الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بدر السعود

إبراهيم رمزي

2024 / 6 / 29
الادب والفن


‏"سلاَّم" صاحب الفرن، رجل عصامي، بدأ حياته عاملا يعتمد على قوة عضلاته، لا يستنكف من ممارسة أي عمل ـ ولو كان ‏حقيرا أو مقزِّزا ـ يمكن أن يوفر له لقمة العيش ويجني من ورائه مبلغا محترما يتناسب مع دواعي وساخته والنفر منه .. ‏
وحين بلغ الأربعين، استقر به العمل مسيِّرا لفرن تقليدي .. وأصبح ينادى عليه: "بّا سلام". تزوج ابنة معلمه صاحب الفرن، ‏وصار الفرن ـ فيما بعد ـ جزءا من ميراثها. كان ينادى عليها ـ تبعا لسن المتكلم ـ: للا خيتي (= أختي)ـ و ـ للا مسعودة ـ و ـ أمي ‏السعدية ـ و ـ خالتي ـ. ‏
ورزق بذرية، كان الموت يتخطفهم صغارا، ولم يسلم منهم إلا ابنة وحيدة، كانت غاية في الجمال. كانت رشيقة فارعة القامة، لم ‏ترث من أمها اكتنازها، وخالفت أباها في قِصَره. واختارت لها أمها اسم:"بدر السعود" تريد من خلال الاسم تدليل ابنتها، وتحليتها ‏باسم يشيع بين أفراد الطبقة "البورجوازية". وأثار الاسم صعوبة لدى البسطاء من الجيران، فكانوا لا يضبطون الاسم على ‏حقيقته، ويعوّضونه بما يَسْهُل عليهم نطقُه، فهي: سعدية، والسعدية الثانية، وبنت أمي السعدية، وبدرية، وبُدور (وقد يُفخَّم الدال، ‏عند البعض ـ ليصبح ظاء أو ضادا. دون مبالاة بالدلالة).‏
نشأت بدر السعود مدللة إلى أقصى حد. يدللها والداها، ويدللها الجيران، ثم فيما بعد زبناء الفرن، .. كانت معفاة من التعليم منذ ‏طفولتها، إذ لم يكن ـ آنذاك ـ مما تشجعه الأسر، لانعدام المدارس المخصصة للفتيات ـ من جهة ـ وللاستخفاف بتعليم الإناث في ‏ذلك الوقت.‏
دفعتها أمها إلى "لَمْعَلْمة"، وهي عادة ما تكون إحدى الجارات، لها بعض الدراية بفنون الطهي أوالفصالة والخياطة والطرز، أو ‏نسج الزرابي، أو غيرها من الأشغال النسوية .. فتشرف على تلقين الفتيات شيئا مما تعرفه. ولم يطل المقام ببدر السعود عند ‏‏"لَمْعَلْمة" بعدما حكتْ لأمها كيف تُمتهَن المتعلماتُ لخدمة صاحبة البيت، في الكنس والنفض والمسح والعجن والطبخ والغسل .. ‏وثارت مسعودة على "لَمْعَلْمة" التي استباحت كرامة ابنتها في الشغل البيتي، متغافلة عن منزلتها العائلية ومكانتها الاجتماعية .. ‏وأن "لَمْعَلْمة" أولى بخدمة ابنتها.‏
صارت بدر السعود تقتل الفراغ في التنقل بين البيت والفرن والزقاق الواصل بينهما. تمضي أغلب أوقاتها في اللعب مع أقرانها ‏من الفتيات وبعض إخوانهن الذين يتوددون لها، والذين كانوا سريعي الاستجابة إذا عرضت عليهم المشاركة في لعبة العريس ‏والعروسة.‏
وفي عز المراهقة، بدأت بدر السعود تتحكم في الذكور الذين يحومون حولها، حتى كان كل واحد يظن نفسه الأثير لديها، فتقرّب ‏من تشاء ـ ولو إلى أجل قصير ـ وتبعد من تشاء بقسوة وغنج مطمِع، لا يقطع شعرة معاوية كليا.‏
ونزلت الصاعقة على "با سلام" و"للا مسعودة" حينما أصبحت "بدر السعود" حبلى. بعدما لعبت في السابعة عشرة لعبة العريس ‏والعروسة، مع شاب، فتنها بتقليده لممثلين سينمائيين في رقصهم، وحركاتهم، وتسريحة شعرهم، ولباسهم، .. ولم يمنعها ماضيه ‏السجني من الاستسلام له ومشاركته متعة الجسد.‏
كانت الفضيحة على الأبواب تكاد تعلن عن نفسها للملإ، خاصة بعد اختفاء ذلك الشاب. ‏
ولستر الفضيحة، دعا "با سلام" أحمد الأقرع، عامله في الفرن، وزوجه ابنته. وما كان لأحمد الأقرع أن يرفض شروط "با ‏سلام". فهو زواج ـ بعدما عرف سبب الصفقة ـ لا يكلفه ماليا أي شيء. ثم إنه لا يصدق نفسه أن تصير أجمل الفتيات ـ على ‏الإطلاق ـ زوجة له. شيء ما خطر له حتى في الأحلام، مقارنة برتبته الاجتماعية ورتبتها.‏
انتقل أحمد الآقرع من المبيت على سرير مهتريء بمكان خلفي بالفرن، إلى سرير نظيف بحجرة في بيت "با سلام" الفسيح. ولم ‏تكن دهشته بالتغيير الذي لحقه، أقل من استغراب الناس عامة، والشبان خاصة، من صيرورة الأقرع زوجا لبدر السعود الفاتنة. ‏
وبعد مدة قصيرة، أشعر أحمد الأقرع صهره "باسلام" بعثوره على منزل صغير مناسب، سينتقل إليه بصحبة زوجته. وذلك ما تمّ ‏دون اعتراض أحد. لم يكن يفصل البيت عن بيت "با سلام" إلا مسافة قصيرة. تسمح لأحمد الأقرع بالقيام بزيارات خاطفة لبيته، ‏والرجوع إلى الفرن. تحرر شيئا مّا مِنْ ضبط حركاته وسكناته كما كان عليه الأمر ببيت "للا مسعودة، وبا سلام".‏
وكان على أحمد الأقرع أن يعيد زوجته إلى قرب والدتها، حتى ترعاها، وهي في الشهر الأخير من حملها. ووضعت بدر السعود ‏مولودا ذكرا، تركته ـ بعد فطامه ـ في رعاية أمها.‏
لم يؤثر الحمل والولادة ـ كثيرا ـ على بدر السعود، بل يمكن القول إنها ازدادت نضجا وفتنة .. تغري عشاق الجمال. وكانت أمها ‏تلزمها بقضاء النهار بجانب ابنها، ولا تغادر إلا مساءَ لتعود مع زوجها إلى بيتهما. ثم بدأت تتخفف من هذا القيد شيئا فشيئا. وقد ‏نصحتها إحداهن بالاهتمام بنفسها وشبابها الذي سيذبل سريعا إذا أهملته.‏
وبدأت تجدّ في اقتناء العطور، وأدوات الزينة، والأثواب الناعمة الشفافة، والأحذية .. وفاجأها صاحب أكبر محل للمستوردات بأن ‏تأخذ ما تشاء من المحل، دون دفع. وجاءت التلميحات ردا على اندهاشها واستغرابها .. فصارت خليلة له، تستجيب له متى طلبها، ‏في غفلة عن الأعين، إلا عين صاحبة البيت التي تستضيفهما. والتي انفردت بها وعرضت عليها "الاشتغال" معها. ‏
وجرّبتْ، ثم انخرطت وداومَت. وأسبغتْ "رضاها" على شبان ومراهقين من الحي خاضوا معها أول تجربة للّذة "المحرمة". ‏
ثم صار لقب "سيارة التعليم" أو "سيارة تعليم السياقة" دالا عليها، ومميِّزا لها. أشاعه عنها المعترفون ب"فضلها" عندما يتردد ‏بينهم التفاخر بمغامراتهم الجنسية، ولا يريدون ذكر شخصيتها الحقيقية. ولكن عندما ثارت شكوك أحمد الأقرع، تربّص بها، ‏وتعقّب خطاها حتى اكتشف سقطتها.‏
في أول الأمر، كان يحاول أن يعزي نفسه بالمثل: "اللهم العسل، ونأكله جميعا، ولا الخـ .... وآكله وحدي". وحينما فقد القدرة ‏على الاحتمال، لجأ إلى صهره، فذكّره الصهر بالشروط. وأضاف: الآن تريد أن تكون "رجلا" وكنت بالأمس "شبه رجل".‏
غاب أحمد الأقرع، ولا أحد يدري إلى أين رحل، لكنه أرسل بورقة الطلاق لبدر السعود. ‏
فتصرفت في سلوكها ـ أول الأمر ـ كما تشاء، محاولة التستر إلى أقصى حد ممكن. ‏
وفجأة قطعت صلتها بأهلها، وانتقلت للسكن في أحد الأحياء الراقية بالمدينة، بعيدا عنهم.‏
عندما أصيبت "للا مسعودة" بكسر ـ لهشاشة عظامها ـ، بعد سقوطها في درج البيت، هرع المعارف والجيران لعيادتها، ورابضت ‏بالبيت بعض الفتيات ـ من بنات الجيران ـ لتقديم الخدمات الضرورية لصاحبة البيت وزوجها.‏
ويوما ما دخلت سيدة في كامل أناقتها، يتبعها رجل يحمل بعض العلب والهدايا، أمرته بوضعها والانصراف إلى السيارة ‏وانتظارها. عقدت الدهشة ألسِنة الحاضرين، ولم تزُل دهشتُهم إلا بعد سماع حديثها مع "للا مسعودة"، استنتجوا منه أن هذه السيدة ‏هي ابنتها "بدر السعود" الغائبة.‏
قالت: أبلغني ـ بما حدث لك ـ ساكنٌ بالحي يشتغل مع زوجي. ‏
وحين سألتها أمها عن زوجها، أسرّت إليها ـ كي لا يسمعها غيرها ـ أنه قابع في السجن لتجارته في المخدرات، وأن "أعوانه" ‏يسهرون على تسيير أموره في غيابه، وأنها تعيش حياة رفاهية لوفرة ماله.‏

