الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعادة المستشار

حامد تركي هيكل

2024 / 7 / 5
الادب والفن


المستشار

متعباً خائرَ القوى يجلس في مطبخه وحيداً ينظر من خلال نافذة المطبخ المطلّة على الكراج الفسيح ، الذي كان فسيحاً قبل أن تكتظُّ على أرضيته أكياس قمامة سوداء وزرقاء وأكياس خيش بيضاء لازالت تحتفظ ببقايا الطحين، وثمة صناديق متنوعة الأحجام والأشكال والأنواع، كلها موضوعة بشكل فوضوي على أرضية كراج السيارة، كان عليه أن يقوم بترتيبها وإعادة وضعها على رفوف المكتبة، الا انه يشعر بتعب اليوم، ويظن أنه ربما لن يكون قادراً على القيام بهذا العمل في أي وقت آخر. يلتفت الى شاشة التلفزيون التي كانت تبثُّ صورا مؤلمة ، صورا عن مدينة أو ربما عمّا كانت مدينة قبل أن يحولها القصف الى ركام. هياكل رمادية مهشمة من ركام وحديد ورمال تذروها الرياح.
ترى هل تحتوي تلك الأكياس كلَّ شيئ؟ يشكُّ في ذلك. كان يودُّ منذ زمن بعيد أن يستعيد مكتبته التي يعتزُّ بها كثيراً، والتي كانت تضمُّ أكثر من ستة آلاف كتاب، وكان يرغب بشدة أن يتمكن من نقل محتويات المخزن الأخرى التي يعتزُّ بها كثيرا، دراسات متخصصة شارك فيها، مجلدات من الدراسات، مخططات نادرة، صور فوتوغرافية ذات أهمية قصوى، مداليات، دروع، نياشين، وأقلام حبر ذهبية وساعات سويسرية من الذهب الخالص، هدايا، كتب شكر وتقدير مذهبة مؤطرة بأطارات ذهبية فاخرة، وأشياء أخرى كانت تلك حصيلة عمله الدؤوب الذي استمر عشرات السنين.
لكنه يتسائل أليست تلك الأبنية المهدمة التي يعرض صورها التلفزيون كانت ذات يوم شققاً آمنة تضمُّ حيوات آلاف الأشخاص، أطفال أمهات آباء، جيران، قصص صداقة، وأطباق طعام يتبادلها الجيران! أين أصبح كل ذلك؟ وأي يد ظالمة هدَّت كلَّ ذلك لتحيله الى ركام؟ مجرد أكياس قمامة وصناديق كرتونية مبعثرة على أرضية الكراج.

تذكر بيته الجميل الذي بناه في حي الكفاءات في بغداد ، كان الأمل والطموح وقتها سيد الموقف، وبدا كلُّ شيء كما لو أنه يبلغ درجة الكمال، فقد عاد للتو من بعثة دراسية الى بريطانيا، كل شيء عال العال. منح قطعة أرض وقرض وتسهيلات، كان عليه انجاز بناء البيت بأسرع ما يمكن ليتفرغ للعمل بكل طاقته، أكمل البيت وسكن فيه، وأثثه على أفضل ما يمكن أن يكون الأثاث، ورصَّ مكونات المكتبة كتاباً كتاباً، على مهل، استغرق ذلك ربما ثلاثين سنة، قبل أن يرن الهاتف ليبلغوه بضرورة إخلاء البيت فوراً ودون أن يحمل من أثاثه شيئاً والا فأنهم سيقتلونه.
كل شقة من شقق أبنية المدينة المهدمة لها حكاية. من المؤكد أن لها حكاية. بل ربما حكايات، فالأشياء لا تأتي هكذا بسهولة. الأشياء تنسج حول نفسها قصصاً. تتشابك مع الأحداث وتنشئ لها ذكريات ليصير لها وجود آخر غير وجودها السابق. تصير لها أسماء. وتُحاط بالمشاعر. حين أُضطر للانتقال الى جانب الرصافة للحفاظ على حياته، طلب من جاره أن يسكن في بيته وأن يحافظ على المكتبة العزيزة، سكن الجار سنوات، ثم بعد ان استقر الوضع الأمني في بغداد، قال له الأصدقاء لابد أن تؤجر دارك ليعينك مبلغ الايجار على تحمل نفقات الحياة والعلاج. لكن الجار أبى وماطل، ولم يفرغ الدار الا بعد سنة، وحين أجّرها الى رجل ذي مكانة ومسئولية في الدولة ، رجل مهم، بدأ يعاني الألم. فقد ظل يتواصل مع ذلك المسئول سنوات من أجل أن يسمح له بنقل المكتبة، لكن الرجل يرفض. لابد أن أكون حاضرا، كيف تفكر بالحضور الى بيتي وأنا غير موجود! أنا رجل مهم، ومهماتي حسّاسة وتتطلب مني أن أتواجد في مدن البلاد. انتظر، قال له، وانتظر أربع سنوات أخرى. حتى اضطر لبيع داره الجميلة، اشتراها رجل مستثمر باشر فوراً بهدمها لبناء شقق سكنية على أرضها بعد أن دفع للمسئول الذي كان يسكنها مبلغا كبيرا من المال.

وفجأة انطلقت الطائرات والبوارج والدبابات والمدافع لتهدم أبنية تلك المدينة بكل ما أنطوت عليه من قصص. وبمثل تلك السرعة أيضا، وفي الساعة عينها، ربما، انطلقت الآلات الضخمة تهدُّ البيت على محتويات المكتبة. أبلغه المسئول الكبير في الدولة أن عليه أن يحضر حالاً لاستلام مكتبته، فالآلات بدأت بهدم السقف والجدران، وعليه أن يأتي ليلاً مع عمال لاستخراج المكتبة من بين الأنقاض. ركض مثل شاب صغير رغم سنواته التي ناهزت التسعين، لكنه لم يجد سوى ركام. فقد تمزقت الكتب والمجلدات واختلطت بالركام. اختفت الالوان تقريبا وصار اللون الرمادي هو الغالب. لم تعد الأشياء تمتلك صورها السابقة، فقد اتشحت بالصمت. وَحَّدَها الموتُ، الجدران والممرات، والشرفات، الشبابيك والابواب وما كانت يوماً ما شققاً سكنية تضجُّ بالحياة تحوَّلت الى ركام، مجرد أكياس مبعثرة ملقاة على أرضية الكراج، أما هو فقد أعيته سنواته التسعون، ولم يعد قادراً على تحريك الأشياء. كان يتمنى لو أنه استطاع اطفاء التلفزيون. لكن ذلك العمل بدا مستحيلاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح


.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة




.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ


.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ




.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال