الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو مشروع إنساني بديل

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2024 / 6 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


ان الأنظمة السائدة في عالم اليوم، ومنه العالم الإسلامي، يغلب عليها طابع الإستبداد بكل أشكاله، فنجد إحتكار فئة محدودة للسلطة والقرار داخل الدولة وللثروة في المجال الإقتصادي والإجتماعي، كما نجد إستبدادا فكريا وثقافيا ودينيا بالسيطرة على المدرسة والمؤسسات التربوية والدينية وإحتكار وسائل الإعلام، ويبدو أن البعض من الفئات قد وعت بهذا الإستبداد، إلا أنها عاجزة عن طرح الحلول العملية والمؤسساتية للتحرر منه نهائيا بدل إعادة إنتاجه تحت غطاءات شتى كالقومية والوطنية والإشتراكية واللبيرالية والإسلام وغيرها من الأفكار والمشاريع التي جربت كلها في بلداننا إلا أنها أبقتها في التخلف، وكبلت الشعوب في الإستبداد أكثر كلما أعتقدت هذه الشعوب المسكينة أنها ستتحرر منه .
وكثيرا ما تلجأ هذه الشعوب في بلداننا الإسلامية-خاصة في العقود الأخيرة- إلى ما تطرحه بعض القوى السياسية والأيديولوجية من بدائل، والتي تدعي أنها تستمد مشروعها من المرجعية الإسلامية، ولا تدري هذه الشعوب أن ما تطرحه أغلب هذه القوى هو مجرد إعادة وتكرار لإٌستبداد أشد وأنكى، لأنه مغلف بالدين، وتتخذه لباسا وغطاءا لفرض إستبدادها وأخذ مكان المستبدين السابقين، ويقود الكثير من هذه المشاريع المطروحة ممن يعتبرون أنفسهم أنهم أوصياء على الدين وضمائر الناس، ويضيفون بتصرفاتهم تلك إستبدادا دينيا إلى الإستبداد السياسي والإقتصادي السائد من قبل، ويعرقلون في غالب الأحيان التقدم وحرية الفكر والإبداع، ويحولون الدين إلى مشكلة وعامل تفتيت وزرع للإضطراب في بلداننا بدل أن يكون عامل إستقرار ووحدة وتماسك وإنسجام، وأكثر من هذا فإن هؤلاء الأوصياء الجدد يسجنون المسلم في تراث الماضي وأثقاله التاريخية السلبية المثيرة للطائفية بدل النظر إلى المستقبل، كما يسجنه أيضا البعض من المعادين لأصحاب هذه الطروحات في التراث الأوروبي .
أليس ما يهدد البلدان الإسلامية اليوم من فتنة طائفية بين من يسمون أنفسهم بأهل السنة والذين يسمون أنفسهم بالشيعة هو مجرد صراع تاريخي وقع منذ أكثر من أربعة عشر قرنا حول السلطة بسبب عدم وجود ميكانيزمات عملية لحل هذه المشكلة العويصة سلميا كما حلتها أوروبا بأنظمتها الديمقراطية ؟، ولازالت مشكلة السلطة مستمرة عندنا إلى حد اليوم، وقد حاولنا في كتابنا "النظام البديل للإستبداد –تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع- " إيجاد حل نهائي لها، خاصة في الفصل الخامس منه .
فما دخلنا نحن اليوم في هذا الصراع السياسي القديم بين أنصار علي بن أبي طالب وأنصار معاوية بن أبي سفيان الذي أتخذ طابعا وغطاءا دينيا، أليس من الأجدر بنا أن نبقيه تاريخا نتعظ به وكفى، وننظر إلى واقعنا ومستقبلنا بدل الجدال العقيم في قضايا وأمور قد تجاوزها الزمن ولافائدة ترجى من طرحها، وأكثر من هذا لماذا يستحضر المسلمون دائما هذا الماضي الديني والتاريخي المثقل عند مواجهة مشاكل الحاضر؟، أليس ذلك بسبب طغيان الخطاب الديني المتخلف والمنحط على عقل المسلم، والذي يسوقه الكثير من هؤلاء الأوصياء على الدين، والذي أصبح يلعب دورا سلبيا في حياتنا ومستقبلنا ؟، ألم يحن الوقت لتحرير المسلم من هؤلاء الأوصياء الذين يستغلون الدين ويأولونه حسب نزواتهم ومدى علاقتهم بالسلطة السائدة، ويقومون بذلك كله بدعوى أنهم يمتلكون علم الدين ويسمون أنفسهم ب"علماء الدين" ؟، ألم يتخذ البعض من المسلمين اليوم الكثير ممن يسمون أنفسهم بعلماء الدين أربابا من دون الله يحرمون، ويحللون لهم حسب نزواتهم، شأنهم في ذلك شأن البعض من اليهود والنصارى الذين حط القرآن الكريم من شأنهم لأنهم " أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أريايا من دون الله" ؟، ألم يحن الوقت للقضاء على أي وساطة بين المسلم وبين النص القرآني والتخلص من إحتكار أي كان لتأويل النص الديني كما فعل البروتستانت الذين قضوا على وساطة البابا بين الإنسان المسيحي والإنجيل في القرن السادس عشر؟، ألم يحن الوقت لإيعاد الدين عن النقاش والصراع السياسي والإبقاء فقط على الإستلهام من قيمه وأخلاقه ومبادئه الكبرى وعدم تجاوز الحدود أو المحرمات التي نص عليها القرآن الكريم صراحة والعمل في إطار هذه المباديء الكبرى دون أي تضييق على الفرد والمجتمع، مما يسمح للمسلمين دخول الحداثة دون أن يتخلوا عن دينهم وهويتهم الحضارية.
فما يمنع المسلم المعاصر أن يعيش مثل الأمريكي أو الأوروبي مثلا دون أن يتخلى عن عبادته لله وأركان وأخلاق الإسلام ودون أن يتجاوز حدود الله ويرتكب المحرمات الصريحة التي نص عليها القرآن الكريم، فما يمنع المسلم المعاصر أن يستلهم الحل لمشكلة التوفيق بين الإسلام والحداثة من الحل الذي طرحته الثورة الجزائرية التي قالت في بيان أول نوفمبر 1954 "إقامة دولة ديمقراطية وإجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المباديء الإسلامية"، أي بمعنى أن نعيش في إطار تلك المباديء الكبرى المنصوص عليها في القرآن الكريم، وهذا ليس معناه النظر في كل قضية هل هي حلال أم حرام، لأن ذلك هو التضييق بعينه وإدخالنا في نقاشات عقيمة لا معنى لها، وندور في حلقة مفرغة، بل أكثر من هذا يضيق المسلمون على دينهم مثلما ضيق بني إسرائيل على أنفسهم عندما أمروا بذبح البقرة، لكن للأسف يكرر الأوصياء على الدين ممن يسمون أنفسهم ب"العلماء" هذا المشهد القرآني يوميا علينا بتضييقهم على الإنسان المسلم وتحريم أشياء ما قال بها الله من السلطان، ووجدوا آذانا صاغية لها بسبب الجهل، فعرقلوا المسلمين من دخول الحداثة، فكرسوا فيهم التخلف والإستبداد بشكل أكبر ومركب .
ويبدو أنه قد غاب عن الكثير من أصحاب مختلف الطروحات السائدة عندنا بأن الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر بكل أشكاله تغلب عليه سمة العجز وعدم القدرة على الخروج من السجن الذي وضع فيه، فإما أن تجده فكرا يكاد لا يخرج عن اجترار التراث الإسلامي القديم أو نقل ما أنجزه الفكر الأوروبي في عصر التنوير. علينا الإشارة قبل مواصلة طرحنا بأن ما نقصده بالفكر الإسلامي هو كل ما أنتجه عقل المسلم في الماضي والحاضر إتطلاقا من تفاعله مع العلوم وسنن الكون والواقع ومباديء الإسلام التي يتضمنها القرآن الكريم، ومادام الفكر هو مجرد إجتهاد، فإنه معرض للخطأ والصواب. وللأسف لم يستطع هذا الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر تجاوز هذين التراثين الفكريين، أو بالأحرى السجنين اللذين وضع نفسه فيهما إلى مرحلة جديدة هي مرحلة الإبداع الفكري بعد نقد التراث الفكري الإسلامي والتراث الفكري الأوروبي مثلما فعل الأوروبيون بعد عصر النهضة مع التراث الإغريقي الروماني والفكر الإسلامي.
ونلاحظ عجز مفكرينا عن الإبداع من خلال محاولة رواد النهضة الإسلامية الأوائل، خاصة المصلحين منهم أن يعطوا ما أبدعه الأوروبيون في عصر التنوير من مبادئ وأفكار ونظم ومناهج صبغة إسلامية، وهذا ما يتجلى لنا من خلال كتابات رفاعة الطهطاوي الذي انبهر بالغرب، وكذلك خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف الذين قالوا أن النظام السياسي الديمقراطي في أوروبا هو النظام السياسي الإسلامي، وينطبق نفس الأمر على محمد عبده وجمال الدين الأفغاني... وغيرهما، وبعد عقود من الزمن يأتي عبد القادر عودة، فيكرر نفس المؤسسات والتنظيمات الديمقراطية في الغرب عندما حاول التأسيس لنظام سياسي إسلامي، وأما مصطفى السباعي فقال باشتراكية الإسلام في وقت برزت فيه بوضوح الفكرة الاشتراكية كموضة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وكأن مفكرينا عاجزون عن الإبداع، فاكتفوا بنقل ما أبدعته أوروبا من أفكار ونظم وإعطائها صيغة إسلامية أو ما يسمى اليوم بالتأصيل .
لسنا في الواقع ضد نقل ما أبدعه الآخرون، بل نراه واجبا ما دامت الحكمة ضالة المؤمن كما قال رسول الله (ص)، لكن ما أردنا قوله هو نقد ما يوجد عند هؤلاء، بالإضافة إلى نقد تراثنا نقدا علميا وموضوعيا ثم محاولة الاجتهاد لإبداع أفضل مما عند الآخرين بدل التراوح بين حدين أو اختيارين، ثم الاكتفاء بالتساؤل: هل النظام الاقتصادي في الإسلام اشتراكي أم رأسمالي؟ وهل النظام السياسي في الإسلام ديمقراطي أم ديكتاتوري؟، وكأنه محكوما علينا بالولوج في هذا النقاش الذي حدد لنا الاختيار مسبقا بدل الاجتهاد والإبداع .

ونتساءل إن كان هناك عصر النهضة الإسلامية الذي تميز بإحياء التراث الفكري الإسلامي ونقل التراث الفكري الأوروبي، فمتى سيكون لنا عصر العقل والتنوير الإسلامي أين نبدع من خلال نقد التراثين أفكارا وأنظمة ومؤسسات ومناهج جديدة نابعة من قيمنا، فلماذا لم ينتج الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر مفكرين أمثال روسو ومونتسيكو وماركس وآدم سميث... وغيرهم من المفكرين الأوروبيين الذين أبدعوا في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي. ولم يكتفو باجترار التراث الإغريقي-الروماني أو نقل ما كان لدى المفكرين المسلمين الأوائل.
إنه من الضروري اليوم إخراج الفكر الإسلامي المعاصر من النقاش العقيم والدوران في الحلقة المفرغة وجدلية طريق التقدم، إذا ما كان بالاقتداء بالغرب أو بالعودة إلى التراث الإسلامي؟ .
نحتاج اليوم إلى طرح نقاش جدي داخل العالم الإسلامي يتعلق بكيفية الخروج من الإستبداد والتخلف الذي يبدو أنه النقاش الذي لا بد أن يأخذ اهتماما أكبر بدل النقاشات التي سادت خاصة في السنوات الأخيرة، والتي يغلب عليها الطابع التراثي إن لم نقل الوهمي، بالإضافة إلى سجال إيديولوجي بين دعاة التغريب ودعاة التراث الذي يوصلنا إلى طريق مسدود إن لم نقل الاقتتال.
ويجب ان نضع في الحسبان لذلك ما لاحظناه من صعود السياسيين واحتكارهم صياغة مختلف المشاريع الحضارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كثيرا ما يخضعونها للديماغوجية ولأهداف سلطوية بعيدة عن الواقعية مقابل تغييب المفكرين والمثقفين عن مهمتهم الأساسية، وهي التنظيم والتفكير العميق وصياغة المشاريع الحضارية الكبرى، فيتحولوا بذلك إلى مرجعيات للأحزاب والتيارات السياسية بدل أن يكون العكس، دون أن ننسى الإشارة إلى أن للمثقف والمفكر مسؤولية في هذا التهميش لأنه أراد العيش في برجه العاجي بعيدا عن واقع الجماهير وانشغالاتها اليومية، فترك المجال للسياسيين الذين من الصعب عليهم القيام بهذه المهمة مهما أوتوا من فكر ونظر عميقين، لأن السياسي تغلب عليه الحركة، فتشغله وتعرقله عن التنظير وإنتاج الأفكار عكس المفكر، ولهذا فإننا ندعو إلى تكامل بين الطرفين أو ما يمكن تسميته بالتكامل بين رجال الحركة ورجال الفكر والتنظير.

إننا في أمس الحاجة اليوم إلى إعادة طرح الإشكالية التي طرحت في عصر النهضة منذ أكثر من قرن، وهي كيف نخرج العالم الإسلامي من الإستبداد والتخلف الحضاري، لكن يجب علينا اليوم أن نخرج من ذلك الصراع المدمر بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة الذي عرفته منطقتنا منذ بدايات عصر النهضة في القرن19 إلى اليوم، و بعبارة أخرى التخلص النهائي من ذلك الصراع بين ما نسميهم بدعاة الاغتراب مكانا ودعاة الاغتراب زمانا، أو بين دعاة الاندماج في الرأسمالية العالمية ودعاة الانغلاق على الذات أو الماضوية إن صح التعبير.
وهذا ليس معناه أننا نهمل هذا التراث الفكري سواء أكان إسلاميا أو أوروبيا، بل ندعو إلى ضرورة نقده نقدا موضوعيا وعلميا وتحرير الإنسان المسلم منهما، ومن كل من يتستر وراءهما لإبقاء سيطرته وهيمنته على ضمير الإنسان، ومن هؤلاء الكثير ممن يعتبرون أنفسهم أنهم أوصياء على الدين، والانطلاق من خلال ذلك كله إلى إيداع فكر جديد ينبع من روح شعوبنا، فينسجم معها ويحل مشاكلها وعلى رأسها مشكلة الإستبداد بكل أشكاله وإشكالية التخلف والتبعية للغرب الرأسمالي وغياب الحرية والعدل.

من المفروض أن ننطلق في طرح الحلول والبدائل من أن العالم اليوم لا تكمن أزمته الاجتماعية والاقتصادية في نقص الموارد، بل يكمن في الظلم الإجتماعي المتمثل في الاستغلال الرأسمالي العالمي لثروات وقدرات وإمكانيات ثلاثة أرباع من سكان العالم، وذلك من خلال استعمال النظام الرأسمالي العالمي عدة آليات وميكانيزمات وضعها في القرون الماضية لإدامة هذا الاستغلال، ولهذا يجب علينا طرح إشكالية كيفية القضاء على هذا النظام الرأسمالي العالمي واستبداله بنظام عالمي جديد يغيب فيه الاستغلال سواء أكان بين أفراد أو أمم أو عوالم، نظام يسوده العدل والاحترام المتبادل والسلم.
وسنتبع هذه المقالة التمهيدية بعدة مقالات قادمة نحاول الإجابة فيها على عدة إشكاليات وطرح بدائلومن هذه الإشكاليات الإجابة عن مسألة تقدم الغرب، فهل يعود إلى خصائص نظامه الرأسمالي أو إلى عوامل أخرى؟ كما سنتناول نشأة الرأسمالية العالمية وتوسعها في العالم ومختلف سماتها وآليات عملها، وكل ذلك لنصل إلى تصور مستقبل العالم إذا استمرت هذه الرأسمالية في التوسع أو ما يطلق عليه اليوم العولمة، ومدى إنعكاسات وأثار ذلك على العالم الثالث، ومنه العالم الإسلامي.
كما يحتاج البحث عن حلول إلى فهم كيف نشأ التخلف في العالم الإسلامي بمناقشة مختلف النظريات التي تفسره، لنصل إلى التحديد الموضوعي لأسباب تخلفنا.
وبعد ذلك سنجيب عن عدة إشكاليات نرى بأن حلها هو الشرط الضروري لأي تقدم وبناء حضاري جديد، وهي كيف نحول الريع والكمبرادور إلى اقتصاد منتج، فيتحول العالم الإسلامي إلى ورشة بناء وإنتاج بدل أن يكون موردا للمواد الأولية وسوقا للرأسمالية العالمية.
كما أنه يستحيل تحقيق التقدم والعدل في بلادنا دون إعادة النظر في نظام الدولة وتحويلها من دولة في خدمة فئة أو شريحة أو طبقة أو حزب إلى دولة في خدمة الأمة والمجتمع كله دون استثناء، وقد لاحظنا غياب ذلك في كل دول عالم اليوم سواء أكان نظامها ديمقراطيا برجوازيا أو ديكتاتوري املكيا أو جمهوريا. سنعود إلى كل هذه المواضيع والإشكالات التي طرحناها في هذه المقالة البسيطة بشكل مفصل في مقالات قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا تقر قانونا لتسهيل طرد مؤيدي الجرائم الإرهابية | الأخ


.. أردوغان لا يستبعد عقد اجتماع مع الأسد: هل اقتربت المصالحة؟




.. قراءة ميدانية.. معارك ضارية وقصف عنيف على حي الشجاعية بمدينة


.. -من الصعب مناقشة كاذب-.. هكذا علق بايدن على -التنحي- | #عاجل




.. -لكمات- بين بايدن وترامب .. والأميركيون في مأزق ! | #التاسعة