كان يدفع عربته أمامه، يتنقل بين الدروب، ينادي على سلعته، يبيع هنا وهناك. تقف السيدات عند الأبواب، فيخدمهن بكل أريحية ‏وهو يمدح سلعته، ويثني على ذوق "زبونته" التي أحسنت اقتناء سلعته "التي لا مثيل لها". وأصابه ارتباك واضطراب وهو ‏يرى زبونة تكاد تشبه شبحا من الهزال، تتكيء على عكازة، عيناها ذابلتان، صوتها أجش ينبيء عن كثرة تدخينها. طلبت سلعة، ‏فلبى رغبتها، وتنازل عن قبض الثمن، وقال: رحم الله "با سلام" و"للا مسعودة". ‏

حدقت فيه فلم تعرفه. قال ليشفي فضولها وتساؤلاتها: إنه من أبناء الجيران في الحي القديم. ثم أضاف بنبرة ضاحكة: وممن ‏احترق بهواك قبل زواجك بالأقرع. ‏
قالت: زوجي الثاني احتجزت كل ممتلكاته وأمواله، ومات في السجن، فصرت إلى ما ترى. كنتُ وانتهيت، بلا أسف أو ندم، وبلا ‏مجْد مشرِّف، كما يرى الناس. قال: "إلى غاب الزين تيبقاو حروفو". قالت: لم تبق إلا "شقوفو".‏
ضحكا معا، وأصابتها نوبة من السعال الحاد. لوح بيده وابتعد. قال قبل أن يغيبه المنعطف: اعتني بصحتك قليلا يا "بنت أمي ‏السعدية".‏
غمغمت باستسلام: " العَوْد الشارف ما تنفعو الصفايح " [الحصان الهرم لا تنفعه السنابك][= لا تعيد له الشباب والحيوية].‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي


.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر




.. قضية دفع ترامب أموالا لممثلة أفلام إباحية: تأجيل الحكم حتى 1


.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر




.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية