الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرضيات الحرب والإبادة

مصطفى النبيه

2024 / 7 / 1
الادب والفن


كل الذين سكنوا الخيمة، أدركوا معنى الاحتراق وبأن هذه الأجساد المنهكة وقودًا للسعير.
ضاقت بنا الدنيا وتشاجرنا مع أنفسنا بعد أن أكلتنا الأمراض ، وأصابنا النقص وغرقنا بالرتابة.
وسط حالة التيه التي ابتلعت حياتنا وقفت أراقب أبي الذي يعيش على هامش الحكاية ويسافر إلى الماضي ،ليلتقط صورًا مازالت تنهض في مخيلته ويبثها علينا بذهول وكأنه يراها للمرة الأولى. انحنى ظهره وانكمش لحمه ورحل ربيعه وأصابه الزهايمر ومازال يحب الحياة. يحدثنا عن يافا "أم الغريب " وتل بيدس التي تطل على البحر وبيت العائلة في حي المنشية.
ما بين كلمة تجر كلمة، يشتد الانفعال وتولد مشاعر متضاربة، يتوه أبي ويتحشرج صوته وينفجر حزنًا ويغرق في بحر صمته، ثم يهم بالكلام،فيتلعثم ويقفز متوترًا ليحدثنا عن محل جدي في دوار " الساعة "في يافا وينسج صور وحكايات عن أصدقاء طفولته وأصدقائه الذين ينتظروه في ميدان الجندي المجهول في غزة.
أبي يسافر بين الأزمنة مرغمًا ، لا يخشى الحرب ولا ترهبه القذائف المتوحشة، فالأحداث التي نحياها خارج إدراكه.
أثناء الحديث يقطع كلامه فجأة وينظر إلى مكان الساعة التي كانت في يده و يصرخ غاضبًا ، رافضًا أن يتأخر عن ميعاده و يلعن السائق الغير ملتزم ويتمتم بكلامات مبهمة.
يشرح من خلالها أسرار الهزائم وأن السبب الرئيسي للنكبة عدم احترام الوقت ويؤكد أن مشكلتنا دومًا بمن يقود المركب وعدم فهمه للقوانين ،واليوم نحن بحاجة ماسة للبحث عن سائق بديل كي لا يضيع الوقت وننجوا بأنفسنا من التهلكة.
أهز رأسي موافقًا. يتابعني بنظرات مبهمة يتفحصني مستغربًا وكأني كائن غريب ثم ينهض ويقف أمامي وهو يترنح ويسألني من أنا؟ وقبل الإجابة ينساني ويحاول أن يخرج من الخيمة، يقول : إنه على عجلة من أمره، يريد أن يشرب القهوة مع جدي في حديقتهم الصغيرة في يافا.
نبكي على أبي وعلى يافا وعلى أيامنا المنهوبة وأحلامنا الضائعة ثم نقضي ساعات نحاول إقناعه بأننا نزحنا من غزة إلى الجنوب ومازلنا ننتصر ليافا وأننا سجناء الخيمة، فيثور علينا رافضًا هذا الهذيان، يشتمنا ويصرخ غاضبًا "اتركوني " ويتهمنا بأننا تآمرنا عليه ، نريد أن نخلعه من يافا،نقف أمامه حائرين ،مكسورين نجتهد لنشرح له واقعنا المرير وبأننا ضحايا،يرفض سماع صوتنا وينفجر أكثر وأكثر ، ويكرر محاولته للخروج من الخيمة بعد أن شعر بالاختناق، ليتصفح شوارع يافا، غزة، شوارع وطن يسكن في مخيلته.
فلسطين الصابرة ،تستحق الحب سيدة الجمال، سلخوا لحمها عن عظمها بعد أن أعدوا لها موت مؤكد.
أبي أصبح اليوم يملك ذاكرة السمكة، تطوف في مخيلته صور تجعله يتوه ما بين الماضي والحاضر ، يلتقطها وبانسيابية يولف بين المشاهد البصرية المبعثرة ما بين نكبة 48 ومحرقة " 23 "كأن الزمان يعيد نفسه وبوحشية أكثر شراسة ،أقف مهزوم أتأمل مدينتي التي تخلع ثوبها وتقف عارية لتغتسل بخيوط الشمس وتتلوا علينا فرضيات عجيبة عن اليوم الأول ما بعد نهاية الحرب
تدور بنا الدنيا ويدور أبي في الخيمة حائرًا، يسألني متى سيعود إلى بيته؟
أبكي حرقة وأنظر لأبي وأقول
يا أبي بيوتنا خيمة وأخشى أن تكبر وتصبح مخيم في شوارع تغرق بالصرف الصحي
أقف حائراً أمام فرضيات عجيبة ..
أيعقل أن تصبح حياتنا غاب؟
يا أبي هناك فرضيات ، زرعت في طريقنا وعلينا قراءتها بعمق حتى نستوعب القادم.
الفرضية الأولى .. بعد أن تنتهي الحرب ،سيكون هناك حرب ضروس طاحنة تم الإعداد لها سلفاً وقد وقعنا بالفخ ،ابتلعنا الطعم.
فبعد تنفيذ المخطط الإجرامي وإبادة وتهجير أكثر من مليون مواطن بوسائل مختلفة، ستتكرر مشاهد النكبة و التهجير ، لن تكون الصورة أبيض وأسود، بل بالألوان الطبيعية وعلى عينك يا تاجر و ستصبح غزة و رفيقتها رام الله غير قابلة للحياة.ستنتفض ذيول الاحتلال بعد أن يلبسوا ثوب الوطنية وينثرون الشعارات الرنانة ليأكل المستضعفين المطحونين الطعم ويتساقطوا واحد تلو الأخر ويسقط إيمانهم بالوطن ويتم تجريدهم من أي انتماء.
