الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرانز كافكا نبيّ العصر البرجوازي

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2024 / 7 / 5
الادب والفن


مرّت في الثالث من حزيران مائة عام على رحيل الأديب التشيكي العظيم فرانز كافكا، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا ثريًا أثار جدلًا واسعًا واستلهم مخيلة القراء عبر الأجيال.
في الثالث من حزيران، تذكرنا ذكرى غيابه الجسدي، بينما تبقى أفكاره حيةً أكثر من أي وقت مضى، تنبض بالحقيقة في عالمنا المعاصر المُهيمن عليه الرأسمالية المتوحشة.
تُعدّ رواية "المسخ" لكافكا أيقونةً أدبيةً خالدةً، تجسّد صراع الإنسان في ظلّ آلة الرأسمالية المُقحِمة. يستيقظ بطل الرواية، جريجور سامسا، ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة، في رمزية صارخة لِفقدان الهوية والاغتراب في بيئةٍ تسحق الفرد وتُحوّله إلى مجرد ترسٍ في عجلة الإنتاج.
لم تكن رؤية كافكا قاتمةً فحسب، بل تنبؤيةً أيضًا. ففي عالمنا اليوم، حيث تُهيمن العولمة والنظام العالمي الجديد، نرى بوضوح تحول البشر تدريجيًا إلى "حشرات" في نظر النظام.
يُجسّد جريجور سامسا معاناة الإنسان المُستَلب في ظلّ العلاقات اللاإنسانية للرأسمالية. ففي عمله المُملّ، يشعر باليأس والإحباط، بينما يعاني من ظروف معيشية قاسية تُفقده إنسانيته.
يُمثل تحول جريجور إلى حشرة استعارةً لِفقدان السيطرة على الحياة، وتحول الإنسان إلى مجرد آلةٍ طيعة بلا إرادة. وقد نبدو مختلفين عن جريجور شكلاً، لكنّنا نعيش نسخًا من معاناته في حياتنا اليومية. فمن خلال عملنا ونشاطاتنا، وحتى في أوقات فراغنا، نُصبح مُكرّرين مُستنسخين، مُحاصرين في روتين مُملّ يُفقدنا هويتنا حيث تُصبح "ماكينة الزمن" في عالمنا الرأسمالي آلة استنساخ لِجريجور سامسا، تُنتج ملايين النسخ التي تُعاني من الاغتراب والذعر.
يُعدّ فرانز كافكا نبيًّا للزمن الحالي، حذّر من مخاطر الرأسمالية المتوحشة وتأثيرها المُدمر على الإنسان. ففي عالمنا اليوم، حيث تُسحق الفردانية وتُضيّق المساحات الحرة، تُصبح رواية "المسخ" أكثر أهميةً من أي وقت مضى، مُذكرةً إيانا بِضرورة مقاومة الاغتراب والبحث عن معنىً حقيقيّ للحياة.
"الكفاح يملؤني سعادة تفوق قدرتي على فعل أي شيء، ويبدو لي أنني لن أسقط في النهاية تحت وطأة الكفاح، بل تحت وطأة الفرح."
تُجسّد هذه العبارة الشهيرة لفرانز كافكا تناقضًا عميقًا في شخصية هذا الكاتب العظيم. فبينما تُشير إلى شعوره بالسعادة المُتفوقة خلال الكفاح، تُخفي وراءها ألمًا عميقًا ورؤية ثاقبة لمعاناة الإنسان في ظلّ ظلم العالم.
يُحاول البعض حصر موقف كافكا من تغيير الواقع المزري في خانة السلبية المُطلقة. لكنّ قراءة متعمقة لأعماله تُظهر عكس ذلك تمامًا. ففي رواية "المسخ" على سبيل المثال، لا يكتفي كافكا بتصوير معاناة جريجور سامسا، بل يُقدم نقدًا لاذعًا للنظام الرأسمالي المُستغلّ الذي يُحوّل البشر إلى مجرد آلات.
ويشدّد كافكا على مسؤولية الفرد في تغيير واقعه، ففي رواية "القضية" يُظهر كيف أنّ بطل الرواية، جوزيف ك، يُدمّر نفسه تدريجيًا بسبب استسلامه لِشعوره بالعجز واللامبالاة.
أوجه الشبه بيننا وبين جريجور:
يُجسّد جريجور سامسا معاناة ملايين البشر المُستَلبين في ظلّ أنظمةٍ قمعيةٍ وظالمة. ففي عالمنا اليوم، حيث تُهيمن العولمة والنظام العالمي الجديد، نعاني من العزلة والقلق والاغتراب، ونشعر بالظلم والقهر حيث تُعتبر النهايات المأساوية سمةً بارزةً في أعمال كافكا، لكنّها لا تُمثّل استسلامًا لِليأس، بل دعوةً لِلتأمّل والتفكير في جذور المعاناة.
سوداوية كافكا وسوداوية عصرنا:
يُقارن البعض بين سوداوية كافكا وسوداوية عصرنا، ففي ظلّ النظام العالمي الجديد، نعاني من ظروفٍ مشابهةٍ لِما عاناهُ جريجور سامسا. ويرونه يُجسّد في كتاباته حزنًا عميقًا ووجعًا إنسانيًا مُتزايدًا. ففي عالمٍ مُهيمن عليه الظلم والقهر، نتحمّل نحن أيضًا عبءَ الألم والمعاناة.
ولا يُمكن حصر موقف كافكا من تغيير الواقع في خانة السلبية المُطلقة. فبينما تُصوّر أعماله حزنًا عميقًا ويأسًا مُحيقًا، تُقدم أيضًا نقدًا لاذعًا للأنظمة الظالمة، وتُشجّع على التمرد والكفاح من أجل حياة أفضل.
إنّ مسؤولية تغيير الواقع تقع على عاتقنا جميعًا.
فكما قال كافكا: "الكفاح يملؤني سعادة تفوق قدرتي على فعل أي شيء". فلنُكافح من أجل عالمٍ أكثر عدلاً وإنسانية، ونُحرّر أنفسنا من قيود الظلم والقهر. فإن كافكا مرآة عكس الواقع المرير، شعلة أمل تدعو للتغيير
فنحن، كبشر في عالم اليوم، نعاني من نفس المشاعر التي عانى منها: العذاب، والغضب، والعزلة، والاغتراب، والقهر.
ولكن، لا يجب أن نستسلم لليأس كما فعل جريجور. فكافكا، على الرغم من معاناته الشخصية، لم يستسلم لِواقعه المُظلم.
بل فضح من خلال كتاباته قسوة النظام الرأسمالي، و شجّع على التغيير.
إنّ كافكا، من خلال أعماله، علّمنا أنّنا مسؤولون عن تغيير واقعنا. فكما قال: "الكفاح يملؤني سعادة تفوق قدرتي على فعل أي شيء".
أنّ الوحدة ليست قدرنا فنحن، على الرغم من شعورنا بالغربة، لسنا وحدنا. و لا ينبغي لنا أن نتخلّى عن إنسانيتنا. ففي عالمٍ مُجردٍ من الإنسانية، يجب أن نُحافظ على قيمنا ونُقاوم الظلم.
لكنّ التحديات التي نواجهها في عصر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد أكبر بكثير من تلك التي واجهها كافكا، فقد أصبحنا غرباء عن كل شيء، تُمزّقنا الطائفية والمذهبية والقومية، ونشعر بالضياع في عالمٍ مُتغيّرٍ بسرعة. ويزداد الشرخ اتساعًا بيننا وبين أنفسنا. فبينما يُظهر ظاهرنا صورةً مُتماسكة، يخفي باطننا صراعاتٍ وألمًا عميقًا.
ونعيش في عالمٍ لا نريده. إنه عالمٌ مُجردٌ من الإنسانية، مسلوبٌ منا، أجبرنا على بنائه، بينما يُشعِرنا بالقهر والاغتراب. لكنّ شعلة الأمل التي أشعلها كافكا ما زالت مُتقدة، ففضحُه للقهر هو الخطوة الأولى نحو تغييره،
وكما قال الكاتب ألبير كامو: "إنّ التمرد هو الطريقة الوحيدة لإثبات وجودنا".
وكتاباته تُذكّرنا بِقدرتنا على التغيير، فكلّ إنسانٍ يملكُ القدرة على إحداث تأثير في هذا العالم.
فلنُتّحد ونُقاوم الظلم والقهر. لنُحرّر أنفسنا من قيود الطائفية والمذهبية والقومية. لنُبني عالمًا جديدًا قائمًا على العدل والمساواة والإنسانية.
فلنكن أقوى من جريجور سامسا: لن نستسلم لليأس. لنُقاوم من أجل مستقبلٍ أفضل. وَلْنَتَذَكّرْ دائمًا أنّنا لسنا وحدنا وأنّ لدينا القدرة على تغيير العالم. وأنّ شعلة الأمل التي أشعلها كافكا ستظلّ مُضيئةً لنا الطريق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كافكا كشكولي
جلال عبد الحق سعيد ( 2024 / 7 / 5 - 01:10 )
مساء الخيرات
اشكرك على حسن انتقائتك في مواضيعك المنشورة والحقيقة ان ذائقتك الادبية ذات مستوى رفيع
ولكن
والاحداث الدامية تعصف بنا من كل جهة من المهم ان نعرف موقف كافكا من الصهيونية
اعتقد ان هذا اهم من تجربته الادبية في فضح قسوة النظام الرأسمالي
ماذا تقول اعماله عن العرب وماهو موقفه من الهاوية الصهيونية أم كان يتأرجح فوقها
يجب فرز كل الايقونات اليهودية ولانكتفي بالتوقيع على اوتوجرافتها
ابناء غزة تم ويتم ذبحهم بدم بارد
قرأت بعض اعماله في الثمانينات وقرات بعض ماكتب عنه وعن سيرته الذاتية منها رسالته الشهيرة الى ابيه وبعض رسائله الى مارينا لكن لم اجد في كل هذا تحليلا لموقف كافكا من الصهيونية
واخيرا المعذرة اذا كنت قد تحدثت بطريقة مختلفة
تحياتي


2 - الأخ جلال
حميد كشكولي ( 2024 / 7 / 5 - 08:10 )
الرد على الفيسبوك
وشكرا


3 - كافكا أمام القانون
Magdi ( 2024 / 7 / 5 - 10:40 )
1 - أوصى كافكا ( 1883- 1924 ) صديقه ماكس برود ( 1884 - 1968 ) بحرق جميع مخطوطاته ولكن ماكس هرب إلى أسرائيل فرارا من النازية ونشر كافة اعمال صديقه .
2 - حرق النازيون كافة أعمال كافكا.
3 - بعد سقوط النازية أشترت ألمانيا مخطوطة القضية ب 2 مليون مارك (مبلغ ضخم فى ذلك الوقت ).
4 - فى قصة التحول ( أو المسخ ) أستيقظ
Grégoire Samsa بعد حلم مزعج
وقد تحول إلى حشرة وكان أكثر ما أزعجه أنه سوف يذهب إلى عمله متأخرا !
5 - من اروع ماكتبه كافكا قصة قصيرة ( أمام القانون ) أحتار المفكرون فى تفسيرها .إليكم الترجمة العربية ، لا تفوتكم :
https://hekmah.org/%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%83%D8%A7%D9%81%D9%83%D8%A7/
مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki


4 - Magdi sami
حميد كشكولي ( 2024 / 7 / 5 - 11:37 )
لا صحة لادّعاء حرق النازيين لأعمال كافكا، حيث لم تُستهدف أعمال كافكا بشكل خاص من قبل النظام النازي.
مصادرة بعض الأعمال: صادرت السلطات النازية بعض أعمال كافكا باعتبارها -معادية للثقافة الألمانية-، لكنّها لم تُدمرها بالكامل.
شراء ألمانيا لمخطوطة -القضية-:
في عام 1994، اشترت ألمانيا مخطوطة رواية -القضية- مقابل 2 مليون مارك ألماني، وهو مبلغ
ضخم في ذلك الوقت. يعكس شراء المخطوطة اهتمام ألمانيا بأعمال كافكا وأهميتها الثقافية.

تحياتي


5 - نعم حرقت مؤلفات اليهود منهم كافكا
Magdi ( 2024 / 7 / 5 - 13:00 )
نعم حرقت مؤلفات اليهود منهم كافكا
منذ حوالى 10 سنوات أقرأ كافكا والدراسات عنه .لم أبدأ فى الكتابة عنه لرحيل زوجتى الحبيبة.
النازيون حرقت فعلا مؤلفات عمالقة اليهود منهم : هينة ، كارل ماركس ، فرويد ، كافكا ، أستفان زفيج (أنتحر مع صاحبته فى المنفى )...أنظر جوجل

Là, en dépit dune pluie battante, ils déchargent le contenu des camions et organisent un « autodafé rituel des écrits juifs nuisibles ». 20.000 livres sont brûlés. Parmi les auteurs voués au feu figurent Heinrich Heine, Karl Marx, Sigmund Freud, Albert Einstein, Franz Kafka, Stefan Zweig, Felix Mendelssohn-Bartholdy.
---
مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki

اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك