الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمريكا بلد الفرص -الكذبة الثانية -حريّة التنظيم

قاسم هادي

2024 / 6 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


لقد ارتبط النشاط النقابي بنشاط سياسي شديد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لكن نشاط الرأسماليين والمبالغ التي صرفت في هذا المجال كانت من السعة والحجم كافية إلى تحويل تلك النقابات إلى مكاتب إدارية وصراع عمالي-عمالي في كثير من المنعطفات السياسية والاقتصادية التي ضربت أمريكا في القرنين اللذين تبعاها وكانت فيهما فرصة استلام العمال للسلطة واردة بشكل كبير وممكنة بدرجة عالية. في الكثير من التعريفات الماركسية للنقابة العمالية أنها لا تتجاوز حدود المطالبة بتحسين ظروف العمل والقدرة المعيشية لكن سيطرة التيار اليساري على النقابات جعلها، خصوصا في فترة إنشائها وما عقبها إلى اوائل القرن العشرين جعلها سلاح سياسي فعال ومقتدر بيد العمال، الّا أن التجربة السوفيتية والحربين العالميتين ونشاط الرأسمالية في أمريكا حال دون تحولها إلى حزب شيوعي طليعي مقتدر. بالرغم من اهمية التنظيم النقابي واهمية وجوده وتوسعه واقتداره للتأثير في المنعطفات السياسية وتأمين المستوى المعيشي للعمال لكنه يبقى قاصرا بدون تنظيم سياسي، ارجو هنا فقط تسليط الضوء على التجربة النقابيّة وما آلت اليه وتحت اي تأثيرات وليست دراسة بحثية لأنني قد لا أحيط بكل التجربة الغنيّة بالمنجزات.

سأتخذ عمال البريد مثالا لثلاث اسباب، الاول ان شركة البريد هي أكبر شركة عاملة في أمريكا(هي ثاني أكبر شركة حاليا) من حيث سعة الخدمات وعدد العمال، السبب الثاني ان نشاط نقابة عمال البريد هو الأكثر تنظيما وتأثيرا وهي من تمتلك عصب الحياة لدولة بدأت الاتصالات فيها تشكل شريان نموها، اما السبب الثالث والاهم هو ان نقابة عمال البريد وقطاع البريد بالكامل تلقى اكبر ضربة سياسية في تاريخ النشاط النقابي. فبالرغم من تجزئة القطاع البريدي وبيع أجزاءه للقطاع الخاص التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر إلا ان النشاط النقابي والقدرة التنظيمية استمرت لتضعه في المراتب الأولى مقارنة بنشاط نقابات القطاعات الأخرى وتكمن أهميته الكبيرة انه النقابة الوحيدة الفاعلة داخل مؤسسات الدولة لان القطاع الوحيد الذي أبقت الدولة ملكيته لها هو قطاع البريد(كان يشمل قطاع الاتصالات والشحن ايضا). في العام 1974 كان العام الحاسم لمقتل هذا الاتحاد حيث ان الإضراب الكبير لعمال البريد في آذار والذي التحق فيه اضراب عمال النقل والشحن بعد اقل من ثلاثة اسابيع شلّ البلاد بالكامل وكانت مطالب الإضراب تشتمل على 15 فقرة متعلقة بالأجور وقوانين الطرد وبيع المؤسسات التابعة، وحين قدم الوفد الحكومي للتفاوض مع المجلس الأعلى للاتحاد قدم له عرضا مغريا جدا منقوعا بالسم، حيث عرض الوفد الحكومي الموافقة على 13 مطلب من المطالب ال 15 بشرط توقيع مجلس الاتحاد باغلبيته تعهد بعدم الدعوة او اللجوء للإضراب او مساندة اضراب اي قطاع آخر واعتباره جرما فرديا. بالرغم انه كان انجازا بتحقيق غالبية المطالب الّا انه كان يعني تسليم الاتحاد أسلحته للدولة فما تعني الحركة او التأثير العمالي بدون اضراب؟.

ان الفرص الكثيرة التي كانت متاحة لفرض الحركة العمالية نفسها على الساحة السياسية إذا لم نقل الاستيلاء على السلطة كانت كثيرة، ازمة 1929، نهاية الستينات حين لم تستطع الحكومة تبرير حرب ڤيتنام او خسارتها، النكبات الاقتصادية المتتالية وانتهاءا بازمة 2008 ثم ازمة كورونا،، كل هذه الأزمات اثبتت عدم جودة بل ونجاح النظام في تهميش الحركة العمالية بنقاباتها وتياراتها السياسية المختلفة واثبتت تحولها إلى صالونات ومكاتب ادارية. واحدة من ارخص وابشع الوسائل هو دق الإسفين بيت النقابات أنفسها فنقابة عمال المناجم ونقابة عمال الحديد والصلب كانت من النقابات الفاعلة إلا ان الشركات الكبرى منحت عمال الحديد امتيازات اكبر ومنحت اعضاء اتحادها مخصصات مالية كبيرة جعلت من الصعب التصديق ان عمال الحديد والصلب قد يدافعون عن عمال المناجم هذا الفصل والدعاية الإعلامية حول رواتب عمال الحديد التي قد تصل إلى عشرة اضعاف رواتب عمال المناجم جعلت العمل المشترك والمساندة في الإضراب والاحتجاجات بين الاتحادين حالة شبه مستحيلة، فيما ساهمت اسباب اخرى كالاغتيالات والرشاوى والحملات القومية لسلسلة الحروب والدعاية السياسية ضد الشيوعيين إلى تفتيت تلك الصلات السياسية بين النقابات من جهة والضعف السياسي والصراع الاجتماعي داخل الاتحاد الواحد.

كان هنالك عامل اجتماعي مهم يعمل بهدوء بالخفاء، بني هذا العامل على تركيز الرأسمالية على دراسة التيار اليساري بشكل عام داخل امريكا وحيث ان اليسار لن يكتمل بناءه بدون الاجتماع العام والذي يبنى عليه التنظيم، لذا فان التركيز مختبريا واعلاميا وأكاديميا على اهمية الفردية (الإنفرادية او الفردانية) كان يجري على قدم وساق وتم التركيز عليه في التعليم العام مبتدءا برياض الأطفال. ان تقديس الفردية واعتبارها نهاية الشرور والسعادة الأبدية لما تتضمنه التنظيمات المختلفة بالتجاوز على حدود الفردية واعتبارها جريمة اجتماعية كانت البنية البديلة التي تقترحها الرأسمالية ليس لاهتمامها بالفرد او خصوصيته وهي التي تقتله كل يوم وتعتصره في سوق العمل حد الجزع بل لانها ترى في اي تجمع او تنظيم مصدر تهديد لوجودها وقد نجحت في تعميق تلك الفردية وتأليهها وفرضها على الوجدان الاجتماعي ليقبل قدسيتها وقد فعل. وفي المراحل المتقدمة من هذا الوهم المصنع مختبريا صار غالبية الأفراد يرون حريتهم وسلامتهم تكمن في التركيز على انفسهم وحماية استقلالهم الفردي وبالتالي تترجم إلى الانعزال عن المجتمع هو حرية بحد ذاته، اما اللقاءات الاجتماعية فهي ليست اكثر من الحصول على السعادة الشخصية فان لم يتحقق ذلك فلتغرب تلك التجمعات عن وجهي. أنا بشكل شخصي ارى كل ذلك مهم لكل شخص ولكن كل المفهوم الاجتماعي وكل تلك العلاقات الإنسانية القائمة على مبدأ العمل معا لمستقبل افضل تم نسفها داخل مفهوم الفردية المظلل.

لا انكر ان النشاط العمالي بشكل عام والتنظيمي بشكل خاص يأخذ منحى آخر منذ ازمة 2008 ولحد الآن معتمدا على الوعي السياسي والتخلص من وهم العدو الأكبر في المرحلة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي وتكشير الرأسمالية عن انيابها بشكل واضح وهجومها غير المبرر على كل منجزات الحركة العمالية والحركة الاحتجاجية وقرارات الغاء وتقليص كل القرارات الحكومية التي تم تبنيها في فترة الحرب الباردة والدعاية لدولة الرفاه وفترة قوّة تاثير الحركة الاحتجاجية والعمالية في مطلع القرن العشرين إلى ابعد من منتصفه بقليل. الّا ان الحركة الاحتجاجية الجماهيرية او الحركة العمالية بشكلها التنظيمي الهرمي والنقابي لايمكن ان يشكل سلاحا خطرا على وجود النظام ولايمكن ان يكون ابعد من تأثير خفض معدلات الربح والضغط الاقتصادي والإعلامي والذي من الممكن تجاوزه بالتنازل عن جزء قليل من ارباح الرأسمالية او وعد حكومي بالإصلاح تحقق او لم يتحقق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا تقر قانونا لتسهيل طرد مؤيدي الجرائم الإرهابية | الأخ


.. أردوغان لا يستبعد عقد اجتماع مع الأسد: هل اقتربت المصالحة؟




.. قراءة ميدانية.. معارك ضارية وقصف عنيف على حي الشجاعية بمدينة


.. -من الصعب مناقشة كاذب-.. هكذا علق بايدن على -التنحي- | #عاجل




.. -لكمات- بين بايدن وترامب .. والأميركيون في مأزق ! | #التاسعة