الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محطة وقود

فوز حمزة

2024 / 7 / 6
الادب والفن


وسط الضباب، الذي غطى محطة الوقود، بين العجلات الخاصة والعامة وباصاتِ النقل القديمة،
من بين ضجيج الباعة المتجولين وأصواتهم التي لا تبحّ وهي تعلن عن بِضاعتها الرخيصة،
ظهر لي!.
الآن أقف على أعتاب الحقيقة، التي كنت أرفض الاعتراف بها.
لا زلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم. المدارس أغُلقت أبوابها عند حلول العطلةِ الربيعية، هذا يعني مزيدًا من اللهو، مزيدًا من اللعب!.
وأنا أحاول مسح الضباب عن المرآة، رأيته مخرجًا رأسه من نافذة سيارته.
شعرت بالدماء تشتعل تحت قدميّ كأني أجلس فوق آتون حارق .. قلت لنفسي بصوت مسموع:
إنه هو، أنا متأكدة!.
لحظات مرتْ .. شعرت ببوادر اكتئاب عادت إليّ.
سيطر عليّ الخوف معتصرًا قلبي كأني أعيش المشهد من جديد!.
وجدت نفسي تتأرجح بين مشاعر متناقضة، لملمت الفوضى داخلي، تذكرت نصيحة طبيبي النفسي في التنفس بعمق للتخلص من أي توتر يصيبني. لم تمر عليّ لحظة سابقة من حياتي أحسست فيها بحاجتي للتوازن كما الآن!.
عليّ أولًا إسكات الصوت، الذي بدأ يصرخ في أعماقي يأمرني بالتغاضي ومواصلة السير.
منحت المرأة، التي تسكنني جرعة من الشجاعة!.
فجأة، دون خوف، ترجلتُ من سيارتي، زررتُ معطفي وأحكمتُ وضع الشال حول رقبتي.
انتظرتُ هذه اللحظة وكتبتُ لها آلاف السطور.الآن أجد الكلمات تتطاير من فمي، تتبخر من خيالي مثل هذا الضباب.
تقدمت خطوة باتجاه سيارته الواقفة خلف سيارتي مباشرة، تساءلت: هل سيتذكر تلك الطفلة، التي حاولَ إضحاكها بحركات بهلوانية، بينما هي تغص بالبكاء؟. ظنّ أن لوحًا من الشكولا كافٍ لتنسى ما جرى لها.
هذهِ المرة وضع نظارة صغيرة إطارها مذهب بينما كان دونِ نظارات.
ما زالتْ نظراته كذكراه، تخترق الزمن بلا ضجيج لتهوي بمطرقة الخوف على صدري.
أصبح شعره رماديًا، الذي علق في ذاكرتي كان كثيفًا أسود. ربما أسنانه بيضاء كما رأيتها أول مرة.
قادتني قدماي وأنا في العاشرة من عمري للدخول إلى منزله، إذ لم يُسمح لي وقتها بالاختلاط إلّا مع بنات الجيران.
كانَ هو أخًا لثلاث بنات يقاربنني في العمر، وجدت في اللعبِ معهن الجنة التي تلفني وتطويني.
أخذ القدر يحفر لي خندقًا حولها ويشعل النيران تحت قدميّ.
كثيراً ما أسأل نفسي ماذا لو أنني لم أقمْ بتلك الخطوة؟.
ماذا لو أن شيئًا منعني من دخول بيته ذلك اليوم لأبقي على الروح والجسم معًا؟.
ماذا لو تحولت الإشارات الإلهية إلى حواجز تعجز سنيني العشر عن عبورها؟.
ماذا لو سقط القَدر من فوق جسرِ ليتركني أسير بقامة مستقيمة طوال عمري؟.
ليست الأسئلة من تثير الحزن، بل الإجابات هي التي تجعلني أكثر إحباطًا فأمضي إلى الحزن الكامن فيّ.
رفعت قدمي عن الأرضِ استعدادًا للخطوة الثانية. أدخلت كفي في جيبِ معطفي، ليس فقط لأحميهما من البرد، بل لأخفي الرعشة التي اعترتهما.
شعور بالصقيع تمكن مني، حينما تذكرت ذلك النهار عندما استقبلتني عيناه بفرح وكأنه عثر على كنز كبير، فأحكم غلق الباب عليه.
وهو يمسك بدميتي، شدني إليه بقوة ، وحين سألني عن اسمها، ترك ضحكةً رنانة للموت على شفتي.
الخطوة الثالثة نحوه جعلتني أحتسي بقايا وحدتي وأمضي بطريقي اللانهائي أحمل ألم الذكرى دون عزاء تاركة قدري للقضاء.
حين مد يده ليخلع عني سروالي الداخلي كنت أبحر مع طفولتي بقارب من ورق ولم أرسُ إلا على شاطئ من ذكريات مؤلمة. رأيت ظلي يتمدد، لكن لم ألمح السقف فوقي، وجهه غطى على كل شيء.
الخطوة الرابعة وجدتني أقف قربه. حمل إليّ الهواء رائحته، الذي امتلأت به ذاكرتي منذ ذلك النهار، فعبر بي إلى زمن فقدت فيهِ لحظة عودتي للطفولة لتختلط بعدها عليّ المواسم.
منذ تلكَ اللحظات، لم أعد أملك سوى قلبًا للغروب فقط!.
حدق إليّ بدهشة. نظراته أخبرتني أنه تذكر كل شيء.
كيف صفعني عندما حاولت الصراخ ثم أمسك ذراعيّ بقوة، فسكتُ خوفًا ليغتصب ما تبقى لي من السنين ويهرب.
في هذه اللحظة، التي التقتْ فيها نظراتنا، ستكتب لنا الظلال ذاكرة جديدة.
فكرت في صفعه.. اقتربت أكثر من النافذة حتى لامس معطفي سيارته، هالني ما رأيت!. تراجعت خطوة للوراء كردة فعل طبيعية لمنظره جالسًا بقسمه العلوي، بساقين مبتورتين وقد حلت المعادن دونهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جميل
موفق حدادين ( 2024 / 7 / 6 - 11:47 )
السيدة فوز حمزه المحترمة
اسلوب شيق ووصف دقيق يشدان القارئ ليكمل القراءة حتى النهاية
وتعطي تفاصيل الوصف وضوحاً كانه صورة واضحة على حائط
مع التحية
موفق حدادين
عَمان

اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا