الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما تأتى الثورة المضادة بعد 235 عاماً

محمد شيرين الهوارى

2024 / 7 / 2
السياسة والعلاقات الدولية


خلفية
هناك تقييمات وأراء عديدة حول الدوافع والميكانيزمات والقوى التى حركت فعلياً الثورة الفرنسية (وكثيرون يحلو لهم وصفها بالثورة الأم) عام 1789 وأختلف المؤرخون حولها بشدة، بل وبطريقة وصلت إلى الاستقطاب الحاد للغاية فى بعض الأحيان. وينطبق الأمر نفسه على مدى نجاحها أو فشلها، خاصة بعدما تمكن نابليون بونابرت من الاستيلاء على السلطة كاملاً وإعلان نفسه قيصراً لكل الفرنسيين فى ديسمبر 1804.
ولكن من المؤكد أن فرنسا سارت منذ تأسيس الجمهورية الثانية عقب ثورة 1848 على خطى ثابتة لترسيخ دعائم الديمقراطية فى البلاد (على الأقل داخلياً وبصرف النظر عن ممارساتها الإمبريالية المُجرمة فى مستعمراتها) وتخطت صعاب وظروف معاكسة كثيرة حتى تمكنت بعد الحرب العالمية الثانية أن تتحول إلى إحدى الديمقراطيات النموذجية فى غرب أوروبا رغم كل ما قد يكون لنا عليها من تحفظات تتعلق مرة أخرى فى الأساس بسياساتها الخارجية مزدوجة المعايير والمستمرة على أصعدة مختلفة حتى اليوم.
هذا إلى أن تولى إيمانويل ماكرون، رئيسها الخامس والعشرون السلطة فى مايو 2017 وهو فى الأربعين من عمره. سياسى ذو نزعة ليبرالية غير واضحة المعالم. وسطية حادة وقاطعة فى بعض الأحيان، مائلة إلى يمين الوسط ناحية الجمهوريين الفرنسيين فى أحيان أخرى وتشبه النيوليبرالية شبهاً شديداً فى أحوال ثالثة. بعبارة أخرى: شخصية متناقضة حصل على تأييد شعبه فى بدايات حياته السياسية ولكن بدأ يفقدها أكثر فأكثر على مدار السنوات السبعة السابقة، كان أخرها بسبب إصراره على رفع سن التقاعد فى فرنسا إلى 64 سنة (بدلاً من 62) فى منتصف عام 2023 رغم رفض السواد الأعظم من الفرنسيين بمختلف توجهاتهم السياسية لتلك الخطوة.

الوضع الحالى
وماكرون أيضاً رجل يصعب توقع تحركاته القادمة ورأينا ذلك مؤخراً بوضوح جلى فى إحدى أكثر اللحظات مفصلية فى التاريخ الفرنسى الحديث عندما منى حزبه والأحزاب المتحالفة معه بهزيمة ساحقة فى إنتخابات البرلمان الأوروبى وبالأخص أمام "التيار القومى" اليمينى المتطرف تحت قيادة مارين لوبان، فما كان من ماكرون، الذى كثيراً ما يوصف بالمغرور والمتعجرف، إلا أن أعلن انتخابات برلمانية فرنسية مبكرة فى مجازفة شديدة وصفتها "هيئة الإذاعة البريطانية" BBC بأنها مقامرة بمستقبل الديمقراطية الفرنسية وأضيف إلى ذلك أنه فى وقتها على ما يبدو لم يكن يعرف أوراق الخصم ولا أوراقه هو نفسه حتى.
وكان الرهان الأكبر لماكرون فى هذا الموقف على ما يبدو هو العودة لنفس التكتيك الذى استخدمه الرئيس الأسبق جاك شيراك فى انتخابات عام 2002 عندما واجه جان مارى لوبان (والد مارين لوبان) وتمكن من حشد كافة القوى السياسية الفرنسية خلفه (بعيداً عن دعمها لسياسته بشكل عام من عدمه) بداعى مواجهة اليمين المتطرف الفاشى الذى يمثله لوبان ومنعه من الوصول إلى سُدة الحكم. ولكن (مش كل مرة تسلم الجرة)، فموقف ماكرون فى 2024 مختلف تماماً عن موقف شيراك. صحيح أن حزب "الإتحاد من أجل الحراك الشعبى" كان أيضاً حزب ليبرالى محافظ ولكن جذوره فى التراث الديجولى (نسبة إلى شارل ديجول، الرئيس الفرنسى الأسطورى ما بعد الحرب العالمية الثانية) كانت تعطيه ظهيراً شعبياً كافياً لإقامة مثل تلك التحالفات الواسعة وكان لوبان لا يزال حديث الظهور نسبياً على الساحة السياسية الفرنسية ولم يكن بعد قد أسس لنفسه قواعد شعبية بالقدر الكافى ولم يكن أيضاً قد طور أدوات للتعامل مع المخاوف التى يثيرها خطابه اليمينى الشعبوى وهى جميعها أمور عرفت أبنته كيفية التعامل معها بحنكة شديدة وصبر تُحسد عليه حتى تمكنت بالفعل من حصد ما يقرب من 34% من الأصوات فى الانتخابات الرئاسية عام 2017، مقابل حوالى 18% فقط حصل عليها والدها قبل ذلك بخمسة عشر عاماً.
ومن هنا لم يفاجأ أحد من المتابعين للمسرح السياسى الفرنسى بنتيجة الجولة الانتخابية الأولى التى أقيمت فى الثلاثون من يونيو الماضى حيث حصد اليمين المتطرف 33.2% من الأصوات ثم التكتل اليسارى بنسبة 28% ويليه التحالف الوسطى بقيادة ماكرون وحصل على 22% ثم الجمهوريين على يمين الوسط بنسبة 6.6% وباقى الأحزاب مجتمعة 10.2% وأصبح حكم ماكرون قاب قوسين أو أدنى من الإنهيار حتى ما قبل نهاية مدته الرئاسية فى 2027.

مصير الديمقراطية الفرنسية
فى ظل كل هذه الظروف المرتبكة نسأل إذن: ما هو مصير الديمقراطية الفرنسية وماذا تخبئ لنا الجولة الانتخابية الثانية؟
يظهر أولاً بوضوح من نتائج الجولة الأولى أنه مهما بلغت قوة لوبان، فحزبها لن يتمكن من الحصول على أغلبية برلمانية مطلقة وهو بالتالى لن يكون قادراً على تشكيل الحكومة الجديدة بشكل مباشر.
وقد تبدو هذه على أنها أخبار مطمئنة نوعاً ولكن هذا لا يعدو كونه إخساساً زائفاً لأن الجانب الآخر فى مأزق خطير بدوره. صحيح أن التكتل اليسارى والتحالف الوسطى مجتمعين قد يتجاوزوا بالكاد نسبة الــ 50% ولكنها أولاً، على فرض أنه حدث تحالف حقيقى بينهما أصلاً، ستكون أغلبيتهم طفيفة لدرجة أنها ستفتقد القدرة على تشكيل الحومة هى الأخرى وإن أستطاعت فلن تتمكن من الحكم بفاعلية حقيقية فيما بعد. ذلك طبعاً على فرض جدلى أن نسب توزيع الأصوات ستظل كما هى بدرجة كبيرة (وهو الأرجح فى تقديرى) حتى ولو حصل الوسط واليسار مجتمعين على نقطتين مئويتين زيادة وهو الأمر الوارد جداً حيث أنسحب حتى الآن قرابة 200 مرشح من المعسكرين فى دوائر انتخابية مختلفة حتى لا يواجهوا بعضهم البعض وتتشتت الأصوات بما يصب فى صالح اليمين المتطرف.
ولكن تحالف هذه القوى فى النهاية هو محل شك أساساً لما كان على سبيل المثال الجناح اليمينى فى معسكر ماكرون الوسطى برفض رفضاً باتاً أى تعاون كان مع الحزب اليسارى الأكثر راديكالية قليلاً "فرنسا الصامدة" – "La France Insoumise" (حرفياً "فرنسا غير المنحنية") بزعامة جان لوك ميلانشون، كما أن الجمهوريين على يمين الوسط قد يرتضوا بتحالف مع الوسط "الماكرونى" إن جاز التعبير ولكنهم بكل تأكيد لن ينظروا إلى أى تحالف يضم اليسار، ولا حتى اليسار المعتدل، فما بالنا بحزب ميلانشون، بل أنهم أيديولوجياً قد يميلوا أكثر إلى التعاون فى بعض الأمور مع "التيار القومى" اليمينى وإن كانت الأمور غالباً لن تصل إلى درجة التحالف المباشر معهم.
ومن هنا يبدو واضحاً أن الأوضاع فى فرنسا متجهة إلى ما يسمى فى العربية "البرلمان المُعلق" أو "Hung Parliament" والذى هو مجلس نيابى لا توجد فيه أغلبية مطلقة وهو سياسياً شكل غير مستقر بالمرة وسيصعب للغاية فيما بعد عملية اتخاذ القرارات وقد يؤدى بالبلاد إلى حالة شلل فى الكثير من الأحيان ولفترات طويلة يبقى فيها الوضع على ما هو عليه مهما كانت الحاجة إلى إحداث تغييرات.
وبينما يرحب الجزء الأكبر من مجتمع الأعمال الفرنسى بهذا الشكل لأنه يحميهم من سياسات يسارية جديدة أولاً وثانياً لأن السياسات القائمة مناسبة له أصلاً، فهو غالباً ما سيلحق الضرر الشديد بعموم المواطنين، بداية من الطبقة الوسطى وما أسفلها.
أما تشكيل الحكومة، فهو سيكون عن أحد طريقان لا ثالث لهما:
1.) أن يحاول "التيار القومى" تشكيل حكومة أقلية برئاسة جوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاماً وهو مسار ممكن فى جميع الأحوال ولكن صعب للغاية بدون دعم الجمهوريين على يمين الوسط.
2.) أن يحدث توافق بين الوسط وبين الجزء الأكبر من التكتل اليسارى. ويُرجح حدوث ذلك التنسيق الانتخابى الواسع الموجود على الأرض حالياً بين هذين المعسكرين وفى هذه الحالة قد تكون حكومة الأقلية من نصيبهما.

فرنسا فى النفق المظلم؟
ولكن أى كان من أمر وفى جميع الأحوال تقف فرنسا اليوم على مدخل النفق المظلم الذى قد تفقد فيه معظم القيم والأسس الديمقراطية التى أكتسبتها على مدار 176 عاماً، بل وقد تتدهور إلى ما قبل ذلك حتى بما أستجد على المجتمع الفرنسى من عداء مفرط تجاه اللاجئين والمهاجرين وأى كان من هو ليس من أصول فرنسية بالتعريف اليمينى المتطرف، بل مجرد "أجنبى ولد على الأراضى الفرنسية" حسب وصف لوبان الأب لأسطورة كرة القدم الفرنسية زين الدين زيدان.
السؤال المحورى إذن ليس "أين فرنسا اليوم"، فهذا واضح لكل ذى بصيرة ولكن السؤال الأهم هو: "هل سيدخلون النفق أم لا"؟
هذا هو السؤال الدى يجب أن يجيب عليه الناخب الفرنسى يوم 7 يوليو فى جولة الانتخابات الثانية. رهانه المنطقى الوحيد فى تقديرى هو الفائز الثانى أو الخاسر الثانى من الجولة الأول "الجبهة الشعبية الجديدة" – "Nouveau Front Populaire" أو NFP يسارية التوجه. لا أتحدث هنا عن مكاسب انتخابية قصيرة الآجل ولكن مقصدى هو أن الــ NFP فى الوضع الحالى وفى المستقبل المنظور هى الجناح الوحيد القادر على مواجهة قوى اليمين المتطرف الذى تمثله لوبان ويتجلى فى بارديلا، أما "الماكرونيين" فسيظلون دائماً منغمسين فى محاولات بائسة لاسترضاء يمين الوسط، بل وبعض العناصر بداخل "التيار القومى" التى قد تبدو معتدلة نوعاً، ظناً منهم أن هذا ذكاء سياسى أو أن تلك هى المواءمات السياسية التى تضمن لهم النجاة من الغرق فى بحر الفاشية التى يجب فى الحقيقة مواجهتها مواجهة كاملة على كافة الجبهات. الليبرالية لم تفعل ذلك على مر التاريخ بينما فعل اليسار ذلك دائماً – ويشهد على ذلك تاريخ ألمانيا فى مواجهة النازية – وسيفعل ذلك مجدداً إن أتيحت له الفرصة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله وإسرائيل.. تصعيد متواصل على الحدود اللبنانية| #غرفة


.. تقارير: إسرائيل استهدفت قادة كبار في أعلى هرم الهيكل التنظيم




.. جهود التهدئة.. نتنياهو يبلغ بايدن بقرار إرسال وفد لمواصلة ال


.. سلطات الاحتلال تخلي منازل مستوطنين في القدس بعد اندلاع حريق




.. شهداء بقصف إسرائيلي استهدف مدرسة تؤوي نازحين وسط غزة