الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة البؤس و بؤس الثقافة

علي فضيل العربي

2024 / 6 / 30
الادب والفن


يكون الذين قرأوا رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو ، قد اكتشفوا – إن هم قرأوها بعمق و تأمّل – حجم البؤس الاجتماعي و الثقافي و السياسي ( الفقر المدقع و الأمراض البيولوجيّة و النفسيّة و الجهل المميت و الاستبداد ) ، الذي كان سائدا في المجتمع الفرنسي خاصة ، و الأروربي عامة في القرن التاسع عشر ، و هو امتداد طبيعي لعصر الظلمات في أوربا ، في الوقت الذي كانت الحواضر العربيّة و الإسلاميّة في الأندلس و بغداد و القاهرة و تيهرت و بجاية الناصريّة و مراكش و القيروان ، تنعم بنور العلم و المعرفة .
أعود إلى صلب الموضوع ، و هو أنّ وضعنا الثقافي و الاجتماعي و السياسي و الأخلاقي الحالي ، لا يختلف كثيرا عن وضع أسلافنا غداة سقوط بغداد يوم 9 صفر 656 هـ الموافق لـ 10 شباط ( فبراير ) 1258 م ، و هو سقوط ألقى بهم إلى غياهب قرون من الضعف و الانحطاط ، لتليها فترة الغزو الاستعماري ، الذي أمعن في تدمير الهويّة و تفتيت الأمة العربيّة و الإسلاميّة إلى أقطار ، وصمّم لهم الغرب الاستعماري ، و على رأسهم بريطانيا و فرنسا جامعة عربيّة ، يجتمع في أروقتها العرب ، ليتبادلوا التهم و الملامات و الخصومات ، و ينفضوّا من حول بعضهم البعض و أوجههم كظيمة من شدّة الغيظ .
ماذا أنتجت لنا ثقافة البؤس ؟ و متى نتطهر من بؤس الثقافة ؟ متى يدرك العرب و المسلمون ، أنّ ما يجري اليوم في غزّة من إبادة جماعيّة لإخواننا الغزيّين و الفلسطينيين عامة ، هو من إفرازات ثقافة البؤس و البؤس الثقافي ، الذي غزا منظومتنا التعليميّة ، الابتدائيّة و الثانويّة و الجامعيّة ، و منظومتنا الدينيّة ، الفقهيّة ، و منظومتنا الاجتماعيّة ، المتمثّلة في التفكّك الاجتماعي و التسيّب الأخلاقي ، و منظومتنا السياسيّة ،القائمة على الاستبداد الشرقي و الديمقراطيّة الغربيّة ، التي تدير حربا طاحنة في غزّة و أوكرانيّا و السودان ، من خلال تمويل أطراف الصرع بالأسلحة الفتّاكة ، و تأييد الظالم لسحق المظلوم ، و منح الحق لمن لا حق له ، و سلبه من صاحبه ظلما و عنوة و قهرا .
من مظاهر بؤسنا الثقافي ، إشغال أفراد المجتمع بالصغائر و إحلالها محلّ الكبائر ، و بالمسائل المظهريّة على حساب المسائل الجوهريّة ، و ضياع اللبّ بين القشور في المسائل الفقهيّة ؛ تأجيج الصراع بين المكوّنات الاجتماعيّة من خلال إشعال الفتن الدينيّة و اللغويّة و الإثنيّة و الإيديولوجيّة و المذهبيّة .
و مازالت الأفكار الميّتة و المميتة تتصدّر منابر الحوار في الجامعات و المنتديات و القنوات المسموعة و المرئيّة و مواقع التواصل الاجتماعي . في الوقت الذي يبيد فيه الكيان الصهيوني – و هذا باعتراف قطاع كبير من المجتمع الغربي و محكمة العدل الدوليّة – مازلنا ، نحن ، عاجزين عن توفير أبسط الخدمات الاجتماعية للمواطن العربي ( ماء ، و كهرباء ) في عزّ حرارة الصيف اللاهبة .
و من مظاهر البؤس الديني و الفقهي ، خرج علينا رهط من أدعياء العلم و الإيمان ، ليفتوا للدهماء ، أنّ ما جهاد إخواننا في غزّة و الضفّة و القدس ، لا يدخل في باب الجهاد بالسنن . و هم يقصدون بذلك ، الجهاد بأمر من وليّ الأمر . و هو حقّ أريد به باطل . و كنت قد طرحت سؤالا على هؤلاء العلماء الأفذاذ ، الذين تجاوزا في علمهم و ذكائهم و بصيرتهم السؤال التالي : ما رأيكم في الحجاج ( الحرّاقين ) ، أيّ بلغة أهل المغرب ، الذين ذهبوا إلى الحج ، دون أن يأذن لهم وليّ أمرهم و لا وليّ أمر الحرمين الشريفين ؟ أيّ ذهبوا إلى الحج خارج الأطر النظاميّة التي وضعتها المملكة العربيّة السعوديّة و الضوابط الأمنيّة التي حدّدتها ؟ أما كان عليهم أن يحجّوا طبقا لمبدأ ( الحج بالسنن ) ؟ ممّا أسفر عن سقوط مئات الضحايا أثناء أداء الحج هذه السنة . كنّا نظنّ أنّ الحرقة ( الهجرة السريّة ) تقتصر على المهاجرين إلى أوربا ، فإذا بها تنتقل عدواها إلى الحقل الديني المقدّس ، أيّ إلى الركن الخامس من أركان الإسلام . و هي من إفرازات ثقافة البؤس و البؤس الثقافي اللذين نعاني منهما .
لكن ، لا أحد تفضّل بالجواب ، و كتب لي أحد الأساتذة قائلا : لن يجيبوك ، يا أستاذ ، لأنهم منشغلون بمسائل الحيض و النفاس و تكفير من يخالفهم في مظاهرهم البائسة و آرائهم البائدة .
و من مظاهر البؤس الثقافي و الثقافة البائسة ، تهميش الكفاءات العلميّة و الأدبيّة ، و إقصاؤها من المشهد العلمي و الأدبي ، بينا تقام موائد مستديرة و تُمنح منابر إعلاميّة رفيعة ، لأشباه العلماء و المثقفين ، ليطعنوا في هويّة الأمّة ، بداية من ضرب اللغة الفصحى ، و تشجيع اللهجات العاميّة على حسابها ، فقد تجرّأ أحد المتفلسفين إلى القول جهرا و أمام العام و الخاص ، أنّ التدريس باللغة العربيّة في الجزائر ، انتقل من كونه مشكلة إلى إشكاليّة ، و هو ، لعمري ، مؤامرة مدفوعة الثمن سلفا . و دعا بالمقابل إلى إبدالها باللهجة الأمازيغيّة ، التي يعزف عن دراستها الأمازيغ أنفسهم . و الهدف ، من وراء الستار ، هو جعل اللغة الفرنسيّة في موضع العربيّة ، بعدما قرّرت وزارة التربية الوطنيّة تدريس اللغة الإنجليزية بداية من المرحلة الابتدائيّة ،.
ضرب الهويّات الوطنيّة و القوميّة ، مشروع استعماري قديم ، هدفه تفتيت المجتمعات العربيّة و الإسلاميّة إلى كنتونات قبليّة ، متنافرة و متناحرة . فقد عمد المستشرقون الغربيّون إلى البحث الأنثروبولوجي و التنقيب عن الآثار القديمة ، الماديّة و اللاماديّة ، لبعث النعرات القبليّة و إحياء العصبيّات الميّتة و المميتة . و ما يقوم به الغرب الصليبي ، و على رأسه ، فرنسا ، في المغرب العربي خير شاهد على المؤامرة الفظيعة التي تُحاك ضدّ وحدة المغرب العربي ، جغرافيّا و ديموغرافيّا و ثقافيّا و مذهبيّا و اقتصاديا . إنّ إثارة مسألة اللسان الأمازيغي ( البربري ) ، هدفها ضرب الوحدة الوطنيّة في أقطار المغرب العربي . رغم أنّ المواطنين في المغرب العربي ، يعتزّون بالانتماء للسان العربي و لغة القرآن الكريم ، و لم تُطرح هذه المسألة إلاّ بعد الغزو الاستعماري ، تنفيذا لسياسة ( فرّق تسد ) .
و من مظاهر البؤس الثقافي ، و الثقافة البائسة ، عجز الجامعة العربيّة عن إصلاح ذات البين في الحرب الأهليّة السودانيّة ، و قبلها الحرب الأهليّة اليمنيّة . و كبح آليات الاستبداد السياسي . إنّ منظومتنا الثقافيّة و التعليميّة ، تعانيان من داء الأدلجة و الأهواء و تخلّف المناهج و ضعف البرامج و التردّد في اتّخاذ القرار و ضبابيّة الإصلاح و الغربلة . لقد عجزت الأمة العربيّة و الإسلامية عن ابتكار عصا للمكنسة ، حتى جاءتنا من الغرب ، بعد قرون من اعوجاج ظهر المرأة و تمنجله ( من شكل المنجل ) من أثر الكنس بوجه كاد أن يلمس الأرض ، و خياشيم يسدّها الغبار .