الفرضية الثانية .. عندما يصبح الوطن مقبرة فالشعب هم الأموات . سيتم عجن الحجارة بالإنسان وسحق الحيوان والشجر وخلطهم جميعًا لبناء لوحة تركيبية تعبر عن مواطن مكسور مهزوم مجرد ظل بلا ملامح .
وفي هذه الأثناء سيجتهدوا لتفريغ السلطة من محتوها، سيسلخونها من روحها لتصبح روبوتًا ينفذ المعطيات. بعد أن تكتمل عناصر المؤامرة ستنبح الكلاب الضالة وتتغنى بالضحايا وبحقوق الإنسان وبالشعارات الكاذبة وبعاطفة مفتعلة، سيقترحون على السلطة المنهكة ،أن ترمم الأجساد الميتة التي تسير على الأرض ويسجنونها في خرابة اسمها غزة وستدور لعبة المفاوضات حتى تترهل وتموت وسنبقى نغرق بالأكاذيب إلى ما لا نهاية، نحلم ونحلم بإقامة دولتنا المنهوبة على ما تبقى من وطننا المصلوب.
الفرضية الثالثة:
زوال إسرائيل
فرضية أصبحت الأكثر توقعًا في المرحلة القادمة. بعيدًا عن العاطفة والأحلام الوردية والتمنيات بتحرير فلسطين.
أولا :أنا لا أؤمن بالخرافة أو بحديث المتدينين عن زوال دولة الاحتلال الاسرائيلي كما ورد بالتوراة والقرآن فبالنسبة لي واحد + واحد يساوي أثنين ولكن المعطيات التي نشاهدها والدراسات التي اطلعنا عليها والتي تتناول سيكولوجية الشعب الإسرائيلي والصراعات الخفية والعنصرية بين الغربيين والشرقيين و المتدينين. أي باحث بدون أي تعب أو اجتهاد يدرك وبشكل تلقائي أن الدولة شاخت وتعيش خريفها والآن تلتقط أنفاسها الأخيرة. إنها دورة الحياة ،ثابتها الوحيد هو الموت فلكل بداية نهاية، فعلى مدار العمر الزمني للاستعمار وهو يشحن الشعوب بفكرة الانتقام والتحرر فالشعوب المضغوطة المقهورة ستخرج عن طبيعتها وتنتصر لحريتها فالتراكمات الكمية لا بد أن تعطينا نتائج نوعية وبما أننا نعيش عالم الإبادة ونشاهد طبول الحرب تقرع في أكثر من محور وهذا نذير على اشتعال حرب إقليمية قادمة ستأكل الأخضر واليابس ولن تنطفىء وستعطي نتائج غريبة غير متوقعة تغير المنطقة
فالتغييرات التي نتجت خلال حرب الإبادة، تجعلنا نسترجع حديث الشيخ أحمد ياسين عن نهاية إسرائيل عام 2027 إنه يتوقع زوال دولة إسرائيل ، لأن الأجيال تتبدل كل 40 سنة.
وأوضح أن الـ40 الأولى كانت جيل النكبة، ثم جاءت الـ40 الثانية فانتفض الشباب وواجهوا، في حين سيكون جيل الـ40 الثالثة هو جيل التحرير.
كما هناك أمثلة تاريخية أستند إليها تبين أن "مملكة داوود وسليمان"الدولة اليهودية الأولى، لم تستمر لأكثر من 80 عاماً، وبالمثل "مملكة الحشمونائيم"، الدولة الثانية لليهود، انتهت في العقد الثامن من تأسيسها، بينما إسرائيل، وهي "الدولة الثالثة" مازالت تصعد للهاوية وتلتقط أنفاسها بعد أن شاخت وستغرب يومًا، والدليل على ذلك التغيرات التي طرأت على الخطاب الإعلامي العالمي للشعوب الحرة بعد ما تعرضنا له من حرب إبادة. بدأت شعوب العالم تنتصر للرواية الفلسطينية.
وقد تنبأ "بيني موريس " أحد أشهر وجوه حركة المؤرخين الجدد بانهيار دولة الاحتلال بناء على التوسع الديموغرافي للعرب وأكد على ذلك أفراهام بورغ الذي تحدث عن عنصرية إسرائيل ونبذها الديموقراطية وتمسكها بعقلية" الفيتو" .
يقول المفكر "عبد الوهاب المسيري " في حروب التحرير لا يمكن هزيمة العدو وإنما إرهاقه حتى يسلم بالأمر الواقع
لذا سنعيش سنوات عجاف تأكل الأخضر واليابس ، وخلالها سنذوق ألوان من الجوع ونغرق في الجحيم ، و ستجف عروقنا من العطش وستتغير ملامح غزة وستنتشر الأوبئة والأمراض وستحصد الجميع وفي النهاية وما النصر إلا صبر ساعة ونحن الصابرون
نام أبي مقهورًا ، وبقى يحلم بيافا وغزة وأنا مازلت أتابع الأخبار وعلى يقين أن هذه الحرب المشتعلة لن تنطفىء وستمتد وتمتد مع ذلك سأبقى انتظر القادم بإيجابياته وسلبياته.
كم تمنيت لو أني أملك ذاكرة مؤقتة تمسح وألا أستيقظ إلا بعد أن تسقط هذه الغمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -شد طلوع-... لوحة راقصة تعيدنا إلى الزمن الجميل والذكريات مع


.. بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر تنظم مهرجانا دوليا للموسيقى ت




.. الكاتب في التاريخ نايف الجعويني يوضح أسباب اختلاف الروايات ا


.. محامية ومحبة للثقافة والدين.. زوجة ستارمر تخرج للضوء بعد انت




.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة