الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حق تقرير المصير لشعوب الشرق على الطريقة الاورو ــ اميركية
جورج حداد
2024 / 6 / 28الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
إعداد: جورج حداد*
بعد انتصار الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا في 7 تشرين الثاني 1917، فضحت السلطة الثورية الروسية الجديدة اتفاقية "سايكس ــ بيكو"، واصفة اياها بأنها اتفاقية استعمارية لصوصية لتقاسم اراضي الشعوب المغلوب على امرها بين الدول الاستعمارية.
وأطلقت قيادة الثورة الروسية بزعامة لينين شعار حق تقرير المصير للشعوب، بما فيها الشعوب التي كانت مستعمرة من قبل القيصرية الروسية. وانطلاقا من هذا المفهوم التحرري الاممي ــ الانساني، تنازلت السلطة الثورية الروسية الجديدة عن نيل حصة روسيا من وجبة التقسيم الاستعماري الجديد، التي كانت تتمثل في منح روسيا منطقة القسطنطينية (اسطنبول) ومضائق البورسفور والدردنيل، وهو ما كانت تطمح اليه القيصرية الروسية مقابل مشاركتها في الحرب ضد المحور الالماني ــ العثماني. ويقول الكثير من المحللين الوطنيين الروس في الوقت الحاضر ان هذا التنازل كان خطأ جيوسياسيا وجيوستراتيجيا كبيرا ارتكبته القيادة الثورية الروسية التي وضعت المبادئ الثورية التحررية الاممية فوق اي مكسب "قومي روسي" مهما كان كبيرا؛ علما بأن ذلك التنازل صب، في المدى التاريخي المنظور، في خدمة النظام الامبريالي العالمي، الذي سارت في ركابه تركيا الجديدة "الاتاتوركية"، وضد المصالح القومية لروسيا ولجميع شعوب الشرق معا.
وكانت الولايات المتحدة الاميركية قد شاركت في الحرب العالمية الاولى جزئيا جدا، ولكن متأخرة جدا. وفي نهاية الحرب اطل الرئيس الاميركي حينذاك وودرو ويلسون من وراء المحيط، وطرح ما يسمى "مبادئ الرئيس ويلسون" حول حق تقرير المصير للشعوب. وكان الهدف الامبريالي، الاميركي والاوروبي، من هذه "المبادئ" هو:
اولا ــ قطع الطريق على الثورة الروسية في استقطاب الشعوب المناضلة لاجل التحرر الوطني.
وثانيا، وهو الاهم ــ اخراج اميركا من "العزلة القارية" والمشاركة في التقسيم الاستعماري الجديد للعالم.
وعلى هذه الخلفية الجيوسياسية الدولية العامة، فان الدول الاستعمارية "المنتصرة" في الحرب العالمية الاولى، انخرطت، قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الاولى، في مشاريع رسم الخريطة السياسية لاراضي السلطنة العثمانية المتهاوية والشرق الاوسط الكبير عامة.
ومن اولى المهمات التي كان على الدول الاستعمارية انجازها، ما يلي:
ــ آ ــ القضاء على النزعة التحررية لدى الشعوب المستعبدة من قبل السلطنة العثمانية، والشعوب الشرقية عامة، والقضاء بالاخص على النزعة التحررية ــ الوحدوية ــ العروبية في المشرق والمغرب العربيين.
ــ ب ــ والقضاء على احتمالات التقارب والتحالف التاريخي بين الشعوب العربية والشرقية عامة، والشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية خاصة، مع روسيا، التي كانت العدو التاريخي الاول للسلطنة العثمانية، والتي ــ بفعل الثورة الاشتراكية الروسية ــ سلكت النهج الثوري الجديد المعادي للاستعمار والامبريالية، بمعزل عن الطبيعة الطبقية ــ الاجتماعية والفكر الفلسفي للثورة الاشتراكية الروسية.
ومع الاخذ بالاعتبار جميع التأويلات الاخرى للمؤثرات على مجريات الاحداث في هذه المنطقة المفصلية والكبرى من العالم، التي كان ــ ولا يزال اكثر من اي وقت مضى ــ يرتبط بها مصير النظام العالمي بمجمله، فإنه ينبغي التأكيد بشدة ان العامل الرئيسي في تحريك جميع مجريات الاحداث التاريخية في هذه المنطقة كان ولا يزال: الصراع بين النزعة التحررية لشعوب الشرق، والنزعة الاستعمارية القديمة للقضاء على حركة التحرر الوطني ــ الوحدوية لتلك الشعوب، والقضاء على امكانيات تحالفها مع الشعب الروسي، العدو التاريخي العالمي الرئيسي لجميع اشكال الاستعمار والامبريالية، القديمة والجديدة.
وبدون الانطلاق من هذه الوجهة ــ نظر الاساسية، يستحيل فهم مجريات الاحداث الكبرى في الشرق منذ مطلع القرن العشرين الى اليوم. فعلى اساس هذه الوجهة ــ نظر يمكن فقط فهم خلفيات ومحركات الاحداث التالية، مع كل متعلقاتها ونتائجها:
ــ1ــ ان "جمعية الاتحاد والترقي" التركية، وكان ابرز قادتها "الثلاثي الباشاوي": انور باشا وطلعت باشا وجمال باشا (السفاح)؛ كانت هي الممثل السياسي الابرز للبورجوازية التركية الصاعدة؛ وقد انبثق عنها لاحقا حزب "تركيا الفتاة" او "الاتراك الفتيان" ثم "الحركة الاتاتوركية"؛ وان "الاتحاديين" الاتراك وخلفاءهم، القتلة المتوحشين وسفاكي دماء الشعوب، الذين تعلم منهم لاحقا النازيون واليهود، كانوا على ارتباط وثيق بالدوائر الامبريالية الغربية واليهودية العالمية. ويقول بعض التحليلات التاريخية ان إنشاء "جمعية الاتحاد والترقي" ذاته انما تم بقرار وبمساهمة فعالة مباشرة من قبل الدوائر الامبريالية الغربية واليهودية العالمية. وقد اضطلع "الاتحاديون الاتراك" (فـ"الاتراك الفتيان" و"الاتاتوركيون")، تحت الشعارات الديماغوجية حول: التقدم والتحديث والعصرنة والأوْربة، بدور البلدوزر او الجرافة التي مهدت الطريق للانتقال من عصر "الاستبداد الشرقي" العثماني المتخلف، الى عصر الاستعمار الغربي الحديث، "المتقدم" و"المتطور"!
ــ2ــ ان "الاتحاديين" الاتراك، بالتخطيط والمشاركة والدعم المباشر من قبل الدوائر الامبريالية الغربية واليهودية العالمية، نظموا ونفذوا "الانقلاب الدستوري" في 1908 في اسطنبول،ليس بهدف التحرر من السلطنةالعثمانية، بل من اجل التمهيد للسيطرة الاستعمارية الغربية واليهودية العالمية على المنطقة بعد انهيار السلطنة. وقد امسك عملاء الغرب "الاتحاديون" الاتراك بجميع مفاتيح السلطة المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ ولكنهم ابقوا شكليا على "الخلافة العثمانية" لاجل استنزافها سياسيا حتى آخر جندي عثماني، وآخر دابة، وآخر "بشلك". (يذكر ان المدعو حقي باشا، آخر والي تركي في بيروت، الذي سلم السلطة الى عمر بك الداعوق في 1918 ورحل، مات سنة 1936 وهو قيد المعالجة في مستشفى للفقراء في اسطنبول).
ــ3ــ تقول المرويات التاريخية (المطموسة من قبل "الدولتين المستقلتين!" القادمتين: سوريا ولبنان) ان جمال باشا (السفاح) كان عميلا فرنسيا، وكان موعودا، قبل اتاتورك، بالرئاسة في "الجمهورية التركية" القادمة! وبالتواطؤ مع الدوائر الانكليزية والفرنسية التي كانت منكبة على رسم خرائط "سايكس ــ بيكو" و"وعد بلفور"، قدم جمال باشا (السفاح) "فاتورة ولاء" لفرنسا، في عملية نصب المشانق بالجملة لنخبة المثقفين والسياسيين النهضويين العروبيين التحرريين، في سوريا ولبنان، لاجل تمهيد الطريق امام تنفيذ المخططات المرسومة للمنطقة لاحقا بأقل ما يكون من "المعارضة المزعجة" من قبل الوطنيين العروبيين التحرريين. وقد تفتق العقل الاجرامي الشيطاني للعميل الفرنسي جمال باشا عن فكرة اعدام أولئك الرجال الكبار بتهمة "العمالة لفرنسا". (وهذه الفكرة الشيطانية طبقها فيما بعد "اصدقاء اسرائيل" (الخونة: الكردي "السوري" حسني الزعيم، و"اللبنانيون": بشارة الخوري "الماروني" ورياض الصلح "السني" وحبيب ابو شهلا "الاورثوذوكسي") الذين اعتقلوا، و"حاكموا"" بطريقة سافلة، واعدموا، في 1949، المفكر النهضوي العظيم انطون سعادة بتهمة "العمالة لاسرائيل").
ــ4ــ قبل "الحرب اللبنانية" المتمادية، متغيرة الاشكال والمستمرة منذ 1975 حتى اليوم، فإن أفظع كارثة تاريخية حلت بـ"لبنان" ("متصرفية جبل لبنان" واجزاء من محيطها الاقرب)، وخصوصا بالمسيحيين في تلك المناطق، كانت "مجاعة سفربرلك" او "مجاعة حرب الـ14"، التي ذهب ضحيتها حسب اغلبية المراجع حوالى ثلث السكان، وخصوصا من المسيحيين. وتقول شهادات بعض الشهود، الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة في خمسينات القرن الماضي، وقد سمعت بعضها بنفسي، ان بلدية بيروت كانت تكتري الطنابر لنقل الجثث من الشوارع ورميها بعيدا في حفر قبور جماعية. وكان مع طنبرجي كل طنبر معاون يساعده في تحميل الجثث. وكان الطنبرجي يقبض مقابل عدد الجثث التي ينقلها كل يوم. واحيانا كان المعاون يلاحظ ان صاحب الجثة لا يزال فيه نفس حياة، فينبه الطنبرجي الى ذلك، فيقول له الاخير: "بكره حايموت، الله يرحمو، حمّلو!".
وكل هذه التراجيديا السوداء التي حلت بـ"اللبنانيين" وقسم كبير من "السوريين"، المجاورين لهم، وخصوصا في المناطق ذات الاغلبية المسيحية، قد جرت تحت سمع وبصر الاساطيل الحربية الفرنسية والانكليزية والاوروبية، التي كانت "تتنزه" على سواحل شرق المتوسط من غزة جنوبا الى الاسكندرون شمالا، وكان بامكانها (بمقاييس ميزان القوى العسكرية بينها وبين قوات السلطنة العثمانية) ان تقوم بكل سهولة بعمليات انزال بحرية وتقديم المساعدات الغذائية للسكان المظلومين.
فهل كان قباطنة تلك السفن هم المسؤولون عن ذلك "التقصير" المريع؟
الجواب هو: بالعكس! فتلك البوارج الحربية الاوروبية والفرنسية بالخصوص كانت تشارك فعليا في فرض الحصار على السواحل، ومنع وصول اي مساعدة لسكانها بحجة محاصرة الاراضي "العثمانية" المعادية.
وفي "الداخل" كان يوجد "طرف وطني" من ابناء المناطق والطوائف والعشائر والعائلات "المسيحية" و"اللبنانية" و"السورية"، الاغنياء، الذين ــ في ظروف التضخم وفقدان السلع الغذائية؛ وتحت شعارات "الاحسان" و"الرحمة" و"العمل الخيري" "لوجه الله تعالى" ــ كانوا يبتزون الجياع ويجبرونهم على تسليم آخر قروش لديهم، وعلى "بيع" بيوتهم واراضيهم وجميع ممتلكاتهم لاولئك الاغنياء، مقابل حفنة من الحنطة او حتى الشعير، وبضعة ارغفة او قليل من المواد الغذائية الاخرى.