من مظاهر البؤس الثقافي ، و الثقافة البائسة ، ظاهرة الولع بالمنتوج الغربي و اتّباعه شبرا شبرا ، تجسيدا لمقولة ابن خلدون ( المغلوب مولع أبدا بالغالب ) . و استيراد الفلسفة الغربيّة ، دون تمحيص أو تمييز بين ما يتلاءم مع قيّم المجتمع و ما يتعارض معه . فكلّما أمطرت في الغرب ، هرع قوم عندنا إلى رفع المطريّات تحت سماء شافيّة لا شيّة فيها . فعمد المشتغلون بالنقد إلى التسابق في تبنّي النظريّات النقديّة ، و هرول المهتمون بالعلوم الاجتماعيّة و الدارسون لها و المدرّسون إلى اعتناق النظريّات الغربيّة ، دون مراعاة البيئة الزمكانيّة التي ولّدتها و أنشأتها و أوحت بها ...
و كأنّ زعماء الولع و الاتّباع ، عندنا ، يسابقون زمنا غير زمانهم ، و يخاطبون جمهورا غير جمهورهم .
من مظاهر بؤسنا الثقافي ، و ثقافتنا البائسة ، المدن و القرى المتّسخة . فالقمامات تستأسد الزمان و المكان ، و لم يستطع ، هذا المواطن العربي ، أن يجسّد مقولة ( النظافة من الإيمان ) ، فهو يعيش في زاويّة و النظافة في زاوية أخرى . هذا، الطفل الذي هو رجل الغد لا نعلّمه مباديء المواطنة الحقّة ، و لا نرسّخ في نفسه سلوكياتها الصحيحة . فالسائر في شوارعنا و ساحاتنا و المتنزّه في حدائقنا ، أو شبهها و غاباتنا و على شواطئ بحورنا وضفاف أنهارنا ، تواجهه بقايا مكانها الأصلي و الطبيعي مكبّات القمامة ، و لكنّ المواطن العربي ، لا يجد حرجا في رميها في أيّ مكان عشوائيّ .
أما الطامة الكبرى ، و القشّة التي قصمت سنام البعير ، و البعير منها براء . فعزوف الشباب عن المقروئيّة . و الزائر لجامعاتنا ، ستصدمه ظاهرة النفور من المطالعة ، و سألت طالبا السؤال التالي : كم كتابا تقرأ خلال السنة ؟ أو كم ساعة تقرأ في السنة ؟ و ما هي أهم الكتب التي قرأتها سنة 2023 م ، و في النصف الأول من سنة 2024 ؟ لبُهت الذي سُئل ، و تلعثم ، و ربّما اعترت وجنتيه حمرة الخجل .إنّ نسبة المقروئّة عندنا لا تتعدّى 2 بالمائة على أقصى تقدير . و هذه معضلة توارثتها الأجيال من الأسر والمناهج المدرسيّة الباليّة .
بؤسنا الثقافي ، يا سادة ، يا كرام ، بيّن لا عور فيه و لا قذى بعينيه ؛ في علاقاتنا الاجتماعيّة و طقوسنا العباديّة و في مدارسنا و جامعاتنا . في تعاملنا من الأحياء و نظرتنا إلى الأموات . جلّ قراراتنا مرهونة عند الأموات . عواطفنا تجاه الأموات أقوى منها تجاه الأحياء . نستدعي الأموات لحلّ مشكلاتنا المعاصرة . نسير إلى الأمام و عيوننا إلى الخلف .
ثقافتنا البائسة ، يا سادتي ، ستفضي بنا إلى الانقراض ، كما انقرضت الديناصورات . لن تسعفنا من أدوائنا الظاهرة و الباطنة . هي دليل دامع على أنّنا نعيش في عصر الضعف و الانحطاط الثاني ، عصر الجمود السياسي والديني و العجز عن الاجتهاد و التجديد و النهوض ، و هي إنذار لنا قبل فوات الأوان .
و من الواجبات العاجلة ، غير الآجلة ، أن نطهّر عقولنا من البؤس الثقافي ، كي تنفتح أمامنا سبل النهضة العلميّة و الانطلاقة التكنولوجيّة ، لحفظ ديمومة وجودنا و حريّتنا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تراث الصحراء الجزائرية الموسيقي مع فرقة -قعدة ديوان بشار-


.. ما هو سرّ نجاح نوال الزغبي ؟ ??




.. -تعتبر مصدر إلهام للكثير من الأعمال-.. أفلام ينصح بها صانع ا


.. أفلام تستحق المتابعة في صباح العربية




.. ترشيحات أفلام قديمة عليك إعادة مشاهدتها