما ترون، غير مكتملة وغير كافية وغير نزيهة: لقد فشل فيريكين في إشباع عطشه بالماء المالح. لا توجد مركزية ديمقراطية “حقيقية” في الرابطة! أما في ما يتعلق بمعارضي الانضمام، فقد أظهرت الرابطة … نزعة “عصبوية”. من الواضح أن الرفيق فيريكين لديه مفهوم ليبرالي وليس ماركسي للعصبوية: ومن الواضح أنه في هذا يقترب من الوسطيين. ليس صحيحا أن المناقشة كانت غير كافية؛ فقد استمرت لعدة أشهر، سواء بشكل شفهي أو من خلال الصحافة، وعلى نطاق أممي بالإضافة إلى ذلك. وبعد أن فشل فيريكين في إقناع الآخرين بأن مراوحة المكان هي أفضل سياسة ثورية، رفض الالتزام بقرارات المنظمات القطرية والأممية. وقد أخبره ممثلو الأغلبية في أكثر من مناسبة أنه إذا أثبتت التجربة أن الخطوة التي اتخذناها كانت خاطئة، فسوف نصحح الخطأ معا. هل من الممكن حقا أنه بعد نضال البلاشفة اللينينيين الذي دام اثني عشر عاما ما زلت تفتقر إلى الثقة الكافية في قدرة منظمتك على الحفاظ على الانضباط في العمل حتى في حالة الخلافات التكتيكية؟ لكن فيريكن لم يعر أي انتباه للحجج الرفاقية والتصالحية. وبعد دخول أغلبية الفرع البلجيكي إلى حزب العمال، وجدت مجموعة فيريكين نفسها بطبيعة الحال خارج صفوفنا. واللوم في هذا يقع بالكامل على عاتقها.

التكيف مع “الشرعية”
إذا عدنا إلى جوهر المسألة، فإن عصبوية الرفيق فيريكين تبرز بكل فظاظتها العقائدية. ما هذا! صاح فيريكين ساخطا، لقد تحدث لينين عن القطيعة مع الإصلاحيين، لكن البلاشفة اللينينيون البلجيكيون يدخلون حزبا إصلاحيا!.. لكن لينين عندما تحدث عن القطيعة مع الإصلاحيين كان يفكر في القطيعة معهم كنتيجة حتمية للنضال ضدهم، وليس كعمل للخلاص بغض النظر عن الزمان والمكان. لقد طالب بالانفصال عن الاشتراكيين الشوفينيين ليس لإنقاذ روحه، بل من أجل انتزاع الجماهير بعيدا عن الاشتراكية الشوفينية. في بلجيكا، تندمج النقابات العمالية مع الحزب، والحزب البلجيكي هو في الأساس الطبقة العاملة المنظمة. من المؤكد أن دخول الثوريين إلى حزب العمال البلجيكي لم يفتح أمامنا الإمكانيات فحسب، بل فرض أيضا قيودا. ففي الدعاية للأفكار الماركسية، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار ليس فقط حدود شرعية الدولة البرجوازية، بل وأيضا حدود شرعية الحزب الإصلاحي (يمكننا أن نضيف أن هاتين الشرعيتين تتطابقان إلى حد كبير). وبصورة عامة، فإن التكيف مع “شرعية” غريبة عن طبقتنا، يحمل معه خطرا لا شك فيه. لكن هذا لم يمنع البلاشفة من استخدام حتى الشرعية القيصرية: فلسنوات عديدة، اضطر البلاشفة إلى تسمية أنفسهم في اجتماعات النقابات العمالية وفي الصحافة القانونية ليس بالاشتراكيين الديمقراطيين، بل “الديمقراطيين المنسجمين”. صحيح أن ذلك لم يمر دون عقاب؛ فقد انضم إلى البلشفية عدد كبير من العناصر الذين كانوا ديمقراطيين حازمين إلى حد ما، لكنهم لم يكونوا اشتراكيين أمميين على الإطلاق؛ ومع ذلك، فإنه من خلال استكمال النشاط القانوني بالنشاط غير القانوني، تمكن البلاشفة من التغلب على الصعوبات. إن “شرعية” فاندرفيلده، ودي مان، وسباك، وغيرهم من أتباع البلوتوقراطية البلجيكية، تفرض بالتأكيد قيودا شديدة القسوة على الماركسيين، وبالتالي تولد المخاطر. لكن الماركسيين، الذين لم يصبحوا بعد أقوياء بما يكفي لإنشاء حزب خاص بهم، لديهم أساليبهم الخاصة في النضال ضد مخاطر قيود الإصلاحيين: امتلاك برنامج واضح، وروابط فصائلية مستمرة، ونقد أممي، إلخ. ولا يمكن الحكم بشكل صحيح على نشاط الجناح الثوري داخل الحزب الإصلاحي إلا من خلال تقييم ديناميات التطور. لكن فيريكين لا يفعل هذا لا مع فصيل العمل الاشتراكي الثوري [الجناح اليساري داخل حزب العمال البلجيكي][2]، أو مجموعة Verité . لو أنه فعل ذلك، لكان مضطرا إلى الاعتراف بأن فصيل العمل الاشتراكي الثوري قد حقق تطورا جديا إلى الأمام في الفترة الأخيرة. من المستحيل حتى الآن التنبؤ بالنتيجة النهائية. لكن الدخول في حزب العمال البلجيكي مبرر بالفعل بالتجربة.

المناقشة كعقيدة
في سياق توسيعه لخطأه وتعميمه، يؤكد فيريكين أن وجود مجموعات صغيرة معزولة انفصلت في مراحل مختلفة عن منظمتنا الأممية هو دليل على أن أساليبنا عصبوية. وهكذا فإن العلاقات الفعلية صارت تقف على رأسها. في الواقع، لقد دخل إلى صفوف البلاشفة اللينينيين خلال المراحل الأولية عدد كبير من العناصر اللاسلطوية والفردانية غير القادرة عموما على الانضباط التنظيمي، وأحيانا مجرد أناس فاشلين لم ينجحوا في حياتهم المهنية داخل الكومنترن. لقد نظرت تلك العناصر إلى النضال ضد “البيروقراطية” بالطريقة التالية تقريبا: يجب عدم التوصل إلى أي قرارات على الإطلاق، وبدلا من ذلك، يجب تثبيت “المناقشة” كنشاط دائم. يمكننا أن نقول بكل ثقة إن البلاشفة اللينينيين قد أظهروا قدرا كبيرا، وربما حتى قدرا أكبر مما يجب، من الصبر تجاه مثل تلك الأنواع من الأفراد والمجموعات الصغيرة. ولم يبدأ النمو الفعلي والمنهجي لمنظمتنا الأممية إلا عندما تم توطيد النواة الأممية التي بدأت في مساعدة الفروع القطرية في تطهير صفوفها من عوامل التخريب الداخلي.

ولنأخذ بعض الأمثلة عن المجموعات التي انفصلت عن منظمتنا الأممية في مراحل مختلفة من تطورها.

مثال غريب
إن الصحيفة الفرنسية Que Faire هي عينة مفيدة لمزيج من العصبوية والانتقائية. ففي القضايا الأكثر أهمية، تشرح هذه الدورية آراء البلاشفة اللينينيين، مع تغيير بعض الفواصل، وتوجه ملاحظات انتقادية شديدة إلينا. وفي الوقت نفسه، تسمح هذه الدورية بالدفاع عن القمامة الاشتراكية الشوفينيين، تحت ستار النقاش، وتحت غطاء “الدفاع عن الاتحاد السوفياتي”. إن الأمميين في Que Faire هم أنفسهم غير قادرين على تفسير كيف ولماذا صاروا، بعد انفصالهم عن البلاشفة، يتعايشون بسلام مع الاشتراكيين الشوفينيين. لكن من الواضح أن Que Faire، مع مثل هذه الانتقائية، هي الأقل قدرة على الإجابة على سؤال “ما العمل؟” (Que Faire). إن “الأمميين” والاشتراكيين الشوفينيين يتفقون على شيء واحد فقط وهو: عدم الانضمام إلى الأممية الرابعة! لماذا؟ لأنه لا ينبغي للمرء أن “ينفصل” عن العمال الشيوعيين. لقد سمعنا حجة الخلاص الذاتي من جانب حزب العمل الاشتراكي: لا ينبغي لنا أن ننفصل عن العمال الاشتراكيين الديمقراطيين. وفي هذه الحالة أيضا، يتحول النقيضان إلى توأمين. لكن الشيء الغريب هو أن Que Faire غير مرتبطة، ولا يمكن لها، بحكم طبيعتها، أن ترتبط بأي عمال.

وهناك القليل مما يمكن قوله عن مثل هذه المجموعات مثل ” Internationale” أو ” Proletaire”. فهي تنقل أيضا آراءها من آخر أعداد “La Verité“، مع مزيج من الارتجالات النقدية. وهي لا تملك أية منظورات للنمو الثوري؛ لكنها تحاول الاستمرار دون امتلاك منظورات. وبدلا من محاولة التعلم في إطار منظمة أكثر جدية (لأن التعلم أمر صعب)، فإن هؤلاء “القادة” الأدعياء الذين يكرهون الانضباط، يرغبون في تعليم الطبقة العاملة (فهذا يبدو لهم أسهل). وفي لحظات التأمل الرصين، يتعين عليهم أن يدركوا بأنفسهم أن وجودهم كمنظمات “مستقلة” هو مجرد سوء فهم.

فيلد ووايزبورد
في الولايات المتحدة، قد نذكر مجموعة فيلد ومجموعة وايزبورد. إن فيلد -في كل تكوينه السياسي- هو راديكالي برجوازي تبنى بعض الأفكار الاقتصادية الماركسية. كان على فيلد لكي يصبح ثوريا، أن يعمل لسنوات عديدة كجندي منضبط داخل منظمة بروليتارية ثورية؛ لكنه بدأ باتخاذ قرار بإنشاء حركة عمالية “خاصة به”. “وباتخاذه موقفا على “يسارنا” (وهذا حتمي) سرعان ما دخل فيلد في علاقات أخوية مع حزب العمل الاشتراكي. وهكذا كما نرى فإن الحادثة الطريفة التي وقعت لباور لم تكن عرضية على الإطلاق. فالرغبة في الوقوف على يسار الماركسية تؤدي بشكل حتمي إلى مستنقع الوسطية.

أما وايزبورد فهو أقرب بلا شك من فيلد إلى النمط الثوري. ولكنه في الوقت نفسه يمثل النموذج الأكثر نقاء للعصبوي. فهو عاجز تماما عن الحفاظ على النظرة النسبية سواء في الأفكار أو في الأفعال. إنه يحول كل مبدأ إلى كاريكاتير عصبوي. وهذا هو السبب في أن حتى الأفكار الصحيحة تتحول بين يديه إلى أدوات لتخريب صفوف منظمته.

ليست هناك حاجة إلى التطرق إلى مجموعات مماثلة في بلدان أخرى. لقد انفصلوا عنا ليس لأننا لا نتسامح أو لا نحتمل، بل لأنهم أنفسهم لم يتقدموا ولم يكن في مقدورهم أن يتقدموا. ومنذ أن حدث الانقسام لم ينجحوا إلا في فضح عجزهم. ولم تسفر محاولاتهم للاتحاد مع بعضهم البعض، على المستوى القطري أو الأممي، عن أي نتائج على الإطلاق: إن ما يميز العصبوية هو فقط قوة التنافر وليس قوة الجذب.

لقد قام أحد الحمقى بحساب عدد “الانقسامات” التي شهدناها وتوصل إلى مجموعها الذي بلغ نحو عشرين. وقد رأى في ذلك دليلا قاطعا على نظامنا الفاسد. لكن الشيء الغريب هو أن حزب العمل الاشتراكي نفسه، الذي نشر بابتهاج هذه الإحصائيات، قد شهد خلال السنوات القليلة من وجوده انقسامات وانشقاقات أكثر مما حدث في كل فروعنا مجتمعة. لكن هذه الحقيقة لا معنى لها إذا ما أخذناها بشكل منعزل. فمن الضروري ألا نأخذ في الاعتبار الإحصاءات المجردة للانقسامات، بل أن ننظر إلى ديالكتيك التطور. فبعد كل انقساماته، بقي حزب العمل الاشتراكي منظمة غير متجانسة إلى حد كبير، ولن تتمكن من الصمود أمام أول اندلاع للأحداث الكبرى. وهذا ينطبق بدرجة أكبر على “مكتب لندن للوحدة الاشتراكية الثورية” الذي تمزقه التناقضات المستعصية: إن مستقبله لن يتألف من “الوحدة”، بل من الانقسامات فقط. بينما منظمة البلاشفة اللينينيين لم تتمكن فقط من أن تنمو عدديا فحسب، بل عززت روابطها الأممية أيضا، بعد تطهير نفسها من النزعات العصبوية والوسطية، بل ووجدت أيضا طريق الاندماج مع منظمات شبيهة لها في الروح (هولندا، الولايات المتحدة). ولم تؤد المحاولات الرامية إلى تفجير الحزب الهولندي (من اليمين، من خلال مولينار!) والحزب الأميركي (من اليسار، من خلال باور!) إلا إلى تعزيز هذين الحزبين داخليا. ويمكننا أن نتوقع بثقة أنه بالتوازي مع تفكك مكتب لندن سوف يحدث نمو أسرع على نحو متزايد لمنظمات الأممية الرابعة.

الطريق نحو الأممية الجديدة
لا أحد يستطيع أن يتنبأ اليوم بكيفية تشكل الأممية الجديدة، والمراحل التي سوف تمر بها، والشكل النهائي الذي سوف تتخذه؛ والواقع أنه ليست هناك حاجة إلى القيام بذلك: فالأحداث التاريخية سوف تظهر ذلك. لكنه من الضروري أن نبدأ بإعلان برنامج يفي بمهام عصرنا. وعلى أساس ذلك البرنامج من الضروري تجميع رفاق الفكر، قادة الأممية الجديدة. لا وجود لأي سبيل آخر.

إن البيان الشيوعي لماركس وإنجلز، الذي هاجم بشكل مباشر كل أشكال الاشتراكية الطوباوية العصبوية، يؤكد بقوة على أن الشيوعيين لا يقفون في مواجهة الحركات العمالية كما هي موجودة في الواقع، بل يشاركون فيها باعتبارهم طليعة. وفي الوقت نفسه كان البيان برنامج حزب جديد، على الصعيدين القطري والأممي. ينظر العصبوي إلى البرنامج باعتباره وصفة للخلاص. في حين يسترشد الوسطي بالصيغة الشهيرة (التي لا معنى لها من حيث الجوهر) لإدوارد بيرنشتاين: “الحركة هي كل شيء؛ والهدف النهائي لا شيء”. بينما يستقي الماركسي برنامجه العلمي من الحركة ككل، من أجل أن يطبق هذا البرنامج على كل مرحلة ملموسة من مراحل تطور الحركة.

الصعوبات الأولية
من ناحية، تصبح الخطوات الأولية للأممية الجديدة أكثر صعوبة بسبب المنظمات القديمة والانشقاقات عنها، ومن ناحية أخرى، تسهلها الخبرة الهائلة التي تراكمت في الماضي. إن سيرورة التبلور التي كانت صعبة للغاية ومليئة بالعذابات خلال المراحل الأولى، سوف تتخذ في المستقبل طابعا متوهجا وسريعا. إن الأحداث العالمية الأخيرة لها أهمية حاسمة لتشكيل الطليعة الثورية. لقد “ساعد” موسوليني بطريقته الخاصة -وهذا أمر يجب الاعتراف به- قضية الأممية الرابعة. إن الصراعات الكبرى تكتسح كل ما هو وسطي ومصطنع، وتمنح، من ناحية أخرى، القوة لكل ما هو قابل للحياة. إن الحرب لا تترك المجال إلا لاتجاهين داخل صفوف حركة الطبقة العاملة: الاشتراكية الشوفينية التي لا تتوقف عند أي خيانة، والأممية الثورية الجريئة والقادرة على الذهاب إلى النهاية. ولهذا السبب على وجه التحديد، يخوض الوسطيون، الخائفون من الأحداث الوشيكة، صراعا محموما ضد الأممية الرابعة. إنهم محقون بطريقتهم الخاصة: ففي أعقاب الاضطرابات الكبرى، لن يكون قادرا على البقاء والتطور سوى تلك المنظمة التي لم تكتف فقط بتطهير صفوفها من العصبوية، بل دربت أعضاءها بشكل منهجي على روح احتقار كل تردد إيديولوجي وكل جبن.

ليون تروتسكي

22 أكتوبر 1935

ترجمة هيئة تحرير ماركسي

هوامش:

[1] ترجمة من طرف هيئة تحرير موقع ماركسي، نقلا عن النص الإنجليزي المتوفر على أرشيف الماركسيين على الانترنت، تحت عنوان:
Sectarianism, Centrism and the Fourth International

[2] ملاحظة من الناشر

ترجم عن “أرشيف الماركسيين”:

Sectarianism, Centrism and the Fourth International








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الإسرائيلية تصد متظاهرين يطالبون الحكومة بعودة المحتج


.. اشتباكات عنيفة بين قوات من الجيش الإسرائيلي وعناصر من الفصائ




.. اقتصاد فرنسا رهين نتائج الانتخابات.. و-اليمين المتطرف- يتصدر


.. كيف نجح اليمين المتطرف في أن يصبح لاعبا أساسيا في الحياة الس




.. الشرطة الكينية تطلق الغاز المسيل للدموع على مجموعات صغيرة من