وما يؤكد مسؤولية الدول الاوروبية، والطبقات الغنية الطائفية والعائلية والعشائرية المحلية، في تجويع المسيحيين و"اللبنانيين" و"السوريين" الاخرين، ونهبهم، وابادتهم بالجوع في تلك المأساة المروعة، انه بعد انهيار السلطنة العثمانية امام الزحف الاستعماري الاوروبي، ونشوء "دولة لبنان الكبير" وغيره من دول سايكس ــ بيكو، فان السلطات القضائية والسياسية والمراجع الدينية المعنية في "لبنان" و"سوريا" لم تكلف نفسها عناء التحقيق في اسباب ومجريات المجاعة ومآسيها، لاجل عدم كشف مسؤولية الدول الاستعمارية الاوروبية المدعومة من قبل اميركا، ومسؤولية "الاتحاديين" الاتراك المتحالفين مع الدول الاوروبية، واخيرا مسؤولية الطبقات الغنية المحلية التي تسلمت هي بالذات السلطة في دولتي "لبنان" و"سوريا" السايكس ــ بيكويتين، بالوكالة عن الدول الاستعمارية الغربية.
ان السلطة الطبقية ــ السياسية التي حكمت "لبنان" منذ اكثر من مائة عام، ولا سيما "المارونية السياسية"، كانت حريصة على تشويه وتزوير تاريخ "لبنان" السايكس ــ بيكوي، وإبقاء "مجاعة حرب الـ14" محاطة بالغموض.
وفي رأينا المتواضع، المبني على الوقائع التاريخية المعروفة، ان السبب الاساسي لتلك المجاعة المريعة يتمثل في قرار من الدوائر الاستعمارية الفرنسية، التي كانت تتحضر لوضع قدمها الهمجية على "لبنان"، بتجويع المسيحيين "اللبنانيين" وابادة اكبر عدد منهم. وقد حصلت فرنسا الاستعمارية على تأييد بريطانيا والدول الاستعمارية الاوروبية الاخرى على هذا القرار، وشاركت اساطيلها في الحصار البحري المطلوب. و"فى البر" قام العميل الفرنسي جمال باشا السفاح بدوره. والدافع لاتخاذ هذا القرار المتوحش، ان فرنسا الاستعمارية، من خلال تجربتها في شمالي افريقيا، كانت تحارب الجماهير الثائرة الجزائرية والمغاربية تحت شعارات "محاربة الاسلام الكافر" ونشر "الحضارة الاوروبية المسيحية". ولكن هذه الشعارات كانت ساقطة مسبقا بمواجهة الجماهير الشعبية المسيحية المشرقية ذات الوعي الاجتماعي المتقدم والانتماء الوطني العربي الاصيل. وكما تواطأت الدوائر الاستعمارية الفرنسية في العقد السادس من القرن الـ19 ضد ثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين التي رفعت شعار "الجمهورية" لاول مرة في سماء الشرق، وتم إغراقها في الفتنة الطائفية وذبح الفلاحين الموارنة الفقراء في 1860، فإنها ــ اي الدوائر الاستعمارية الفرنسية ــ كانت تريد ان تدمر مسبقا العنفوان الحضاري، الانساني، الوطني، والديني، المشرقي، للجماهير الشعبية المسيحية "اللبنانية"، واذلالها، وتطويعها، وتحويلها الى قطيع كائنات بشرية، منفصلة عن التاريخ والجغرافيا، ولا مطمح لها سوى الحصول على امكانية "العيش بسلام"، ومن ثم فرض "التقبل الطوعي" من قبل الجماهير المسيحية، والمارونية خاصة، لصيغة اي مشروع دولة ونظام حكم لـ"لبنان" كانت "الام الحنون" فرنسا تتهيأ لفرضه على "لبنان" العتيد، بموجب اتفاقية سايكس ــ بيكو.
ــ5ــ ومن زاوية نظر تاريخية معينة يمكن القول ان الكيان اللبناني الطائفي المصطنع، الذي اقيم اولا بقيادة "المارونية السياسية"، قد ولد من رحم "مجاعة حرب سفربرلك". وقد تناوب على هذه الولادة "قابلتان قانونيتان" (بالعامية: "دايتان") بشخص جنرالين (الاول تركي"اتحادي" عميل لفرنسا وموعود برئاسة "الجمهورية التركية" الجديدة القادمة، والثاني احد "ابطال" الجيش الفرنسي المرموقين) هما: جمال باشا السفاح، العثماني، والمفوض السامي الاول الفرنسي، "بطل" معركة ميسلون، الجنرال هنري غورو، الذي اعلن شخصيا "دولة لبنان الكبير"، قائلا للزعماء الروحيين و"الزمنيين" "اللبنانيين" الذين جمعهم حوله في قصر الصنوبر في بيروت ذات صباح اسود في 30 اب 1920: "ان الفتيان الفرنسيين الذين ضحوا بارواحهم في سهل ميسلون هم.. عرّابو استقلالكم!". (وطبعا نسي هذا الجنرال ــ ممثل العظمة الفرنسية! ــ ان يقول ان معظم اولئك "الفتيان الفرنسيين" كانوا من.. المرتزقة السنغاليين! الذين لا يعرفون من الفرنسية سوى عبارة "وي.. مون جنرال!").
وهكذا، تحت شعارات الدمقراطية المزيفة وحق تقرير المصير على الطريقة الاورو ــ اميركية، قدم المستعمرون الفرنسيون (من ضمن اتفاقية سايكس ــ بيكو) الهدية المسمومة للشعب "اللبناني"، المتمثلة في الكيان "اللبناني" المصطنع، الملغوم بالطائفية، القابلة للتفجير في كل مرحلة وحين، حسب رغبة ومصلحة اسيادها المستعمرين وصنائعهم وعملائهم "اللبنانيين"، والمموهة بشعارات ضبابية وملتوية، مشبوهة، مثل "التعايش المسيحي ــ الاسلامي" و"الرسالة اللبنانية" و"سويسرا الشرق" و"ملتقى الحضارات الغربية والشرقية" و"الابداع اللبناني" و"الميثاق الوطني" واخيرا لا آخر تحفة "الدمقراطية التوافقية"، وما اشبه من الاضاليل، التي تقوم على وصم وتلطيخ كل مفهوم دمقراطي صادق وتحرك وطني حقيقي، بالطائفية واللاوطنية (= اللالبنانية!)، وهي الاضاليل التي ساعدت المارونية السياسية، مع شريكتها السنية السياسية، على ان تحكم "لبنان"، وتتحكم بمصائر الجماهير الشعبية "اللبنانية"، وتجرجرها في المآسي المتتالية منذ وجود هذا "الكيان اللبناني" منذ اكثر من مائة عام.
ــ6ــ عشية الحرب العالمية الاولى وخلالها وغداتها كان من اكبر مشاغل الدول الاستعمارية الاوروبية واميركا، هو مصير المشرق العربي بعد انهيار السلطنة العثمانية. وخلال سنوات الحرب جرت ما سميت تاريخيا "مراسلات الحسين ـــ ماكماهون" (1915ــ1916) بين "شريف مكة" الحسين بن علي والممثل الاعلى لملك بريطانيا في مصر هنري ماكماهون. واعتبرت تلك "المراسلات" وثيقة رسمية مصدق عليها من قبل المملكة المتحدة التي لم تكن الشمس تغيب عن الاراضي التي استعمرتها، وهي بالتالي مصدقة من قبل الملك الانكليزي المعظم. وبموجب هذه الوثيقة وعدت بريطانيا وملكها، الشريف الحسين، بالموافقة على تأسيس مملكة عربية موحدة بقيادته في المشرق العربي، فيما اذا قاتل العرب الى جانب "الحلفاء" ضد السلطنة العثمانية. وبعد صلاة الفجر في 10 حزيران 1916، وفي مشهد مسرحي مثالي، اطل الشريف الحسين بن علي من شرفة قصره المنيف في مكة المكرمة، واطلق رصاصة انطلاق "الثورة العربية الكبرى" ضد العثمانيين والاتراك الاتحاديين. وهبت القبائل العربية الثائرة، بقيادة الجاسوس الانكليزي الشهير "لورنس العرب"، للقتال ضد القوات التركية التي انهارت بسرعة في الصحراء العربية والاردن وفلسطين. ودخلت "قوات الثورة العربية" بقيادة الفيصل بن الحسين الى دمشق وغيرها من الاراضي السورية، وبلغت تلال مدينة عاليه المشرفة على بيروت، بدون قتال. حيث ان الجيش التركي تفكك، واخذ المجندون "العثمانيون" غير الاتراك يفرون باعداد كبيرة، وتم تسريح الباقين، وانسحب الضباط والجنود الاتراك بشكل مزر برا وبحرا الى تركيا. اما المجندون "العثمانيون" البؤساء، الفارون والمسرحون، فكانوا يطوفون زرافات شوارع دمشق وبيروت وغيرهما من المدن السورية يستجدون الخبز والطعام والمساعدة للسفر والعودة الى عائلاتهم واهاليهم الذين لا يعرفون عنهم شيئا.
ولكن في المقابل، فإن الحكومة الاستعمارية البريطانية داست على شرف بريطانيا العظمى وشرف ملكها الاعظم، وامتنعت عن تنفيذ وعودها للشريف الحسين بن علي حول تأسيس مملكة موحدة في المشرق العربي؛ والتزمت بتنفيذ اتفاقية "سايكس ــ بيكو" بينها وبين فرنسا الاستعمارية؛ بل واكثر من ذلك: اصدرت "وعد بلفور" لتأسيس "الوطن القومي اليهودي" كإسفين معاد يفصل المشرق عن المغرب العربي، وكقاعدة استعمارية متقدمة لحماية الممرات البحرية وطرق التجارة العالمية لصالح دول النظام الامبريالي الغربي.
ولهذه الغاية ذاتها استُقدم الامير عبدالعزيز آل سعود من الكويت حيث كان يقيم، وأعطي "كارت بلانش" لاقتحام نجد والحجاز، وطرد الهاشميين سدنة الكعبة المشرفة منذ ايام الرسول العربي (ص)، من مكة المكرمة، وإقامة ما يسمى "المملكة العربية االسعودية"، التي لم تكن اكثر من "اسرائيل وهابية" مرتبطة عضويا بالامبريالية الغربية.
ــ7ــ ومن اهم واخطر القضايا التي واجهت الدول الاستعمارية الغربية في تلك المرحلة هي قضية الموقف من الشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية (من اليونانيين والبلغار والارمن والعرب، الاشوريين والسريان وغيرهم) التي كانت ترزح تحت النير التركي. فنظرا لتاريخها الحضاري العريق، وانفتاحها الثقافي على المجتمعات الاوروبية والعالمية منذ القدم، ونظرا لهويتها الدينية عالمية النطاق، ولا سيما علاقاتها القديمة مع روسيا (العدو التاريخي الرئيسي للاستعمار الغربي)، كان من شبه المستحيل على الدول الاستعمارية الاوروبية والغربية فرض استعمارها على تلك الشعوب والاتنيات، التي كان من شأنها ان تشكل خاصرة رخوة وبؤر تمرد ثورية تحررية ضد النظام الاستعماري الاوروبي والغربي الذي كان يتحضر للحلول محل السلطنة العثمانية السائرة بسرعة نحو الانهيار.
وقد ذكرنا آنفا انه جرى تطبيق حرب الحصار والتجويع والقتل بالجوع، لاذلال وتدمير الكرامة الانسانية وتطويع الموارنة والمسيحيين في متصرفية جبل لبنان، واخضاعهم لمشيئة الدول الاستعمارية الغربية، التي اتخذت دور "المنقذ" المزيف من النير التركي.
ولكن هذه الخطة التي كان بالامكان تطبيقها ضد كتلة مجتمعية ذات عدد سكان محدود نسبيا، وفي رقعة جغرافية ضيقة ويمكن حصارها من البر والبحر بـ"التعاون السري" الذي كان قائما بين الدول الاستعمارية الاوروبية المعادية للمحور الالماني ــ العثماني، وبين عملائها: زمرة الجنرالات "الاتراك الاتحاديين" الخونة الذين كانوا يحملون لواء التحديث والعصرنة والأوْربة. ــ نقول: ان هذه الخطة كان من المستحيل تطبيقها ضد كتلة جغرافية ضخمة متلاصقة ومتعددة التضاريس والامكانيات الزراعية حتى بابسط ادوات العمل اليدوي وفي احلك الظروف، وتمتد من اسطنبول ومنطقة "سميرنا" اليونانية (ازمير التركية) على الساحل الاسيوي التركي للبحر الابيض المتوسط، الى شرق تركيا حيث بحيرة وان (التي تحمل اسمها العاصمة الارمنية: يري ــ فان) وجبل ارارت الارمني القديم (الذي يرتبط به كل تاريخ ارمينيا)، الى قيليقية العربية ـــ السريانية في جنوب تركيا الحالية، الى شمال العراق، الموطن القديم للاشوريين (حيث تقوم اليوم "اسرائيل الكردية العراقية" بحماية اميركية ــ اسرائيلية) الى شمال شرق سوريا الحالية، الارض القديمة للسريان (حيث تقوم اليوم "اسرائيل الكردية السورية" تحت الحماية الاميركية)، وهي منطقة كانت تعيش فيها شعوب واتنيات متعاونة ومتآخية يبلغ تعدادها الملايين.
وامام هذه "المعضلة"، تفتق العقل الشيطاني المتوحش للدول الاستعمارية الغربية ان تطبق على الشعوب والاتنيات المسيحية في الشرق الطريقة الاميركية لتقرير مصير الشعوب، التي سبق وطبقت "بنجاح!" في اميركا الشمالية ضد السكان الاصليين للقارة، الهنود الحمر، اي ابادتهم بمباركة الكنائس الغربية (بدون الحاجة حتى للصلاة على ارواحهم)، واستبدالهم بشعب آخر من المستوطنين ــ المستعمرين. وقد تولى عملاء الغرب العنصريون الاتراك ("الاتحاديون"، "الاتراك الفتيان" و"الاتاتوركيون") تنفيذ خطة المذابح والابادة الجماعية للشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية. وقد قاموا بالمهمة خير قيام. وفي هذا الصدد يتبجح طلعت باشا، وزير الداخلية التركي خلال الحرب العالمية الاولى، قائلا في احدى رسائله لاحد "انصاره"، متحدثا عن المجزرة ضد الارمن: "لقد فعلنا في ثلاثة شهور، ما لم يستطع عبدالحميد (السلطان) ان يفعله في ثلاثين سنة!" (عفارم، أفندم! انت "اوروبي متحضّر" جدا). وكما كان العشائريون الاكراد على الدوام عونا للعثمانيين ضد الشعوب المظلومة في السلطنة الهمجية، فإنهم ايضا كانوا عونا للعنصريين "الاتراك الجدد" ضد الشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية، التي شاركوا في المجازر ضدها، بقيادة "الاتراك الجدد"، واستولوا على اراضيها وحلوا فيها، مدعين انها "ارض اجدادهم" (وفي هذا الخصوص يزعم بعض ارباع المثقفين الاكراد ان اصول الاكراد هي: اشورية! وان الاشوريين الحاليين هم "اكراد قدماء"!). ان الاخوة السريان يسمون المذبحة ضدهم "سيْفو" (اي الذبح بالسيف). واذا كان بالامكان تشبيه العنصريين الاتراك بأنهم كانوا قبضة ذلك السيف، فإن العشائريين الاكراد كانوا بدورهم نصل او شفرة ذلك السيف. وقد قام العنصريون "الاتراك الجدد" بهذا الدور الوحشي البشع، مقابل وعد الدول الاستعمارية "المسيحية" الغربية لهم بالاحتفاظ باراضي الشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية المظلومة ضمن "الدولة التركية" العصرية الجديدة الموالية للغرب الاستعماري. وفي هذا السياق لا بد من الاشارة انه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي اخذت القيادات "اليسارية" المزيفة الكردية تتظاهر بدعم القضية الفلسطينية ، وذلك لحجز مكان لهها في صفوف القوى التقدمية وواليسارية والوطنية العربية والشرقية. ولكن بعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، والهجمة الاميركية الجديدة على المنطقة، اخذت القيادات "اليسارية" الكردية تكشف عن وجهها الشوفيني الحقيقي وتسرع الخطى في مزاحمة العشائرية الكردية في الالتحاق بركب الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية واسرائيل.
وضمن السياق التاريخي للاحداث الكبرى خلال وفي اعقاب الحرب العالمية الاولى اندلعت في الفترة 1919 ــ 1922 الحرب اليونانية ــ التركية. وكان اليونانيون يطمحون الى استعادة القسطنطينية (اسطنبول ــ اليونانية تاريخيا، والتي اغتصبها العثمانيون في 1453 بدعم ومساندة وتمويل من قبل البابوية الكاثوليكية واليهودية العالمية). ولكن، وعملا بالمفهوم الاستعماري لحق تقرير المصير للشعوب، المطابق لمصالح الدول الاستعمارية الاوروبية واميركا، فإن هذه الدول،، التي كانت ظاهريا تقف في المعسكر المعادي للسلطنة العثمانية، طعنت اليونانيين في الظهر، وساعدت سرا وعلنا الاتراك الاتاتوركيين المتأوْربين وشركاءهم العشائريين الاكراد. وهكذا فإن اليونانيين لم يفشلوا فقط في تحرير واستعادة القسطنطينية، بل ان مأساتهم التاريخية تكررت، وتضاعفت، بفضل الدعم الاستعماري الغربي للاتاتوركيين، اذ ان هؤلاء اقدموا، في السنوات 1922 ــ 1924 على ذبح اليونانيين ومن تبقى من البلغار في اسطنبول وفي منطقة "سميرنا" (ازمير) ايضا، وطردوهم منها. ولا يزال احفاد المطرودين من "سميرنا" الى اليوم يحتفظون بمفاتيح بيوت اجدادهم التي اغتصبها الاتراك والاكراد في "سميرنا"، تماما كما يحتفظ اللاجئون الفلسطينيون بمفاتيح بيوتهم التي اغتصبها اليهود في فلسطين.
ومن زاوية نظر تاريخية يمكن القول ان تطبيقات الخطة الامبريالية الغربية للمجاعة والمجازر والابادة الجماعية ضد الشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية في الربع الاول من القرن العشرين، ومنح اراضيها لـ"الاتراك الجدد" والعشائريين الاكراد، انما كانت نوعا من "بروفة اولية" وتمهيد لتحقيق "وعد بلفور"" واقامة "الوطن القومي اليهودي" كقاعدة متقدمة للامبريالية العالمية في الشرق العربي.
وان ما تقوم به "اسرائيل" اليوم، مدعومة بكل الاشكال من قبل اميركا وجميع الدول الاستعمارية الغربية، من تجويع ومجازر وابادة جماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني ليس عملا "إلهيا" توراتيا فقط، بل هو نابع من اعماق "الحضارة" الاورو ــ اميركية، التي تعتبر الشعب العربي الفلسطيني وكل الشعوب الشرقية "حيوانات بشرية"، وهو استمرار لنهج ابادة الشعوب والاتنيات المسيحية الشرقية في الربع الاول من القرن العشرين، الذي بدوره هو استمرار لنهج روما العبودية القديمة التي دمرت قرطاجة العظيمة تدميرا كاملا في 146ق.م، ثم قتلت السيد المسيح على الصليب (حسب الرواية المسيحية) وقتلت جميع رسله وحوارييه وابادت ملايين المسيحيين الشرقيين القدماء في القرون المسيحية الاولى، وهو نفسه النهج الذي انتج النازية التي، بالتنسيق التام مع القيادة اليهودية العالمية، نفذت "الهولوكوست" ضد الشيوعيين والدمقراطيين اليهود المعادين في حينه للصهيونية.
وقد آن الاوان لشعوب العالم ان تستيقظ وتقضي على هذا النهج المعادي للوجود الانساني، وتسقط الى الابد اصحابه عن المسرح الجيوسياسي ــ الجيوستراتيجي الدولي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر